ملفات وقضاياالمشهد الفلسطيني

إجراءات الاحتلال بحق القدس: دلالات الفعل “الإسرائيلي” التي فجرت طوفان الأقصى

حمدي علي حسين[1]

سارت وتيرة الاعتداءات “الإسرائيلية” بحق مدينة القدس وضواحيها قبل حرب “طوفان الأقصى” تصاعدياً في ظل الحكومة اليمينية المتطرقة، وصعود التيارات الدينية ضمن سياسة تعميق العقاب الجماعي على الفلسطينيين، وفي إطار ترسيخ واستمرار نهج الحكومة “الإسرائيلية” والجماعات اليهودية المتطرفة بهدف فرض وقائع جديدة على المدينة ومقدساتها، وأهمها تسريع تثبيت هذه الوقائع من أجل المضي في مشروع التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، والسعي المستمر لفتح المجال أمام الجماعات اليهودية المتطرفة، ودعمها لتنفيذ مخططاتها التهويدية في المسجد الأقصى، والتي تصب في صالح مخططها الكبير لإنشاء الهيكل المزعوم، مقابل التضييق الأمني وسطوة القوة البوليسية داخل البلدة القديمة وفي محيط المسجد الأقصى لتقييد دخول المصلين إليه.

الاحتلال اعتدى على نساء واعتقل مصلين (رويترز)

 كما تمضي الحكومة “الإسرائيلية” في تنفيذ أجندتها الاستيطانية التي تصب في مشروع “القدس الكبرى”، من خلال ضمِّ أكبر مساحة ممكنة من الأراضي المحيطة بأحياء القدس إلى حدود بلدية القدس التي تسيطر عليها حكومة الاحتلال، والتي تسعى أيضاً إلى تقطيع أوصال الأحياء العربية داخل المدينة بمشاريع استيطانية، سواء بزيادة الوحدات الاستيطانية أو إقامة مشاريع الحدائق والمحميات في المساحات الفارغة ومنع استخدامها، كما تسعى من خلال منظومة القوانين والتشريعات إلى تغيير الطابع الديمغرافي للمدينة عبر تقييد التوسع العمراني والبناء السكني للفلسطينيين، والحدِّ من توسيع المشاريع التجارية والصناعية؛ بهدف دفعهم نحو الهجرة والسكن خارج المدينة، وبالتالي إحداث تغييرات على تركيبة المدينة الديمغرافية، تفضي إلى تقليص الوجود الفلسطيني مع مرور الزمن.

جاءت عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها حركة المقاومة الإسلامية “حماس” انطلاقاً من غزة في السابع من أكتوبر 2023، ردًا على سياسات الاحتلال بحق مدينة القدس بشكل أساس، وقد حملت اسم المسجد الأقصى، حيث جاءت بعد سلسلة من تهديدات قيادة الحركة في الجناحين السياسي والعسكري، المطالبة بعدم المساس بالمسجد الأقصى، وضرورة وقف سياسات الحكومة اليمينية المتطرفة في القدس.

يتناول هذا التقرير سياسات الحكومة “الإسرائيلية” المتطرفة بحق القدس قبل عملية طوفان الأقصى، والتي أدت إلى حدوثها، ومنها الإجراءات التي تنفذها الحكومة اليمينية المتطرفة في القدس والمسجد الأقصى، ويتناول التقرير حصاد انتهاكات الاحتلال وسياسات القمع والإقصاء والتهويد بحق الفلسطينيين ودلالاتها.  

الاحتلال يعتقل شاباً بعد الاعتداء عليه في القدس

انتهاكات الاحتلال في القدس قبل طوفان الأقصى:

سعت “إسرائيل” إلى خلق واقع جديد في مدينة القدس، من خلال تعزيز الفصل الجغرافي والمعنوي للمدينة عن التجمعات الفلسطينية، من أجل كسر معادلة “وحدة الساحات” بعد هبة القدس وعملية “سيف القدس” عام 2021، واستمرت في تنفيذ سياساتها الاستيطانية والتهويدية للمدينة والمسجد الأقصى بشكل متسارع، وتمثلت هذه السياسات في التالي:

أولًا: زيادة عمليات الهدم في القدس وتسريع وتيرتها، فقد بلغت نسبة زيادة عمليات الهدم عام 2023 حوالي 60% عن عام 2022، بواقع 140 منزلاً ومنشأة، إضافة إلى تهديد أكثر من 22 ألف منزل في القدس بالهدم بحجة عدم الترخيص، كما هدم الاحتلال 17 منزلاً في مدينة القدس خلال شهر أيلول 2023، الذي سبق عملية “طوفان الأقصى”.

ثانيًا: اعتداءات واقتحامات للمسجد الأقصى: حيث بلغت الاقتحامات أكثر من 250 اقتحاماً، وأكثر من 1000 عملية اعتقال بحق المرابطين خلال عام 2022، وتوالت تصريحات الحكومة “الإسرائيلية” بداية عام 2023 على لسان “نتنياهو” الذي قال بإنه سيحافظ على الوضع القائم في المسجد الأقصى، و”لن يرضخ لإملاءات حركة حماس”، حيث شهدت تلك الفترة اقتحامات استفزازية بقيادة وزير الأمن الداخلي “ايتمار بن غفير”، فقد سجل عام 2023 اقتحام أكثر من 41 ألف مستوطن للمسجد الأقصى منذ بدايته حتى نهاية أيلول، والذي تسارعت فيه عمليات الاقتحام، حيث اقتحم أكثر من 4492 مستوطناً المسجد خلال 18 جولة اقتحام، كما تعرّض عدد من رجال الدين المسيحيين لاعتداءات من المستوطنين خلال فترة الأعياد اليهودية في القدس، وفي بداية أكتوبر قبل السابع منه، فرض الاحتلال قيوداً على دخول المصلين إلى المسجد الأقصى، بينما سمح لأكثر من 4500 مستوطن باقتحامه في فترة الأعياد.

قدرت وزارة الأوقاف الفلسطينية إجمالي اقتحامات المسجد الأقصى بـ 258 عملية اقتحام خلال عام 2023، شملت اقتحام 51 ألفا و994 متطرفاً ومتطرفة ساحات الأقصى حتى نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وقادت المنظمات الصهيونية المتطرفة حملات تهويد بحق المسجد خلال الأعياد اليهودية، وإدخال “القرابين خلال عيد العرش اليهودي، ورفع أعلام الاحتلال بداخله، وقطع أسلاك السماعات لمنع الأذان، واعتدت على المصلين ونكّلت بهم بالهراوات وإطلاق النار والقنابل الغازية داخل المصلى القبلي، والذي دنسه الجنود بالأحذية، وشهد “ايتمار بن غفير” وزير الأمن الداخلي في حكومة الاحتلال عدداً من الاقتحامات، والذي رفع عبر تصريحاته المتطرفة من شهوة المتطرفين لتنفيذ مخططاتهم منذ توليه المنصب.

عشرات المستوطنين اقتحموا المسجد الأقصى (الجزيرة)

بدأت سلطات الاحتلال بتصعيد انتهاكاتها بحق المسجد الأقصى ومدينة القدس منذ شهر شباط 2023، والذي شهد زيادة في أعداد المقتحمين بنسبة 54% عن العام الذي سبقه، كما زادت وتيرة الاقتحامات في شهر رمضان 2023، في ظل تقييد دخول المصلين إلى المسجد ومنعهم من الاعتكاف فيه، حيث اقتحمت قوات كبيرة من شرطة الاحتلال المسجد القبلي وعاثت فيه خرابًا، واعتقلت مئات المعتكفين فيه واعتدت عليهم بالضرب، ووصل عدد المقتحمين اليهود الذين أدوا الصلوات التلموذية في المسجد الأقصى خلال فترة عيد الفصح إلى أكثر من 5054 مستوطناً، فيما وافقت سلطات الاحتلال على مسار المسيرة السنوية الاستفزازية للمستوطنين في القدس، لتجوب الأحياء العربية ومنها البلدة القديمة، كما عُقدت جلسة الحكومة “الإسرائيلية” من داخل الأنفاق المقامة أسفل المسجد الأقصى من جهة حائط البراق، في رسالة موجهة إلى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ردا على قوله بأنه “لا علاقة لليهود بالقدس”، كما أعلنت الحكومة “الإسرائيلية” رصد موازنات إضافية لتهويد حائط البراق، قُدّرت بنحو 16.4 مليون دولار لعامي 2023 و 2024، وعقدت حكومة الاحتلال اجتماعاً مع ممثلي الجماعات المتطرفة أسفل المسجد الأقصى لمناقشة مخططات تهويده، بحضور ثمانية وزراء من الحكومة “الإسرائيلية” المتطرفة، وخمسة من أعضاء “الكنيست”.

ثالثًا: النشاطات الاستيطانية: صعّدت “إسرائيل” إجراءاتها الاستيطانية بحق القدس منذ بداية عام 2023، فقد صادقت “إسرائيل” على بناء 3000 وحدة استيطانية في مدينة القدس والضفة الغربية بشكل عام في شهر شباط من العام نفسه، وصادقت لاحقاً على بناء أكثر من 2969 وحدة في “التلة الفرنسية” و”بسغات زئيف” و”جفعات شاكيد”، كما واصلت مساعي بتر التواصل الجغرافي بين شرقي القدس وبيت لحم عبر استمرار البناء في “جفعات همتوس”.

خصصت الحكومة “الإسرائيلية” في عامي 2023 و2024 مبلغ 11.2 مليون دولار لصالح جمعية “إلعاد” الاستيطانية في بلدة سلوان، ودشنت جسراً يربط بين تلتين في وادي الربابة في بلدة سلوان بطول 200 متر، كما وكشفت سلطات الاحتلال عن أعمال تهويد استمرت لثلاث سنوات في برج “قلعة داود” داخل باب الخليل، بقيمة 50 مليون دولار، وقامت على إثرها بإنشاء صالات استعراض لخرائط تتناول مزاعم “التاريخ اليهودي لمدينة القدس”.

رابعًا: الأسرى والشهداء والمبعدون: سجلت مدينة القدس النسبة الأعلى من الاعتقالات قبل عملية “طوفان الأقصى”، حيث بلغ إجمالي الاعتقالات فيها 2274، فيما سجلت الإحصائيات استشهاد 12 فلسطيني في القدس وأحيائها حتى نهاية أيول 2023، وقد وصلت حالات الإبعاد عن مدينة القدس وعن المسجد الأقصى وعن أماكن السكن في أزقة البلدة القديمة إلى أكثر من 1105 حالة خلال عام 2023، منها نحو 877 مقدسياً أُبعدوا خلال النصف الأول من عام 2023.

2274 اعتقال في القدس منذ بدء “طوفان الأقصى”

دلالات الفعل “الإسرائيلي” وتبعاته:

يظهر من خلال تسلسل الإجراءات العقابية المشددة أن انتهاكات الاحتلال بحق مدينة القدس وضواحيها هي إجراءات متصاعدة، تهدف إلى تثبيت وضع القدس تحت سيادة الاحتلال، والمضي في مشروع تقسيم المسجد الأقصى، ومن دلالات هذه الإجراءات:

  •  سعي الحكومة “الإسرائيلية” إلى كسب عامل الوقت لتسريع تنفيذ مشروعها، وفصل القدس وواقعها عن التجمعات الفلسطينية الأخرى، وجعلها قضية تخص سكانها فقط، واستخدام الحصار والتضييق وتثبيت الفصل التام جغرافياً لتحقيق هذه الغاية، وحملت هذه الإجراءات رسائل استفزازية وتصريحات صادرة عن حكومة الاحتلال بأنها ستمضي قدماً في مشروعها، ولن تخضع لتهديدات حركة حماس وفصائل المقاومة.
  • تأتي هذه الإجراءات أيضاً في إطار مساعي حكومة الاحتلال لإنهاء حالة المركزية والإجماع على القدس لدى أطراف النضال الفلسطيني، كونها تشكل إجماعاً وهدفاً فلسطينياً لمختلف الأطياف، ولأنها شكلّت ساحة لإحياء الفعل النضالي وتجديده في السنوات الأخيرة، ولذلك تسعى “إسرائيل” إلى تدمير الشخصية المقدسية النضالية، لأنّها ابتكرت أساليب ضاغطة من الداخل، أهمها العصيان المدني من الكتلة السكانية الفلسطينية، وتسعى سلطات الاحتلال في سياق متصل إلى سلخ مدينة القدس عن امتدادها مع ضواحيها، والتي تشكّل شرياناً اجتماعياً وجغرافياً يربط مدينة القدس المعزولة بالمحافظات والمدن الأخرى، ولذلك فإنها تستهدف باستمرار البلدات والقرى في الريف الفلسطيني المتاخم للمدينة من جميع الاتجاهات، وتسعى لبسط الأمن بما يخفف عنها الضغط ويحقق من أهدافها.

دلالات “طوفان الأقصى” لدى حركة حماس:

جاءت عملية “طوفان الأقصى” في محاولة لوقف نزيف السياسات الاستعمارية بحق مدينة القدس، ولإعادة مركزية القدس والمسجد الأقصى عربيًا وإسلاميًا، في ظل انغلاق آفاق المبادرات والمشاريع السياسية وفشلها في وقف سياسات “إسرائيل”، وتنكّر الأخيرة لوجود الشعب الفلسطيني وحقوقه، وإمعانها في استغلال الوقت لتمرير مشاريعها، وتأتي التسمية امتدادًا لتسميات فلسطينية سابقة لمواجهات انطلقت من مدينة القدس، وجاءت لتركز على أهميتها وتعمق من الالتفاف حولها، وفيها دعوة للمناصرة والزحف الإسلامي والعربي لتحريرها ونصرتها، كانتفاضة الأقصى عام 2000، وهبة القدس 2015، ومعركة “سيف القدس” عام 2021.

 كما ورد في خطاب محمد الضيف القائد العام لكتائب الشهيد عز الدين القسام، بأنّ العملية جاءت بفعل زيادة انتهاكات الاحتلال في المسجد الأقصى، من اقتحامات وتدنيس بالأحذية، والاعتداء على المرابطات والشيوخ والأطفال والشباب بالضرب والسحل، ومنع وصول المصلين إلى المسجد، وفي ذات الوقت تفتح شرطة الاحتلال المجال للجماعات اليهودية لتدنيس المسجد الأقصى بالاقتحامات اليومية وأداء الطقوس والصلوات التلمودية، والنفخ بالبوق وهم يلبسون ثياب الكهنة، حيث باتت نواياهم بإقامة هيكلهم المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى أكثر علنية، وقاموا بطقوس منها إحضار البقرات الحمراء لحرقها، وذرّ ماء رمادها، ليكون إعلان عمليّ لهدم الأقصى وبناء الهيكل، كما وجاءت في إطار التجرؤ على إهانة المسلمين بشتم الرسول محمد في ساحات المسجد الأقصى، وتمزيق المصحف، والدخول بالكلاب إلى المساجد، إضافة إلى سعيهم المستمر لفرض الوقائع، ومهاجمة أهالي القدس وسرقة بيوتهم وعقاراتهم، ولذلك دعا الضيف الأمتين العربية والإسلامية إلى الزحف والجهاد لتحرير القدس، ونصرة فلسطين من خلال الاحتشاد في الساحات.

ورد لاحقاً في وثيقة حركة حماس “لماذا طوفان الأقصى” في النقطة السابعة منها بأنّها جاءت في مواجهة مخططات التهويد والتقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، وتصاعد وتيرة الاقتحامات الاستفزازية للمستوطنين، وسياسات الحكومة “الإسرائيلية” المتطرفة لحسم السيادة على المسجد الأقصى والمقدسات.

القدس بعد “طوفان الأقصى”

تصاعدت وتيرة الاعتداءات “الإسرائيلية” بحق مدينة القدس وضواحيها، في أعقاب عملية “طوفان الأقصى” والحرب “الإسرائيلية” على قطاع غزة، في إطار سعى “إسرائيل” لتأكيد بسط نفوذها وسيطرتها على القدس والمسجد الأقصى، وفرض عقاب جماعي على الفلسطينيين، مع استمرار الحكومة “الإسرائيلية” في سياساتها المتطرفة التي تسعى الى ترسيخ وقائع جديدة على المدينة ومقدساتها، مستغلة ظروف الحرب والمواجهة التي تتحول فيها الأنظار نحو جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها آلته العسكرية في قطاع غزة، فصعّدت إجراءاتها في القدس من خلال سلسلة من الخطوات القمعية، حيث بدأت بنشرٍ مكثف لقوات الشرطة و”حرس الحدود” في أزقة البلدة القديمة وأحياء القدس، وتحويلها إلى ثكنة عسكرية، وتقييد حركة الفلسطينيين، وتشديد الحصار على المسجد الأقصى، فضلًا عن إغلاق شرطة الاحتلال لبواباته، ومنع من أعمارهم تحت ال 50 عامًا من دخوله، للحد من حشد الفلسطينيين ومنع الالتفاف حول رمزيته الدينية.

اتبعت حكومة الاحتلال عدة إجراءات مسبقة لقمع الحراك الفلسطيني الذي انطلق في عدة مناطق من الضفة الغربية والقدس اسناداً لغزة، باعتقال الناشطين المقدسيين وتعذيبهم، والحكم على أغلبهم بالاعتقال الإداري، ومصادرة الأموال وتخريب المنازل والممتلكات خلال الاقتحامات الليلية الممنهجة في أحياء القدس وضواحيها، بهدف الترهيب والتهديد، وسعت “إسرائيل” من وراء هذه الإجراءات إلى تقليل فرص اندلاع مواجهة مساندة من ساحتي القدس والضفة الغربية تضامناً مع غزة.

أفصحت حكومة الاحتلال مع قرب حلول شهر رمضان عن نواياها فرض إجراءات وقيود مشددة على دخول المسجد الأقصى، منها القيود العمرية حسب المنطقة، وزيادة نشر قوات الشرطة، وبحث سبل التحكم بالفلسطينيين أمنياً، وقمع النشطاء السابقين في أحياء القدس استباقيًا، وتهديدهم، ودار نقاش “إسرائيلي” تناول مدى التشديدات وحدودها، ولم تُسَجَل خلافات على الفكرة الأساسية التي تعمل عليها الحكومة، ولم تعارضها بشكل مبدئي أطراف الأمن والمتمثلة بدعم اقتحامات الجماعات المتطرفة، واستمرار مشروع التقسيم الزماني والمكاني، فيما جاءت الخلاف فيما يتعلق بشدتها وتوقيتها في رمضان من قِبَل “الشاباك الإسرائيلي”، ولم يكن هنالك إعلان يخالف سياسات الجماعات اليهودية المتطرفة ومشروعها في تهويد المسجد.

انتهاكات الاحتلال أثناء الحرب:

أولًا: الشهداء: بلغ عدد الشهداء الذين استشهدوا في محافظة القدس منذ السابع من أكتوبر 2023 وحتى نهاية شباط 2024 نحو 36 شهيداً، منهم 11 شهيداً من سكان مدينة القدس، بينما ارتقى نحو 24 شهيداً في ضواحي المدينة، فيما سجلت الاحصائيات استشهاد نحو 14 فلسطينياً من القدس ضمن عائلات الأسرى المبعدين إلى قطاع غزة، وهم: الأسيران المقدسيّان المحرران المبعدان عن مدينة القدس إلى قطاع غزة عبد الناصر داوود حليسي (64 عامًا)، وشقيقه طارق داوود الحليسي (57 عامًا)، وجميع أفراد عائلتيهما، كما ارتقى الأسير المحرر المبعد عن مدينة القدس محمد إبراهيم حمادة (46 عامًا)، واستشهد من خارج محافظة القدس عدد آخر من الفلسطينيين خلال تواجدهم فيها أو خلال تنفيذ عمليات ضد أهداف “إسرائيلية”، آخرها استشهاد شابين من قرية زعترة قضاء بيت لحم خلال تنفيذ عملية على حاجز “الزعيّم”.

ثانيًا: الأسرى: سجلت المحافظة عدد من المعتقلين وصل إلى 987 حالة منذ عملية “طوفان الأقصى” حتى نهاية عام 2023، وارتقى منهم الشهيد وديع أبو رموز من الحركة الأسيرة في سجون الاحتلال، وتركز اعتقال الأطفال بشكل أساسي في القدس، حيث سجلت حوالي (696) حالة اعتقال أطفال منذ 7 أكتوبر حتى نهاية عام 2023.

ثالثاً: الاستيطان في مدينة القدس: استغلت المجموعات اليمينية المتطرفة إعلان حالة الحرب لوضع اساسات لمستوطنة “القناة السفلية“، وهي الأولى في المدينة المقدسة منذ عام 2012، والتي ستحوي 1792 وحدة سكنية، تقام على مساحة 186 دونماً من الأراضي الفلسطينية المتاخمة لحي “إم طوبا” وصور باهر، ويذكر أنّ سلطات الاحتلال قد صادقت على 29 مشروعاً استيطانيًا في القدس خلال عام 2023.

رابعًا: هدم المنازل والمنشآت الفلسطينية: صعّدت “إسرائيل” من وتيرة عمليات الهدم في القدس منذ السابع من أكتوبر 2023، وقد أخطرت ما يزيد عن 200 منزلاً ومنشأة بالهدم، وأمهلت قوات الاحتلال المقدسيين فترة بهدم منازلهم ذاتياً، والّا فسيتم هدمها من قِبَل الاحتلال مقابل فرض غرامات عالية، وجاء هذا الارتفاع بسبب تسريع إجراءات البت في أوامر الهدم، وعدم إعطاء المقدسيين فرصة للالتماس لدى القضاء “الإسرائيلي”.

خامساً: رفع وتيرة اقتحامات المسجد الأقصى: رفعت سلطات الاحتلال من وتيرة عمليات الاقتحام منذ بداية الحرب على غزة، حيث تجاوز عدد المقتحمين أكثر من 13 ألف مستوطن حتى نهاية كانون ثاني 2024، وفرضت إجراءات مشددة على دخول المصلين إلى المسجد في صلوات الجمعة أدت إلى تناقص شديد في أعدادهم، ومنها التحديد العمري، والمنع والتنكيل بالمصلين على أسوار المسجد، ودفعهم إلى الصلاة خارجه، كما دعت الجماعات المتطرفة إلى إغلاق المسجد الأقصى بشكل دائم في وجه الفلسطينيين، للضغط نحو إعادة الأسرى “الإسرائيليين” من غزة.

سادساً: قمع أهالي الأسرى ومنع حشود الاستقبال والتهنئة: كانت نسبة الأسرى والأسيرات المقدسيين المفرج عنهم ضمن صفقة التهدئة مع المقاومة في غزة خلال شهر تشرين ثاني/ نوفمبر 2023 هي الأعلى، حيث داهمت شرطة الاحتلال منازل عائلاتهم ومنعت احتشاد المهنئين والتواجد، وضيّقت على التغطية الإعلامية والصحفية المرافقة، وأجبرت أهالي الأسيرات على التوقيع على تعهد بعدم خرق الشروط الصارمة التي وضعتها شرطة الاحتلال.

سابعا: الاقتحامات الليلية والمداهمات المنزلية: والتي انتهجتها قوات جيش الاحتلال في أحياء مدينة القدس وقراها، حيث ركز الاحتلال في تلك الاقتحامات والمداهمات على اعتقال العشرات، وإجراء تحقيقات ميدانية معهم بعد التنكيل بهم وتكسير محتويات منازلهم، وتهديد العديد من الشباب الناشطين والوجهاء في القرى بالاعتقال.

ثامناً: التضييق على المدارس والطلبة: وتمثلت الإجراءات بتفتيش حقائب الطلاب بحثاً عن المنهاج الفلسطيني، وإغلاق مدارس رياض الأقصى الإسلامية داخل المسجد الأقصى لمدة أسبوع، في حين هددت سلطات الاحتلال بإغلاق ثلاثة مدارس في ساحات المسجد الأقصى، سعياً لإفراغ ساحاته من الفلسطينيين خلال ساعات الصباح، التي تشهد اقتحامات دورية للمستوطنين.

دلالات الفعل “الإسرائيلي” وتبعاته:

يظهر من تسلسل الإجراءات العقابية المشددة بأن انتهاكات الاحتلال المستمرة منذ ما قبل طوفان الأقصى بحق مدينة القدس وضواحيها هي إجراءات متصاعدة تهدف إلى تثبيت وضع القدس تحت سيادة الاحتلال، والمضي في مشروع تقسيم المسجد الأقصى، ومن دلالات هذه الإجراءات بعد عملية “طوفان الأقصى” سعي الحكومة “الإسرائيلية” إلى طمس القدس ودفعها بعيداً عن واجهة الحدث،  كون عملية “طوفان الأقصى” جاءت رداً على انتهاكاتها المستمرة، وتصعيد الإجراءات بحق المدينة والمسجد الأقصى هو أحد الردود الاستفزازية والرسالة التي تسعى “إسرائيل” إلى إيصالها للمقاومة في غزة، ورسالة للشارع المقدسي والفلسطيني مفادها بأن العملية هي سبب هذه الإجراءات وليس العكس، في محاولة لتبديد أهداف العملية وضرب نتائجها المعنوية في صفوف الفلسطينيين والعالم الإسلامي الذي يلتف حول القدس والمقدسات الإسلامية، باعتبارها تشكّل رمزية دينية لعموم المسلمين.

النقاش “الإسرائيلي” حول الوضع الأمني في القدس:

احتدم نقاش الأطراف “الإسرائيلية” في نقاشها حول القيود التي ستفرضها على دخول الفلسطينيين إلى المسجد الأقصى في رمضان القادم، والإجراءات التي ستتخذها للتعامل مع أيّة هبة جماهيرية يمكن أن تندلع، وبدا الاختلاف بين موقف الشرطة و”الشاباك” ووزير الأمن الداخلي “ايتمار بن غفير، حيث اقترحت الأولى بأنها ستنشر قوة شرطية كبيرة ودائمة في القدس والمسجد الأقصى لمنع الاحتشاد ورفع الرايات، وأيدت دخول المسجد الأقصى للفلسطينيين من القدس والمناطق المحتلة عام 1948 ممن تزيد أعمارهم عن 45 عاماً، والذين تزيد أعمارهم عن 60 عاماً من الضفة الغربية، بينما رفض “الشاباك” وضع أيّة قيود خوفاً من انفجار الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية، داعياً إلى دخول أهالي الضفة الغربية الذين تزيد أعمارهم عن 45 عاماً إلى المسجد، ومنع تقييد دخول المقدسيين وفلسطينيي المناطق المحتلة عام 1948، بينما دعا “بن غفير” إلى منع تام لدخول المصلين إلى المسجد الأقصى، باستثناء من تزيد أعمارهم عن 70 عاماً، ومنع تام لدخول أهالي الضفة الغربية الى المسجد، وقد حذر “الشاباك” من قرار المنع الذي يدعو له “بن غفير” وخطره في تفجير الأوضاع في الضفة الغربية والقدس بفعل هذا القرار.

حذر ضباط كبار في الشرطة “الإسرائيلية” من قرارات “بن غفير” بمنع الفلسطينيين في المناطق المحتلة عام 1948 من دخول المسجد الأقصى، وقد صرّحت جهات إعلامية “إسرائيلية” بأن “مجلس الحرب” قد قرر سحب صلاحيات “بن غفير” الخاصة بالمسجد الأقصى، وبأنه لن تكون قيوداً على دخول المقدسيين وفلسطينيي المناطق المحتلة عام 1948، وقد أيّد “يائير لابيد” زعيم المعارضة “الإسرائيلية” هذا القرار.

سيناريوهات الوضع الميداني في القدس خلال رمضان 2024:

هنالك عدة سيناريوهات متوقعة للوضع الميداني في القدس ومحيطها في رمضان القادم، في ضوء الحرب “الإسرائيلية” المستمرة على قطاع غزة، والتي أدت إلى زيادة التصعيد والاحتقان بفعل الضغوطات الاقتصادية والمعيشية في الضفة والقدس، وتصاعد إجراءات الاحتلال في محيطها عبر القمع والتشديد والترهيب، وتكم تلك السيناريوهات في التالي:

أولاً: سيناريو اندلاع هبّة شعبية انطلاقاً من القدس: وذلك في ظل قرار جهات “إسرائيلية” مدعومة حكومياً، يقضي بتشديد دخول الفلسطينيين ووضع معيقات عمرية وحواجز شرطية، ويأتي ذلك في ظل استمرار جرائم الإبادة الجماعية والتجويع بحق قطاع غزة، وقساوة مشاهد القتل والدمار، وتأزم الوضع الاقتصادي للفلسطينيين في الضفة الغربية بفعل منع دخول العمال إلى المناطق المحتلة، وأزمة الرواتب لموظفي السلطة الفلسطينية بفعل احتجاز عائدات الضرائب الفلسطينية “المقاصة”، ما ساهم في حدوث ركود اقتصادي زاد من حالة الاحتقان الشعبي، ويتزامن هذا السيناريو مع رمضان باعتباره شهرًا تزيد فيه دافعية الفلسطينيين الدينية، ما قد يحرك شعلة هذه الهبة من المسجد الأقصى، لا سيما مع اقتحامات الجماعات المتطرفة الاستفزازية للمسجد، والتي تتصادف أعيادها مع منتصف شهر رمضان، الذي يزيد فيه إقبال المصليين على الصلاة والاعتكاف في المسجد، ويترافق ذلك مع منع دخول غالبية أهالي الضفة الغربية، في ظل التقييدات العمرية ووقف التعامل بالتصاريح، وما يعزز هذا السيناريون ما شهدت الضفة الغربية والقدس خلال شهر رمضان في السنوات الماضية من هبات شعبية بدأت من القدس، مثل هبة عام 2021، وهبة 2022، ومواجهات الأقصى 2023، وما سبقها خلال السنوات السابقة في رمضان، مثل هبة القدس عام 2014، ويعتمد عمق الهبة الشعبية وامتدادها واستمرارها على قدرة الفلسطينيين على الالتحام والمشاركة فيها بفعل تراجع العمل المنظم وبسط السيطرة الأمنية في مناطق الضفة الغربية.

ثانياً: سيناريو عدم اندلاع هبة شعبية: وهذا يعتمد على مدى تأثير الجهات التي رفضت قرار التقييد أو المنع التام، وموقعها من اتخاذ القرارات، وقرارات “إسرائيلية” بسحب صلاحيات “بن غفير” في القدس، في ظل حديث “إسرائيلي” عن ضرورة التخفيف من الاستفزازات والحفاظ على “الهدوء” في ساحة الضفة الغربية والقدس خلال شهر رمضان، من زاوية السعي “الإسرائيلي” إلى امتصاص حالة الاحتقان التي تشهدها الضفة، في ظل استمرار حرب الإبادة والتجويع على غزة، والسعي بشكل معاكس إلى إزالة الفرص القائمة لاندلاع مواجهة بفعل تفاقم الأوضاع الاقتصادية وسياسات القمع تجاه الفلسطينيين، ويمكن أن يشمل هذا السيناريو مضي الحكومة “الإسرائيلية” بإجراءاتها تجاه المسجد الأقصى واندلاع مواجهات محدودة في محيط المسجد الأقصى وأحياء القدس.

الخاتمة:

إنّ تسارع إجراءات الحكومة “الإسرائيلية” بحق القدس وتصعيدها قبل عملية “طوفان الأقصى” جاء في سياق استمرار المشروع الصهيوني الهادف إلى تهويد المدينة ومقدساتها، وتحقيق “مشروع القدس الكبرى”، ومحاولة الحدّ من توسع الفلسطينيين جغرافياً وديمغرافيًا، وترسيخ عزل المدينة عن محيطها وعن محافظات الضفة الغربية الأخرى، وعزلها سياسياً ومعنوياً عن الساحات الأخرى في فلسطين والشتات، وعن مشروع المقاومة في غزة، وعن عمقها العربي والإسلامي، مستغلاً تراجع القضية الفلسطينية عربياً وعالمياً، وجاءت عملية “طوفان الأقصى” محاولة لإيقاف هذه السياسات، وإعادة القدس إلى مكانتها ومركزها، عبر تسليط الضوء عليها من خلال عملية عسكرية هي الأكبر في تاريخ المقاومة الفلسطينية، وتحمل اسم المسجد الأقصى، لتحشد وتذّكر العالم الإسلامي والعربي به وبأهمية نصرته، فكان الرد “الإسرائيلي” هو السعي لكسر هذه المعادلة مرة أخرى بإعلان الحرب على غزة، وتوسيع إجراءاته العقابية والتعسفية، وزيادة قبضته البوليسية على القدس والمسجد الأقصى.


[1]  باحث من القدس، حاصل على درجة الماجستير في السياسات العامة من معهد الدوحة للدراسات العليا، وماجستير في الدراسات الدولية من جامعة بيرزيت.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى