ملفات وقضايامقالات

مقاومة التحييد: الحركة الطلابية في الضفة

حسن عبيد/ الجزيرة

مثّل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، محورًا مركزيًّا في تاريخ القضيّة الفلسطينية؛ مما جعله محطّ نقاش متجدّد، على المستويين الفلسطيني والدولي. ولعلّ أهمّ ما يُثار من آراء وتحليلات في هذا السياق، هو دور الفلسطينيين باختلاف أماكن وجودهم تُجاه هذه الحرب.
هذا الدور الذي لم يكن بالمستوى المأمول، ليس قياسًا بما كان يضطلع به الفلسطينيّ تاريخيًّا من أدوار فحسب، بل أيضًا بما مثّل من مخالفة للأداء الذي ظهر في معركة “سيف القدس” عام 2021، حين تكاتف الفلسطينيّون كافّة واصطفّوا خلف المقاومة تجاه تغوّل الاحتلال.

نشهد في هذه الحرب اختلافًا على مستوى الدور والفعالية للمجتمع الفلسطيني، وقد سعت الولايات المتحدة الأمريكية حثيثًا لتحقيقه، من خلال العمل على تحييد الضفة الغربية عن هذه الحرب، وتفادي اشتعالها، وهو ما أكّد عليه وزير خارجيتها أنتوني بلينكن في زياراته المتكرّرة للمنطقة. إذ إن دخول الضفة الغربية بشكل كامل في المواجهة، كما ترى إسرائيل وحلفاؤها، قد يغيّر المعادلة السياسية لهذه الحرب.

إنّ فهم التحولات التي طرأت على بعض الفواعل الاجتماعية في الضفة الغربية على مدار سنوات، يساعد على فهم تحول دورها المخالف لطبيعتها التاريخية وتكوينها الذاتي، الذي تسبب فيه مجموعة من السياسات الممنهجة على مر السنين، ومن أبرز هذه الفواعل التي جرى العمل على إضعافها: الحركات الطلابية الفلسطينية.

كان لعلاقة الحركة الطلابية مع الفصائل الفلسطينية دورٌ مهمٌّ في تحوّلات الحركة الطلابيّة في الضفة الغربية. ويمكن رصد أربع مراحل لهذه العلاقة بعد نكبة 1948، أولاها: إيجاد الحركة الطلابية للفصائل الفلسطينية، والحالة النضالية والتمثيلية. ثانيتها: التكامل مع الفصائل الفلسطينية. ثالثتها: التبعية للفصائل والمؤسسات الفلسطينية وأجندتها. رابعتها: فصل الحركة الطلابية عن حركاتها الأم، وتفكيكها، ومصادرة أدوارها.

لم تكن المفاصل التاريخية والأزمنة هي فقط محدد التحولات في المراحل أعلاه، وإنما أيضًا الأمكنة التي تطورت فيها الحركة الطلابية، وكذلك استقلالية الجامعات، وحيوية مجتمع الطلبة داخل الحرم الجامعي، لتتبدل أدوار هذه العوامل؛ فيصبح أحدها أو مجموعة منها الحاسم في تحولات أدوار الحركة الطلابية الفلسطينية، وهذا ما سيوضّحه المقال.

المرحلة الأولى: تأسيس الحركة الطلابية للفصائل الفلسطينية

ناضل الطلاب الفلسطينيّون قبل نكبة عام 1948 من خلال أجسام متعددة، للتحرّر من الاستعمار البريطاني والتصدّي للعصابات الصهيونية. حيث شارك الطلبة في الكثير من الفعاليات، منها أحداث ثورة عام 1929 وثورة 1936. وذلك مثلًا من خلال اللجنة العليا للطلاب، التي قادت العمل الطلابي، وعُقد المؤتمر التأسيسي الأول لها في مدينة عكا عام 1929. وكانت جمعيات “الخطابة”، إحدى الأجسام الطلابية الهامّة التي أدّت دورًا نضاليًّا وتوعويّا وتثقيفيّا خلال فترة الاستعمار البريطاني، إلا أنّ أحداث النكبة عملت على جرف المجتمع الفلسطيني بمكوناته وتشكيلاته كافّة، بما فيها الطلابيّة.

بعد النكبة، أعادت الحركة الطلابية تشكيل نفسها في الشتات الفلسطيني، وأدّت أدوارًا في الدفاع والتعبير عن الهوية الفلسطينية، وفي ترتيب صفوف الطلبة في جميع أماكن وجودهم، وفي تفعيل دور الشتات الفلسطيني، وتمثيل الفلسطينيّين أمام المحافل الدولية. وكان من أبرز هذه الأجسام رابطة الطلبة الفلسطينيين في القاهرة، التي حصلت على اعتراف جامعة الدول العربية. وكذلك الاتحاد العام لطلبة فلسطين، الذي تعود جذور تأسيسه إلى فترة الاستعمار البريطاني. جمع الاتحاد غالبية الطلاب الفلسطينيين، وتعزّز موقعه أكثر بعد مؤتمر عام 1962، أي قبل تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية بعامين، ليصبح أحد مؤسساتها فيما بعد.

واعتمد الاتحاد العام للطلبة الفلسطينيين الكفاح المسلح آليةً لتحرير فلسطين، وأنشأ معسكرات للتدريب العسكري، واعتبروا أنفسهم كتيبة احتياط في الثورة الفلسطينية.

ومن المهم الإشارة إلى أنّ معظم الفصائل الفلسطينية قد تأسست على يد القيادات الطلابيّة بعد تخرجها من الجامعات، ومنها: حركة فتح؛ التي أسّستها قيادات طلابية سابقة في رابطة الطلبة الفلسطينيّين والاتّحاد العام للطلبة، أمثال ياسر عرفات، وصلاح خلف، وتيسير قبعة، وفاروق القدومي، وهايل عبد الحميد. والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين؛ التي أسستها قيادة طلابية سابقة، مثل جورج حبش، الذي كان طالبًا في الجامعة الأميركية في بيروت، وانتخب عام 1949 أمينًا عامًا لجمعية العروة الوثقى، التي جمعت طلابًا من الأقطار العربية، وأصحاب التوجهات القومية.

لم ينحصر الدور التأسيسي للحركة الطلابية في الفترة التي تلت النكبة، أو في المنظمة وفصائلها، بل امتد ليشمل تأسيس حركة حماس عام 1987. فرغم استنادها في تأسيسها على البنية التحتية لجماعة الإخوان المسلمين، فإن “الكتلة الإسلامية” في الجامعات الفلسطينية، التي نشأت في نهاية سبعينيات القرن الماضي، ساهمت أيضًا في تأسيس الحركة، وقد ضمت الكتلة الإسلامية تحت مظلتها الطلبة ذوي التوجهات الإسلامية.

فهذه الكتلة التي تمثل حاليًّا الذراعَ الطلابيَ لحركة حماس، كانت ضمن السياق التاريخي، هي الإطار المؤسّس للحركة. وقد أشرف عدد كبير من قادتها، على تحويل بنية الإخوان المسلمين إلى بنية حركة شبيهة في تركيبتها ببنية فصائل منظمة التحرير، وأسّسوا أقسام الحركة المختلفة: الأمنيّة والعسكريّة والسياسيّة والإغاثيّة والإعلاميّة، وقادوها فيما بعد، منهم: جمال منصور، وجمال سليم، وصالح العاروري، وسعيد صيام، ويحيى السنوار، وخالد مشعل، وإبراهيم حامد.

المرحلة الثانية: تكامل الحركة الطلابية مع الفصائل الفلسطينية

أدى تطور معاهد وجامعات التعليم العالي وتوسّعها في الضفة الغربية وقطاع غزة في سبعينيات القرن الماضي، إلى إحياء دور الحركة الطلابية، فلم يعد التعليم مقتصرًا على النخب، بل انضم إلى الجامعات طلبة من مختلف الطبقات الاقتصادية والشرائح الاجتماعيّة، ومختلف المناطق، من مدن ومخيّمات وقرى.

وفي الوقت ذاته، خاصّة بعد نكسة 1967، وتصاعد الكفاح الفلسطيني، الذي لم يكن أداة تحرير فحسب، بل أداة لتعبير الفلسطينيين عن ذواتهم وهويتهم والاعتماد على أنفسهم، نضجت العلاقة أكثر بين الحركة الطلابية في الشتات والفصائل الفلسطينية، واشتهرت “الكتيبة الطلابية” في بداية السبعينيّات، فكانت تنظيما طلابيا يضطلع بأدوار عسكرية مساندة لمنظمة التحرير، أبرزها معركة “قلعة شقيف” في لبنان عام 1982.

هذا التكامل كان حاضرًا أيضًا بين حركة حماس وكتلتها الطلابية، إذ شكلت رافعة للحركة، خاصّة في الأنشطة النضالية مع بداية الانتفاضة الأولى (1987-1993)، وكانت إحدى أدواتها المركزية في الحشد والتعبئة. وبعد اتفاق أوسلو عام 1993، كانت الكتلة الإسلامية إحدى أدوات تحصيل الشرعية للحركة، لا سيّما في ظل منافستها مع منظمة التحرير، وذلك من خلال انتخابات مجالس الطلبة في جامعات الضفة الغربية وقطاع غزة، التي حققت فيها الكتلة الإسلامية نسبًا تتراوح بين 30 و50% من أصوات الطلبة، وهذا ما اعتبره الباحثون والمختصون وقتها عينة تمثيلية لانتخابات المجتمع عمومًا. وهو ما حصل في انتخابات المجلس التشريعي عام 2006، حيث حصلت حركة حماس على ما يقارب 57% من المقاعد.

كما مثّلت الجامعات منصات للتعبير عن الموقف السياسي للحركة، في ظل عدم حضورها في المؤسسات الرسميّة، مثل منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية فيما بعد. ولذلك، فإنّ كثيرًا من الدراسات والأبحاث درست رؤية الحركة السياسية والأيديولوجية من خلال خطابات وبيانات الكتلة الإسلامية.

ومن هنا فقد اضطلعت الحركة الطلابية الفلسطينية بدور تاريخي محوري في القضية الفلسطينية، وتكاملت مع فصائلها ضمن المحاور التالية:

لم تعرف الحالة الفلسطينيّة قدرة على الحشد والتعبئة مثل قدرة الحركة الطلابيّة، فهي شريان حيوي للفصائل يرفدها بالكوادر والكفاءات، وهي في نفس الوقت تنقل رسائل وأفكار تنظيماتها إلى القاعدة الشبابيّة. وتتكامل الحركة الطلابية مع فصيلها الأم في صياغة الأهداف المشتركة، والتخطيط الاستراتيجي.
ساهمت الحركة الطلابية في تأطير الهوية الوطنية الفلسطينية. وشكّلت الجامعات المعمل المناسب لذلك، فلم ينفصل التعليم والمعرفة عن الثقافة والهوية، وتكاملت أدوار الفاعلين داخل الجامعات الفلسطينية في تشكيل جبهة نضالية، ومنصة معرفية، تمكن فيها الطلبة من الأدوات اللازمة للدفاع عن القضية والتعريف بها محليًّا ودوليًّا. وأعدت الجامعات الكفاءات السياسية والاجتماعية والمهنية، ممّن تصدروا المشهد العام، سواء من خلال الفصائل أو من خلال منصات أخرى. وتنبّه الاحتلال لهذا الدور للجامعات، فعمل على نفي العديد من الأكاديميين من الضفة الغربية، كرئيس جامعة بيرزيت حينها، حنا ناصر، عام 1974.
تعتبر الحركة الطلابيّة شبكة اتصال حيوية لفصائلها مع تقسيمات المجتمع الفلسطيني، كالطبقات الاقتصاديّة، والعائلات والعشائر، والمناطق الجغرافيّة كالقرى والمدن والمخيّمات، والتوجّهات السياسية المتنوعة، وذلك بحكم انتماء الطلبة لهذه الفئات.
لم يقتصر دور الحركة الطلابية على الدورين السياسي والنقابي، بل يتجاوزهما إلى العمل التنظيمي والتثقيفي، والخدمة الاجتماعية والتطوعية، وإعانة الأسر، والمساهمة في كثير من الأنشطة الاقتصادية التي تعزّز صمود الفلسطينيين.

أدرك الاحتلال الدور الفعّال للحركة الطلابية، التي شكلت تنظيم الظل لفصائلها الأم، وأدرك أيضًا أن فاعلية الحركة الطلابية مع غياب الفصائل (لأسباب مختلفة) تتحقق لثلاثة أسباب، أولها: البيئة الجامعية ومجتمع الطلبة، الذي يمثل مصدر إمداد للحركة الطلابية. ثانيها: استقلال الجامعات عن التدخلات الخارجية، تحديدًا في فترة ما قبل أوسلو، ومساندتها للحركة الطلابية، وتوفيرها البيئات المناسبة للنضال. ثالثها: تكامل الحركة الطلابية مع البيئة التعليمية والإطار المعرفي والثقافي، الذي مثّل لها ما يشبه “كراسات تثقيفية” تحاكي تلك التي عند الأحزاب، ولكن بأبعادٍ وطنيّة.

تجربة مجتمع الجامعة من التجارب الفريدة التي تصقل القيادات، فلم يكن للفلسطينيين بعد النكبة تدريب قيادة، أو مؤسسات ووزارات تصقل وتنتج قياداتها، فمجتمع الجامعة مجتمع مصغّر من المجتمعات الكبرى. ومجتمع الطلبة نموذج مصغّر من المجتمع الأوسع. والعلاقة مع إدارة الجامعة نموذج من العلاقة مع الدولة ومؤسساتها. والعلاقة مع الحركات الطلابية الأخرى نموذج من العلاقة مع الأحزاب السياسية. كما تمثّل التيارات الفكرية امتدادًا للتيارات الفكرية وسجالاتها خارج أسوار الجامعة

على إثر ذلك وفي عام 1980، أصدر الاحتلال أمرًا عسكريًّا يضع فيه مؤسسات التعليم العالي تحت إمرة الحاكم العسكري، للتحكم في تسجيل الطلبة وتعيين طواقم الهيئة التدريسيّة، واشترط على المحاضرين الفلسطينيين غير المقيمين والأجانب التوقيع على إقرار التزامهم بأمر الحاكم العسكري، وعلى عدم الاعتراف بمنظمة التحرير باعتبارها “منظمة إرهابية”.

فرض الحكم العسكري مجموعة من إجراءات التحكم والقمع والرقابة على النظام الأكاديمي الفلسطيني، فقد اشترطت “الإدارة الإسرائيلية المدنية” على المحاضرين الأجانب، وخاصة في جامعة بيرزيت، الامتناع عن دعم منظمة التحرير، أو التعاطف معها. ورفضت الجامعة والطلبة، هذه الإجراءات، وخاض الطلبة نضالهم من أجل استمرار العملية التعليمية وكسر الأوامر العسكرية، وخاصة في تلك الفترة التي عانت فيها التنظيمات الفلسطينية؛ بسبب الحملات المنظّمة ضدها. وهو ما دفع الحركات الطلابية إلى تطوير تجربتها، والانتقال إلى الفضاء العام، وأداء أدوار التنظيمات الفلسطينية في كثير من المجالات.

سنلاحظ، لاحقًا، أن البيئة الجامعية واستقلال الجامعات، ظلا العاملين المؤثرين في استمرار الحركة الطلابية بفعاليتها في كثير من المحطات بعد أوسلو، ليظهر التحول في هذين العاملين بعد الانقسام الفلسطيني عام 2007، خاصة في ظل غياب الحركة الأم نتيجة الملاحقات الأمنية (كحال حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية)، أو بسبب تحويل الحركة الطلابية في أجندتها لصالح الحركة ومؤسساتها (كحركة فتح).

المرحلة الثالثة: التبعية للفصائل والمؤسسات الفلسطينية وأجندتها

أوجد توقيع اتفاق أوسلو أشكالًا جديدة في التحالفات بين الحركة الطلابية، فرغم التباين الأيديولوجي، تحالفت “الكتلة الإسلامية” مع أطر طلابية يسارية لأول مرة بين عامي 1993 و1995 في جامعتي بيرزيت والنجاح، في إطار مناهضة الاتفاقية، واستفراد حركة فتح بالقرار الفلسطيني.

وظلت المقاومة والكفاح المسلح محورًا مركزيًّا في الخطاب السياسي للأذرع الطلابية التابعة لحماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية. وقد انعكس ذلك في تحوّل جزء كبير منهم إلى العمليات العسكرية بعد أوسلو، وكان أبرزهم يحيى عيّاش. في حين روّجت حركة الشبيبة الطلابية الفتحاوية لبرنامج حركتها الأم في التسوية. وبعد اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، ارتكزت “الشبيبة الطلابية” على خطاب الكفاح المسلح، وبعد الانقسام وصعود سطوة التنسيق الأمني، عَلِقَت الشبيبة الطلابية في خطابها، فلم تستطع الترويج لمشروع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وظلت تستدعي خطابات الكفاح المسلح؛ لإدراكها أن هذا الخطاب هو الرائج والمقبول لدى الطلبة.

أثرت مجموعة كبيرة من المتغيرات التي طرأت بعد أوسلو في الحركة الطلابية، وأدت إلى تحولات في أدوارها. تمثّل أبرز هذه التحوّلات وأوّلها في عودة فصائل منظمة التحرير إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، وتأسيس السلطة الفلسطينية، وهيمنة هذه الفواعل والمؤسسات على المجال الفلسطيني العام. وأصبحت الفصائل تتحكم في الحركات الطلابية، بعد أن كانت الحركة الطلابية هي المؤسسة للفصائل والمسارات النضالية، ففرق الأعمار والأجيال باعد بين الأفكار والأولويات، فالشاب الذي كان في الخمسينيات ناشطًا طلابيًّا، أصبح بعد أوسلو يكبر أجيال الجامعة بحوالي أربعين عامًا.

لقد أدارت السلطة الفلسطينية الجامعات الفلسطينية ضمن رؤيتها في اتفاقية أوسلو، وفقدت الكثير من الجامعات استقلاليتها، حتى أصبحت تنفذ سياسات السلطة. وتفاقمت الأمور في بعض الجامعات بتقييد أنشطة الطلبة، وتمكين أجهزة الأمن للسيطرة على فضاءات الجامعات.

وبعد أوسلو، شنّت الأجهزة الأمنية للسلطة اعتقالات لأعضاء الحركات الطلابية المناهضة لاتفاق أوسلو، وأبرزها الأذرع الطلابية لحركة حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية، وزادت شدّة هذه الحملة بعد الانقسام بين حركتي فتح وحماس. وتعاملت مع الإطار الطلابي لحركة فتح باعتباره ذراعًا تنفيذيًّا لها، واستوعبت معظم كوادره في الأجهزة البيروقراطية والأمنية للسلطة.

وقد ازداد عدد الطلبة في الجامعات الفلسطينية والكليات بشكل متسارع، فقد بيّنت أرقام الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أن عدد الطلبة بين عامي 1994 و1995 كان قرابة 33490 طالبًا وطالبة في الضفة والقطاع، ثم أصبح عددهم بين عامي 2021 و2022 قرابة 226 ألف طالب وطالبة. هذا العدد الكبير للطلبة، يمثّل فئة الشباب الأكثر قدرة على تنظيم أنفسهم. ففي تاريخ القضية الفلسطينية كانت الأطر الطلابية، ذات الامتدادات السياسية، هي الأقدر على تنظيم المجتمع الطلابي، وتمثيله، وصياغة مطالبه. وهو المجتمع الذي بقي يختار ممثليه من خلال انتخابات ديمقراطية، ظلت منتظمة إجمالًا، ولكنه انتظام اختلّ بعد الانقسام الفلسطيني، باستثناء جامعة بيرزيت.

المرحلة الرابعة: فصل الحركة الطلابية عن حركاتها الأم وتفكيكها ومصادرة أدوارها

بعد الانقسام الفلسطيني عام 2007، تعرضت حركة حماس لحملة ملاحقة وتفكيك من قبل الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وانعكس ذلك على كل ما ارتبط بحركة حماس، من مؤسسات أو أفرع، وأبرزها “الكتلة الإسلامية”. إضافة إلى حملات الاحتلال الممنهجة ضدها. هذه الضربات المتلاحقة أخلت بالعلاقة التقليدية بالكتلة الإسلامية وحركتها الأم، لتصبح “الكتلة” أكثر اعتمادًا على نفسها، وفي كثير من الأحيان أعادت دورها كتنظيم ظل، إذ تقوم بأدوار التنظيم في كثير من الأحيان. وهذا الحال انطبق بنسب متفاوتة على الأذرع الطلابية لحركة الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية.

في المقابل، أخذ انفصال الشبيبة الطلابية عن حركتها الأم شكلا آخر، فقد تقاسمت كل من السلطة الفلسطينية وحركة فتح العلاقة مع حركة الشبيبة الطلابية “الفتحاوية”، ففي حين من المفترض أن تظل الأخيرة شأنا تنظيميا مرتبطا بحركتها الأم، تنافست أذرع السلطة في السيطرة والتحكم في تشكيلها واختيار قياداتها، وتجندت بعض مؤسسات السلطة وخاصة الأمنية في مساندتها.

هذه العلاقة المشوشة لحركة الشبيبة الطلابية دفعت بانتقادات من داخل حركة فتح نفسها، فبعد خسارة الشبيبة الطلابية في مايو/أيار 2022 انتخابات مجلس طلبة جامعة بيرزيت بحصولها على 18 مقعدًا، مقابل 28 مقعدًا حصلت عليها الكتلة الإسلامية، قال أمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح، جبريل الرجوب إنه “لا يجوز أن تدفع فتح ثمن أخطاء السلطة، ولا بد من نقاش طبيعة العلاقة بين السلطة وفتح”. وفي انتقاده لتدخل السلطة، قال مناظرٌ سابق في الشبيبة، هو صامد صنوبر، إن الذي خسر هم “الذين اختطفوا فتح وحرفوا بوصلتها، ونهج التنسيق الأمني المقدس”. انتقادات مشابهة خرجت بعد خسارة حركة الشبيبة في انتخابات مجلس اتحاد الطلبة في جامعة النجاح في مايو/أيار 2023، إذ حصلت على 38 مقعدًا، مقابل 40 مقعدًا للكتلة الإسلامية، وثلاثة مقاعد لليسار. وكانت هذه أول انتخابات تعقد بعد انقطاع دامَ قرابة 6 سنوات.

التحول في أدوار الحركة الطلابية في الضفة الغربية لم يكن سببه فصل الحركة الطلابية عن حركتها الأم فحسب، إذ فقدت الحركة أحد عوامل استمراريتها، وهو استقلالية الجامعات. فقد انحازت إدارات العديد من الجامعات إلى سياسات السلطة تجاه الحركة الطلابية، ففرضت القيود على أنشطتها، وانخرط حرس الجامعة في قمع ومطاردة الطلبة. وقد تكثّف ذلك في حادثة جامعة النجاح منتصف يونيو/حزيران 2022، حيث قمع أمن الجامعة وقفة طلابية داخل الحرم الجامعي، نظّمها “الحراك الطلابي المستقل” للمطالبة بتوفير حياة جامعية آمنة، فأصيب مجموعة من الطلبة والأكاديميين بجروح. واشتعل الغضب في الرأي العام الفلسطيني، وعلى إثر ذلك شُكّلت لجنة تحقيق وأوصت بإعفاء مدير الأمن، وبعض الحرس الجامعي من مهامّهم. ولم يكن هذا الحادث الوحيد، سواء في الجامعة نفسها، أو في جامعات غيرها.

لم تتوقف الحملات الأمنية تجاه نشطاء الحركة الطلابية من قبل الاحتلال وأجهزة السلطة الفلسطينية، وظلت الحركة الطلابية تحت هذا الضغط المستمر، مع غياب الإسناد التنظيمي الذي كانت تحصل عليه الحركات الطلابية قبل الانقسام. ورغم ذلك بقي للحركة الطلابية عامل واحد هامّ تتكئ عليه، وتستقوي به في حماية دورها التاريخي، وهو مجتمع الجامعة أو مجتمع الطلبة.

سرب “صقر” إحدى الوحدات العسكرية التي شاركت في عملية طوفان الأقصى (مواقع التواصل الإجتماعي)طوفان الأقصى

ظل “مجتمع الطلبة” العامل الوحيد الذي بقي للحركة الطلابية، والذي من الممكن أن تستند عليه في ممارسة دورها التاريخي بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، إلا أن السلطة الفلسطينية حرمتها من هذا العامل. فمع الأيام الأولى لمعركة طوفان الأقصى، حوّلت السلطة الفلسطينية التعليم من النظام الوجاهي إلى النظام الإلكتروني، بحجّة الخشية على الطلبة من ممارسات الاحتلال، وفُسّرت هذه الخطوة على أنها إحدى آليات السيطرة على المجتمع، وخاصة الطلبة، وأدى ذلك إلى تحييد مجتمع الجامعة بجميع فعالياته وتركيباته كافة، من حركات طلابية وجمهور الطلبة، والاتصال بينهما، والخطابات السياسية، وانتفت معه كل الأسباب التي تؤدي إلى المشاركة الفاعلة، مثل الحشد والتعبئة والاحتجاجات والتضامن، كما جُمّد الدور التاريخي الذي قامت به الحركة الطلابية على مدار مئة عام.

أضف إلى ذلك، أن طوفان الأقصى جاء والحركات الطلابيّة مستنزفة ومنهكة. ففضلًا عن استنزاف أعضائها في الأنشطة النقابية والخدماتية المتعلّقة بالطلبة، لم يسلم أعضاؤها من ملاحقة الاحتلال وأجهزة السلطة الفلسطينية، فأصبح نشطاؤها بين معتقل ومطارد. فمثلًا اقتحم الاحتلال قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول حرم جامعة بيرزيت، واعتقل رئيس مجلس الطلبة في الجامعة عبد المجيد حسن، وأعضاء آخرين من المجلس. وقبل ذلك بأشهر تعرض بعض هؤلاء الطلبة، وآخرون في جامعات الخليل والنجاح والبولتيكنيك، لاعتقال ومطاردة وتعذيب من قبل الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية. وعلى إثر ذلك خاضت العديد من الحركات الطلابية اعتصامًا داخل ساحات الجامعات احتجاجًا على الاعتقال لدى السلطة، مطالبين بالإفراج عن المعتقلين. وهذا ما دفع العديد من المؤسسات الحقوقية إلى دقّ ناقوس الخطر لما اعتبرته انتهاكًا صارخًا للحريات.

بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول قمعت السلطة الفلسطينية العديد من المظاهرات التضامنية مع قطاع غزة، مستخدمة في بعضها العنف المفرط، خشية أن تتحول هذه الفعاليات إلى انتفاضة شعبية عارمة، تُخرج الضفة عن سيطرة السلطة. ورصدت “لجنة أهالي المعتقلين السياسيين” قتل أجهزة أمن السلطة لخمسة مواطنين خلال المظاهرات المنددة بالعدوان على غزة، كما جرى اعتقال العشرات واستدعاؤهم، وكان للطلبة نصيب من هذه الحملة الأمنية. واستمرت أجهزة أمن السلطة في الاعتقالات والملاحقات لنشطاء الحركة الطلابية، ورغم ذلك لم يثنِ ذلك بعض الأطر الطلابية عن محاولة خرق هذا الطوق الأمني، والدعوة إلى مسيرات مساندة لغزة.

اعتقل الاحتلال عشرات النشطاء من الطلبة في جامعات الضفة الغربية كافة، واقتحم العديد من الجامعات، ففي 15 يناير/كانون الثاني الجاري، اقتحم الاحتلال جامعة النجاح واعتقل 25 طالبًا، كانوا معتصمين من أجل تحقيق مطالب نقابية للطلبة. وفي 8 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، اقتحم الاحتلال حرم جامعة بيرزيت، ودمّر وصادر مقتنيات الحركة الطلابية. كما اقتحم جامعة خضوري في طولكرم، وأصاب 11 طالبًا.

ومع انتفاء بيئة الجامعات بسبب تحويل دوام الجامعات إلى النظام الإلكتروني وفقدان الإسناد التنظيمي، صار من الصعب على الحركة الطلابية التابعة لحماس والجهاد والشعبية، أن تعيد بناء هيكلتها، وأن تستعيد عافيتها ونشاطها كما كانت سابقًا، في حين أن حركة الشبيبة الفتحاوية التزمت بقرار السلطة الفلسطينية، بتحييد الضفة الغربية وعدم الانخراط أو تنظيم فعاليات تضامنية مع قطاع غزة.

هكذا، تم تحييد ما يقرب من ربع مليون طالب في الجامعات والكليات الفلسطينية، عن الانخراط في فعاليات مساندة لقطاع غزة.

جزّ العشب

استخدم الاحتلال سياسة “جز العشب” ضد الحركة الطلابية، وهي استراتيجية أمنية قديمة اتبعها الاحتلال مع الحركة الوطنية الفلسطينية عمومًا، مضمونها إبقاء الحركة الطلابية تحت الضغط ودون مستوى التأثير، وذلك عبر استهدافها بالحملات الأمنية الممنهجة، التي تهدف لإبقاء الحركة الطلابية دون القدرة على الفعل وأخذ المبادرة، ولزرع الخوف لدى الطلبة وإقناعهم بعدم جدوى أفعالهم.

ومن خلال هذه العملية، ومنذ نكبة 1948، اعتقل الاحتلال الآلاف من نشطاء الحركة الطلابية، إلا أن تجربة الاعتقال -كما تخبرنا شواهد التاريخ- زادت من كفاءة العمل الطلابي وكوادره، فصقل مجتمع السجون الكثير من الخبرات والتجارب التنظيمية والمعرفية التي ساعدت الطلبة على الاستفادة منها خارج المعتقلات.

قاومت الحركة الطلابية بوسائل شتّى كلا الاستعمارين: البريطاني والإسرائيلي، باعتبارها الإطار الجامع الشامل للشباب الفلسطيني، ولكونها الأكثر قدرةً على تنظيمه، إذ لم يثبت أي إطار آخر قدرته على تنظيم هذه الفئة وقيادتها. إلا أن الحركة الطلابية الفلسطينيّة بعد أوسلو، أصبحت تقاوم من أجل الحفاظ على دورها، وتنازع السلطة على مكانها في الحيز الفلسطيني العام، الذي سعت السلطة لاحتكاره بعد قدومها، ليكتمل هذا القضم للحيز العام بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بقيام السلطة الفلسطينيّة بسلسلة إجراءات لتحييد المجتمع الفلسطيني في الضفة، وكانت الحركة الطلابية أول ضحايا ذلك.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى