المشهد الفلسطيني

مقتل نزار بنات.. هل تفضي “تداعياتها” لتغيرات سياسية؟

هيئة التحرير

تمهيد

فجرت حادثة مقتل المعارض السياسي والمرشح للانتخابات التشريعية الفلسطينية نزار بنات بمحافظة الخليل، يوم 24 حزيران/ يونيو 2021، حالة من الغضب والرفض الشعبي الفلسطيني للنهج الذي تتعامل به السلطة الفلسطينية مع معارضيها السياسيين، والذي تحول إلى سلسلة من الاعتصامات والمسيرات، المطالِبة بضرورة إعادة بناء النظام السياسي وفق معايير الحرية والحوكمة.

وبموازاة الرفض الشعبي، برزت مطالب من تنظيمات سياسية، ومؤسسات المجتمع المدني، ومؤسسات حقوقية، للعودة إلى خيار الشعب، من خلال صندوق الانتخابات، مع إحداث تغيير في طريقة إدارة الواقع السياسي والأمني الفلسطيني، وفقا لنظم مؤسساتية، وبعيدا عن حالة الإقصاء والتفرد.

وأتت حادثة مقتل نزار بنات بعد ثلاثة أحداث ومنعطفات هامة في سياق المجتمع الفلسطيني، وهي قرار تأجيل الانتخابات التشريعية الفلسطينية من قبل الرئيس محمود عباس. ومعركة “سيف القدس” والحراك الشعبي الفلسطيني ضد الاحتلال في الضفة وغزة والقدس ومناطق ال 48. و الكشف عن صفقة لقاحات فيروس كورونا، التي تمت بشكل مبهم بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، والتي كان بموجبها سيتم نقل ما يزيد عن مليون جرعة غير مطابقة للمواصفات الصحية.

يسعى هذا التقرير لقراءة التداعيات الشعبية والسياسية لمقتل بنات، عقب العديد من السياقات والأحداث المتتابعة، والتي قد تكون مدخلا تفسيريا، أو محاولة لفهم طبيعة الحادثة، وبالتالي تداعياتها المستقبلية.

 

رواية الحادثة

بالرغم من محاولة السلطة الفلسطينية، من خلال بيان محافظ الخليل جبرين البكري، تصدير الرواية الأولية لحادثة مقتل نزار بنات، إلا أنها قوبلت بالتشكيك. فهناك روايتان إضافيتان غير رواية المحافظ، الأولى رواية عائلة بنات، والثانية رواية المؤسسات الحقوقية، وهنا يمكن توثيق رواية الحادثة على النحو التالي:

 

الرواية الرسمية: بعد مرور قرابة الساعتين على عملية اعتقال نزار بنات من قبل قوة تتبع الأجهزة الأمنية الفلسطينية بعد اقتحامها فجرا للمنزل الذي كان ينام فيه مع بعض أبناء عائلته، أصدر محافظ الخليل جبرين البكري بيانا أعلن فيه “تدهور الحالة الصحية له، وتحويله إلى المستشفى ومعاينته من قبل الأطباء، ليتبين أنه قد توفي”، دون أن يوضح المحافظ سبب صدور مذكرة إحضار بنات، أو سبب وفاته. فيما أعلن رئيس الحكومة محمد اشتية في ذات اليوم عن تشكيل لجنة للتحقيق في وفاة بنات أثناء اعتقاله، وذلك برئاسة وزير العدل محمد الشلالدة، وعضوية رئيس الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان عمار دويك، وطبيب ممثل عن عائلة بنات، واللواء ماهر الفارس عن الاستخبارات العسكرية، وقد اعتذر فيما بعد رئيس الهيئة المستقلة وطبيب العائلة عن الاستمرار باللجنة، التي اقتصرت على وزير العدل والاستخبارات العسكرية.

بعد 3 أيام على تشكيل لجنة التحقيق، هاتف الرئيس محمود عباس وزيرَ العدل، بصفته رئيسا للجنة “للاطمئنان على سير التحقيق، وحثه على الإسراع في إنجاز اللجنة لمهمتها؛ ليصار إلى اتخاذ المقتضى القانوني في هذه القضية”.

في 29 حزيران/ يونيو2021، قال وزير العدل محمد الشلالدة في بيان تلفزيوني عبر شاشة تلفزيون فلسطين، إن اللجنة أوصت بإحالة تقريرها ومرفقاته إلى الجهات القضائية؛ لاتخاذ المقتضى القانوني اللازم وفق القوانين والتشريعات الفلسطينية. في ذات اليوم، أعلن رئيس الحكومة محمد اشتيه، الذي يشغل أيضا حقيبة وزارة الداخلية، عن تسلمه التقرير، وقال إنه سيحيله كما هو إلى الجهات الجزائية في القضاء العسكري؛ لاتخاذ المقتضى القانوني الذي يضمن تحقيق العدالة. في صبيحة اليوم التالي، عاد وزير العدل ليتحدث عبر تلفزيون فلسطين بتفاصيل أكثر، وقال إن بنات تعرض لعنف جسدي، وأن وفاته غير طبيعية، وأضاف أن ما حصل هو حالة فردية وليست نهجا من جانب القيادة والسلطة. وخلص إلى أن سبب الوفاة هو الصدمة العصبية، مما تسبب بوقوع فشل قلبي ورئوي حاد.

 

رواية العائلة والشهود: على النقيض من الرواية الرسمية، جاءت رواية العائلة وشهود العيان الذين تواجدوا برفقة بنات أثناء اقتحام القوة الأمنية للمنزل، وقال ابن عمه عمار، إن قوة من الأجهزة الأمنية فجّرت باب البيت الذي تواجد فيه نزار، واقتحمته دون احترام لحرمته، مشيرا إلى أن عناصر الأمن انهالوا على رأس نزار بالضرب بالهراوات فور استيقاظه، كما جرى رشّ غاز الفلفل على وجهه، وتم نقله إلى سيارة الاعتقال وهو ينزف. واتهمت العائلة 27 عنصرا من عناصر الأمن بالمشاركة بالعملية، مشيرة إلى أنها تعرفت على هوياتهم الشخصية. وطالبت العائلة بإقالة محافظ الخليل جبريل البكري، و نائب رئيس جهاز الأمن الوقائي في الخليل ماهر أبو الحلاوة. وقالت في مؤتمر صحفي إن ما جرى مع ابنها هو جريمة قتل مكتملة الأركان، وطالبت السلطة بالاعتراف بالجريمة، ومعاقبة المسؤولين عنها.

في 2 تموز/ يوليو2021، أعلنت عائلة بنات عن البدء بكشف هوية بعض المتورطين في عملية “اغتيال” نزار، وقالت في تصريح صحفي إنها “تكشف أسماء اثنين رئيسين شاركا في الجريمة بشكل مباشر”. وبعدها استمرت العائلة في الكشف عن أسماء أخرى تقول عائلة بنات أنهم شاركوا في قتل ابنهم.

 

رواية المؤسسات الحقوقية: قالت الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان “ديوان المظالم”، إنها تنظر بـ “خطورة بالغة لحادثة وفاة الناشط نزار”. وأعلنت الهيئة عن عدم مشاركتها في لجنة التحقيق التي شكلها رئيس الحكومة، وقامت بتشكيل لجنة خاصة بها، وباشرت بعملية التحقيق بشكل منفصل. وفي بيان مشترك لكل من الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، ومؤسسة الحق، ومركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان، عقب عملية تشريح جثمان بنات، قالت إن مشاهدات التشريح “أكدت وجود إصابات تتمثل في كدمات وتسحجات في مناطق عديدة من الجسم، بما في ذلك الرأس، والعنق، والكتفين، والصدر، والظهر، والأطراف العلوية والسفلية، مع وجود آثار تربيط على المعصمين، وكسور في الأضلاع”.

 

الردود والمواقف:

يمكن تقسيم طبيعة الردود والمواقف بشأن الحادثة إلى ثلاثة أقسام:

أولا: ردود الفصائل:

دانت الفصائل بشدة ما حدث، وطالبت بتشكيل لجنة مستقلة للتحقيق في ملابسات الوفاة. فقد أعربت حماس عن إدانتها لـ “جريمة اغتيال بنات”، وقالت إن ما وقع يعكس “السياسة الدموية للسلطة في تصفية الحسابات”. ودعت إلى “محاكمة القتلة”، واعتبرت أن “رئيس الحكومة محمد اشتية يتحمل المسؤولية الأولى عن الجريمة”.

وحملت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين السلطة الفلسطينية المسؤولية عما وصفته بالاغتيال، وقالت إن “الحادثة تفتح مجددا موضوع طبيعة دور السلطة وأجهزتها الأمنية، ووظيفتها”. أما الجبهة الديمقراطية، فقد دعت “للإسراع بالكشف عن نتائج التحقيق في القضية، وذلك نظرا لخطورتها، وما أحدثته من تداعيات كبرى هزت أركان المجتمع الفلسطيني والرأي العام”. فيما وصف الأمين العام للمبادرة الوطنية مصطفى البرغوثي ما وقع لبنات بأنه “جريمة قتل واغتيال سياسي لمعارض ومرشح برلماني، وهو أمر معيب وغير مقبول”.

أما حركة فتح، فقد أصدرت بيانا باسم الأقاليم الشمالية (الضفة الغربية)، قالت فيه إنها “تتابع عن كثب حادثة وفاة الناشط نزار بنات، وتداعياتها في الشارع الفلسطيني”، وتقدمت بالتعازي لعائلته، وأشارت إلى أنها “ستتخذ كافة الإجراءات التي تكفل استقرار النظام وسيادة القانون، وحماية المؤسسات والممتلكات العامة والخاصة، وحرية الرأي في إطار القانون، ولن نسمح لأي كان بحرف البوصلة”.

ثانيا: الردود الدولية:

حظيت الحادثة باهتمام دولي كبير على المستويين الإعلامي والرسمي، فقد تابعت أخبار الحادثة غالبية وسائل الإعلام الدولية، وفي مقدمتها BBC و CNN، اللتان أفردتا متابعة يومية لتطورات الحادثة، وارتداداتها الشعبية.

أما على صعيد المواقف الرسمية، فقد قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس، إن الولايات المتحدة “منزعجة للغاية من وفاة الناشط الفلسطيني نزار بنات، والمعلومات التي تم الإبلاغ عنها بشأن ظروف وفاته”، حاثا السلطة على “إجراء تحقيق شامل وشفاف، وضمان المساءلة الكاملة في هذه القضية”، وعبّر عن “مخاوف من القيود المفروضة على ممارسة الفلسطينيين لحرية التعبير، ومضايقة نشطاء ومنظمات المجتمع المدني”.

وعبرت بعثة الاتحاد الأوروبي في الأراضي الفلسطينية عن “صدمتها وحزنها” من الحادثة، وطالبت بإجراء “تحقيق كامل ومستقل وشفاف فورا”. وطالب ممثل البعثة “بمعاقبة المتورطين في مقتل الناشط بنات”. فيما زار وفد أوروبي عائلة بنات، و قدمت العائلة عدة مطالب للوفد الأوروبي، من بينها اعتراف السلطة الفلسطينية بالجريمة، وتقديم الاعتذار للعائلة، إضافة إلى تقديم ضمان دولي بأن لا تتكرر هذه الجريمة مع أي معارض آخر. أما منسق الأمم المتحدة الخاص بالشرق الأوسط تور وينسلاند، فدعا إلى إجراء تحقيق مستقل في وفاة نزار بنات، ومحاسبة المسؤولين. كما دعت منظمة العفو الدولية إلى تحقيق “شفاف وفعال ومستقل وحيادي” في وفاة بنات، التي قالت إنها أثارت “قلقها الشديد”.

 

ثالثا: الردود الشعبية والجماهيرية:

على الصعيد الشعبي والجماهيري، شكلت الحادثة نقطة تحول بخلاف حوادث سابقة. فقد شارك الآلاف من المواطنين في تشييع جثمان بنات، مرددين الهتافات المطالبة برحيل الرئيس محمود عباس، وهي من المرات النادرة التي يتم فيها رفع هذا الشعار في الوقفات والفعاليات الرافضة لسياسات السلطة الفلسطينية.

وفي اليوم التالي لتشييع بنات، شارك آلاف من المواطنين والناشطين وممثلي المؤسسات الحقوقية، بوقفة احتجاجية في مدينة رام الله، تعرضت لقمع مباشر من عناصر الأجهزة الأمنية بالزي العسكري، إلى جانب العديد من العناصر الذين كانوا يرتدون الزي المدني، وتم توثيق العديد من حالات الاعتداء على المشاركين بمن فيهم النشطاء والصحفيون، وهو ما أثار ردود فعل غاضبة تجاه هذه الانتهاكات.

كما أقيمت العديد من الفعاليات الشعبية المنددة بالحادثة، والرافضة لسياسات السلطة، والمطالِبة برحيل الرئيس عباس، وذلك في محافظات نابلس والخليل وبيت لحم وجنين.

وأعلنت حراكات وقوائم انتخابية وفعاليات أهلية، عن تشكيل “إطار وطني جامع” لقيادة الحراك المندد بمقتل بنات، في الأراضي الفلسطينية كافة، في مؤتمر عقد وسط مدينة رام الله، حيث أكد المؤتمرون أن الرئيس محمود عباس والمستوى السياسي بأكمله، يتحملون مسؤولية ما ارتكبته وترتكبه الأجهزة الأمنية كاملة، وطالبوا بإقالة الحكومة الحالية فورا، وفتح الباب أمام تشكيل إطار قيادي مؤقت، إضافة إلى إقالة رؤساء الأجهزة الأمنية، ومحاسبة كل من أصدر الأوامر، ومن قام بتنفيذ “جريمة الاغتيال”.

دلالات المواقف والردود:

تدل حالة الإجماع في المواقف الرافضة لسياسات السلطة في مصادرة الحريات وقمع المعارضين، والمطالبة بمحاسبة المنفذين لمقتل بنات، على مجموعة من الدلالات يمكن تسجيلها فيما يلي:

  • أعداد المشاركين: ارتفاع عدد المشاركين في الاحتجاجات الرافضة لسياسات السلطة، والمطالبة بحرية التعبير. فعلى الرغم من وجود انتهاكات سابقة، إلا أن أعداد المشاركين في الوقفات الاحتجاجية لم تكن تتجاوز العشرات في كل مرة، مما يدل على وجود تطور نابع من اتساع نسبة الرافضين لسياسات السلطة، والراغبين في إحداث التغيير.
  • نوعية المشاركين: من الملاحظ أن المشاركين في الاحتجاجات ينتمون إلى فئات متنوعة من حيث المنابع الفكرية، والفئات العمرية، والتوجهات السياسية، وهذا بحد ذاته يشكل تغييرا للصورة النمطية في مفهوم التأطير لأي تحركات سابقة.
  • تزامن الاحتجاجات: حيث إن تنظيم الاحتجاجات في كل من رام الله والخليل وبيت لحم ونابلس وجنين، يعزز الافتراضات القائمة على أن هناك اتساعا أكبر في معارضة سياسات السلطة، وطريقة إدارتها لقضايا الحريات.
  • توافق مطالب الجمهور ومؤسسات المجتمع المدني، والمؤسسات الحقوقية والمؤسسات الدولية: حيث طالبت جميعها بالتحقيق في مجريات حادثة القتل، ومعاقبة الجهات والأشخاص المسؤولين عن تنفيذها، الأمر الذي يعكس امتدادا معنويا يمكن أن يكون له حضوره مستقبلا.
  • دور نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي في الحشد والتأثير تجاه القضايا المركزية: حيث يمكن أن يشكل حالة تراكمية في بناء وعي الجمهور، وبديلا للمفهوم الاعتيادي في المشاركة في الفعاليات الرافضة للواقع المفروض.

 

تداعيات مقتل نزار بنات

فرضت حادثة مقتل بنات نفسها على الحالة الفلسطينية بجزئياتها كافة، وهو ما يعني أنها ستحمل في طياتها العديد من التداعيات المستقبلية، التي يمكن رسمها من خلال السيناريوهات التالية:

أولا: على المستوى الداخلي الفلسطيني:

  • حركة الجماهير: شكلت حادثة مقتل بنات تحولا في أعداد المشاركين من الجماهير الفلسطينية ونوعياتهم، وممكن اعتبار هذه الحراكات امتداد لحراكات سابقة اعترضت على قضايا متعددة مثل مشروع قانون الضمان الاجتماعي، وغلاء التعريفة للاتصالات..الخ، وبخلاف ما كان يجري خلال السنوات الـ 15 الماضية، التي كان للانقسام دور كبير في تغييب قدرة الجمهور على التعبير عن مواقفه الصريحة فيها. لذا قد تستمر الوقفات والتجمعات الرافضة للحادثة، والمطالِبة بضرورة التغيير في السلوك والنهج السياسي والأمني، كما قد تشكل هذه التجمعات عنصرا ضاغطا في اتجاه إحداث تغيرات فعلية في البناء المؤسسي. وقد تكون هذه الضغوط مباشرة على السلطة الفلسطينية، أو غير مباشرة من خلال المؤسسات الدولية والحقوقية، وبالتالي تقوم هي بدورها بالضغط على القيادة الفلسطينية لإحداث التغيير المطلوب.
  • العلاقة ما بين السلطة وفتح والجمهور: قد تكون حركة فتح أكثر الخاسرين بسبب السلوك السياسي والأمني للسلطة الفلسطينية، فهي لا تستطيع أن تنسلخ عن السلطة ككيان، وبذات الوقت لا تستطيع أن تقنع الجمهور والمواطن العادي برفضها لهذا السلوك، مما قد يؤدي إلى اتساع الفجوة ما بين السلطة وفتح والجمهور الفلسطيني، وبالتالي فرض تحدياتٍ جديدة أمام حركة فتح، وهاجس إضافي من مستقبلها السياسي.
  • العلاقة ما بين فتح والسلطة: حاولت حركة فتح منذ بداية الحادثة التزام الصمت، لكن التطور الميداني الذي فرضه الجمهور، دفعها باتجاه الخروج في بيان لم تستطع من خلاله الانسلاخ التام عن السلطة كنظام سياسي، وتقديم موقفها التنظيمي المنفصل. لكن رغم ذلك، رفضت شخصيات قليلة من حركة فتح الاغتيال، وآلمها أن تكون فتح هي من تدفع الثمن دائما، إلا أن الموقف الرسمي لحركة فتح من خلال لجنتها المركزية و أطرها المختلفة، انتقدت المسيرات المطالبة بمعاقبة قتلة بنات. وهذا قد يفتح النقاش حول درجة التماهي بين حركة فتح والسلطة الفلسطينية، وأثر ذلك على شعبية الحركة، والأثر المترتب على بنيتها الداخلية.
  • العلاقة ما بين السلطة وفتح وباقي الفصائل الفلسطينية: في أعقاب حدوث الانقسام الفلسطيني عام 2007، حاولت حركة فتح إظهار أن الخلاف والانقسام محصور ما بينها وبين حركة حماس، ولذا سعت إلى استمالة باقي الفصائل لصفها، أو تحييدها عن هذا الخلاف، ولكن بسبب تفرّد فتح بالنظام السياسي، وتأجيل الانتخابات التي كان مزمع عقدها في مايو الماضي، وبعد حادثة مقتل بنات، اتسعت الفجوة بين حركة فتح وباقي الفصائل، وهو ما يعني أن الفصائل الفلسطينية قد تبتعد مجددا عن حركة فتح.

ثانيا: على المستوى الإقليمي والدولي: بالرغم من أن الحادثة بمفهومها الجغرافي تعتبر ذات طابع محلي، إلا أن ارتداداتها الإقليمية والدولية محتملة وقد تأخذ العديد من الأشكال في مقدمتها البعد السياسي الذي قد يفرض نفسه من قبل الاتحاد الأوروبي على السلطة الفلسطينية في مفهوم التغييرات السياسية كشرط لاستمرارية الدعم والتمويل للسلطة. أما الطرف الأمريكي، فقد يجدها فرصة أكبر في محاولة تمرير تغيرات سياسية تتناغم ورؤيته للمنطقة.

 

الخيارات المُتاحة أمام السلطة الفلسطينية:

  في ظل التوصيف والمعطيات السابقة، تجد السلطة الفلسطينية نفسها أمام مجموعة من الخيارات المتمثلة فيما يلي:

أولا: الاستمرار في ذات النهج والسلوك السياسي والأمني: في هذا الخيار لن تلتفت السلطة الفلسطينية إلى الحراك الجماهيري، الذي بات يتسع ويتشكل بصورة أكبر عقب مقتل بنات، ولا إلى نداءات الفصائل والتنظيمات ومؤسسات المجتمع المدني والقوائم المستقلة، وسوف تستمر في حالة التفرد بالقرار السياسي، وإقصاء المعارضين والخصوم، والتنفذ من قبل دوائر ضيقة في رسم السياسات، وتحول النهج السياسي إلى أشبه بالنهج البوليسي في التعامل مع المعارضين، وبالتالي اجتراح تجربة العديد من الأنظمة السياسية الأخرى. ومما يعزز هذا الخيار مجموعة من المؤشرات هي:

  • عدم الانضباط في العملية الديمقراطية من خلال عقد الانتخابات التشريعية والرئاسية والمجالس المحلية، وتحييد منظمة التحرير بمؤسساتها كافة، إضافة إلى السيطرة على السلطة القضائية.
  • تماهي حركة فتح مع سياسات السلطة بشكل أكبر، وخشية حركة فتح من فقد جميع الامتيازات التي تحصل عليها من السلطة، وبالتالي عدم مغامرتها بالذهاب لأي خيارات شعبية عبر صناديق الاقتراع.
  • تغليب المفهوم الأمني على المفهوم السياسي، سواء في العلاقة مع المعارضين سياسيا، أو النشطاء الاجتماعيين، وبالتالي تصبح المؤسسات الأمنية هي الأكثر تأثيرا في رسم شكل العلاقة البينية لمكونات الحالة السياسية والمجتمعية الفلسطينية.

ثانيا: إحداث تغيير جوهري بالمنهجية والسلوك: وهو الذهاب فعليا إلى خيارات الشعب، من خلال عقد انتخابات تشريعية ورئاسية، وإعادة تشكيل المجلس الوطني ومنظمة التحرير وفقا للأوزان التي تفرزها هذه الانتخابات، والقبول بالنتائج والتسليم بها، وتحييد المؤسسة الأمنية عن التدخل في الحياة السياسية، وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية وفقا لتصورات توافقية ديمقراطية، تساهم في تعزيز الحياة السياسية المبنية على مفهوم الشراكة. هذا الخيار، وإن كان ممكنا من الناحية النظرية، إلا أنه قد يكون صعب التنفيذ بسبب تضرر فئات ومستويات سياسية ستخرج من المشهد السياسي كليا، وستفقد جميع الامتيازات المادية التي تحصل عليها، وتخسر طموحها السياسي مستقبلا. كما أن هذا الخيار قد لا يكون مناسبا لمفهوم وظيفة السلطة الفلسطينية، والعلاقة مع الاحتلال الإسرائيلي وفقا للاتفاقيات التي وقعت سابقا. ما يمكن أن يؤدي إلى هذا الخيار ما يلي:

  • قناعة إقليمية ودولية بضرورة التغيير الجذري في الحالة الفلسطينية؛ بسبب عدم قدرة السلطة الفلسطينية بتشكيلتها الحالية على المحافظة على الاستقرار الداخلي، والخوف من استمرارها بذات النهج، وبالتالي تفكيك المنظومة السياسية والأمنية تمت هندستها طوال السنوات الماضية.
  • رحيل الرئيس محمود عباس عن المشهد السياسي بشكل مفاجئ لسبب ما، والخوف من حدوث اقتتال داخلي بين الأقطاب الرئيسة في السلطة، مما يدفع باتجاه الذهاب لإعادة ترتيب المؤسسات السياسية وفقا لاحتياجات الظرف الطارئ.
  • قدرة فصائل المقاومة والقوائم المستقلة والنشطاء والمعارضين السياسيين، على استمرار تحريك الشارع الفلسطيني لرفض الواقع الحالي، وبالتالي حدوث حالة من الحراك السياسي إقليميا ودوليا، والضغط باتجاه إحداث التغيير المطلوب.

  • ثالثا: الموازنة ما بين التغيرات المرحلية المطلوبة وبين الاستمرار في المنهج الحالي: استجابة للضغوط التي قد تمارس على السلطة الفلسطينية من قبل أطراف دولية، وبالتحديد واشنطن، وأطراف إقليمية، وسعيا لامتصاص غضب الشارع في هذا التوقيت على الأقل، قد تذهب المنظومة السياسية للسلطة إلى اتخاذ خطوات معينة، مثل إقالة الحكومة الحالية والعمل على تشكيل حكومة جديدة، واعتقال عدد من الأشخاص المشاركين بحادثة مقتل بنات، وإقالة عدد من الشخصيات، أو إجراء تنقلات، وذلك بهدف امتصاص تبعات حادثة مقتل بنات، وفي ذات الوقت إبقاء النهج السياسي والأمني قائما كما هو عليه الآن. هذا الخيار قد يكون الأكثر ترجيحا في ظل الواقع الحالي، وما يعزز ذلك مجموعة من المحددات، هي:
  • مساعي الولايات المتحدة بإدارة بايدن، إلى إعادة الهدوء لمنطقة الشرق الأوسط، وتفيك بعض نقاط التوتر في المنطقة و الشأن الفلسطيني الداخلي جزءًا منها.
  • علاقة السلطة الفلسطينية مع الاحتلال الإسرائيلي تتعارض مع أي تغيير جوهري، خاصة ما يتعلق بالشق الأمني، الذي إلى تحقيق الاستقرار السياسي في الأراضي الفلسطينية.
  • الضغط الداخلي في حركة فتح وأطرها التي ترى أنها هي الخاسر الأكبر من كل الأخطاء التي ترتكبها القيادة السياسية والأجهزة الأمنية، وبالتالي الدفع بضرورة إحداث مستوى من الإصلاحات، التي قد يتم إخراجها على أنها ضمن مساعي حركة فتح نحو هذا الخيار.
  • استمرار الوقفات والمسيرات المناهضة لسياسات السلطة وحادثة مقتل بنات، وبالتالي تشكيلها ضغطا مباشرا أو غير مباشر على السلطة، تدفعها إلى إحداث هذه التغييرات.

الخلاصة:

يمر المشهد السياسي الفلسطيني في حالة من الغموض والإرباك الشديد، وبذات الوقت حالة من الخوف من الانزلاق باتجاهات غير محسوبة مسبقا، الأمر الذي قد يشكل ضغطا إضافيا باتجاه انفجار على شكل فلتان أمني أو اقتتال داخلي. هذا يدفع بضرورة إجراء قراءة أكثر عمقا. لفهم كيفية الخروج من المأزق الفلسطيني، يكون التوجه الأساسي فيه الشراكة الوطنية وإعاد بناء المؤسسات الفلسطينية والاتفاق على برنامج وطني.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى