مقالاتالاقتصاد الفلسطينيملفات وقضايا

العدوان الإسرائيلي على غزة: أيديولوجيا الاستعمار الاستيطاني واقتصاد الحرب

رغد عزام1

أثار العدوان الإسرائيلي الواقع مؤخرا على قطاع غزة غضبا وحزنا فلسطينيا، وأعطى لذكرى النكبة الفلسطينية راهنيتها وأعاد للأذهان صورها القاتمة التي لا تزال حاضرة في الذاكرة الفلسطينية، فالعقلية الاستعمارية الصهيونية التي تسببت بإبادة وتهجير الفلسطينيين من أرضهم قبل 75 عاما هي ذاتها التي تمارس جوهر الاستعمار الاستيطاني القائم على الإحلال والإبادة والتهجير. فلطالما استندت الصهيونية بشكل جذري إلى منطق القوة العسكرية لتمكين الحكامة الاستعمارية على أنقاض الإنسان الفلسطيني وتسهيل استغلال الأرض الفلسطينية بمواردها ومقدراتها وبما فيها من قوى بشرية من خلال ضبط سلوكها وتوجهاتها بما يخدم المصالح الاستعمارية.

وضمن سلسلة علاقات القوة غير المتكافئة بين الاحتلال الإسرائيلي والفلسطينيين، أقدم الاحتلال الإسرائيلي مساء 9 مايو الماضي على اغتيال ثلاثة من قادة المجلس العسكري لسرايا القدس في غزة، مما أشعل فتيل الحرب مجددا في قطاع غزة الذي يعاني من أزمة إنسانية متفاقمة نتيجة للحصار المستمر منذ أكثر من 15 عاما. وقد كان لافتا للنظر ردة فعل المقاومة الفلسطينية التي التزمت الصمت لحوالي الثلاثين ساعة دون رد، لتطلق بعدها رشقات صاروخية متعددة الأهداف، فتارة تستهدف مناطق غلاف غزة وتارة أخرى تستهدف عمق الداخل الفلسطيني المحتل. وبعد خمسة أيام من العدوان المتواصل على قطاع غزة تم التوصل لهدنة مع المقاومة الفلسطينية بشرط “وقف استهداف المدنيين وهدم المنازل واستهداف الأفراد”.

وقد كان واضحا أن المقاومة الفلسطينية حازت قدرات قتالية نوعية أثبتت فاعليتها وقدرتها على تخطي القبة الحديدية وألزمت المستوطنين ملاجئهم وأحدثت أضرارا مادية ومعنوية في الجبهة الداخلية للاحتلال وأجبرته على الاستجابة للوساطة المصرية لتحقيق هدنة مع الجانب الفلسطيني. وقد تزامن ذلك مع التحضير لإحياء ذكرى ما يسميه الاحتلال استقلاله والذي كان يهدف إلى تمرير هذه الاحتفالات دون أي أحداث أمنية. وعلى الرغم من عدد الشهداء الذين ارتقوا خلال العدوان والدمار المادي الذي ألحقه ببيوت وممتلكات الغزيين إلا أن الاحتلال عجز عن كسر إرادة المقاومة أو إضعافها وأخفق في تشتيت وحدة الخطاب السياسي لغرفة عمليات فصائل المقاومة التي بدا سلوكها الميداني موحد ومتوازن وغير مبني على ردات الفعل.

لا يمكن الحديث عن جوهر هذا الصراع بمعزل عن الأيديولوجيا الاستعمارية للصهيونية التي تسعى إلى أن تنزع  من الفلسطينيين، المرتبطين بشدة بأرضهم وتاريخهم، حق  البقاء في أرضهم وتقرير مصيرهم وبناء اقتصادهم. “ولطالما كان العنف مركزيًا وجزءً لا يتجزأ من الأسس الاجتماعية والقانونية والاقتصادية والجنسانية (الجندرية) التي بنيت عليها العلاقات الاستعمارية… والذي تضمن استراتيجيات مختلفة لتهميش الرعايا المستعمَرين وعدم تمكينهم”[i]. وقد حافظ الاستعمار الصهيوني على هيمنته طوال السنوات الفائتة من خلال العنف المستمر والمباشر والبنيوي في شتى مناحي حياة الفلسطينيين، لذلك فمن الضروري بمكان فهم البنية الاستعمارية القائمة على منطق القوة العسكرية للسيطرة على الأرض وثرواتها وإقامة الحدود والمعازل وتدمير القاعدة الاقتصادية الفلسطينية وما نتج عنه من قصور في إحداث تنمية حقيقية.

يعتبر التفوق العسكري والأمني عصب الحياة للاستعمار الصهيوني وأحد أهم أولوياته للحفاظ على بقائه واستمراريته وتمكينه من التوسع والسيطرة. ومما تعتمد عليه بنية الاستعمار الاستيطاني، اقتصاد الحرب الذي أوصلها إلى هذه المكانة الريادية في مجال التسليح وكان أحد أهم دعائمها، والذي جعلها تتحول إلى قوة طاغية تمتلك تقنيات عالية خلال فترة زمنية قصيرة، حتى أصبحت تنافس عالميا من حيث الإنتاج العسكري. فقد صُنف الاحتلال الإسرائيلي بالعاشر عالميا من حيث أكبر الدول المصدرة للسلاح بواقع مساهمة تبلغ حوالي 2.3% من إجمالي صادرات السلاح عالميا بحسب تقرير صدر حديثا لمعهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام[ii]. يوضح الرسم البياني المدرج بالأسفل حجم صادرات الاحتلال الإسرائيلي من الأسلحة منذ انطلاق انتفاضة الاقصى عام 2000 وحتى عام 2022، ويظهر من البيانات بأن الصادرات ارتفعت بشكل ملحوظ عقب العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2008 وبشكل أكثر حدة عقب عدوان عام 2014.

صادرات الاحتلال الإسرائيلي من الأسلحة للأعوام 2000 – 2022 (بالمليون دولار)

المصدر: قاعدة بيانات معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام.

وتعتمد خبرة الاستعمار الصهيوني في المجال العسكري على تحويل فلسطين وسكانها إلى حقل تجارب للأسلحة والتقنيات العسكرية الجديدة، وذلك بهدف تجريب فعالية صناعاتها العسكرية وصقلها تمهيدا لتصديرها وتحقيق عوائد اقتصادية وبالتالي ازدهار اقتصاد الحرب وتحقيق القوة العسكرية والمادية الداعمة للأيديولوجيا الاستعمارية بما يضمن بقاءها ويقوي بنيتها. وقد تحدثت العديد من الدراسات والأبحاث التي إجريت على الحالة الفلسطينية خلال فترات العدوان الإسرائيلي على المناطق الفلسطينية المختلفة من أن الاحتلال الإسرائيلي سعى خلال فترات عدوانه إلى تجريب صناعاته العسكرية على الفلسطينيين ومن ثم عمل على ترويجها دوليا بشعارات تتحدث عن تجريبها واختبارها في أرض المعركة ، مُدللاً على قدراتها القتالية مما يوفر لها ميزات تنافسية في سوق الأسلحة العالمي [iii].  

وقد وصف هذه الحقيقة “نيفي جوردون”، أستاذ السياسة في جامعة بن غوريون في النقب بأن “معمل الأراضي المحتلة هو المكان الذي يمكن فيه ضبط الأشياء، ويمكن اختبارها، ويمكن كذلك إعادة اختبارها، ويمكنهم القول بأن  الجيش الإسرائيلي استخدم هذا وبالتالي يجب أن يكون جيدًا، مما يساعد في تسويق البضائع” [iv]. وقد تحدث باحث آخر بأن الاحتلال الإسرائيلي اعتمد جديا على حصار الفلسطينيين في سجن كبير وصفه بأنه “أكبر السجون المفتوحة في العالم”، والتي يمكن من خلالها اختبار الابتكارات العسكرية الإسرائيلية على السكان وجني الأرباح الاقتصادية من هذه التجارب. وتحدث الباحث عن أن صناعة الأسلحة الإسرائيلية قد تمكنت من تحطيم أرقام قياسية تحديدا منذ عام 2005، إذ وصلت مبيعاتها إلى حوالي ملياري دولار سنويا، وكانت أكبر زيادة في المبيعات قد شهدها العام 2009 بعد العدوان الإسرائيلي على غزة في شتاء عام 2008 والذي استمر لمدة شهرين، إذ وصلت مبيعات الصناعات العسكرية، بما في ذلك أنظمة المراقبة، عقب ذلك الهجوم إلى حوالي 6 مليارات دولار[v].

وبحسب بيانات البنك الدولي، فقد بلغ الإنفاق الحكومي لحكومة الاحتلال على الجانب العسكري حوالي 24.34 مليار دولار (بالأسعار الجارية)، أي ما يعادل  5.17% من الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي في عام 2021، وهو يشكل ما نسبته 12.14% من الإنفاق الحكومي العام [vi]. ونلاحظ مما سبق أن الاستعمار الاستيطاني معتمد بشكل جليّ على اقتصاد الحرب، وقائم بعقلية القوة العسكرية التي تصب في مصلحته الاستعمارية المتأصلة والساعية دائما إلى فرض نفسها محليا وإقليميا بصورة القوة المؤثرة على مختلف المستويات، حتى أنها باتت تنافس في مجال الصناعات الثقيلة والصناعات عالية التقنية وصناعات الأسلحة، ليس فقط بهدف فرض سيطرتها على الأرض الفلسطينية المحتلة، بل مستغلةً ذلك لتعزيز قدرتها الاستعمارية على التغلغل والتمدد ووكسب قوة مركزية عسكريا واقتصاديا كشرط أساسي لديمومة استقرارها الأمني.


[i] Dwyer, P., & Nettelbeck, A. (Eds.). (2017). Violence, colonialism and empire in the modern world. Springer. DOI: 10.1007/978-3-319-62923-0_1

[ii] Wezeman, P., Gadon, J., & Wezeman, S. (2023). Trends in International Arms Transfers, 2022. SIPRI. Sweden. https://www.sipri.org/sites/default/files/2023-03/2303_at_fact_sheet_2022_v2.pdf

[iii] انظر/ي:

  • Khalidi, M. A. (2015). Five lessons learned from the Israeli attack on Gaza. Theory & Event, 18(1).
  • Li, D. (2006). The Gaza Strip as laboratory: Notes in the wake of disengagement. Journal of Palestine studies, 35(2), 38-55.
  • Zureik, E. (2015). Israel’s colonial project in Palestine: Brutal pursuit. Routledge. London and New York.

[iv] Kennard, M. (2016).The Cruel Experiments of Israel’s Arms Industry. Pulitzer Center. Massachusetts. Washington, DC. https://pulitzercenter.org/stories/cruel-experiments-israels-arms-industry

[v] Cook, J. (2013). The lab”: Israel tests weapons, tactics on captive Palestinian population. Washington report on Middle East affairs, 16-17.

[vi] قاعدة بيانات البنك الدولي، (2023)، مؤشرات التنمية العالمية، https://databank.worldbank.org/reports.aspx?source=world-development-indicators

(1)

(1) د.رغد عزام : باحث في مركز رؤية للتنمية السياسية، مختصة في شؤون الاقتصاد الفلسطيني، وآثار المقاطعة الاقتصادية على الاقتصاد الفلسطيني.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى