ملفات وقضاياشؤون إسرائيلية

مؤشرات الإخفاق الإسرائيلي تبدّد مزاعم “النصر المطلق”

تتزايد التقديرات الإسرائيلية بشأن الإخفاق السياسي والدبلوماسي للعدوان الجاري على غزة، رغم المزاعم بتحقيق إنجازات عسكرية ميدانية، الأمر الذي يجعل المسارين، السياسي والعسكري، يسيران في خطين متعارضين، بحيث يعجز المستوى الأول “السياسي” عن توظيف ما يقوم به المستوى الثاني “العسكري”، مما يجعل ما يتحقق من وقائع على الأرض، ذا طبيعة آنية تكتيكية مؤقتة.. يناقش المقال هذه القراءات الإسرائيلية، مستعيناً بأهم ما تحدث به كبار القادة السياسيون والعسكريون حول هذه المعضلة..

بعد مرور أكثر من مائتي يوم على اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة، باتت المحافل الإسرائيلية: الصحفية والإعلامية والبحثية والدراسية، تشهد نشر المزيد من التقارير عن تبدّد مزاعم الهزيمة التي أوقعتها الحرب بالمقاومة في غزة، بعد أن وجدت طريقها كلما شن الجيش عدواناً هنا وتدميرا هناك، مما يجعل الحديث الإسرائيلي عن تحقيق ما يدّعيه بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة عن “النصر المطلق”، شعار سابق لأوانه، ويضلّل الجمهور الإسرائيلي.

حرب العصابات

مع العلم أن أحد أهم أهداف الاحتلال من هذه الحرب هو التسبب في انهيار حماس كمنظمة فاعلة، من بين أمور أخرى، من خلال تحييد نشطائها، قتلاً واعتقالاً، لكن ما يحصل، ووفق الاعترافات الإسرائيلية ذاتها، أنه كلما انتهى الجيش من شن أي عدوان له في مختلف مناطق قطاع غزة، يخرج عناصر المقاومة من أماكنهم، ويعودون لإدارة شؤون القطاع، رغم الدمار الواسع النطاق الذي لحق ببناه التحتية وأحيائه السكنية، مما يدل على استمرار سيطرتها على القطاع، وهذا هو بالضبط الوضع الذي لا ينبغي أن يكون موجوداً بعد الحرب، وفق الفرضية الإسرائيلية التي لم تجد لها حتى الآن ما يعززها على أرض الواقع.

صحيح أن العدوان الواسع الذي يشنّه جيش الاحتلال تسبّب بأضرار في محاور القيادة والسيطرة التابعة لحماس عقب دخول قواته إلى المدن المركزية في القطاع، خاصة غزة والشمال وخانيونس، لكن النتيجة المتحصلة حتى الآن، وبعد مرور الأيام المائتين تفيد بما لا يدع مجالاً للشك، ومرة أخرى بالاعتراف الإسرائيلي، أننا لا نشهد انهياراً نظامياً لحماس، لاسيما وأن الحركة تخوض قتالاً على نمط “حرب العصابات” المعروف في التاريخ العسكري، ومفاده أنها تهاجم عندما تكون لها ميزة، وتنسحب عندما تكون لدى جيش الاحتلال الأفضلية، لكنهم يتحينون الفرص للضرب من الكمين، وفي الغالب ينتظرون اليوم التالي، عندما يخرجون من عقدهم القتالية مرة أخرى، ويستمرون في إدارة القتال.

اليوم، وقد استطاع جيش الاحتلال الاستيلاء على مناطق واسعة في قطاع غزة، فإن المقاومة باتت تستخلص تغذيتها الراجعة من الأيام المائتين السابقة بانسحابها المؤقت من بعض الأراضي لبعض الوقت، دون التخلي عما تسميه الأصول العسكرية التي تعتبرها عمقاً استراتيجياً لها، يفيدها في تحويلها لمناطق انطلاق محمية وآمنة، والتخفي عن الاحتلال، وقاعدة للحفاظ على السيطرة. حتى أن المزاعم الإسرائيلية عن سيطرة الحركة على إمدادات المساعدات، وتكليف لجانها المناطقية بتوزيعها على مستحقيها من المواطنين “تقول كل شيء” عن تحقيق أهداف الحرب المعلنة، فحماس باقية، وإدارتها لشؤون القطاع، وإن تضررت، لكنها ما زالت ماثلة.

كل ذلك يتم رغم سيطرة جيش الاحتلال على مناطق واسعة في قطاع غزة، ومن المرجح أن يوسعها في الأسابيع المقبلة، ومع توفر مؤشرات كثيرة تشير إلى أن الساعة الرملية السياسية للعدوان على وشك النفاد، فإن حماس كمنظمة مقاتلة، ومسيطرة على القطاع، من الواضح أنها لن تنهار نتيجة سياسة التدمير والتخريب التي يشنها جيش الاحتلال، مما يجعل من طرح سؤال “اليوم التالي” صعباً ومؤثراً على الإسرائيليين، الذين يواصلون تلقي تصريحات المتحدث باسم الجيش ورؤساء الأجهزة ومفادها أن حماس ومقاتليها يستسلمون
أمام الجيش، وهذا سيتضح مع مرور الوقت أنه سلوك مقلق للغاية، لأنه تضليلي بالدرجة الأولى، ويهدف لتحقيق أجندة شخصية لهم تهدف لـ”خلق” صورة النصر الوهمية.

النصر الوهمي

كل ذلك يؤكد أن التفاؤل الإسرائيلي بشأن القدرة على هزيمة حماس في حرب الإبادة الجارية، ينقلب مع مرور الوقت، ولسوء حظ الإسرائيليين، إلى شعور بالتشاؤم أكثر من أي وقت مضى، مما يؤكد أن أهداف الحرب المعلنة كانت بعيدة المنال سياسياً، ومن المؤكد أنها لا تعكس الواقع على الأرض، وهو واقع أسوأ كثيراً مما يعترف به الاحتلال، الذي ادعى أنه حقق جملة إنجازات ميدانية تتمثل باستهداف قدرات حماس العسكرية ، لكن أوساطه “العقلانية”، على قلّتها، تؤكد أنه لا ينبغي المبالغة في أهمية ما تحقق بعد أيام الحرب المائتين المنقضية، لأن حماس غالبًا ما تكون أكثر فعالية عندما تهاجم الجيش بشكل مفاجئ، وليس عندما تحاول السيطرة على الأراضي؛ والاحتفاظ بها، مما يعني أنها لا تزال تشكل تحديًا كبيرًا، وقد يجعل الوضع في قطاع غزة أكثر إزعاجاً للاحتلال، إن قرر البقاء فيه فترة من الزمن بغرض استكمال مهمة القضاء على حماس، وهي مهمة اتضح اليوم أنها لم تكن أبداً احتمالاً واقعياً.

اليوم، وبعد مرور مائتي يوم على العدوان الهمجي الذي يشنه الاحتلال، تزداد قناعاته، وإن حاول المكابرة، أنه حتى لو تم القضاء على حماس، فإن ذلك قد يؤدي بشكل طفيف ومؤقت لتقليص التهديد الذي تشكله المقاومة عليه في الحدود الجنوبية، لكن الأخطار ستبقى دائمة على الجبهات الأخرى في الشمال مع لبنان والضفة الغربية، لأن حماس لا تسيطر على غزة فحسب، بل تعكس مشاعر غالبية مواطنيها، ونجحت لأن تكون الأقرب إليهم، رغم ما دمّره الاحتلال من المرافق التي استخدمها المقاومون في كفاحهم المستمر.

اللافت بعد مرور الأيام المائتين من هذا العدوان غير المسبوق على غزة، أن قطاعات واسعة من الإسرائيليين، لا يخفون قناعاتهم بأن الجيش قد ينتصر بالفعل في المعارك الجارية، لكنه سيخسر الحرب، لأنه من أجل كسبها، فلابد من تحديد أهدافها السياسية مسبقاً، وهو ما لم يحدث، في ظل حكومة حالية ليس لديها رؤية سياسية، بل تستند لأوهام توراتية، والنتيجة أنه بعد كل هذه الجهود العسكرية الواسعة التي بذلها الاحتلال خلال الـشهور الستة الماضية لردع حماس، أو هزيمتها، تتوالى ظهور مؤشرات الفشل، واحداً تلو الآخر.

إعادة تشكيل أهداف الاحتلال الإسرائيلي من الحرب

لقد بات من الواضح أن المطالبة الإسرائيلية بالهزيمة الكاملة لحركة حماس يقلل من قدرة الاحتلال على المناورة السياسية، لصالح تعزيز قوة الاعتبارات العسكرية الميدانية، وتصل في النهاية إلى حالة من الاستنزاف للجانبين، رغم تطلع الاحتلال لاستنساخ ما حصل في الحرب العالمية الثانية حين طالب الحلفاء من ألمانيا النازية واليابان بالاستسلام دون شرط، وهو ما حقق الأهداف السياسية للحرب، وانتهت الحرب بالنصر الكامل للحلفاء، لكنه لا يبدو كذلك في حالة حماس، والتقدير للإسرائيليين أنفسهم، وفي هذه الحالة سيجدون أنفسهم مضطرين لصياغة هدف سياسي مختلف، يسعى للحدّ من الضرر الناجم عن مواصلة الحرب، رغم أن ذلك لا يعني وقفها بالضرورة.

بلغة الأرقام العسكرية، فإن مساحة قطاع غزة الصغيرة البالغة 365 كيلومتراً مربعاً، قدّر الإسرائيليون أن ثلاثة ألوية ستكون كافية للسيطرة عليها، لأنه قبل الانسحاب منه عام 2005 لم يفعل ذلك سوى لواء واحد، لكن تدحرج الأحداث، وشراسة المقاومة، دفع بالجيش للزجّ بأكثر من سبعة ألوية دون القدرة على السيطرة العسكرية الكاملة على القطاع، وهو معطى واحد فقط على أن تحقيق “النصر المطلق” هي دعاية وبروباغاندا ليس أكثر، يروجها نتنياهو لحسابات شخصية. والآن تتجلى الخطورة الإسرائيلية في أن يتحول هذا الادعاء إلى تعادل أو هزيمة.

حتى لا يحدث ذلك، ومن وجهة النظر الإسرائيلية، فإن الاحتلال مطالب بإعادة تحديد أهداف الحرب، التي وضعت في بداية الحرب، والتي كانت متمثلة بما يلي: تدمير قدرات حماس العسكرية والحكومية، وعودة المختطفين، وإزالة التهديد من قطاع غزة. واليوم بعد أكثر من مائتي يوم على اندلاع هذه الحرب، فهل ستحقق خطة الحرب بالفعل النتائج التي تأملها، ورفعت بناء عليها سقف الإسرائيليين عالياً؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى