ملفات وقضايارأي الخبراء

ما بعد معركة جنين الثانية.. الارتدادات السياسية والعلاقة الفلسطينية

شكلت معركة جنين الثانية، أو ما اُصطلِح عليها فلسطينيًا معركة “بأس جنين”، التي وقعت عقب اجتياح قوات الاحتلال للمخيم مطلع شهر أيار/ يوليو2023، محطة جديدة من محطات الحالة الوطنية والنضالية الفلسطينية، الأمر الذي دفع بالرئيس الفلسطيني محمود عباس لزيارة المخيم، إضافة لكثير من الوفود السياسية والشعبية والأهلية. هذا عزز من احتمالات أن تشكل هذه الحالة ارتدادات سياسية على الحالة الفلسطينية الداخلية، أو حتى في منظور العلاقة مع مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.

حاول مركز رؤية للتنمية السياسية في اسطنبول، من خلال استقراء آراء شخصيات سياسية وأكاديمية، أن يبحث عن إجابات لعدد من التساؤلات، من بينها: ما الذي استفاده الاحتلال من هذه العملية ميدانيًا وسياسيًا؟ وما التأثيرات السياسية المتوقعة للمعركة على الأطراف الفلسطينية (السلطة الفلسطينية وحركة فتح، والتنظيمات المقاومة) من جانب، وعلى علاقتها مع الشارع الفلسطيني من جانب آخر؟ وما الخيارات أمام السلطة الفلسطينية وحركة فتح لتقليل حجم التأثيرات السلبية عليها؟ وفي المقابل، ما خيارات فصائل المقاومة، وبالتحديد حركتي حماس والجهاد الإسلامي، للتعامل مع الواقع الجديد، خصوصًا عقب لقاء الأمناء العامين بالقاهرة؟

يمكن تلخيص آراء الخبراء فيما يأتي:

  • تمثّل هدف الاحتلال في توجيه ضربة قاصمة للمقاومة بحالتها المتجددة والراهنة، والمرشحة للتوسع والتمدد بالضفة.
  • هناك هدف إسرائيلي آخر تمثل في محاولة إحراج السلطة وإضعافها، للظهور بمظهر العاجز عن حماية شعبها، ما دفعها لتولي دور الوظيفة الأمنية، وإنهاء دورها كسلطة ذات كيان سياسي.
  • فشل الاحتلال في تحقيق الأهداف على المستويين المرحلي والاستراتيجي، التي أعلن عنها بداية الحملة.
  • سيعمد الاحتلال إلى تكتيكات جديدة للتعامل مع حالة جنين، وهو ما يعني إمكانية تنفيذ عمليات استهداف مركزة بعيدًا عن الدخول بعملية عسكرية مشابهة.
  • الفشل الإسرائيلي بالانتصار السريع، وعدم قدرته على القضاء على المقاومة، سيدفعه للذهاب إلى خيار الانتصار البطيء، المتمثل في الضغط على السلطة لتفكيك حالة المقاومة، وزرع بذور الاقتتال والفتنة الداخلية أيضًا.
  • ستتقارب وجهات نظر الفصائل الميدانية، وسيكون هناك تفكير أكثر فاعلية في الأهداف السياسية والعمليات المشتركة.
  • قد تشكل معركة جنين حدثًا مؤسسًا، أي أنها ستفتح الطريق لتطوير نمط جديد من المقاومة بالضفة.
  • الخيارات أمام السلطة الفلسطينية في التعامل مع حالة جنين محدودة، وقد تلجأ لمحاولة “فرض القانون” من خلال بعض المظاهر دون الذهاب إلى حالة صدام مباشر مع المقاومة؛ حتى لا يكون هناك رفض شعبي.
  • لقاء الأمناء العامين في مصر فرصة، إما يُستثمر بشكل صحيح، أو سيضاف إلى محطات الفشل التي عقدت سابقًا.

د. جمال حويل، أستاذ العلوم السياسية وعضو المجلس الثوري لحركة فتح.

وضع الاحتلال هدفًا كبيرًا في بداية الحملة وهو استئصال المقاومة، وربما شكل هذا حجة له لإحداث حالة الدمار الكبير، وتمهيدًا لارتكاب المجازر والقتل، لكنه تفاجأ من قدرة المقاومة  في استخلاص العبر من معركة جنين الأولى عام 2002،  واعتماد المقاومين على تكتيكات إعادة التموضع خلف العدو، وهذا جعله يفشل في تحقيق أهدافه، بل على العكس من ذلك، خرج بصورة الهزيمة حتى في اللحظات الأخيرة للانسحاب.

 كان لدى الاحتلال رؤيتان في تحقيق مفهوم الانتصار، الأولى: الانتصار السريع الذي كان يحاول أن يحققه بالضربة القاصمة والاستهداف المباشر للمقاومين والبنية التحتية، وهذا فشل به. والثانية: الانتصار البطيء الذي عمل عليه الاحتلال واستمر ما بعد الانسحاب، والمتمثل في محاولة خلق فتنة داخلية، أو رأي شعبي رافض للمقاومة، بهدف تعزيز حالة الخلاف والاقتتال الداخلي، وهذا ربما يُفهَم من خلال طبيعة الضغط الذي مورس على السلطة، واستمر بهدف زجها لتكون هي الأداة التي يسعى الاحتلال من خلالها لتفكيك المقاومة، وإدخال الحالة الفلسطينية في اقتتال داخلي. وأعتقد أنه فشل وسيفشل به أيضًا، لأن زيارة الرئيس أبو زمان للمخيم، تعني إعادة الاعتبار للمقاومة،  كما أن الاحتضان الشعبي الذي ظهر داخل جنين وباقي المحافظات، هو احتضان لفكرة المقاومة، وهذا يعني فشل المراهنة الإسرائيلية على تعزيز الشرخ الداخلي.

باعتقادي أنّ الرئيس أبو مازن كان معنيًا، بشكل أو بآخر، بحدوث معركة جنين؛ بهدف التخلص من الضغوط التي كانت تمارس عليه من قبل الأطراف الدولية والإقليمية، وهذه المعركة أعادت الزخم السياسي للقضية الفلسطينية داخليًا وعالميًا، ولولا معركة جنين ما عقد اجتماع الأمناء العامين بالقاهرة، بغض النظر عن طبيعة مخرجاته.

الخيارات الآن أمام الفلسطينيين، السلطة والفصائل، هي إدراك أن هناك حالة من التغير تجري في النظام السياسي، الإقليمي والعالمي، وإن لم نكن مدركين لها لن نبقى جزءًا من الخارطة السياسية، وعليه يجب أن تكون هناك إجراءات عملية وحوار وطني شامل، بهدف تعزيز وتطبيق مفهوم الشراكة في العمل، وتفعيل المسار التحرري من خلال مشاركة الكل الفلسطيني.

د. أيمن يوسف، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العربية الأمريكية، جنين.

 تركت معركة جنين والعدوان الإسرائيلي آثارًا ومستجدات، خصوصًا أنّها المرة الأولى التي ينفذ بها الاحتلال عملية عسكرية بهذه الشمولية منذ ما يزيد عن 20 عامًا. صحيح أن العملية لم تستمر إلا يومين أو ثلاثة، إلا أنها أدخلت الاحتلال في أزمة على صعيد دولي، حيث كان واضحًا أنها جاءت تلبية لمطالب وضغوط اليمين الإسرائيلي. وفي قراءة نتائج العملية العسكرية،  أعتقد أن الجيش سيعمل على تغيير تكتيكاته، ولن تتكرر هذه العملية بنفس الطريقة، على الأقل في جنين في المستقبل القريب، وقد يلجأ الاحتلال إلى عمليات الاغتيال المركزة، دون الدخول في المواجهة بشكل مباشر وعلني، وبالتالي سيعتمد على المعلومات الاستخبارية والطائرات العسكرية، أو طائرات بدون طيار.

على مستوى الحالة الفلسطينية الداخلية، ستتقارب وجهات نظر الفصائل الميدانية، وسيكون هناك تفكير أكثر فاعلية في الأهداف السياسية والعمليات المشتركة أيضًا. ومن آثارها تحفيز عمليات المقاومة من خارج إطار مدينة جنين؛ لأن ذلك سيشكل حافزًا في المناطق الأخرى.

الخيارات أمام السلطة محدودة، وقد تتمثل في محاولة “فرض القانون” من خلال بعض المظاهر، دون الذهاب إلى حالة صدام مباشر مع المقاومة، ولن تدخل إلى المخيم أو تقوم بالمواجهة. وقد يكون سيناريو الاحتواء هو الأقرب واقعية، من خلال اللجوء إلى بعض النشطاء أو المقاومين لتفريغهم داخل الأجهزة الأمنية. وباعتقادي ستستمر حركة فتح  في العمل الميداني والمقاوم، حتى تشكل رافعة دبلوماسية للسلطة الفلسطينية، بحيث يمكن أن تستفيد منها في المحافل الدولية.

أ. خليل شاهين، المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات “مسارات”، رام الله.

لا يمكن تقييم النتائج التي خرج بها الاحتلال من معركة جنين، دون استحضار الأهداف ذات الطابع الاستراتيجي التي أعلن عنها سابقًا، والتي تتلخص في الآتي، أولًا: القضاء على ظاهرة المقاومة، بما يتيح إمكانية دخول جيش الاحتلال إلى جنين ومخيمها، وخروجه منها دون مقاومة، كما يفعل في بعض المناطق. ثانيًا: استعادة الردع لدى جيش الاحتلال، خاصة بعد الإهانة التي تعرض لها بتفجير ناقلة الجند المصفحة. ثالثًا: ضمان حرية الحركة على طرقات المستوطنين وبين المستوطنات، بعد أن شهدت عمليات المقاومين تطورًا في شمال الضفة. بمعنى آخر، الهدف هو توفير بيئة مستقرة لتطور المشروع الصهيوني ونموه، والذي يتركز في كثير من جوانبه في شمال الضفة.

تشير تصريحات قادة الاحتلال بعد العملية، بما فيهم نتنياهو، إلى أن هذه العملية فشلت في تحقيق الأهداف التي وضعت لها، وبهذا المعنى، فإنّ إسرائيل على المستوى الاستراتيجي لم تحقق نتائج. أما على المستوى الميداني، فيعتقد الاحتلال أنه حقق بعض النتائج، التي تهدف لكيّ وعي الحاضنة الشعبية للمقاومة، ومحاولة تدفيعها ثمنًا من خلال  تدمير الممتلكات والبنى التحتية بخسائر قدرت بملايين الدولارات. وحتى هذا الهدف لم يتحقق بالمفهوم الواقعي؛ لأنّ التفاف الجمهور والحاضنة الشعبية استمر، وبرز بشكل واضح بعد الانتهاء من العملية.

إضافة إلى ذلك، رجحت كفة المعركة لمصلحة المقاومين؛ بسبب صمودهم وخطتهم العسكرية التي أظهرت تطورًا في الأداء. كما أن الخسائر في صفوف المقاومين كانت محدودة بالمقارنة مع اعتداءات سابقة. حتى أن حديث الاحتلال عن تدمير معامل ومصادرة عتاد عسكري، هو حديث مبالغ فيه. فالصور التي نشرها الاحتلال لا تدلل على ذلك، وبالتالي فإن عدم تمكن الاحتلال من استهداف العنصر البشري وتصفية المقاومين، يشير إلى أن إنتاج العبوات وتطويرها سيستمر، طالما بقي العنصر البشري ذو الخبرة موجودًا.

يعتبر البعض معركة جنين حدثًا مؤسّسًا؛ أي أنها ستفتح الطريق لتطوير نمط جديد من المقاومة بالضفة، وهو ما يعيد التفكير لمحطات أساسية في مراحل سابقة. فمثلًا، عندما اندلعت الانتفاضة الأولى 1987، جرت نقاشات حول إمكانية الانتقال من الانتفاضة الشعبية إلى الانتفاضة المسلحة. وما نشهده الآن بالضفة، يعيد إلى الأذهان بعض الأفكار، التي يمكن ألّا تكون منظمة، ولكنها تحتم علينا نقاش التطور في حالة المقاومة المتصاعدة منذ عام 2015. كما أن العدوان الإسرائيلي على غزة 2014، كان حدثًا مؤسّسًا، فاستطالة العدوان لمدة 51 يومًا، ورد المقاومة على العدوان، ووصول صواريخ المقاومة إلى تل أبيب، شكل حدثًا مؤسسًا في الوعي الفلسطيني. هناك جيل فلسطيني يائس من إمكانية أن تحقق السلطة الفلسطينية شيئًا يقربه من استعادة حقوقه الوطنية، ولذلك كانت هناك استعادة للوعي بشروط الصراع، حيث أدرك الجمهور الفلسطيني أنه قادر على الانتصار إذا انتهج عملية مقاومة واسعة النطاق وشاملة، أي أنه قادر على خلق طريق لإنهاء الاحتلال.

في المقابل، تتحدث السلطة الفلسطينية عن أمن وأمان واستقرار. وكان هذا واضحًا في زيارة الرئيس محمود عباس إلى جنين، حيث وقف وخلفه بناية محروقة، وكأنه يقول للناس نريد الحفاظ على الأمن والأمان والاستقرار. وذلك يعني منع تكرار عمليات المقاومة حتى لا يتكرر دمار الاحتلال، وكأن سبب الدمار هو الفلسطيني الذي يقاوم الاحتلال، وليس الاحتلال نفسه.

وعليه، فإن السلطة الفلسطينية، بشكلها الحالي، لا تستطيع تغيير هذه السياسة، وهذا ما يفسر عدم تنفيذ قرارات المجلس الوطني بإعادة النظر في العلاقة مع الاحتلال. وحتى يحدث أي تغيير، يجب أولًا أن تتغير السلطة، ولا يعني ذلك أن تتبنى السلطة الفلسطينية خيار المقاومة، ولكن أن تتحول إلى سلطة مجاورة للمقاومة، بحيث تنشغل السلطة بشكل أساسي في توفير إمكانية صمود المواطنين، وتوفير الخدمات، وتعزيز صمود الناس في المناطق الأكثر استهدافًا. وعليه، تتحول السلطة إلى جهاز خدمي، ولا تمارس مهمات سياسية.

لست من دعاة حل السلطة، وإنما تغييرها، لأننا دائمًا بحاجة إلى سلطة ما في مواجهة الاحتلال، لأن البديل عن ذلك هو سيطرة الاحتلال على كل شيء.

بطبيعة الحال، لن تُبحث كل هذه القضايا في اجتماع الأمناء العامين للفصائل، ولكن يجب أن تكون هناك عدة نقاط مركزية، أهمها وقف الاعتقال السياسي وملاحقة المقاومين تمامًا. وهذا الأمر يمكن أن يتسع مداه في الفترة القادمة؛ لأن السلطة ما زالت تتبنى سياسة البقاء، ولذلك يجب أن تتوقف هذه السياسة تمامًا.

ويجب أن توضع خطة شاملة للعمل الميداني والسياسي، وفي مراحل لاحقة تناقش الخطط التفصيلية. بتقديري لن ينجح اجتماع الأمناء العامين في القاهرة، وإنما قد يصدر بيان عن الاجتماع، ولكنه لن يأتي بجديد، ولن ينفذ.

أرى أن الفصائل يجب أن تعمل بطريقة مختلفة، ومعها تشكيلات المقاومة والمجتمع المدني  والمستقلون، أي أنه يجب توقف التعويل على إحداث تغيير من داخل المؤسسة. وعليه، يجب أن تتجه الفصائل لتشكيل قيادة موحدة، وتشكيل لجان في القرى والمناطق المختلفة،  أي فرض حالة على الأرض من خلال العمل من أسفل إلى أعلى، وبمعنى آخر، إعادة إنتاج الوحدة الوطنية الميدانية، ومأسستها من الأسفل؛ لأن الفصائل، إن لم تبادر، فإن الناس على الأرض سيتجاوزونها أمام تحديات المشروع الاستعماري.

أ.عبد الرحمن زيدان، نائب سابق بالمجلس التشريعي الفلسطيني، طولكرم.

عمد الاحتلال إلى كسر النموذج المقاوم الذي تشكل في جنين، وبدأ يمتد إلى مناطق أخرى بالضفة،  وإنهاء ظاهرة الملاذ الآمن للمقاومين، وتفكيك بنية التصنيع وتطوير العبوات، ومنعها من الوصول إلى مسار تطوير الصواريخ، واستعادة الردع، وتهدئة الغضب الجماهيري لدى المجتمع الصهيوني.

من الواضح أن هذه الأهداف لم تتحقق، بل ازداد التفاف الحاضنة الشعبية حول المقاومة، وخرج الاحتلال بصورة المنهزم.

من ناحية التأثيرات السياسية لمعركة جنين على الأطراف الفلسطينية، لم يُخْفِ الاحتلال أن من أهدافه تعزيز سيطرة أجهزة السلطة، ويدعم ذلك غياب الأجهزة عما جرى من اشتباكات، بل اعتقلت أجهزة السلطة مقاومين وصادرت سلاحهم. وكان واضحًا من تصريحات مسؤولين في السلطة، رفضهم لأعمال المقاومة. في المقابل، حرصت حركة فتح على الظهور الإعلامي لشخصياتها الميدانية، للتناغم مع نبض الشارع (خلافًا للتوجه الرسمي للسلطة)، ولكن المزاج الشعبي كان غاضبًا، وترجم ذلك في موقف التعرض لقيادات فتح التي زارت المخيم، بمن فيهم نائب رئيس الحركة محمود العالول، واضطرت فتح إلى تدارك الأمور بتفاهمات أدت إلى حفظ ماء الوجه، ومحاولات إلقاء اللوم على حركة حماس، رغم أن التحقيقات أثبتت أن المعترضين على الزيارة هم من أبناء حركة فتح.

مقابل ذلك، رسخت التنظيمات المقاوِمة مكانتها الشعبية، وقدرتها على التخطيط والتجهيز  والإعداد، بل وإدارة المعركة بحنكة، حيث تفادت المواجهة المباشرة، وقلصت خسائرها، ومنعت الجيش من الدخول إلى قلعتها الحصينة، واغتيال أو اعتقال قادتها.

الموقف الشعبي العام والمحلي في مخيم جنين، كان داعمًا ومؤيدًا للمقاومة، ومعززًا لها رغم الأضرار، وتجلّى ذلك أيضًا بالفزعة الشعبية من جميع المناطق، لتوفير الغذاء والمستلزمات.

شعور السلطة بالنقمة الشعبية بسبب أدائها الأمني، دفع الرئيس إلى خطوة غير مسبوقة للتواجد في الميدان، وزيارة يتيمة إلى جنين في ظل إجراءات أمنية مشددة، وتفادي اللقاء بأي فعاليات شعبية أو رسمية أثناء الزيارة، لمحاولة إنقاذ المشهد واستعادة الهيبة، لكنها كرست الصورة السلبية بانفصال القيادة عن هموم ومعاناة الشعب.

توجه قيادة السلطة نحو عقد لقاء الأمناء العامين للفصائل في القاهرة، هو بمثابة مناورة، وذلك للخروج من المأزق، ثم  إلقاء اللوم على فصائل المقاومة، واتهامها بأنها السبب في إفشال جهود المصالحة.  والأصل أن تسبق أي لقاء اجتماعات تحضيرية، واتفاق على المخرجات وضمانات الالتزام،  وإنهاء ملف الاعتقال السياسي. السلطة بمكوناتها والتزاماتها، أصبحت عبئًا على القضية، ولا بد من إصلاح بنيوي توافقي يعيد قضية التحرير إلى مسارها، وتجاوز وهم إقامة الدولة قبل ذلك.

د. إبراهيم ربايعة، أكاديمي ومدير السياسات والبحوث في مركز الأبحاث الفلسطيني في منظمة التحرير.

من الصعوبة بمكان لمس نجاحات إسرائيلية مباشرة من العملية، فالبنية التحتية للمقاومة، وفق بياناتها ووفق ما رشح من الاحتلال، ما زالت لم تمس على المستويين المادي والبشري، ولم ينجح الاحتلال بكسر الحاضنة في المخيم، ولم ينجح بتقييد العمليات التي تستهدفه. أما سياسيًا، فلا يلاحظ أية منجزات للاحتلال، خاصة مع تركيز النخبة السياسية الإسرائيلية على أزماتها الداخلية.

على صعيد العلاقة السياسية الفلسطينية الداخلية، من الواضح أن المعركة خلقت حالة من التوتر داخليًا، لكن تمت إدارة هذه التوترات وتفكيكها إلى حد معقول، مع زيارة اللجنة المركزية والرئيس للمخيم. وساهم حضور فتح الميداني في المخيم برموز وازنة في خلق قنوات حوار مفتوحة، رغم التوترات الأخيرة بخصوص الاعتقالات، كما أن بيان كتيبة جنين، الذي أكد أن الهدف هو الاحتلال حصرًا، كان إيجابيًا على مستوى تعزيز فرص تهدئة التوتر، والذهاب للحوار.

وحركة فتح، بحضورها الميداني في المخيم والمدينة والريف، شكلت مساحة ربط بين المقاومة والمخيم من جهة، وبين المؤسسة الأمنية تحديدًا من جهة أخرى. وخلال الأيام الأخيرة كانت القنوات مفتوحة والحوار جاريًا. وأعتقد أن الحوار هو الوسيلة الوحيدة لضبط العلاقة، وخلق توازن بين حضور المؤسسة الأمنية وسيطرتها في جنين، وبين المخيم كحالة اشتباك مستمر.

 وأعتقد أيضًا أن التفاهمات أقرب من الصدام، كون حالة جنين حالة خاصة، وطبيعة الفهم للفصائلية فيها مختلف، فهو فهم وطني جامع،  وليس فهمًا استقطابيًا حادًّا، خاصة في ظل التقارب الميداني بين كتيبة جنين- سرايا القدس، وكتائب شهداء الأقصى -لواء الشهداء، في المخيم والريف، وعليه لا أرى أن الأمور ستذهب لتتصاعد في التوتر.

أ. نهاد أبو غوش، عضو مكتب سياسي للجبهة الديمقراطية سابقًا، كاتب وباحث سياسي.

تمثّل هدف الاحتلال في توجيه ضربة قاصمة للمقاومة بحالتها المتجددة والراهنة، والمرشحة للتوسع والامتداد (كتيبة جنين، عرين الأسود، كتائب وتشكيلات في محافظات أخرى مثل طولكرم وأريحا ومخيم بلاطة)، عبر استهداف نواتها الصلبة المتمثلة في مخيم جنين، لذلك كان يأمل في توجيه ضربة خاطفة وقاسية، فردت المقاومة بصمودها وتماسكها حتى اللحظة الأخيرة، ثم جاء الرد الأقسى، وهو عملية تل أبيب ومستوطنة كدوميم، وبالتالي مثلت العملية فشلًا مركبًا لحكومة الاحتلال، سواء لجهة استعادة قوة الردع، أو اجتثاث المقاومة وتحويلها إلى عبء على السكان، بدلًا من أن تكون رافعة وطنية. الأمر الوحيد الذي نجح فيه الاحتلال هو عمليات القتل والتدمير، لكن الثابت عبر كل جولات القتال والمواجهة، هو تناسب نمو المقاومة واتساعها تناسبًا طرديًا مع جرائم الاحتلال.  هناك أهداف ثانوية للعملية تخص الوضع الداخلي الإسرائيلي، وسعي نتنياهو إلى إبقاء الهاجس الأمني والتهديدات الوجودية، مسيطرة على اهتمامات  الإسرائيليين.

حملت عملية جنين، مثلها مثل العمليات السابقة، رسالة واضحة للسلطة، مفادها “إذا لم تقمع السلطة المقاومة، وتجمع السلاح، وتكبح المقاومين، فسوف تقوم إسرائيل بهذه المهمة بنفسها”، بكل ما يترتب على ذلك من إحراج للسلطة، وإضعاف لها، وإظهارها بمظهر العاجز عن حماية شعبها. وهكذا فإن السلطة في وضع لا تحسد عليه، وهي تدفع دفعًا لتولي هذا الدور، الذي يؤشر إلى رغبة إسرائيل في اختزال دور السلطة إلى الوظيفة الأمنية، أي عمليًا محاربة شعبها، وإعفاء الاحتلال من عبء التعامل مع ملايين الفلسطينيين، وإيهام العالم بوجود عملية سياسية ما، حتى لو كانت معطلة أو متعثرة، لكن السلطة عاجزة موضوعيًا عن القيام بهذا الدور المرذول، الذي سوف يقوض ما بقي لها من شرعية. أما بالنسبة للتنظيمات الفلسطينية، فلا يمكن محاسبتها، أو تقييم دورها، بحكم تعميمي موحد، فثمة من يكتفي ببيانات الشجب  والإدانات، وثمة من يتحمل عبئًا واسعًا، أمنيًا وعسكريًا، ويدفع من دم أبنائه ومنتسبيه ثمن مواقفه.

تضاف هذه المعركة بهدف حسم الصراع بقوة الحديد والنار، وليس عن طريق المفاوضات. هذا الهجوم أدى إلى إضعاف السلطة، وإضعاف شرعيتها. وما زاد من تآكل شرعية السلطة، إلغاء الانتخابات، واستمرار حالة الانقسام، واعتماد سياسات وطنية وداخلية يشوبها كثير من التسلط، وشبهات الفساد والمحسوبية. هذه العملية تضع حركة فتح في حالة تناقض، بين كونها حركة تحرر وطني، والسلطة هي نواة لدولة مستقلة، وبين كونها حزب سلطة يقود الوضع الراهن المحكوم للاتفاقيات. حصيلة هذه الأزمة دفعت بعض الأوساط المتنفذة، إلى القبول (ضمنيًا وليس رسميًا) بحالة من التكيف والتعايش مع هذا التناقض، وبالتالي معارضته كلاميًا ولفظيًا لسياسات السلطة، من دون القيام بأي خطوة لتغيير المعادلة، أو اعتماد خيارات كفاحية بديلة، تستند للوحدة الوطنية، وبرنامج يقوم على القواسم المشتركة. من المنطقي افتراض أن هذه الحالة لن تدوم طويلًا، وهي تنطوي على تناقضات وصراعات داخلية محتدمة، ليس الصراع على السلطة والنفوذ والخلافة إلا أحد تجلياتها.

الخيار الوحيد الذي يمكن أن ينقذ الدور الوطني التحرري لحركة فتح، يتمثل في الانسجام مع المجموع الوطني، والامتثال لقرارات الإجماع الوطني، بما فيها قرارات المجلس الوطني والمجلس المركزي، بإعادة صياغة العلاقة مع الاحتلال، والعمل مع باقي القوى الوطنية (أي جميع القوى بما فيها الإسلامية)، على اعتماد برنامج وطني موحد، يمكّن من الفكاك من قيود أوسلو.

يمثّل اجتماع القاهرة ولقاء الأمناء العامين، فرصة لالتقاط الأنفاس ووقف الانحدار. من الصعب حل جميع المشاكل العالقة، التي تراكمت خلال عشرين عامًا، ولكن يمكن الاتفاق على خارطة طريق، وبرنامج قواسم مشتركة، يؤجل بعض القضايا المستعصية، ويبادر إلى حل بعضها الآخر على الفور، مثل الإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين دون قيد أو شرط، ووقف التحريض، وتفعيل صيغ القيادة الوطنية الموحدة، وتشكيل لجان حراسة وطنية في المحافظات لمواجهة الاستيطان. ويمكن وضع خطة زمنية لتنفيذ برنامج بأجندات داخلية ووطنية، وإشراك ممثلي الحراكات الشعبية والمجتمع المدني في الحوار، وفي المراحل التنفيذية لأي اتفاق.

د. أيمن دراغمة، عضو المجلس التشريعي سابقًا.

حاول الاحتلال توجيه ضربة لبؤرة من بؤر المقاومة بالضفة، من خلال استهداف مخيم جنين باعتباره حاضنًا لخيار المقاومة، كما أن العملية العسكرية الإسرائيلية، جاءت في ظروف تتصاعد فيها وتيرة الاحتجاجات في الشارع الإسرائيلي ضد سياسة الحكومة، ما يعزز فرضية محاولة الحكومة الهروب من ضغط الشارع الإسرائيلي.

كان لهذه العملية العسكرية تأثير مباشر على الوضع الفلسطيني بشكل عام. فعلى المستوى الشعبي، أظهرت التفاف الشعب الفلسطيني حول المقاومة وبرنامجها، وأعادت عقارب الساعة إلى عام 2002. وفيما يتعلق بالسلطة، فقد وُضعت في اختبار حقيقي أمام الجماهير الفلسطينية، من ناحية موقفها كسلطة مسؤولة عن حماية شعبها، ومن حيث الاختبار العملي فيما يتعلق بالتنسيق الأمني مع الاحتلال، وحقيقة جدّيّة تعليمات الرئيس للأجهزة الأمنية بضرورة حماية شعبها. من ناحية أخرى، فإن فصائل المقاومة كانت أمام  تحدٍ تاريخي هام، فإما أن ترفع الراية البيضاء، وتصمت وتنسحب، وإما أن تواجه العدوان والحملة العسكرية، متسلحة بالإرادة والعزيمة والإصرار. بالتالي، كانت المعركة اختبارًا عمليًا وحقيقيًا لشعارات ومصداقية جميع الأطراف.

ظهرت الصورة الشعبية الحقيقية من خلال جمع التبرعات، وما يلزم من احتياجات، وفتح البيوت والمساجد والمدارس لمساعدة المحتاجين من أهل المخيم، الذين أجبروا على ترك بيوتهم.

أراد الرئيس الفلسطيني، بإعلانه عن الدعوة لاجتماع الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية في القاهرة، أن يبعث برسالة للشارع، مفادها أن قيادة السلطة انحازت لنبض الشارع، وقد أكد على هذا المضمون من خلال زيارته للمخيم، وتوجيه كلمة من داخله.

لكن معضلة السلطة الفلسطينية، أنها لا تؤمن بتعدد المسارات، ورهنت مستقبلها بالالتزام باتفاقيات أوسلو، والرهان على تحقيق أهداف وطنية من خلال المفاوضات، أو بمساعدة المجتمع الدولي والشرعية الدولية، في الوقت الذي واصلت فيه حكومة الاحتلال عدم الالتزام، بل تمارس سياسة تتناقص بشكل مطلق مع ما ورد في الاتفاقيات، وتستخدمها لخداع العالم، بالتالي لم يعد هناك مجال أمام السلطة، سوى أن تستغل فرصة اجتماع الأمناء العامين للفصائل في القاهرة، من أجل تغيير المسار من خلال تشكيل قيادة موحدة للشعب الفلسطيني، تتحمل مسؤولية تبعات المرحلة بتفاصيلها.

أعتقد أن لقاء القاهرة، هو فرصة تاريخية، فإما أن نجعل منه منعطفًا ومحطة مفصلية، من خلال تشكيل قيادة موحدة تضع رؤية شاملة وموضوعية، تراعي جميع الظروف الدولية والإقليمية، أو سيكون كسابقاته من اللقاءات التي توضع في سجلات الإخفاق.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى