المشهد الفلسطينيملفات وقضايامقالات

قراءة إسرائيلية في “طوفان الأقصى” و”السيوف الحديدية”

د. عدنان أبو عامر

  • مقدمة

ما زال الاحتلال الإسرائيلي يعيش حالة الصدمة الناجمة عن هجوم حركة حماس العسكري على مستوطنات غلاف غزة، بحيث يمكن القول أن طوفان الأقصى في أكتوبر 2023 هي النسخة الجديدة من مفاجأة حرب الغفران قبل خمسين عاما في أكتوبر 1973، مما يجعلها عملية مدروسة ومنسقة، بل وضربة استباقية.

عديدة هي التقييمات الإسرائيلية لما حصل من انتكاسة أمنية وعسكرية غير مسبوقة في تاريخ الاحتلال، سبقتها تحضيرات طويلة من حماس لم تقرأها المخابرات الإسرائيلية بشكل صحيح، وسط فرضية خاطئة سادت لديها، تمحورت حول أن الحركة لن تورّط نفسها في جولة عسكرية أخرى، وتفضّل إجراء ترتيبات لتحسين الوضع الاقتصادي في القطاع، فيما تبذل جهدها لإشعال النار في الضفة الغربية، وبالتالي تم تقليص انتشار الجيش الإسرائيلي على حدود قطاع غزة.

استيقظ الإسرائيليون صباح السابع من أكتوبر على أول هجوم برّي من وحدات القسام باتجاه مستوطنات غلاف غزة، ضمن مخطط تفصيلي عملت عليه منذ سنوات، أسفر حتى كتابة هذه السطور عن مقتل قرابة 1400 جندي ومستوطن، وإصابة قرابة ثلاثة آلاف، وأسر ما يزيد عن 130 آخرين.

السطور التالية تناقش أهم الاستخلاصات الإسرائيلية من هجوم طوفان الأقصى، وما تبعه من عدوان أسماه الاحتلال “السيوف الحديدية”، في ضوء جملة من القراءات والتحليلات السياسية والعسكرية.

  • اعترافات بالانتكاسة

تُجمع المحافل الاسرائيلية على اعتبار ما حصل من هجوم القسام اكتوبر 2023 انتكاسة متكررة لما حدث عام 1973، بسبب وجود تقدير ضعيف بوقوع عملية كبيرة من شأنها أن تشعل حرباً حقيقية في عطلة الأعياد اليهودية، من قبيل تسلّل متزامن للمقاومين تجاه المواقع العسكرية والاستيطانية، واقتحام الساحل بزوارق بحرية، واستخدام المسيّرات الهجومية، مع وابل كثيف من الصواريخ، وعلى جميع المديات.

على الرغم من مرور أسبوع كامل على هذا الهجوم النوعي وغير المسبوق، فإن حكومة الاحتلال أمامها لحظات حاسمة ومعضلة صعبة، فضلا عن كون الإسرائيليين ما زالوا في عمومهم يعيشون في قلب الانتكاسة، لأنهم أمام فشل استخباراتي كبير، وتحت وطأة المفاجئة بالعملية، ما دفع بأصوات إسرائيلية عديدة لمطالبة المستوى العسكري بالانتقام لما حصل، مع خشية من أن يؤدي ذلك الانتقام لمستوى يقترب من الإبادة الجماعية.

بدأت النقاشات والسجالات الداخلية فور استفاقة الاحتلال من صدمة العملية تلقي باتهاماتها المتبادلة حول المسئولية عن الإخفاق الذي حصل، وكيف سيردّ على ما حققته حماس من إنجاز عسكري غير مسبوق، ولذلك فقد تواصلت اعترافات الاحتلال بحجم الهزيمة المدوّية التي لحقت به، وكيف تمّ الدوس على ما يدّعيه “تفوّقه” العسكري والأمني تحت أحذية مقاتلي القسام الذين جابوا شوارع مستوطنات الجنوب، مما سيجعل من هذه الصدمة ترافق الإسرائيليين لفترة طويلة، وستكون عملية الترميم باهظة الثمن، وسيتعين عليهم دفع الثمن، ليس فقط بالمال، بل بأشياء أخرى.

تسبّب هجوم القسام بصدمة في الجمهور الإسرائيلي، ورغم أن الجميع علم أنها تدبّر لشيء ما سيحدث، وفكّروا في نموذج مشابه لحرب 1973، والفشل الذريع فيه، وتحدثوا عن الغفلة والأخطاء ومواطن الخلل، لكن لم يفكّر أحد منهم في سيناريو ما حدث في الأيام الأخيرة بمستوطنات غلاف غزة، حين تجول مسلحو القسسام بحرّية فيها، ونفذوا عمليات خطف، وإطلاق نار في الشوارع، وأطلقوا طائرات شراعية، وآلاف الصواريخ دفعة واحدة على كل أنحاء الكيان، ليكتب التاريخ فشل الجيش الإسرائيلي في هذا اليوم.

بعد مرور أسبوع كامل على الاقتحام، ما زالت هناك أسئلة لا حصر لها في ضوء نجاح المقاومين في اختراق المستوطنات عبر السياج الفاصل مع قطاع غزة، والتجوّل لفترة طويلة في شوارع مدن الجنوب، ثم العودة للقطاع فوق مركبات الجيش، فهذه ليست مجرّد صورة، بل صورة لنصر مدوّ، وضربة أخلاقية لا مثيل لها، بل كارثة للسردية التي رواها الإسرائيليون لأنفسهم لسنوات، وضربة للسياسة الفاشلة التي انتهجتها حكومتهم، وأصبح ذلك الصباح كابوسا سيكون من الصعب الهروب منه.

رغم كل هذه الاعترافات الإسرائيلية المدوّية، فإنه من السابق لأوانه استخلاص استنتاجات ذلك الحدث الجلل على الإسرائيليين، رغم أن الضربة الثقيلة التي وجهها المقاتلون لهم هي نفسية ومعنوية، فقد انهار الردع، والصور المروّعة التي تلقّوها تغمر شبكات التواصل، من حيث جثث القتلى والأسرى، والمعارك في شوارع المدن، والدبابات المحترقة للجيش، وهذه الصور ليست أقلّ من كارثة سيصعب معالجة آثارها.

لقد أكدت شهادات الإسرائيليين الناجين من الهجوم أن المقاتلين انقضّوا عليهم، وفاجأوهم، ووصلوا بسرعة من نقاط عديدة: من الجو والبرّ والبحر، مما أثبت أن لديهم العزم على تحقيق أهدافهم رغم قوة الاحتلال وإمكانياته العسكرية.

عديدة هي أوجه الإخفاقات الأمنية التي كشفها “طوفان الأقصى”، لكن هناك إخفاقات أخرى سبقته، وتتمثل بأن ما حصل في مستوطنات غلاف غزة شكّل مصدر خديعة للاحتلال بأن حماس منشغلة بمشاكل غزة الاقتصادية، بينما هي في الواقع تستعد للهجوم على مرأى ومسمع من الجميع، بعد أن أجرى مقاتلوها التدريبات المتقدمة، وفي بعض الأحيان مرئيّة للجميع، حتى أنها قامت خلال التحضير للهجوم ببناء نموذج لمستوطنة في غزة، ونشرت تصريحات ودعوات لا تعدّ ولا تحصى حول هذا الاقتحام، لكن الاحتلال ارتأى تفسيرها بأنها حرب نفسية فقط، وهكذا أعطت الحركة الشعور بأنها غير مستعدة للقتال، واستخدمت أساليب استخباراتية غير مسبوقة لتضليل الاحتلال في الأشهر الأخيرة، عندما أعطت الانطباع علناً بأنها لا تريد الدخول في قتال أو صراع، بينما استعدت لهذه العملية الضخمة، حتى أن أحد قادة الجيش اعترف بالقول “لقد كنا مخطِئين”، واعترف آخر بأن “المنظومة الأمنية سقطت في أيدي حماس، وجعلونا نعتقد أنهم يريدون المال”.

امتنعت حماس وكجزء من حملة الخداع عن الانضمام للقتال مع الجهاد الإسلامي، وتعرضت لانتقاد بعض أنصارها الذين رأوها تفضّل الحكومة على المقاومة، في الوقت الذي ركّزت فيه بشكل كبير على منع تسريبات خطط الهجوم، مع أن الاحتلال تفاخر لسنوات بقدرته على اختراق المنظمات الفلسطينية، والحصول على معلومات مهمة، ولكن ليس هذه المرة، حتى إن العديد من قادة الحركة لم يعلموا بالخطط، أما آلاف المقاتلين الذين تدربوا على الهجوم فلم يعرفوا الغرض منه إلا في اللحظات الأخيرة.

لم يتوقف الخبراء والمسئولون الإسرائيليون عن الإقرار بحجم الكارثة التي حلّت بهم، وهم يكررون عبارة أن ما حصل هو “فشل سياسي، واستخباراتي، وعملياتي”، ويواجهون صعوبة تصديق حقيقة الصفعة التي تلقّوها على وجوههم، دون تفسير كيفية اختراق المسلحين السياج بجرافة، وسيارات “تويوتا”، ولم يجدوا من يوقفهم!

كل هذه المعطيات أسفرت عن ضرر معنوي لجميع الإسرائيليين، حتى إن كثيرين منهم مزّقوا شعر رؤوسهم أمام نشرات الأخبار وهم يصرخون: أين الجيش عن حمايتنا، ولماذا فشلت كل الوحدات الاستخبارية البشرية والتقنية بهذا الشكل الخطير في قراءة الخريطة العملياتية، وكيف عجزت الأسلحة المتطورة، والطائرات بدون طيار، والمروحيات، والدبابات في التصدّي للمقاومين، ولماذا لم يتم استنفارها على الفور، وإرسالها لجميع المستوطنات التي سيطر عليها المقاومون؟

لم يتردد الإسرائيليون في اعتبار ما حصل عار كبير تمثل بانتصار مجموعة مقاتلين على “قوة” متغطرسة نامت على أهبة الاستعداد، وليس ممكناً محو هذا العار عن دولة عانت من سقوط آلاف القتلى والجرحى، وعشرات الأسرى الذين اختطففهم القسام في شاحنات ودراجات نارية، مما يستدعي تشكيل لجنة تحقيق رسمية فور انتهاء الحرب، لتقديم جميع المسؤولين عن هذا الفشل الذريع للمحاكمة، وهو فشل سيظل في ذاكرة جميع المسؤولين عنه للأبد، لأن الواقع “صفعهم” على وجوههم، وفي التعبير الإسرائيلي.

إن الاعتراف الإسرائيلي بأن الدولة واجهت إذلالاً أكبر من حرب يوم الغفران، لأنها واجهت آنذاك دولتين قويتين لديهما جيشان نظاميان كبيران، وآلاف الدبابات، والقوات الجوية والاستخبارات والدعم القوي، لكنها اليوم أمام حركة بلا قوة جوية، ولا دروع، ولا بنية تحتية، بل محاصرة ومعزولة، وفي مواجهة أكثر آلات الاستخبارات تطوراً في العالم، ورغم كل ذلك انتصرت، وفي عالم الرياضة يجب على الحركة أن “تعتزل اللعب”، لأنها وصلت قمة مجدها، ولأنها كانت تبحث عن صورة نصر، فإذا بها وجدت ألبومًا كاملاً، وأنزلت إسرائيل على ركبتيها. حتى أن أحد كبار الضباط المكلف بمتابعة حماس، وصفها بـ”المنظمة الأكثر جدية، مقاتلوها شجعان، وليسوا مغفلين، يعرفون ما يفعلون، ويجب عدم الاستهانة بهم، لديهم الصبر، ولا يستسلمون، ويستغلون الفرص، ويشكلوا خطورة كبيرة، والنتيجة أن فرقة غزة تعرضت أمامها لهزيمة قاسية، وباتت الدولة أمام واحدة من أصعب أحداثها في تاريخها الحديث”.

لعل التعبير الأكثر صراحة عن تأثير طوفان الأقصى على الإسرائيليين أن “من خشي من الذهاب لعملية برية في غزة، فقد أتت غزة إليه، ومن قال عن نفسه “قويّ ضد حماس”، وجد نفسه ضعيفاً أمامها”.

  • العدوان الدموي

بينما بدأ جيش الاحتلال عدوانه العسكري على غزة “السيوف الحديدية” بعد ساعات فقط من “طوفان الأقصى”، فقد ظهرت خلافات القادة العسكريين والسياسيين حول طبيعة الردّ، وعمقه الجغرافي، ومدّته الزمنية، مع توافق حول ضرورة الانتقام من الجرأة التي امتاز بها مقاتلو القسام، وأهانوا فيها الاحتلال أمام حلفائه وأعدائه، مع تخوف من أن الانتقام دون خطة عمل يعني أن الفراغ الذي ستتركه الحركة وراءها في غزة لا يخدم بالضرورة مصلحة الاحتلال.

لقد دأب الاحتلال على إطلاق تهديدات ضد الفلسطينيين لِئلّا يتكرر طوفان الأقصى بعد خمسين سنة أخرى، معتبرا أن حجم الضرر الذي لحق به أكثر خطورة مما واجهته الولايات المتحدة بعد هجمات 11 سبتمبر، فقد تحدث رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو مع زعماء العالم، وحدّد عددا من أهداف الجيش المتمثلة بـ”تطهير” قطاع غزة بعد الهجوم، وتحقيق الاستقرار الأمني على الحدود، والتركيز على حشد الدعم الدولي، مُصدِرا تعليماته للجيش بـ”خلع القفازات”، وتغيير سياسة “الطرق على السقف”، التي يقصد بها تحذير الفلسطينيين قبل قصف منازلهم، بحيث لا يستخدمها الآن كما كان في الماضي.

كما أجرى وزير الشؤون الاستراتيجية رون دريمر مقابلات مع وسائل الإعلام الأمريكية، ومنها شبكة “فوكس نيوز”، موجها خلالها تهديدا لحماس بتوجيه درس لن تنساه هي والمنظمات الحليفة، معتبرا أن عدد القتلى الإسرائيليين في يوم واحد بلغ ثمانمائة قتيل، بما يعادل مقتل 40 ألفاً في الولايات المتحدة، مشبّهاً هجوم حماس على مستوطنات الغلاف بالهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر في الحرب العالمية الثانية، ولذلك ساد تقدير الاحتلال بأنه مقبل على حربٍ طويلة وصعبة، تنتهي المرحلة الأولى بتدمير أغلبية إمكانيات وقدرات الحركة من جهة، وفي نفس الوقت بدء الهجوم الذي سيستمر دون تحفظ ودون هوادة، ومن جهة ثالثة وقف إمداد غزة بالكهرباء والوقود والسلع.

يركّز الجيش حتى هذه الساعة على المباني الشاهقة التي شكلت دائماً نقطة ضعف للفلسطينيين، وجرت العادة أن يستهدفها الاحتلال في نهاية كل عدوان، لا أن يبدأ بها عدوانه الحالي، لكنها إشارة أمام شيء جديد هذه المرة، لأنه عمد أيضاً لإخلاء أحياءٍ بأكملها من خلال استخدام سياسة “الأحزمة النارية”، بزعم أن هذه صور تخدم الهدف الإسرائيلي لإشباع غريزة الانتقام من جهة، ومن جهة أخرى تخلق مشكلة لحماس أمام مواطنيها، حيث سيرى قادتها بعد انتهاء الحرب مشاهد الدمار غير المسبوقة، وسط شكوك بإعادة إعمارها قريباً.

يحظى الاحتلال حتى هذه الأثناء بالشرعية الدولية اللازمة لاستمرار عدوانه، لكنه يعلم أن الساعة الرملية تنفد بسرعة دائماً، مع انتشار صور الضحايا الفلسطينيين، فيما دأب على إطلاق تهديدات متكررة بأن الجولة الحالية من القتال لابد أن تنتهي بواقع عسكري وسياسي مختلف هذه المرة، يتعلق بهوية النظام الحاكم في غزة، وهذا هدف جديد كلياً لم يطرح في عدوانات سابقة منذ عام 2008.

ترى أوساط إسرائيلية أن أهداف الحرب الحالية واضحة وتتمثل بالقضاء على حماس، وصولا للسيطرة على قطاع غزة، بتنفيذ اجتياح برّي وطويل وصعب، وتقسيمه لعدة قطاعات، وتدمير بناه التحتية، والقضاء على المقاومين، وإلحاق الأذى الشديد بالمدنيين، وفتح معبر رفح لخروجهم من غزة باتجاه مصر، لذا تم ترجمة هذه الدعوات الدموية بتوجيه ضربات نارية مميتة للقطاع من خلال القوات الجوية والمدفعية، وتعبئة مئات آلاف من جنود الاحتياط، والنشر الكامل لأنظمة الدفاع الجوي، وإعداد الفرق للاجتياح الأرضي، وصولا لإنهاء ما يصفه الاحتلال بأنه “عشّ الدبابير”.

في الوقت ذاته، قدرت المحافل العسكرية للاحتلال أن إضعاف حماس يتطلب تدخلاً برياً بقوات كبيرة، ولفترة طويلة، ربما لأشهر، لاسيما وأن الشرعية الدولية لإسقاط حكم الحركة في ذروتها، ومما سيدفع الجيش للاستفادة من هذه النافذة، طالما كانت مفتوحة، مع العلم أن التحرك البرّي يحمل في طيّاته خطرين: تعريض الأسرى الإسرائيليين للخطر، وزيادة احتمال نشوب حرب متعددة الساحات، مع قناعة الاحتلال أن الخسائر والأضرار التي تكبّدها في هجوم السبت سيستمرّ في تكبّدها في الأيام والأسابيع المقبلة، لكن الضرر الاستراتيجي طويل المدى، والأكثر خطورة، يتمثل في أنه فقد جزءًا كبيرًا من قوة ردعه الاستراتيجي، واعتقاده أنه إذا لم يستعِده وأصبحت حماس صاحبة اليد العليا عسكرياً، فسيحاول الآخرون، عاجلاً أم آجلاً، تقليدها مستقبلا، أو الانضمام للهجوم الحالي.

لذلك يبدو واضحاً أن دولة الاحتلال تسعى من وراء عدوانها الحالي لاستعادة الردع، من خلال ما تدّعي أنه إسقاط حكم حماس في غزة، ليتمّ ذلك بشكل حاسم، وبأسرع ما يمكن، حتى لو قام الجيش بتغيير قواعد الاشتباك، بحيث تلعب الاعتبارات الإنسانية دوراً أقلّ أهمية من ذي قبل، ودون الأخذ في الاعتبار معايير القانون الدولي وقوانين الحرب، وهذا دأبه في كل العدوانات، لكنه هذه المرة سيكون أكثر دمويّة.

مع مرور الساعات، تزداد تحضيرات الاحتلال لتنفيذ عملية برية ضد غزة، ورغم مبرراته لها، إلا أنه متخوف من استعداد حماس، ومع ذلك فإنه مصمّم عليها، بغض النظر عن مدياتها الجغرافية، ولقد شكّل ما حصل على حدود غزة معضلة للاحتلال، لكن قناعته ترى ضرورة الردّ عليه برّياً بصورة غير مسبوقة، لأنه يخشى إن لم ينفّذها أن تندلع الحرب المقبلة بأسرع مما يتصور، وتكون أكثر صعوبة، كما أن تجنّب العمل البري سيبعث برسالة ضعف للمحيطين به، بحيث تستدعي الهجوم التالي، أو الحرب القادمة، وتتسبب بإخلاء جماعي لمستوطنات غلاف غزة والشمال، ويكون ثمنها أغلى من العملية البرية الحالية نفسها، مما يجعل أي تأخير فيها في هذه المرحلة يصبّ في مصلحة حماس وحلفائها.

يزعم الإسرائيليون أن هجوم القسام غيّر قواعد اللعبة، وبات الوضع أكثر بكثير من “غزة”، وأقلّ من “لبنان”، وكما في حرب تموز 2006، فقد منح سلاح الجو الإسرائيلي صلاحيات مفتوحة لاستخدام كل ما لديه من القنابل والصواريخ لإلقاء حممها على غزة بلغت في الأسبوع الأول قرابة ستة آلاف قنبلة تزِن أربعة آلاف طن، بما يعادل أضعافاً كثيرة لنموذج الضاحية في جنوب لبنان، أسفرت في مجموعها عن ارتقاء قرابة ألف وخمسمائة شهيد وإصابة حوالي سبعة آلاف آخرين، حيث ما زال العشرات تحت الأنقاض.

إن شروع الاحتلال بهجوم واسع النطاق، وعدم الاكتفاء بما يسميها “عمليات جراحية”، يشمل تدمير كل الأهداف المدنية في غزة، ليس فقط تلك المرتبطة بحماس، بل ومنشآت اقتصادية وتجارية تعتبر حيوية للحياة الإنسانية في القطاع، ومنها: الأبراج السكنية الشاهقة، المقارّ الحكومية، مكاتب المؤسسات، فروع البنوك، المركبات، المولّدات الكهربائية، الميناء الوحيد في غزة، قوارب الصيد، المستودعات، الورش الميكانيكية.

في الوقت ذاته، أظهر الاحتلال رغبته بـ”خنق” الفلسطينيين اقتصادياً، عبر إغلاق المعابر مع غزة بشكل كامل، ومنع مرور الوقود والبضائع، ووقف إمدادات الكهرباء نهائياً، ومنع الاتصالات والإنترنت، وفرض حصار كامل عليه، دون خشية من ردود أفعال النظام الدولي على عقوباته الجماعية، بزعم أن العالم يفهم الوضع جيدا للغاية، ويتفهم الردّ الإسرائيلي، بما يشمله من خطوات غير تقليدية.

  • حكومة الحرب

منذ الساعات الأولى لـ”طوفان الأقصى”، وحتى انتهاء الأسبوع الأول من العدوان الجاري على غزة، لم يتوقف سيل الإدانات العلنية للسلوك الفاشل للحكومة والجيش، في ظل عجزهما عن مواجهة عملية القسام المفاجئة للغاية، والحديث عن وجود الدولة تحت قيادة رئيس وزراء غير صالح، وحكومة وزراؤها عديمي الشخصية، وغير أكفاء، بعضهم مسيحانيون أصوليون يستمدّون مناصبهم من الحاخامات والرسائل الدينية القديمة، وليس لدى الجمهور العام إمكانية الثقة بقراراتهم، والنتيجة أنهم عرّضوا الدولة كلّها للخطر.

أثبت هجوم القسام على غلاف غزة يوم “السبت الأسود” أن إسرائيل تقودها “قيادة من الغنم”، فما حصل تسبب بانهيار الروح المعنوية لمواطنيها، وما زال شعور الكثير منهم أن “الدولة في غيبوبة”، واكتفى قادتها بالحديث بإرباك وتصريحات مصوّرة، وشعارات مكتومة، أمام صرخات مئات عائلات المستوطنين، وفيما يتواصل الحراك الاسرائيلي الداخلي لترميم صورة الردع التي تبدّدت، فقد تم تشكيل حكومة طوارئ، دون توزيع حقائب للوزراء، مع الاكتفاء بتوسيعها لتشمل قوة من المعارضة، ممثلين عن المعسكر القومي برئاسة بيني غانتس والليكود برئاسة بنيامين نتنياهو، لإدارة المعركة في غزة، وإعطاء الدعم الكامل للجيش، والقضاء على حماس، وسحق قوتها العسكرية والحكومية.

بقي في المعارضة كلّ من زعيمها يائير لابيد الذي فضّل البقاء خارج حكومة الطوارئ، ورئيس حزب يسرائيل بيتنا أفيغدور ليبرمان الذي أعلن “استعداده لدخول الحكومة خلال ساعة، على أن يحدد رئيس الوزراء بعد دقيقة من تشكيلها هدفها بالقضاء على حماس، بالدخول البري إلى غزة، زاعما أن عصر الحركة قد انتهى، داعياً لعدم التفاوض معها، بل تصفيتها، وإغلاق معبري كرم أبو سالم وإيريز، دون نقل حبة حبوب واحدة من ميناء أسدود، وعدم نقل البضائع منه، بل ترك الغزيين يتحركون عبر العريش ورفح، وملاحقة قيادة حماس بأكملها في غزة ولبنان وماليزيا وقطر، وأينما كانوا، وتطهير كافة معاقلها ومراكز سيطرتها وقيادتها، دون الحاجة للبقاء هناك، بل “تنظيفها”، والمغادرة”، حسب زعمه.

فيما يدخل عدوان الاحتلال على غزة يومه السابع، فإن إحباطه ما زال سيد الموقف، من حقيقة مروّعة أسفرت عن تقويض حماس لأمن المستوطنين، ورغم ما يقوم به الجيش من قسوة دموية وقصف جوّي، لكن المشكلة التي تواجهه تكمن بإدارة الحرب في المستقبل، فما يقوم به ليس حرباً نظامية، بل غارات جوية لأغراض الانتقام، وتعزيز ثقة الجمهور الذي يعاني من المخاوف، مع ما يعنيه ذلك من خسائر وأضرار في الممتلكات المدنية والبنية التحتية، في محاولة من “حكومة الفشل” للتغطية على الشلل والذعر الذي يسودها، مع العلم أن كثيراً من القراءات الإسرائيلية أكدت منذ اليوم الأول من العدوان أن نتنياهو غير مؤهّلٍ لقيادته، وما تمسكه بترؤس “حكومة الفشل” إلا تأكيد على أنه لا يستعدّ جيداً بالفعل لليوم التالي، رغم تهديداته بأن الحرب على غزة ستحدث تغيرات إقليمية في الجبهتين الجنوبية والشمالية، وحديثه عن تغيير الشرق الأوسط لعقود قادمة، وتهديداته المتكررة لحماس “لا تجرّبونا”، أو “ردّنا سيكون غير مسبوق”، لكن من الناحية العملية فإن محمد ضيف قائد حماس العسكري، استعدّ جيداً للحرب، وأغرق إسرائيل في فوضى سوف تستمر لسنوات من خلال استيلاء مقاتليه على 20 مستوطنة و11 قاعدة عسكرية.

إن تقييم الاحتلال أنه حتى لو تم اغتيال قيادة حماس، فلن تُنسى “الكارثة” التي حدثت في مستوطنات غلاف غزة، تماماً كما لا زال مشغولا حتى اليوم بعد خمسين سنة بكارثة 1973، ولذلك فإنه سيستعدّ من الآن فصاعدا لحصر الأيام والأسابيع والشهور والسنوات لإحياء حرب 2023، بسبب ما مارسته الحكومة الحالية من مظاهر “الغطرسة الغبية، والعرض المزيّف، والكبرياء المتعجرف، وخداع الجمهور الذي يشكّك في دوافعها”.

اليوم، وبعد تشكيل ما تسمى بـ”حكومة الحرب”، بات واضحا أن نتنياهو هو الذي بحث عن إعلانها، حيث يحيط به ثلاثة من الجنرالات الكبار: يوآف غالانت وبيني غانتس وغادي آيزنكوت، وقائد الجيش هآرتسي هاليفي، ممن يتمتعون بخبرة متراكمة في القتال وإدارته، وهو يريد الاحتماء بهم، لكنه يخشى من تدمير صورته كـ”سيد الأمن”، لأنهم يعرفونه من أحداث سابقة.

في نهاية المطاف، يدرك نتنياهو تماما أنه في يوم من الأيام، ستنتهي الحرب، وستنشر لجنة التحقيق نتائجها التي ستلقي اللوم على حكومته، رغم أن المحاسبة سيتم تأجيلها عدة أشهر بعد الحرب، لأن الدماء الناجمة عن القتال والخراب في مستوطنات غلاف غزة لا تزال رائحتها قائمة.

  • خاتمة

يدرك الإسرائيليون بعد سبعة أيام على اندلاع الحرب في غزة أن الساعة تدقّ مع مرور الوقت، ويخشون إغلاق نافذة الشرعية الدولية عليهم، رغم أن المنظومة الغربية لا تزال بجانبهم، مما يدفعهم للإسراع في عدوانهم واسع النطاق على غزة، بزعم أنه إذا رأت القوى الأخرى في المنطقة أن ردّ الاحتلال على انتكاسته في الغلاف “متساهل”، فسيزيد ذلك من حوافزها ضده.

أحدث هجوم حماس المفاجئ صدمة لدى الاحتلال، لذلك فليس سهلاً تعافيه منها، فقد تمثل توجّهه منذ بداية الحدث بالمضيّ في الهجوم، لأنه أمام حدث استراتيجي، يستدعي ردّا مختلفاً تماماً عن الجولات السابقة، رغم عدم توفّر ضمانات لديه بألّا يتورط أكثر في المستنقع الغزّي، وحينها سيقع من جديد في سوء تقدير موقف يخرجه من أزمة إلى كارثة، وينتقل به من صداع مزمن إلى ورم سرطاني.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى