شؤون إسرائيلية

ما بعد الانتخابات، وما قبل تشكيل الحكومة

د. عدنان أبو عامر

  • المقدمة:

        أسفرت نتائج الانتخابات “الإسرائيلية” الخامسة والعشرين، والخامسة المبكرة خلال أقل من أربع سنوات عن تطورات مفاجئة، سواءً بحصول “معسكر اليمين” برمته على شبكة أمان برلمانية مريحة لم يتوقعها “نتنياهو” ذاته؛ بوصول عدد أعضائه إلى 64 عضو كنيست، أو ببلوغ كتلة “اليمين الفاشي” الترتيب الثالث في الكنيست بـ14 عضوا، أو بخروج اليسار “الإسرائيلي” كليًا من المشهد الحزبي، مما يجعلنا أمام جولة انتخابية جديرة بالتأمل والتحليل.

يحاول هذا التقرير إجمال هذه التطورات وتحليلها، ومحاولة استشراف مآلات تشكيل الحكومة “الإسرائيلية” السادسة ل”نتنياهو”، والسابعة والثلاثين في تاريخ دولة الاحتلال، فضلاً عن أجندتها الداخلية والخارجية، في ضوء النتائج المعلنة.

  • اجتياح “اليمين”:

لم تقتصر ردود الفعل المتفاجئة من نتائج الانتخابات “الإسرائيلية” على الأصعدة الدولية التي تبدي قلقها من السياسة الاحتلالية في الفترة القادمة، بل امتد هذا القلق إلى الداخل “الإسرائيلي”، من خلال تحذيرات متتالية أصدرها مسؤولون سابقون وكتاب، وباحثون، وخبراء سياسيون، وعسكريون.

تركزت أوجه القلق “الإسرائيلي” على سيطرة المتدينين المتطرفين على الحلبة السياسية والحزبية، بعد النتائج الكبيرة التي حققوها؛ مما سيساهم بصورة كبيرة فيما اعتبروه “تشويه” صورة دولة الاحتلال لدى الرأي العام الدولي، فضلًا عن استحواذ المتدينين على مختلف مقدراتها، دون أن يساهموا فيها؛ بسبب عزوفهم عن الانخراط بمؤسساتها الاقتصادية والتعليمية، أو رفضهم الالتحاق بالخدمة العسكرية، كما يضاف إلى ما سبق القلق ممن يصفونهم بـ”الطفرة الأرثوذكسية والقومية” التي كشفت عن نفسها بعد الانتخابات، والمقصود بها جمهور المتدينين والقوميين المتطرفين، الذين يمثلون أقلية تعيش على حساب اليهود الآخرين، وهم عبارة عن “طفيليات اقتصادية”، متهربين من الخدمة العسكرية، معزولين عن المؤسسات المدنية، لا يحترمون النظام السياسي ومبادئه.

تحولت هذه الأقلية اليهودية بنظر معارضيها بفعل الانتخابات، إلى أكثرية تعيش حياتها بأسلوب “وحشي خبيث”، وبقيادة “فاسدة”؛ لأن ما أسفرت عنه الانتخابات خطير ومجنون، مع العلم أن التخوف ازداد اتساعًا بينهم؛ لأن نتائج الانتخابات لم تترك أعذارًا سوى اعتبار دولة الاحتلال بأنها نظام فصل عنصري، وأكدت بما لا يدع مجالًا للشك بأنها الصورة الجديدة للمجتمع “الإسرائيلي” من وجهة نظر المنظومة الدولية؛ لأن هذا المجتمع قرر بصوت واضح التعبير عن دعمه لوجهات النظر “اليمينية” العميقة ل”بنيامين نتنياهو” و”بيتسلئيل سموتريتش” و”إيتمار بن غفير”.

لم تدع نتائج الانتخابات مجالًا للتهرب من الاعتراف بأن الحكومة القادمة ذاهبة باتجاه الاستمرار في السيطرة العسكرية على الفلسطينيين بالضفة الغربية، ما يعني استمرار نزيف جرح الاحتلال، مع أن مواصلة السيطرة عليهم ستنفجر في وجوه “الإسرائيليين “أنفسهم يوما ما، بعد أن تجاهلت كل الحكومات السابقة معاناتهم، وما يفعله الجيش في أراضيهم؛ لأنه من غير الممكن الحفاظ على احتلال عسكري على الملايين منهم.

يتساءل “الإسرائيليون”: كيف سيكون مشهدنا على مستوى العالم أمام صعود “ابن غفير”، المستوطن في “كريات أربع”، وهو يدافع عن تعاليم الحاخام العنصري “كهانا”، ويمدح الحاخام الدموي “غولدشتاين”، مما يعني أنه اعتبارًا من اليوم، لم يعد من الممكن إخفاء أن دولة الاحتلال عنصرية، يدعم غالبية مواطنيها نظام الفصل العنصري في الأراضي المحتلة، في حين أن الحكومة التي ستُشَكل قريباً ستكون ملتزمةً بالشعارات التي انتخبت من أجلها، وهي استمرار السيطرة العسكرية على الفلسطينيين، وعدم وجود حل سياسي معهم، وتوسيع المشروع الاستيطاني.

  • اندحار “اليسار”:

أسفرت الانتخابات الأخيرة مقابل الاجتياح اليميني الفاشي للحلبة السياسية والحزبية “الإسرائيلية”، عن تطور حدث للمرة الأولى منذ ثلاثين عامًا، وتمثل بأن حزب “ميرتس اليساري” لن يحظى بتمثيل في الكنيست، بعد فشله بالحصول على عدد الأصوات اللازمة لتجاوز نسبة الحسم، رغم أنه في سنوات وعقود سابقة ترك بصمة في المجتمع “الإسرائيلي” على زمن قادته المؤسسين، وهكذا يمكن الحديث عن نهاية حقبة “اليسار الإسرائيلي”، بعد افتقار حزب “ميرتس” لما يقارب أربعة آلاف صوت فقط لدخول الكنيست الخامس والعشرين، مما شكل انتكاسة له، وهو الذي تأسس عام 1988، وخاض انتخاباته الأولى في 1992، ليصل ذروة قوته بحصوله على 12 مقعدًا، حين كان شريكاً في حكومة “رابين”، إبان حقبة “أوسلو”، وقد حافظ “ميرتس” خلال طيلة هذه الجولات الانتخابية على وجوده، صعودًا وهبوطًا، منفردًا ومؤتلفًا، لكن فشله هذه المرة في اجتياز نسبة الحسم، دفع رئيسه “زهافا غالئون” إلى الاعتراف قائلة إنها “لحظة جداً صعبة علي وعلى أصدقائي، نتائج الانتخابات كارثة، وكلنا سندفع الثمن، المسؤولية بالطبع تقع على عاتقي”.

تنقسم الأسباب والدوافع والعوامل التي جعلت “اليسار الإسرائيلي” ينتظر على “دكة الاحتياط” هذه المرة إلى قسمين، أولها أسباب ذاتية متمثلة في عدم نزول قادته إلى الميدان، أسوة بخصومهم، واكتفائهم بحث الناخبين عبر شبكات التواصل، أو إخفاق “ميرتس” في الاتحاد مع حزب “العمل” لتكوين قائمة موحدة، بعكس كتل “اليمين” التي توحدت في قائمة واحدة، وجعلت “الصهيونية الدينية” القائمة الثالثة في الكنيست، وثانيها أسباب موضوعية تظهر على الفور في حالة الانزياح “الإسرائيلي” العام نحو “اليمين المتطرف” بشقيقه: الديني والقومي، وتراجع شعبية “اليسار” عمومًا؛ بسبب انهيار عملية التسوية مع السلطة الفلسطينية، وهناك من يقول أن الحملة “السامة” التي وجهتها “ميرتس” نحو الحاخامات، وتصويرهم على أنهم جهلاء وأشرار وخطرين على الدولة، واتهامهم بالتهرب من الخدمة العسكرية، جاءت بنتائج عكسية، ولم تجلب “اليسار” لصناديق الاقتراع.

من الواضح أن “اليسار الإسرائيلي” تحول مع هذه الانتخابات إلى أقلية، ولن يعود إلى السلطة في المستقبل المنظور؛ لأن تبخره شكل لأنصاره كارثة سياسية، مما قد يزيد الطلب على تشكيل حزب جديد بقيادة شابة؛ لأن أيام ميرتس بشكلها الحالي، باتت معدودة؛ ربما بسبب التغيير الديموغرافي الجاري في أوساط اليهود، وحقيقة أن نسبة العلمانيين بينهم تتناقص شيئًا فشيئًا، ولذلك فإن اليسار “الإسرائيلي” في الطريق لأن يعترف بالحقائق وأنه تحول إلى أقلية صغيرة في المجتمع “الإسرائيلي”، وقد يستمر في الانكماش، بعد أن ارتكب قادته أخطاء فادحة في السنوات الماضية، حتى وصلوا أخيرًا لما يشبه عملية انتحار سياسي، واستفاق أنصاره على حقيقة محزنة ومأساوية لم يتوقعوها.

  • أجندة مزدحمة:

يدرك “نتنياهو” بعد إمساكه ومعسكره “اليميني” بزمام المبادرة، واستلام التكليف بتشكيل حكومة جديدة في نهاية حملة انتخابية طويلة، وجود كثير من القضايا الملحة في الخلفية التي تحتاج إلى معالجة؛ مما سيجعل على طاولته جملة من التحديات الكبيرة التي ستواجهه، يمثل أبرزها: الملف الإيراني الذي سيكون على رأس أجندة الحكومة القادمة، سواءً من خلال البرنامج النووي، أو القدرات الصاروخية والطائرات المسيّرة والمتفجرات وصواريخ كروز؛ ما قد يؤثر على صورة دولة الاحتلال كقوة إقليمية ذات قدرات بعيدة المدى، وهو ما يستدعي بالضرورة وصول التنسيق الإستراتيجي الكامل مع الولايات المتحدة إلى ذروته؛ لممارسة الخيار العسكري، عند الضرورة، بينما يمثل ثاني هذه التحديات موجة عمليات الضفة الغربية التي ستكون مدرجة في صدارة اهتمامات الحكومة القادمة، التي ستجد نفسها مطالبة بأن تجد إجابة سريعة لها، وصحيح أن المؤسستين الأمنية والعسكرية تبذلان جهودًا حثيثة لمواجهتها، لكن إخفاقهما عمل على انتقال ثقل الهجمات الفدائية من الشمال حيث نابلس وجنين جنوبًا إلى الخليل وأريحا، مع أن الأمر قد يتجاوز التوتر الميداني باتجاه قضية سياسية تتعلق بطبيعة الصراع مع الفلسطينيين، خاصة وأن السلطة الفلسطينية تتفكك أمام نواظر الاحتلال.

أمّا الحفاظ على العلاقات الإستراتيجية مع الولايات المتحدة وتطويرها؛ فيمثل تحديًا ثالثًا أمام الحكومة المقبلة، خاصة وأن التغذية الراجعة من علاقات “نتنياهو وأوباما” لا تبشر بخير كثير في حال نجح بتشكيل الحكومة، وواجه أمامه في البيت الأبيض الرئيس “جو بايدن”، الذي بذل جهودًا لا تخطئها العين لإنجاح “لابيد” في الانتخابات، في الوقت ذاته، فإن الحفاظ على علاقات خاصة مع الدول العربية “المطبّعة”، سيكون مدرجًا على أجندة هذه الحكومة كأولوية رابعة، لاسيما وأن “نتنياهو” هو من بادر في توقيع هذه الاتفاقيات، وجاء “لابيد” وعززها من خلال قمة النقب، ولذلك قد تكون الحكومة الجديدة في حال سعي حثيث لمحاولة توسيع هذا التطبيع وتقويته، وضم دول عربية وإسلامية وازنة، وأخيرًا تظهر الأولوية الخامسة على الصعيد “الإسرائيلي” الداخلي، وتتمثل بملفات الموازنة وأزمة السكن وغلاء المعيشة، فضلًا عن التعامل مع الجريمة المنتشرة بين فلسطينيي 48.

  • أغلبية غير مضمونة:

لا يتعارض الحديث عن أجندة مزدحمة أمام رئيس الحكومة المكلف، مع الإرباك المبكر الذي واجهه في جهود تشكيل حكومته السادسة؛ لأنه بعكس ما كان سائدًا في الأيام الأولى التي تلت إعلان نتائج الانتخابات الأخيرة عقب حصول “نتنياهو” و”معسكر اليمين” على 64 عضو كنيست، يؤمّنون شبكة أمان برلمانية كفيلة بتشكيل حكومته السادسة؛ فإن المعطيات التي ظهرت في الأيام الماضية كشفت عقبات مثل أداء تحول دون تحقق هذا الحلم؛ بسبب الخلافات المتزايدة بين أعضاء الائتلاف الحكومي المحتمل، وهذا يعني أن “نتنياهو” الذي توقع مخطئًا أن تؤمّن له أغلبيته البرلمانية المريحة تشكيل حكومته بأريحية، بات يواجه جملة قضايا وتحديات تصيبه بالصداع، وهو ما كشفت عنه المفاوضات الائتلافية المبكرة مع شركائه، مما ينبئ بإمكانية حدوث تصادم مباشر بينهم، خاصة في ضوء المطالب التي لا يترددون في إعلانها، سواء تولي “إيتمار بن غفير” وزارة الأمن الداخلي، وسعي “بيتسلئيل سموتريتش” إلى تنصيبه وزيرًا للحرب، وتطلع الحاخام “أرييه درعي” إلى نيل حقيبة المالية.

تشير هذه المطالب إلى أن اشتراك قوى اليمين الائتلافي في رؤى سياسية مشتركة، لا يلغي خلافاتها الحزبية، كل على حدة، من حيث تطلعها الأحادي إلى نيل أكبر وأفضل المواقع الوزارية في الحكومة المقبلة، مما يعني نشوب جملة صراعات متكررة، وتباينات في قضايا سياسية وأمنية ستكون في قلب الجدل، خاصة وأن “نتنياهو” في ائتلافه الموعود ليس لديه من يستطيع تسويقه في المجتمع الدولي، مثل “تسيبي ليفني” و”إيهود باراك” و”يائير لابيد” و”بيني غانتس”.

تتمثل ذروة الخلافات في تنصيب “ابن غفير” وزيرًا للأمن الداخلي في ضوء ما أثاره من ردود فعل محلية وإقليمية ودولية، لكن الخطورة على “نتنياهو” تتمثل في أن تنصيبه لا يمثل تهديدًا خارجيًا فقط، بل داخليًا أيضا، لأنه يضع مسألة اقتحامات المسجد الأقصى على صدارة أجندته السياسية؛ ما سيعني نشوب صدام مع “الأرثوذكس المتطرفين” الذين يرون في هذه الاقتحامات خيانة للشريعة اليهودية، مع العلم أن “نتنياهو” القادر دائمًا على تدوير الزوايا فيما يتعلق بتنصيب شركائه في مواقع وزارية، قد لا يستطيع هذه المرة القيام بذات الدور، خاصة بعد أن تلقى “سموتريتش” دعم الحاخامات للإصرار على حقيبة الحرب، رغم وصف الجنرال المرموق “عاموس غلعاد” لإمكانية تعيينه بأنه “كارثة قومية”، وفي الوقت ذاته، رؤية عدد من قادة “الليكود” لأنفسهم بأنهم الأجدر بتولي هذا المنصب الحساس، رغم أن “نتنياهو” يعتبر نفسه “سيد الأمن”، بغض النظر عن هوية الوزير القادم.

  • الخاتمة:

تكشف المعطيات الواردة أعلاه أن المهلة التي منحها رئيس دولة الاحتلال “يتسحاق هرتسوغ” لرئيس الحكومة المكلف “بنيامين نتنياهو”، وتنتهي أواسط ديسمبر لا تعني أنه قادر على تشكيلها بهذه الأريحية في ضوء ما أظهرته الخلافات والتباينات داخل “معسكر اليمين”، من حيث تنافس أقطابه على الحقائب الوزارية المهمة؛ مما قد يحمل استنتاجات، ولو كانت مستبعدة حالياً، بأن يذهب “ملك ملوك إسرائيل” بعيدًا نحو إجراء استدارة مفاجئة باستبدال “معسكر اليمين الفاشي” بشركاء الأمس، لاسيما “بيني غانتس”؛ كي يستخدمه في تسويق حكومته أمام المجتمع الدولي المتوجس خيفة منها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى