ملفات وقضايارأي الخبراء

رأي الخبراء: زيارة الرئيس أردوغان إلى سوتشي والعلاقات التركية الروسية

التقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتاريخ 5 أغسطس 2022 في سوتشي. كان هذا ثاني لقاء مباشر بين الزعيمين في أقل من 20 يومًا. حيث التقى الزعيمان في طهران في إطار “القمة الثلاثية السابعة بصيغة أستانا” في 20 يوليو. ولا بدّ من الإشارة إلى مدى أهمية الدبلوماسية بين روسيا وتركيا، حيث شكلت قضايا، مثل عملية تركيا العابرة للحدود، ومستقبل سوريا السياسي، والحرب الأوكرانية واتفاقية عبور الحبوب بين البلدين، جدول أعمال اللقاء.

طوّرت تركيا علاقات جيّدة مع روسيا؛ على الرغم من أنّها دولة عضوة في حلف الناتو. فقد كان موقف تركيا في حرب أوكرانيا على وجه الخصوص لافتًا للنظر، حيث تمكنت من الحفاظ على علاقاتها مع كلٍّ من الغرب وروسيا. وفي هذا السياق تبرز عدة تساؤلات مهمة، أبرزها: إلى أي مدى يمكن أن تحافظ تركيا على حيادها ودورها في الوساطة الدبلوماسية؟  وإلى أي جانب ستميل تركيا إذا تحولت الحرب إلى حرب مباشرة بين الناتو وروسيا في المستقبل؟ أما في سياق الملف السوري؛ كيف تؤثر علاقات تركيا مع روسيا على العمليات العسكرية التركية في سوريا؟ وما مدى فعالية هذه العلاقات في تعزيز دور تركيا في مستقبل سوريا السياسي؟ وفي سياق اتفاقية عبور الحبوب، الذي يساهم في توفير إغاثة اقتصادية لجميع أنحاء العالم وفي تركيا، إلى أي مدى يُتوقع أن يخفف هذا الأمر الأزمة الاقتصادية في تركيا؟ وكيف أقنعت تركيا روسيا بالأساس بلعب دور الوسيط؟

قام مركز رؤية للتنمية السياسية بطرح التساؤلات السابقة على عدد من الخبراء، والفقرات التالية تجيب عن هذه التساؤلات.

يمكن تلخيص آراء الخبراء على النحو التالي:

  •   المهم بالنسبة لتركيا هو مصالحها الوطنية في إطار الصراع بين حلف الناتو وروسيا. وبالتالي ستستمر لعبة الحياد والتوازن؛ لأن المصالح الوطنية لتركيا، بل ومصالح كلا الطرفين (حلف الناتو وروسيا)، تتمثل في حفاظ تركيا على حياديتها.
  •  الولايات المتحدة وروسيا ليستا صادقتين في كونهما طرفًا في حل القضية السورية.
  •  هدف عمليات تركيا العابرة للحدود ليس التوسع أو الاحتلال، بل يمكن تلخيصه في حماية وحدة أراضي سوريا من خلال حفظ أمنها وحدودها، إلى جانب بناء منطقة آمنة تمكّن السوريين من العودة إلى وطنهم.
  •  أثّرت اتفاقية عبور الحبوب إيجابيًا على الاقتصاد التركي، لكن الأهم من ذلك بكثير هو قراءة هذه المسألة على أنها نجاح دبلوماسي.
  •  جعلت سياسة تركيا الصادقة من تركيا وسيطًا موثوقًا به لكل من أوكرانيا وروسيا.

د. فرقان كايا / عضو هيئة تدريس في جامعة يدي تيبه

يعتبر لقاء الرئيس رجب طيب أردوغان والرئيس الروسي بوتين للمرة الثانية خلال 17 يومًا  في سوتشي في غاية الأهمية، حيث كانت أولوية الناتو في قمته التي عقدت في مدريد في نهاية يونيو (28-30 يونيو) الماضي، هي اعتبار روسيا مصدر تهديد. وقد سبب اجتماع الرئيس التركي مع نظيره الروسي في طهران، بعد وقت قصير من هذا الاجتماع، إزعاجًا كبيرًا في حلف الناتو، إذ إن لقاء رئيس دولة عضو في الناتو مع رئيس دولة أُعلن أنه العدو الأول للحلف، هو في واقع الأمر موقف غير اعتيادي. ومع ذلك يعتبر خط السياسة الخارجية الحازم والمستقر، الذي طرحه الرئيس التركي، منسجمًا مع السياسة الخارجية الوطنية. وبالتالي، يمكن القول إن تركيا تعمل من أجل مصالحها الوطنية.

بناءً على ذلك، وبالعودة إلى الحرب بين الناتو وروسيا، يجب القول إن تركيا اتبعت خطًا حساسًا للغاية في سياستها الخارجية في هذا الملف. حيث إن تركيا العضو في الناتو منذ عام 1952 لديها ثاني أكبر جيش في الناتو، وقد أنجزت بنجاح جميع مهامها تجاه حلف الناتو حتى الآن، ومع ذلك فإن منظور الدول الأعضاء في الناتو تجاه تركيا لا يتوافق مع المبادئ المتفق عليها في الناتو، فعلى سبيل المثال، لم يتم تنفيذ المادتين الرابعة والخامسة من مبادئ الحلف، بينما كانت تركيا تحارب الإرهاب منذ 40 عامًا في محاولة من أجل منع إقامة “دولة إرهابية” على حدودها، وقد بدأت تركيا في مناقشة مقاربات الأعضاء في حلف الناتو في هذه المرحلة. على الرغم من ذلك لم يكن لدى تركيا أبدًا أي نية لمغادرة الناتو.

من ناحية أخرى كون تركيا عضوًا في الناتو فهذه أيضًا ميزة كبيرة لروسيا، حيث لم تغلق تركيا مجالها الجوي، ولم تنفذ حظرًا اقتصاديًا في حين فرض العالم الغربي بأكمله تقريبًا حظرًا على روسيا. تركيا تعاملت مع روسيا بشكل طبيعي في منطقة مناورات هامة للغاية. ولا أعتقد أن هذه الحرب ستكون حربًا كبيرة وشاملة. وستستمر منطقة أوكرانيا في كونها ساحة للصراع بين روسيا وحلف الناتو.

تتبع تركيا سياسة صادقة في موضوع الوساطة، وتجدر الإشارة إلى أن دبلوماسية القادة بين السيد الرئيس أردوغان والسيد بوتين مهمة جدًا أيضًا، فقد تمكنت تركيا وروسيا من إيجاد حلٍّ في سياستهما الخارجية الأخيرة، حتى في أكبر الأزمات. ‏إضافة إلى أنّ العلاقات المتبادلة بين أردوغان وبوتين لها أيضًا تأثير كبير ‏في هذا الصدد. إنّ ثقة كل من روسيا وأوكرانيا في الوساطة التركية إنجاز دبلوماسي مهم للغاية. وقد ‏أظهر الجانبان ترحيبًا كبيرًا بعد خطاب أردوغان في الاجتماعات الأولى التي عقدت في قصر دولما بهجة. ‏لا أظن أنه يوجد دولة أخرى في العالم يمكنها تحقيق ذلك، وهذا ليس من قبيل المبالغة على الإطلاق. فإننا نرى اليوم بوضوح انعكاسات الدبلوماسية النشطة لتركيا، والإنجازات الاستخباراتية ‏إلى جانب الإنجازات العسكرية، وتقاليد الدولة القديمة المكتسبة منذ عشرة آلاف عام من تاريخها الميداني، هذه هي إنجازات تركيا الرائعة.

بالنسبة لأزمة الغذاء؛ فإن روسيا وأوكرانيا تغطيان ثلث صادرات الحبوب في العالم. لذلك كان تحوّل هذه الحرب إلى أزمة غذاء عالمية مسألة وقت لا غير. قامت تركيا بالوساطة في توقيع اتفاقية ممر الحبوب نتيجة لمبادرة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ووزير الدفاع التركي خلوصي أكار، إلى جانب التنسيق مع الأمم المتحدة. مما لا شك فيه أن هذه الخطوة تعتبر مكسبًا كبيرًا للدبلوماسية التركية.

سيكون لفتح ممر الحبوب تأثير إيجابي على اقتصاد تركيا. حيث سينعكس انخفاض أسعار القمح أيضًا على المواد الغذائية الأساسية في تركيا. لكن الانعكاس الإيجابي في هذا الصدد لم يكن على تركيا فقط، بل انعكس أيضًا على منطقتنا، وساهم في تعافي العالم من كارثة غذائية. وتجدر الإشارة إلى أن تركيا مستعدة لأسوأ سيناريو حتى لو استمرت هذه الأزمة؛ فمخزون الحبوب في تركيا كافٍ.

فيما يتعلق بالقضية السورية؛ فإن حزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي وحزب الشباب في شمال سوريا، كلها امتدادات طبيعية لحزب العمال الكردستاني وهي نفس المنظمة الإرهابية. تواصل التنظيمات الإرهابية المعنية نشاطها من أجل إقامة ممر إرهابي خاصة في شرق وغرب الفرات، وذلك لتوفير الحماية لدولة إرهابية. سوريا حاليًا منقسمة بحكم الأمر الواقع، وتركيا هي الوحيدة التي تقاتل من أجل وحدة الأراضي السورية. ولا يبدو أن الأسد أو الولايات المتحدة أو روسيا منزعجون من هذا الانقسام. لقد نفذت تركيا 4 عمليات مهمة عابرة للحدود بعد محاولة الانقلاب في 15 يوليو 2016، والآن يجب تطهير منطقة منبج وتل رفعت من الإرهاب، لأنه إذا لم يتم تطهير تلك المناطق لن يكون للعمليات الأربع السابقة أي معنى. وستكمل العملية القادمة العمليات السابقة، وتهدف إلى القضاء التام على عناصر الإرهاب من شرق وغرب نهر الفرات، من خلال إنشاء منطقة آمنة لحظر الطيران في المنطقة حتى الطريق السريع M4 بطول 30 كم؛ لإعادة المواطنين السوريين المقيمين في تركيا تدريجيًا إلى أراضيهم، وتوفير منطقة آمنة لهم. لقد صرحت تركيا مرارًا وتكرارًا أنها ستتولى المسؤولية الكاملة في هذا الملف، لكن للأسف لم تتخذ الولايات المتحدة وروسيا موقفًا صادقًا بخصوصه. أعتقد أن أردوغان بعد قمة سوتشي أوضح ذلك لبوتين،  وقال له فيما معناه: “لقد وقفنا إلى جانبك كشريك موثوق به في قضية أوكرانيا وحاولنا إنهاء الحرب، و في نفس الوقت أتحنا لكم مجالًا للجلوس على طاولة المفاوضات، مما أعطاكم الفرصة لالتقاط الأنفاس من الحصار المفروض عليكم ، لذا أنت الآن مطالب بمعاملتنا بالمثل والوقوف بجانبنا في  الملف السوري الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بأمننا القومي”. لذلك فإنني أعتقد أن بداية العملية العابرة للحدود أمرٌ وشيكٌ للغاية الآن.

ما تقوم به تركيا في سوريا لا يعتبر توسعًا أو غزوًا، بل هو صراع لحماية أمنها القومي وحدودها، ولضمان عودة الشعب السوري إلى وطنه. لكن لسوء الحظ أن تركيا تحاول فعل هذا وحدها. على الرغم من ذلك، فإنها ستواصل بذل قصارى جهدها من أجل هذه الأراضي التي تربطها بها روابط قلبية وروابط تاريخية.

محمد أخيادوف – باحث في شؤون القوقاز \ مركز الدراسات الإنسانية والاجتماعية (INSAMER)

تجدر الإشارة في بادئ الأمر إلى أن مشاركة الدولة في أي تحالف لا تعني أن تلك الدولة قد تخلت عن مصالحها الوطنية. على الرغم من أن تركيا عضو في الناتو فيمكنها من وقت لآخر إقامة تعاون مختلف مع روسيا بما يتماشى مع مصالحها الخاصة. هذا الأمر بالطبع ليس حصرًا على تركيا فقط. فقد ترددت بعض الدول الغربية في قطع علاقاتها مع موسكو حتى بعد أن هاجمت روسيا أوكرانيا في 24 فبراير 2022.

عندما تظهر العلاقات التركية الروسية بشكل بارز غالبًا ما يُقال إن على تركيا أن تختار بين الغرب وروسيا. في رأيي، هذا ليس تحليلًا صحيحًا، لأنه، خاصة مع بداية حرب أوكرانيا، كان من المفهوم أن العلاقة بين أنقرة وموسكو لا تعتمد فقط على بعد واحد، بل على مصالح مشتركة متعددة. من ناحية أخرى عندما ننظر إلى العلاقات التجارية بين البلدين نرى عدم تناسق في الحجم التجاري بين البلدين، حيث تصدر روسيا إلى تركيا أربعة أضعاف ما تستورده من تركيا. السبب الأكبر لذلك هو اعتماد تركيا على روسيا في إمدادات الطاقة. ومع ذلك فإن تعرض روسيا لعقوبات غير مسبوقة مع اندلاع الحرب في أوكرانيا يجبر موسكو على البحث عن بوابة جديدة للعالم، ومن الواضح أنها وجدت تركيا الأنسب لتولي هذا الدور. لذلك سيكون من الصحيح اليوم الحديث عن المنفعة المتبادلة بين البلدين، بدلًا من حصر الأمر وكأنه مجرد حاجة تركيا لروسيا.

بناءً على كل ما قلته مسبقًا فإن تركيا ليس عليها الاختيار بين الناتو وروسيا، حتى في حالة نشوب حرب محتملة بين الناتو وروسيا كما يُشاع، وستكون تركيا قادرة على القيام بدور الحياد والوسيط الذي تقوم به في الوقت الحاضر. علاوة على ذلك، لن يكون هذا في مصلحة تركيا فحسب، بل سيكون أيضًا في مصلحة كل من أعضاء الناتو وروسيا.  فعلى الرغم من رغبة الدول الغربية في عزل روسيا تمامًا، إلا أنها لا تستطيع فعل ذلك بشكل كامل؛ لاعتمادها على روسيا خاصة في مجال الطاقة. لهذا السبب تحتاج الدول الغربية إلى جهة فاعلة مثل تركيا يمكنها إجراء محادثات مع روسيا حتى في “لحظة الانهيار” الجيوسياسي، كما هو الحال في حرب أوكرانيا. نتيجة لذلك في هذه العملية تتبع الأطراف الثلاثة (تركيا وروسيا والغرب) مصالحها الخاصة.

وفيما يخص الملف السوري، تواجه تركيا جبهة عالمية في سوريا، ومن المثير للاهتمام أنه بينما يمكن لتركيا أن توازن بسهولة أكبر بين روسيا والغرب اللذين يقعان على جبهات مختلفة مثل أوكرانيا وكاراباغ وليبيا، فإنها تواجه وضعًا مختلفًا للغاية عندما يتعلق الأمر بالمنظمات الإرهابية، كما هو الحال في شمال سوريا. لا أقول بالطبع إن الغرب وروسيا على نفس الجبهة في سوريا. ومع ذلك، ونظرًا لأن كل ‏تلك الجهات الفاعلة تقوم بحساباتها الخاصة فيما يتعلق بالعناصر الإرهابية في شمال سوريا، فإنّ تركيا تواجه المشكلة الأكبر في هذا الملف. كان أحد أهم المواضيع التي ناقشها بوتين وأردوغان اللذان اجتمعا مرتين في الأيام العشرين الماضية في هذا السياق هي عملية تركيا المحتملة في سوريا. أعلنت إيران وروسيا خلال الاجتماعات التي عُقدت في طهران في إطار ثلاثي أنهما ضد العملية التركية ضد العناصر الإرهابية في سوريا. النقطة التي لفتت الانتباه في هذا الصدد كانت تصريحات أردوغان القاسية تجاه الولايات المتحدة أثناء عودته من هذا الاجتماع. حيث قال الرئيس أردوغان إنه يجب إنهاء الوجود العسكري الأمريكي في شرق الفرات. قال أردوغان في تصريحات أثناء عودته من اجتماع سوتشي في 5 أغسطس الماضي، إن هذه المرة تبادلت تركيا ووكالات المخابرات السورية المعلومات حول عملية محتملة في سوريا. في الواقع كانت هذه رسالة جديدة للغرب. ويُفهم من هذه التصريحات أن تركيا تعتقد أنه إذا قطعت الولايات المتحدة دعمها للتنظيمات الإرهابية في سوريا، فيمكنها بسهولة أن تتفق مع روسيا على حل هذه المشكلة التي تعد من أهم القضايا الأمنية.

أمّا فيما يتعلّق بالقمح، فقد استوردت تركيا 7.5 مليون طن منه في عام 2021، حيث تم شراء 66 في المئة من القمح من روسيا، و18 في المائة من أوكرانيا. لذلك، فإن إنشاء ممر حبوب هو قضية مهمة بالنسبة لتركيا التي تمر حاليًا بأزمة اقتصادية كبيرة. لكن برأيي، إنّ الأهم من ذلك هو الصورة الإيجابية التي يلعبها دور الوساطة التركي هنا في نظر الرأي العام العالمي. لقد ظهرت تركيا كدولة يمكن أن تجلس على نفس الطاولة مع الطرفين، والأهم من ذلك أنها تنجح في هذه المفاوضات.

اقتنعت روسيا بدور تركيا في الوساطة بينها وبين أوكرانيا؛ لحاجتها إلى مثل هذه الوساطة. كما تحاول تركيا في هذا السياق الجمع بين روسيا وأوكرانيا على طاولة واحدة. وبالتالي يتضح احتياج روسيا لدور تركيا في ظل المرحلة التي وصلت إليها الحرب. ورغم نجاح تركيا في تحقيق التوازن بين الغرب وروسيا، إلا أن موافقة أوكرانيا على وساطة تركيا عليها علامة استفهام كبيرة؛ لأن أوكرانيا ترى بأن على روسيا العودة إلى ما قبل 24 فبراير من أجل توقيع السلام مع روسيا. ولذلك ما زال الأفق مسدودًا حول أي تفاهمات ممكن أن تنهي الحرب بين الطرفين.

د. يوسف صاين، محاضر في جامعة نجم الدين أربكان

اتبعت تركيا منذ بداية حرب أوكرانيا سياسة توازن نشطة تراعي المصالح الوطنية والحقوق. تعطينا تلك المقاربة صورة واضحة للوضع الراهن، كما أنها تتوافق أيضًا مع نهج سياسي يتمتع بإمكانيات عالية، وقدرة على الاستجابة للمتطلبات في الساحة العالمية. وتتبع تركيا نهج الحياد والوساطة بدلًا من النهج الدفاعي. عند تحليل المشاكل الموجودة على الساحة العالمية حاليًا، كالتي تدور بين الناتو وروسيا (الكتلة الشرقية ضد الكتلة الغربية، وقضية تايوان على سبيل المثال)، سيكون لتركيا نهج يعطي الأولوية للمصالح الوطنية والاستقلال، وفي نفس الوقت تكون على دراية بمسؤولياتها كعضو في الناتو. ابتعدت تركيا منذ فترة طويلة عن نهج التخلي عن كتلة معينة من أجل أخرى. كما قال مصطفى كمال في كتابه “خطاب” (Nutuk)(ص 436-437) أن لتركيا الإرادة لإنشاء “عالم” جديد عند الضرورة لتحقيق “السياسة الوطنية”.  ويتم الآن تقييم القضايا من مبدأ السياسات الوطنية. إن تركيا في إطار سياستها الوطنية ليس لديها رفاهية معاداة أي طرف، أو حتى المجازفة باسمها من أجل جهة فاعلة معينة، وهذا هو التطبيق الأمثل لمبدأ  السياسات الوطنية.

 تعمل علاقات تركيا مع روسيا أساسًا على محور التعاون المربح للجانبين والمنافسة في هذا المجال. وبالنظر إلى أن روسيا هي أقوى لاعب في الملف السوري، فإنّه يتعين على تركيا أن تأخذ بعين الاعتبار وجهات نظر الروس في الخطوات التي ستتخذها في سوريا. تجدر الإشارة إلى أن الروس يسعون إلى الحصول على المكسب دون التضحية بشيء؛ بمعنى آخر: أثناء محاولتهم العمل مع تركيا في إطار مصالحهم الخاصة، فهم لا يترددون من ناحية أخرى في التعاون والقيام بأعمال تجارية مع النظام السوري والمنظمات الإرهابية. فلا بد من النظر إلى الموضوع من الزاوية ذاتها. فإذا أرادت تركيا تعزيز أدوارها المستقبلية في الساحة السياسية كشرط من متطلبات “سياستها الوطنية”، فعليها أن تفعل ذلك بإرادتها الوطنية وقوتها. ولشعب الأناضول قول مأثور في هذه المواقف يحث على عدم الوثوق في أي شخص خاصة فيما يتعلق بالاحتياجات الأساسية.

كمية الحبوب التي سيتم نقلها بموجب الاتفاقية تلبي احتياجات الدول لمدة عام تقريبًا. سيكون هذا حلًا موقتًا، وسيؤدي ذلك فقط إلى تخفيض أسعار الحبوب قليلاً. ستتمكن تركيا من الخروج من المرحلة العصيبة التي تمر بها اقتصاديًا إذا حلت حالة من الرخاء في النظام الاقتصادي والمالي العالمي. بالإضافة إلى ذلك، فإن السياسات المالية والضريبية القوية والصارمة التي ستتبعها تعتبر من بين أهم العوامل التي ستساعد في تخطي الأزمة الاقتصادية؟  يجب أن تتعامل تركيا مع القضايا الاقتصادية على المستويين الكلي والجزئي، كما لا ينبغي التفكير في هذا الملف بشكل مستقل عن السياسة الخارجية والتطورات العالمية. كما أن تفاقم أزمة تايوان سيؤدي على سبيل المثال إلى أزمة إمداد أكثر خطورة لا يمكن التنبؤ بها. لذا، يجب أن نتابع عن كثب التطورات السياسية الدولية وأن نراقب الشاشات المالية، وقد كانت أزمة الوباء مثالًا جيدًا على ذلك. 

تركيا، دولةً وشعبًا، تقع في الوسط بين روسيا وأوكرانيا. وسأعود إلى النقطة التي أشرت إليها مسبقًا “السياسة الوطنية” كما عبر عنها مصطفى كمال أتاتورك، فبلد مثل تركيا لديها دولة وتاريخ سياسي لأكثر من ألف عام لا يمكنها العمل بمقاربات على نطاق صغير. ويجب أن تكون روسيا هي التي أقنعت تركيا بالوساطة؛ لأن روسيا في أمس الحاجة إلى تلك الوساطة الدبلوماسية. إن طريقة الحفاظ على قنوات الحوار مع أوروبا والولايات المتحدة يتطلب وجود جهة فاعلة يمكنها التحدث إلى هذه الكتل للتوسط في العملية، فنرى أمامنا تركيا وهي تأخذ بزمام الأمور تماشيًا مع مبادرات الوساطة. 

تنويه: آراء الخبراء المنشورة بالموقع لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز رؤية للتنمية السياسية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى