هل ستؤدي عودة ترامب إلى ضم الضفة الغربية؟

كريم قرط

منذ أن أعلن عن فوز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية، بدأت جملة من الأسئلة والمخاوف تثور حول سياسته تجاه عدد من القضايا، لا سيما في ظل اندلاع حرب الإبادة على قطاع غزة، وتوسعها إلى لبنان، وتصاعد حالة الحرب بين إيران وحلفائها من جهة ودولة الاحتلال من جهة أخرى. ولكن إحدى القضايا المركزية التي احتلت جزءًا من النقاش والتساؤل هي سياسة ترامب تجاه القضية الفلسطينية، التي تتضمن في ثناياها مسألة ضم الضفة الغربية واحتمالية العودة إلى ما عرف بـ “صفقة القرن”.

لذلك تثور جملة من الأسئلة فلسطينيًا من قبيل هل سنعود لصفقة القرن بفكرة إقامة دولة فلسطينية على أجزاء من الضفة الغربية وقطاع غزة، كما طرحت في المرة الأولى؟ أم أن تلك الصفقة قد سقطت من حسابات ترامب؟ أم ستقدم حكومة الاحتلال على ضم الضفة الغربية كاملة؟ أم ستقدم على ضم الأغوار ومناطق ج بشكل عام والكتل الاستيطانية الكبرى مثل معليه أدوميم وأرئيل، أم ضم كل المستوطنات والبؤر الاستيطانية؟

وهذا النقاش ليس مجرد نقاش نظري افتراضي، وإنما هو نقاش مبني على وقائع تدعمه، منها ما اتخذته إدارة ترامب الأولى، من الاعتراف بالقدس الكاملة عاصمة لـ”إسرائيل”، ونقل سفارة الولايات المتحدة إليها، والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان السورية المحتلة، وإعلان إدارته أنها لم تعد تتعامل مع المستوطنات في الضفة الغربية على أنها مخالفة للقانون الدولي – وهذا الأمر فقط قد تراجعت عنه إدارة بادين -، ثم دعمه لمسار التطبيع بين عدد من الدول العربية ودولة الاحتلال. والأهم من ذلك، وهو محور النقاش، طرحه خطة “السلام من أجل الازدهار” المعروفة بصفقة القرن، التي تضمنت ضم مناطق ج والمستوطنات في الضفة الغربية، ولكنها لم تنفذ لأسباب متعددة.

على أية حال، ما أسست له إدارة ترامب الأولى ظل هو الواقع الذي سارت عليه إدارة خلفه بايدن، إذ لم تتراجع عن معظم الخطوات التي اتخذت تجاه القضية الفلسطينية، بل وسعت إلى تعزيز مسار التطبيع، خاصة السعودي، وكان لها دور محوري في دعم حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة عسكريًا وماليًا وسياسيًا ودعائيًا.

ولهذا النقاش أيضًا ما يدعمه، مما اتضح ورشح حول إدارة ترامب التي تتشكل حاليًا، من حصول ترامب على دعم من الثرية الإسرائيلية مريم أديلسون، مقابل دعمه لمخطط ضم الضفة الغربية، حسب ما أفادت تقارير صحفية، وتعيينه أيضًا لشخصيات في إدارته داعمة لفكرة الضم، ومسارعة قادة الاحتلال في الإعلان عن نيتهم ضم الضفة الغربية مع تولي ترامب مسؤولياته.

يسعى هذا التقرير إلى تقديم إجابة عن هذه التساؤلات، انطلاقًا من أن الضم ليس مجرد إعلان رسمي، وإنما هو ممارسة يومية تحولت إلى روتين لا يسترعي أي انتباه، وأن ما يجري على الأرض هو ما يحدد مستقبل الضفة الغربية والقضية الفلسطينية عمومًا، وليس الإعلانات الرسمية التي لا تأتي إلا كاعتراف بالواقع المفروض على الأرض.

المستوطنون يستبشرون بعودة ترامب

إضافة إلى رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتانياهو، الذي سارع لتهنئة ترامب بفوزه بالانتخابات، كان يوسي دغان، رئيس مجلس مستوطنات الضفة الغربية، أحد أوائل المهنئين بفوز ترامب وهو أيضًا أحد المدعوين لحضور حفل تسلمه لمهامه في 20 يناير كانون الثاني القادم. إذ يعلق المستوطنون آمالًا كبيرة على إدارة ترامب في عدة قضايا، أهمها تسهيل إجراءات فرض السيادة الإسرائيلية على أجزاء من الضفة الغربية، مثل غور الأردن والمستوطنات الكبرى، أو حتى على الضفة الغربية كلها. وستكون لهم مطالب بإلغاء كل العقوبات التي فرضتها إدارة بايدن على عدد من المستوطنات والجمعيات الاستيطانية. إضافة إلى سعيهم إلى الحصول على دعم سياسي وقانوني من إدارة ترامب للاستيطان في شمال قطاع غزة.

لتحقيق هذه المطالب كان قادة المستوطنين في الضفة الغربية قد عملوا في الآونة الأخيرة على توطيد علاقاتهم بعدد من الرموز والشخصيات من الحزب الجمهوري وحاشية ترامب، خاصة أعضاء إدارته السابقة، مثل مايك بومبيو وزير الخارجية السابق وديفيد فريدمان، السفير الأمريكي السابق لدى دولة الاحتلال اللذيْن استضافهما المستوطنون في مستوطنات الضفة في الأشهر الأخيرة.

وما أن أعلن عن فوز ترامب بدأ عدد من المسؤولين الإسرائيليين بالإعلان عن العودة إلى مسألة ضم الضفة الغربية، فقد أوردت هيئة البث الإسرائيلية أن نتنياهو يعتزم إدراج مسألة ضم الضفة الغربية على جدول أعمال حكومته فور تولي ترامب لمنصبه. كما عقد مشاورات مع قادة المستوطنين وزعيم المعارضة بني غانتس حول الفرصة التي لاحت مع فوز ترامب لضم الضفة الغربية، وقد أبدى غانتس دعمه لفكرة الضم داعيًا إلى عدم “تفويت الفرصة التاريخية“.

بدوره سارع وزير المالية، والوزير في وزارة الحرب الإسرائيلية، بتسلإيل سموتريتش، إلى تهنئة ترامب خلال مؤتمر لكتلة الصهيونية الدينية في الكنيست، وأردف أن فوز ترامب جلب معه فرصة مهمة لدولة إسرائيل، إذ قد حان الوقت لفرض السيادة الإسرائيلية على “المستوطنات” في الضفة الغربية. وأضاف أن هناك معارضة كاملة من كل مكونات الطيف السياسي الإسرائيلي، في الائتلاف والمعارضة، لإقامة دولة فلسطينية. وأعلن أن عام 2025 سيكون عام إعلان السيادة في الضفة الغربية، وأنه قد أصدر تعليماته لدائرة الاستيطان في وزارة الحرب والإدارة المدنية للبدء بخطوات عملية شاملة لتهيئة البنية اللازمة لإعلان الضم.

ولكن مع هذه الحماسة الزائدة والآمال والتوقعات المعلقة على إدارة ترامب، ففي بداية الأمور ساورت المستوطنين بعض المخاوف من أن يعين ترامب في إدارته شخصيات غير معروفة بدعمها الكامل لإسرائيل، والمشروع الاستيطاني في ظل أولوياته المتعددة داخليًا وخارجيًا، خاصة مع غياب مايك بومبيو وغيره من شخصيات ولاية ترامب الأولى عن المشهد. غير أن جملة التعيينات التي جاء بها أزالت ما ساورهم من شكوك من أن تختلف إدارة ترامب الثانية عن الأولى، وطمأنتهم إلى أن وجود “أصدقاء إسرائيل” في أهم مناصب إدارة ترامب سيصب في مصلحة دولة الاحتلال في كثير من الجوانب.

وذلك لكون الشخصيات التي ستملأ أهم المراكز في إدارة ترامب من أكبر داعمي دولة الاحتلال والمتحمسين لها، وناصبي العداء لإيران بشكل واضح، علاوة على دعمهم للمشروع الاستيطاني في الضفة الغربية، خاصة مايك هاكابي، السفير الأمريكي القادم لدى دولة الاحتلال، صديق المستوطنين وضيف المستوطنات الدائم، والمرشد السياحي لأفواج الإنجيليين في الضفة الغربية.

المستوطنون: لا دولة فلسطينية ولو بمقابل الضم

مع كل هذا الاستبشار بعودة ترامب لدى قادة الاحتلال ومستوطنيه إلا أن هناك شكوكًا لديهم، حتى مع فوز ترامب وتعيين شخصيات “صديقة لإسرائيل” في إدارته، من أن يكون تركيزه على عقد صفقة مع السعودية تشمل الموافقة على إقامة “دولة فلسطينية”. وهذه المسألة هي أحد أسباب، ولعلها أهمها، التي أدت إلى عدم تطبيق صفقة القرن عند طرحها في عهد إدارة ترامب الأولى.

صحيح أنّ من أهم أسباب عدم تطبيق الصفقة في حينها هو عدم وجود موافقة فلسطينية لا من السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية ولا من حركة حماس في قطاع غزة، وبطبيعة الحال من دون هذه الموافقة ليس من الممكن تطبيقها، خاصة وأنها اشترطت نزع سلاح المقاومة في غزة، إضافة إلى الحاجة إلى وجود طرف فلسطيني يقر بالتنازل عن القدس وعن الضفة الغربية، وهو أمر لا يستطيع أحد الإقدام عليه. ولكن في المقابل، وحسب ما قاله ترامب لاحقًا، فإن نتنياهو لم يكن يريد السلام مع الفلسطينيين في يوم ما، بمعنى أنه رفض الصفقة فعليًا. وهذا الأمر مدرك ضمنًا؛ نظرًا إلى أنه لا يوجد أي مسؤول إسرائيلي يوافق على إقامة دولة فلسطينية.

فعندما طرحت صفقة القرن كان أبرز المعارضين لها هم المستوطنون وقادتهم بشكل أساسي، وأما أولئك الذين أيدوها من بينهم، على قلتهم، فإنما فعلوا ذلك لاعتقادهم أنها فرصة تاريخية طال انتظارها وليست إلا مرحلة أولى من مراحل الضم. أما أسباب المعارضة فقد نبعت من رفض مطلق لإقامة دولة فلسطينية بغض النظر عن ماهيتها، واعتراضًا على مبدأ تجميد البناء الاستيطاني الذي نصت عليه الخطة، واعتراضًا على وجود جيوب استيطانية غير مضمومة لدولة الاحتلال داخل “الدولة الفلسطينية”.

للتوضيح أكثر، يرفض المستوطنون التنازل عن أي شبر للفلسطينيين، ويعدون كامل الضفة الغربية جزءًا لا يتجزأ من “أرض إسرائيل”، ولذلك لم يوافقوا على الخطة ولن يوافقوا عليها مستقبلًا، لا سيما في الوقت الذي أصبحت فيه أحزاب المستوطنين قوة سياسية مؤثرة ومقررة في سياسات حكومة الاحتلال.

لذلك من المؤكد أن المستوطنين وقادتهم سيرفضون أي تسوية يطرحها ترامب، ضمن صفقة للتطبيع بين السعودية وإسرائيل تتضمن الإشارة إلى إقامة دولة فلسطينية، بغض النظر عن ماهيتها. وهذا الرفض في ظل الحكومة الحالية، ومع تصاعد اليمين الحرديلي بشكل عام، أصبح هو المؤثر والمقرر في سياسات حكومات الاحتلال.

ولكن في المجمل، لن يعارض المستوطنون الإعلان عن ضم رسمي لأجزاء من الضفة الغربية، دون أن يقرن ذلك بأي مسار سياسي يتعلق بحل الدولتين، ضمن تصور بأن ذلك الضم الجزئي سيكون خطوة إضافية في مسار الاستيطان والضم الكامل. وبالمقارنة مع إعلان الإمارات العربية أنها أقدمت على التطبيع لوقف الضم عام 2020، فإنه قد تحصل مساومة من نوع ما في ظل السعي لعقد صفقة تطبيع سعودية إسرائيلية، تحتاج فيها السعودية إلى أي إنجاز، ولو كان شكليًا، فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فإنه يمكن أن تُقْدِم السعودية على التطبيع معلنة وقف ضم الضفة الغربية مقابله.

الضم يحدث بالفعل

غير أنه ليس المهم إن كان سيحصل إعلان رسمي عن الضم، وحجمه، أم لا، وإنما المهم ما يجري على الأرض وسياسة الأمر الواقع التي تنفذ منذ عقود. فسياسة الضم والتهجير تسير على قدم وساق منذ بدء الاحتلال لأراضي عام 1967، وقد تضاعفت في السنوات الاخيرة بشدة، وقد بلغت أوجها خلال حرب الإبادة على قطاع غزة، وذلك من خلال إجراءات مختلفة، منها التوسع في البناء الاستيطاني، وإقامة البؤر الاستيطانية، ثم التوجه إلى شرعنتها. فمنذ بداية حرب الإبادة على غزة، أقيمت 43 بؤرة استيطانية جديدة في الضفة الغربية، وهو رقم حطم كل الأرقام القياسية السابقة، فمنذ عام 1996 وحتى عام 2023 كانت تقام قرابة 7 بؤر استيطانية جديدة بالمتوسط سنويًا. وقد أعلنت حكومة الاحتلال في يونيو/حزيران 2024 عن البدء بعملية شرعنة 70 بؤرة استيطانية، واعتبار ثلاث أخر كأحياء في مستوطنات قائمة، إضافة إلى الإعلان عن إقامة 5 مستوطنات جديدة، وهن في الأساس بؤر استيطانية قائمة منذ مدة، مع الإشارة إلى أن دولة الاحتلال كانت توقفت بشكل رسمي عن إقامة مستوطنات جديدة منذ اتفاق أوسلو، إلا في حالات محددة، ولكنها استمرت في توسيع المستوطنات القائمة ودعم إقامة البؤر الاستيطانية وضمها كأحياء جديدة للمستوطنات القائمة. وقد ترافق ذلك مع تخصيص ميزانيات هائلة لدعم المستوطنات والبؤر الاستيطانية، ومدها بالبنى التحنية من شوارع ومياه وكهرباء وأمن. وإضافة إلى ذلك حدثت طفرة غير مسبوقة في الإعلان عن أراضي الدولة،[1] إذ بلغ عدد الدونمات المعلن كأراضي دولة منذ بدء حرب الإبادة أكثر من 24 ألف دونم، وهو رقم يعادل نصف ما أعلن كأراضي دولة منذ عام 1993 وحتى عام 2023.

ومن ناحية أخرى، اتخذ سموتريتش عدة خطوات إدارية وقانونية تهدف إلى تحويل شؤون الاستيطان والإدارة المدنية في الضفة الغربية إلى مسؤولية المستوطنين ونزعها من صلاحيات جيش الاحتلال. وهي خطوات اعتبر أنها ستؤدي إلى الضم الفعلي للضفة الغربية دون الإعلان الرسمي عن ذلك، وأضاف أنه حتى لو ذهبت الحكومة فإنه بهذه الخطوات قد تمكن من تغييرDNA الإدارة المدنية، أي نزع سيطرة جيش الاحتلال عنها، وتحويلها لتصب في خدمة مشروع الضم والاستيطان، لأن لدى المستوطنين قناعات بأن جيش الاحتلال يقف عائقًا أمام المشروع الاستيطاني.

  من ناحية أخرى، لعلها من الأخطر والأهم، فقد تصاعد تهجير الفلسطينيين من أراضيهم في الضفة الغربية، وقد كان التركيز منصبًا في السنوات الأخيرة على التجمعات البدوية مع التركيز على منطقة الأغوار من شمال الضفة إلى جنوبها، ومنطقة جنوب الخليل، ووسط الضفة الغربية. ومنذ اندلاع حرب الإبادة على قطاع غزة تصاعدت وتيرة التهجير التي تستهدف التجمعات البدوية، في عموم الضفة الغربية، لمستويات مثيرة للقلق، ضمن هدف إفراغ مناطق ج من أي وجود عربي. وقد أدى ذلك إلى تهجير عشرات التجمعات البدوية من أراضيها، وما زالت بقية التجمعات تواجه اعتداءات وانتهاكات يومية لدفعها للهجرة من أرضها.

وضمن هذا الإطار، فإن عنف المستوطنين الذي أخذ أبعادًا ومستويات غير مسبوقة في السنوات الأخيرة، سواء من ناحية العدد أو النوع قد أصبح من أهم أدوات التهجير لدى سلطات الاحتلال، والملاحظ أن هذا العنف لم يعد يكتفي بمناطق (ج) والتجمعات البدوية، وإنما أصبح يستهدف بشكل أساسي القرى التي تقع في المناطق المصنفة (ب)، وحتى مناطق (أ) كما حدث في هجوم المستوطنين على مدينة البيرة في أوائل شهر نوفمبر/تشرين الثاني الجاري. على أية حال، فإن تركيز المستوطنين على القرى، الواقعة في مناطق (ب)، هي ظاهرة ملحوظة ومتكررة يوميًا، وهي تتكامل مع سياسات أخرى تتخذها دولة الاحتلال تجاه مناطق (ب)، منها ما أعلن في شهر حزيران المنصرم من قرار حكومة الاحتلال سحب صلاحيات السلطة الفلسطينية في منطقة صحراء القدس (حسب التسمية الإسرائيلية)، التي صنفت كمحمية طبيعية تقع في منطقة (ب) ضمن اتفاقات أوسلو، بحجة أن السلطة لم تحافظ عليها كمحمية طبيعية. وإلى ذلك، فإن جيش الاحتلال يفرض قيودًا مشددة على القرى، ويضع على مداخلها حواجز وبوابات معدنية، ويمنع سكانها من التنقل بحرية، ويثقل كاهلهم بالحواجز التي يمضون عليها ساعات طويلة في تنقلهم بين قراهم ومراكز المدن. وهذه السياسة التي تترافق مع عنف المستوطنين ضد القرى وعلى الشوارع الالتفافية لها هدف واضح، وإن كان غير معلن، وهو دفع أكبر عدد من أهالي القرى إلى النزوح والهجرة الداخلية إلى مناطق (أ).

وهنا لا بد من التركيز على واقع تفريغ الأراضي في مناطق (ج) من أهلها الفلسطينيين، الذي يطبق اليوم في مناطق (ب)، فمن نافل القول إن المناطق المصنفة (ج) تبلغ نسبتها ما يقارب 62% من مساحة الضفة الغربية، وهي منطقة لا تشكل امتدادًا جغرافيًا طبيعيًا واحدًا، وإنما هي أشبه بأخطبوط جغرافي يمتد على كامل مساحة الضفة الغربية، وتتركز معظمها في منطقة الأغوار لأن حكومات الاحتلال ومنذ بداية احتلال الضفة الغربية عام 67 قد حسمت أمرها بأن تكون الحدود الشرقية لـ”إسرائيل” هي منطقة الأغوار، وليس الخط الأخضر غرب الضفة الغربية، وهذا ما حكم النهج الاستيطاني لحكومات العمل في الضفة الغربية التي سارت على خطة ألون دون التبني الرسمي لها.

وتمتد أراضي (ج) لتشكل أحزمة وقيودًا تحاصر المناطق المصنفة (ب) و (أ) وتفصل بينها، وتمنعها من التواصل الجغرافي الطبيعي أو التوسع الحضري العمراني استجابة لنمو عدد السكان وحاجاتهم الحيوية من مساكن وبنى تحتية ومساحات خضراء وأراضي زراعة ورعي وصناعة وما إلى ذلك. وفي حين أن تلك المناطق هي التي تحوي الإمكانيات الطبيعية للتوسع العمراني والبشري، والاستخدام الاقتصادي والزراعي والرعوي وغيره، ولكنها اليوم شبه خالية من الفلسطينيين. إذ تترواح التقديرات حول عدد الفلسطينيين في مناطق ج بين 180 ألف إلى 300 ألف، وهذه التقديرات بحاجة لتحديث مستمر نظرًا إلى حالة التهجير المستمر لسكانها الفلسطينيين، خاصة التجمعات البدوية، والتضييق عليهم، ومنعهم من تصاريح البناء والمخططات الهيكلية لتطوير قراهم وبناهم التحتية وتوسعتها استجابة للنمو السكاني وحاجاته.

هنا تمكن المفارقة الصارخة، إذ إنه في حين تشكل مناطق ج ما نسبته 62% من مساحة الضفة الغربية، فإن عدد سكانها لا يتجاوز 9% من عدد الفلسطينيين في الضفة الغربية على أكثر تقدير. والسبب في ذلك هو التهجير المستمر للسكان عبر طرق مختلفة، غير رسمية، نحو مناطق ب وأ، وأيضًا منع الفلسطينيين الذين يتكدسون في مناطق أ، من استخدامها.

يشير ذلك إلى أن هناك عملية تهجير فعلية تجري على الأرض منذ عقود، ولكنها عملية تهجير داخلية، تدفع الناس إلى الانتقال من الأطراف والأرياف المصنفة (ج) و(ب) إلى مراكز المدن المصنفة (أ). وهذه السياسة تتلاقى مع هدف “أرض أكثر عرب أقل” التي تنتهجها سلطات الاحتلال.

لتوضيح هذا الانتقال الديمغرافي، سنحتاج إلى مقارنة بعض البيانات التقريبية، التي قد لا تكون دقيقة بشكل كامل، لغياب إحصاء رسمي من هذا النوع، ولكنها مهمة في توضيح ما نصبو إليه.[2]

ففي عام 1967 كانت تبلغ نسبة سكان القرى في الضفة الغربية قرابة 65% من عدد السكان، وذلك مع إضافة البدو وسكان البرية لهم (نسبتهم حينها لا تتجاوز 1.5%)، وأما نسبة سكان المدن (عرّفت المدينة بعدد سكانها الذي يفوق 10 آلاف نسمة) فكانت قرابة 26% من السكان. ويظل قرابة 9.4% وهم اللاجئون في المخيمات، وحيث إن المخيمات تنتشر في المدن والقرى وعلى أطرافها، فيمكن تقسيم نسبتهم بين المدن والقرى للوصول إلى نسبة تقريبية على النحو التالي: 70% من السكان كانوا يسكنون القرى والأرياف، بينما 30% كانوا يسكنون المدن والمناطق الحضرية.[3]

تغيرت هذه النسبة في المرحلة الحالية لتصبح العكس تمامًا، فحسب بيانات برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية، وهي بيانات تعود لعام 2015 وتمشل الضفة وغزة، فإن نسبة سكان المناطق الحضرية في الأراضي الفلسطينية تبلغ قرابة 74%، أما 26% الباقون فيسكنون القرى والأرياف.

 صحيح أن هذه المعطيات لا توضح ماهية المناطق الحضرية، ولا تفصل بين مناطق (أ) و (ب)، إلا أنه من الواضح أن تركز السكان يتجه نحو مناطق (أ)، لاعتبارات متعددة من أهمها ظروف العمل والتعليم والخدمات وتجنب قيود الاحتلال وعنف مستوطنيه وما إلى ذلك، وهذا الأمر في تصاعد مستمر.  وهذا يعني أن المساحة الأكبر من الضفة الغربية قد أخليت فعليًا من الفلسطينيين إلا نسبًا متواضعة معزولة ومحاصرة بالحواجز والاستيطان، ومهددة بعنف المستوطنين وإرهابهم.

في المحصلة، من المهم أن يكون واضحًا لدينا أن هناك عملية تهجير داخلي مستمرة، ابتلعت مناطق (ج) وهي الآن تستهدف مناطق (ب) بعنف وتدفعهم للنزوح لمراكز المدن، أي مناطق (أ)، وهذه العملية هي جزء من مخطط الضم والمشروع الاستيطاني. فسواء أعلن عن ضم الضفة الغربية مع عودة ترامب أم لم يعلن، فالمهم هو الواقع الذي يطبق على الأرض.

ختامًا

المسألة الأهم التي يجب أن تثير القلق والمخاوف لدى الفلسطنيين والأطراف الفاعلة في المنطقة ليست عودة ترامب في حد ذاتها، وليس إن كان سيدعم الضم أم سيعيد صفقة القرن، وإنما هي التغيرات المتسارعة التي تجري على الأرض، وتعمل على تحقيق الضم الفعلي والتهجير الصامت للفلسطينيين من أراضيهم. وهذه الإجراءات هي نوع من الروتين اليومي في واقع الضفة الغربية يجري منذ عقود، ومع أن وتيرته قد تسارعت بشدة وبلغت أوجها في العام الأخير، فإن هذا التسارع تحول أيضًا إلى روتين لا يسترعي الانتباه، مثل عمليات التهجير الصامت والاعتداءات المستمرة على القرى الفلسطينية والتوسع الاستيطاني ومصادرة الأراضي، التي هي فعليًا البنية التحتية الأساسية للضم.

من ناحية أخرى، عند طرح صفقة القرن ومشروع الضم في المرة السابقة، كانت المقاومة في غزة قادرة على التأثير والاعتراض ورفض فكرة نزع السلاح، غير أنه في هذه المرحلة التي تفرض عليها حرب إبادة  مستمرة وهي مستهدفة بالاستئصال الكلي وليس فقط نزع سلاحها، يجعل قدرة تأثيرها محدودة. كما أن السلطة الفلسطينية التي كانت تستطيع المناورة والاعتراض هي الآن مستهدفة بالإنهاء ومهددة بالانهيار. وهذا ما يجعل التحديات المفروضة أكبر مما كانت عليه الأمور في المرة السابقة.

على أية حال، ما زالت المنطقة تشهد حالة حرب متصاعدة لم يتمكن أي من الأطراف من حسمها بعد، وتطورات هذه الحرب ونتائجها هي التي ستفرض نفسها على أجندة ترامب وعلى توجهات حكومة الاحتلال.


[1]  تعتمد سلطات الاحتلال سياسة ووسائل قانونية ملتوية لمصادرة الأراضي في الضفة الغربية، من بينها الإعلان عنها كأراضي دولة بالاعتماد على استخدام احتيالي ومغلوط لقانون الأراضي العثماني عام 1858، الذي يقسم الأراضي إلى عدة تصنيفات من بينها مشاع وأميري وموات وما إلى ذلك، وقد أعادت سلطات الاحتلال تطبيق القانون على أراضي الضفة الغربية، وصادرت بموجبه ما يقدر بربع الأراضي في الضفة الغربية، وخصصت استخدامها للمستوطنات والمستوطنين.

[2]   لم يستطع الباحث الحصول على أرقام وبيانات أكثر دقة من خلال المصادر المفتوحة. وذلك لأن هناك إشكالية حقيقية في فهم التغيرات الديمغرافية التي حلت بالضفة الغربية وإعادة توزع السكان داخلها، ومرد هذه الإشكالية يعود إلى أن الإحصاء السكاني في الضفة الغربية إشكالي جدًا، وخضع لاعتبارات متعددة وعوائق منذ ما قبل عام 1967، أي إبان حقبة الحكم الأردني، ثم إبان الاحتلال بعد 67، وحديثًا مع قدوم السلطة. صحيح أن السلطة الفلسطينية أنشأت الجهاز المركزي للإحصاء وهو جهاز نشط وفعال، ولكنه في عمله ينطلق من منظور الدولة، أو “وهم” الدولة. فإحصاءات السكان التي يصدرها لا تراعي أن منطقة عمله هي منطقة محتلة ومقسمة سياسيًا وإداريًا وجغرافيًا بناءً على تقسيمات الاحتلال، وهي تقسيمات خاضعة للتغيير الديموغرافي والعمراني المستمر، والحديث هنا عن تحولات توزيع السكان في بين المناطق المصنفة (أ) و (ب) و(ج).

فإحصاءات الجهاز لا تتعامل مع هذا الواقع السياسي الجغرافي مطلقًا، وتنطلق من فرضية أن الجغرافية كلها خاضعة للسيطرة الفلسطينية، فتجد فيها توزيع السكان حسب المحافظة بخريطتها الكاملة التي لا توضح تقسيمات أوسلو، ولا يوجد فيها توزيع السكان داخل المحافظة، مع أنه من المعروف أن كل المحافظات مقسمة ضمن تقسيمات (أ)و (ب) و(ج)، وأن توزيع السكان غير متساو ضمن حدود المحافظة الواحدة التي تشكل مناطق ج الغالبية من مساحاتها.

يعطي هذا الأمر تصورًا خاطئًا عن عدد من الأمور، منها حجم الكثافة السكانية الحقيقية في الضفة الغربية، إذ لا يمكن اعتماد التعريف العام للكثافة السكانية في واقع الضفة الغربية المقسم سياسيًا وإداريًا ضمن بنية استعمارية مستمرة ومتطورة. ومن ناحية أخرى وهي الأهم والأخطر لا يقدم هذا النهج في الإحصاء فهمًا صحيحًا للتحولات الديمغرافية الجغرافية، أو بمعنى أدق تهجير السكان بين مناطق ج وب وإلى مناطق (أ).

[3]  ينظر: جميل هلال، أثر السياسة في الوضع السكاني في الضفة الغربية وقطاع غزة، دراسات فلسطينية، ع 4 (خريف 1990) ص ص: 133-150. https://linksshortcut.com/XDqtN


 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى