المشهد الفلسطيني

قانون الضمان الاجتماعي… ملابساته وحيثياته

 

يحظى قانون الضمان الاجتماعي باهتمام بالغ وردود فعل واسعة، ربما لم يحظَ بها قانون فلسطيني قبل ذلك. ففي هذه الأيام يدور حراك متسارع في الشارع الفلسطيني بشأن هذا القانون، الذي سيبدأ تطبيقه في الأول من تشرين ثاني/ نوفمبر، أي بعد عدة أيام. يشهد هذا الحراك سجالات حادة في غالبها ضد القانون، علما أن هناك من يدافع عنه وخاصة الحكومة الفلسطينية، التي أكد رئيسها د. رامي الحمد الله أن القانون سيتم تطبيقه في موعده المحدد، ولن يتم تأجيل التطبيق مرة أخرى. وقد جاء موقف رئيس الحكومة ردًا على تظاهرة ضخمة في رام الله مناوئة للقانون، شارك فيها عشرة آلاف مواطن يوم 15/10/2018، ونظمتها النقابات ومؤسسات المجتمع المدني، وهي التي تخطط لمظاهرة أكبر يشارك فيها العمال الفلسطينيون الذي يعملون في الأراضي المحتلة عام 1948، وهم إحدى الفئات المعنية بالقانون مباشرة.

يُذكر أن احتجاجات مماثلة نُظمت عند إقرار القانون قبل عامين، اضطرت الحكومة في حينها إلى تعديل القانون، والاستجابة لبعض مطالب النقابات والمؤسسات. واليوم، ونحن على أعتاب تطبيق القانون، ما زال الكثير من العمال وأصحاب العمل والمختصين يعارضونه، وبشدة، الأمر الذي تسبب بهذا الحراك من جديد.

منذ البداية تشكلت ما عُرف بـ "الحملة الوطنية للضمان الاجتماعي"، التي لا تعارض فكرة القانون، ولكنها طالبت، وما زالت تطالب، بإجراء تعديلات كثيرة تتعلق بحقوق الموظفين والعمال. في المقابل، شكل المعارضون صفحة على الفيسبوك تحمل اسم "ضد قانون الضمان الاجتماعي بصورته الإجبارية"1. ينشر المشاركون على هذه الصفحة مواقفهم المعارِضة بشدة، والناقدة لفكرة القانون، ولبنوده وتفاصيلة، لدرجة السخرية والشتم أحيانا.

أما الفصائل الفلسطينية، فقد تراوحت مواقفها بين معارَضة القانون، وبين المطالبة بتعديله وتأجيل تطبيقه. فحركة فتح، وعقب اجتماع مجلسها الثوري في 15/10/2018، أوصت للمجلس المركزي لمنظمة التحرير، بتأجيل تطبيق القانون إلى حين تسوية المسائل العالقة بشأنه. أما حركة حماس، فقد أصدرت بيانًا خاصًا بهذا القانون في 15/10/2018 أيضا، أكدت فيه رفضها للقانون وآليات صياغته وإقراره، وشددت على أنه يخالف القانون الأساسي، ويتجاوز المؤسسات الشرعية ذات العلاقة بإقرار القوانين ومناقشتها، أي المجلس التشريعي. واعتبرت الحركة أن القانون مجحف بحق الفئات الكادحة وعائلات الشهداء والأسرى والجرحى، وأنه ينقصه آليات تضمن الحفاظ على الحقوق العامة والخاصة.2

أما النقابات والاتحادات العمالية، ومؤسسات المجتمع المدني، واتحاد الغرف التجارية، فهي لا تعارض سن قانون للضمان الاجتماعي، ولكن لكل منها مطالبه الخاصة والعامة، ولذا فقد طالبت ببعض التعديلات على القانون، وما زال لديها ملاحظات متعددة، وهي بذلك تطالب بتأجيل تطبيق القانون، حتى يتسنى التوافق بشأن النقاط الخلافية.

نبذة عامة

صدر القرار بقانون رقم (19) لسنة 2016 بمصادقة الرئيس الفلسطيني عليه بتاريخ 29/9/2016، ونُشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 20/10/2016، ودخل حيز التنفيذ بتاريخ 21/11/2016، على أن يبدأ تطبيقه إلزاميا اعتبارًا من 1/11/2018.3

يتكون القانون من 124 مادة موزعة على 12 فصلًا، منها نطاق تطبيق القانون، والفئات الخاضعة له، والاشتراكات التأمينية، والتأمينات التي يغطيها القانون، وتشكيل مؤسسة الضمان الاجتماعي، وصلاحياتها وعضويتها ولجانها، وما يتعلق بالراتب التقاعدي والتقاعد، وسنوات الخدمة، ومكافأة نهاية الخدمة، ومنحة العمر، وغير ذلك. في المرحلة الأولى سيتم تطبيق تأمينات الشيخوخة والعجز والوفاة الطبيعييْن، وإصابات العمل وأمراض المهنة، وتأمين الأمومة، أما باقي التأمينات، كالتأمين الصحي، وتأمين المرض، وتأمين البطالة، وتأمين التعويضات العائلية، فسيتم تطبيقها في مراحل لاحقة، ولكن دون أن يحدد القانون توقيت ذلك.

الفئات التي يشملها القانون هم العاملون في القطاع الخاص، والهيئات المحلية، والمنظمات الدولية والبعثات الدبلوماسية، وحتى خدم المنازل، بمعنى كل عامل فلسطيني ينطبق عليه قانون العمل. وينطبق ذلك على الفلسطينيين حملة هويات القدس والهويات الإسرائيلية والمغتربين، الذين يعملون في مناطق السلطة الفلسطينية، وهو أيضا ينطبق على الضفة الغربية وقطاع غزة.

وبذلك فإن القانون يستثني موظفي الحكومة والأجهزة الأمنية؛ لأنهم خاضعون لقانون التقاعد العام وصندوق التأمين والمعاشات. كما يستثني القانون كل من يعمل أقل من 16 يوما في الشهر، ومن يتقاضى راتبًا أقل من الحد الأدنى للأجور، وهو 1450 شيكلًا.

المساهمات الشهرية حسب القانون، وهي إلزامية، تبلغ 7.2% من قيمة الراتب يدفعها العامل أو الموظف، و 10.9% من قيمة الراتب يدفعها صاحب العمل، ولذا يكون مجموع المساهمات الشهرية من قبل العامل وصاحب العمل هو 18.1% من قيمة الراتب، وهي تشمل تأمينات الشيخوخة والأمومة وإصابات العمل.

الانضمام لصندوق الضمان الاجتماعي إلزامي للفئات المذكورة، وقد بلغ عدد المنتسبين حتى الآن حوالي 15,000 موظف وعامل، علما أن من المتوقع أن يزيد عدد المنتسبين عند بدء الانتساب الإلزامي عن 95,000 موظف وعامل، قد تصل مساهماتهم ومساهمات أصحاب العمل ما بين 130- 150 مليون شيكل (36- 40 مليون دولار) شهريًا.

بتاريخ 20/12/2016، أصدر مجلس الوزراء قرارًا بتشكيل مؤسسة الضمان الاجتماعي، وشكل مجلس الوزراء مجلس إدارة للمؤسسة حسب قانون الضمان الاجتماعي، وذلك برئاسة وزير العمل وعضوية ممثل عن كل من وزارات التنمية الاجتماعية والمالية والاقتصاد والعمل، وخمسة ممثلين عن العمال، وخمسة ممثلين عن أصحاب العمل، وممثل عن النقابات المهنية، وممثل عن المنظمات الأهلية، وخبير مالي أكاديمي يختاره مجلس الوزراء. ولاحقًا أُسّست المؤسسة في رام الله، وعُيِّن مدير عام لها، وطاقم إداري يباشر أعماله منذ أواسط 2018.

مؤيدو القانون: ضرورة وطنية وإيجابيات اقتصادية

يرى مؤيدو القانون أنه يهدف إلى توفير ضمان اجتماعي تكافلي يشكل مظلة حماية اجتماعية، وأن رسالته هي تعزيز الحماية والأمن الاجتماعي، وتحقيق استقرار اقتصادي وحياة كريمة، وصمود المواطن الفلسطيني.4

اتحاد نقابات العمال في الغالب يدعم القانون، فهو من وجهة نظره يوفر للعمال فرصة حقيقية لمواجهة مخاطر العجز والشيخوخة وإصابات العمل وأمراض المهنة وتأمين الأمومة. ويرى الاتحاد العام لنقابات العمال أن القانون أفضل من قانون التقاعد الحكومي، فهو ينصف المرأة، ويضمن للعمال تنفيذًا صارما لقانون الحد الأدنى للأجور، ويقطع الطريق على الشركات والمصانع والمشغلين من التهرب من حقوق العمال.5

على صعيد آخر وهام، ترى الحكومة أن تطبيق القانون سيمكنها من استرداد مليارات الشواكل المحتجزة لدى الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1970، وهي عبارة عن مساهمات وخصومات وحقوق للعمال الفلسطينيين داخل "إسرائيل"، تم خصمها من رواتبهم منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى اليوم، وتحويلها إلى مؤسسة التأمين الوطني الإسرائيلية دون حصولهم على أي منافع مقابلها.6 الاحتلال يقر بهذه الأموال، ولكنه يحتجزها لأن القوانين الإسرائيلية واتفاقية باريس الاقتصادية تشترط تسليمها لمؤسسة ضمان اجتماعي فلسطينية. وبالتالي فإن تشكيل هذه المؤسسة بموجب القانون هو الطريق الوحيد لاسترداد هذه المليارات، التي تقدرها المصادر الفلسطينية بـ 10 مليارات دولار، بينما يقدرها الاحتلال بـ 3 مليارات فقط، حيث يخصم الاحتلال من هذه المبالغ ما يقدمه للعمال من تأمين صحي وتعويض إصابات عمل، وما ينفقه من تحسينات على المعابر، كما يقول.7

وبناء على قانون الضمان الاجتماعي، يجب أن تُستثمر جميع الأموال التي يجمعها العمال وأرباب العمل، والتي يُتوقع أن تبلغ ما بين 130- 150 مليون شيكل شهريًا (36- 40 مليون دولار)، وبالتالي من المتوقع أن ينتج عن الاستثمار الآمن لهذه الأموال ضخ سيولة في السوق الفلسطيني، وخلق فرص عمل واستثمارات جديدة.

وعلى صعيد إيجابيات القانون أيضا، يُشار إلى أن إجازة الأمومة حسب القانون هي 84 يوما وليس 70 يوما كما في قانون العمل. كما أن القانون تكفّل بتكاليف جنازة الموظف بمقدار راتب 3 شهور تقريبًا. كما تكفل بأن لا يقل الراتب التقاعدي لأي موظف عن الحد الأدنى للأجور (392 دولار)، حتى لو كان أقل من ذلك.

المعارضون: شكوك وشعور بالإجحاف

يُذكر أن معظم المعترضين على القانون لا يعترضون على فكرة الضمان الاجتماعي، وإنما على القانون بصيغته الحالية، التي يعتبرونها مجحفة بحق الموظفين والعمال من نواحٍ عديدة.

بشكل عام، يعارض القطاع الخاص القانون بشكل واضح، ويبدو لأنه سيتحمل أعباء مالية كبيرة جدا. أما القطاع الأهلي ومؤسسات المجتمع المدني، فلا تعارض فكرة وجود قانون للضمان الاجتماعي، ولكن تعارض القانون بصورته الحالية.

فاليوم 18/10/2018 مثلًا، أصدرت الهيئة الإدارية لنقابة العاملين في جامعة بير زيت، بيانًا وصفت فيه القانون بأنه مجحف، ولا يراعي حقوقًا ولا يكفل احتياجات، وأنه يسحق حقوق العاملين، ويجردهم أبسط هذه الحقوق.8 بينما أصدرت نقابة المهندسين بيانًا في نفس اليوم، رحبت فيه بوضع قانون للضمان الاجتماعي، ولكن دعت الحكومة إلى الاستجابة لمطالب المهندسين.9

أما أبرز نقاط الخلاف، فيمكن إيجازها فيما يلي:

  • تسوية مكافأة نهاية الخدمة

رغم كثرة أوجه الاعتراض على القانون، إلا أن تسوية مكافأة نهاية الخدمة تكاد تكون السبب الأبرز في هذه الزوبعة. فبعد قرار وزير العمل بتاريخ 4/6/2018 بشأن احتساب تسوية مكافأة نهاية الخدمة على أساس راتب شهر عن كل سنة عمل مع احتساب الكسور، والذي تم الترحيب به من قبل العمال والنقابات العمالية باعتباره تطبيقًا لقانون العمل، بعد هذا القرار احتج أصحاب العمل، وخاصة كبرى الشركات، وذلك إما لأنهم اعتبروا هذه التسوية مكلفة جدا لهم، أو لأن المبالغ التي يجب أن يدفعوها للموظفين والعمال قد تصرفوا بها، ولم تعد متوفرة لديهم، وهددوا بالانسحاب من مجلس إدارة مؤسسة الضمان الاجتماعي، مما اضطر الوزير إلى إلغاء قراره، وتحويل الموضوع إلى المحكمة الدستورية للبت فيه، الأمر الذي اعتبر انصياعا لنفوذ أصحاب رأس المال.10

وهنا يستذكر المعنيون الاحتجاجاتِ التي نفذها أصحاب رأس المال على مشروع قانون الضريبة عام 2011، والتي أدت إلى إلغاء القانون في حينها، الأمر الذي يعده البعض نفوذًا وسطوة لأصحاب المال والشركات الكبرى والقطاع الخاص.11

بشكل مفصل، وحسب القانون، يجب على المشغلين تسوية الحقوق العمالية السابقة لتطبيق قانون الضمان الاجتماعي، والمتعلقة بمكافأة نهاية الخدمة عن فترة العمل التي سبقت تطبيق القانون. كما يجب توثيق المخالصات بين أطراف العمل، وهم صاحب العمل والعامل، وتحديد قيمة المبالغ المستحقة للعامل عن جميع فترات عمله السابقة قبل تطبيق قانون الضمان، وقيمة الدفعات المالية التي سيلتزم بها رب العمل، وتواريخ استحقاق الدفعات. بسبب ذلك، سيترتب على أصحاب العمل مبالغ مالية هائلة، وخاصة المؤسسات الكبيرة، قد لا تكون متوفرة لها حاليا، مما يتسبب بإشكاليات واضحة بين العمال وأرباب العمل، وخاصة إذا تُرك الأمر لتقديرات أرباب العمل في آلية الدفع، مما قد يحرم الموظفين والعمال من بعض حقوقهم، ويعرضهم لمماطلة أصحاب العمل، والتفافهم وغدرهم.12

  • الراتب التقاعدي: إشكاليات متعددة

وهو أيضا من أهم أسباب الاحتجاج إلى جانب مكافأة نهاية الخدمة. فالمحتجون يرون أن النسبة التي يتم اقتطاعها من راتب الموظف أو العامل، وهي 7.2%، هي نسبة مرتفعة، وخاصة أن الراتب التقاعدي الذي سيحصل عليه هو راتب منخفض، يبلغ في معظم الحالات حوالي 50% فقط من الراتب الذي كان يتقاضاه أثناء عمله، وهي نسبة سيئة مقارنة بقانون التقاعد العام الذي ينطبق على موظفي الحكومة.13

معادلة الراتب التقاعدي هي عدد سنوات الاشتراك X متوسط راتب آخر 3 سنوات X2%. فالموظف الذي عمل 25 سنة مثلا، وكان راتبه 3000 شيكل (812 دولاراً) عند التقاعد، فإنه سيحصل على راتب تقاعدي مقداره 1375 شيكلًا (372 دولاراً) فقط، وهو راتب غير كافٍ لمن أمضى ربع قرن في خدمة البلد، وأفنى حياته ليحصل في النهاية على راتب لا يكفيه أسبوعًا، على حد تعبير المحتجين.14

وهناك تساؤلات أخرى كثيرة تتعلق بالراتب التقاعدي، فمثلا إذا كان الزوج والزوجة موظفيْن أو عامليْن مسجليْن في الضمان الاجتماعي، فإن الراتب التقاعدي يُدفع لصاحب الراتب الأعلى منهما ولا يُدفع لكلا الطرفين، مما يعني أن أحدهما يخسر كل ما تم اقتطاعه من راتبه طيلة فترة عمله، الأمر الذي يشكل ظلمًا واضحًا برأي الكثيرين. كما أن من يدفع الاشتراك لفترة تقل عن 24 شهرًا، ثم يُتوفى، فلا يحصل ورثته على راتب تقاعدي. كما أن الزوجة العاملة والمسجلة في الضمان الاجتماعي، وزوجها لا يعمل، فإنه لا يرثها براتب تقاعدي، إلا بشرط أن يكون هناك سبب صحي يمنع الزوج من العمل. ولو أن موظفًا تقاعد وكان راتبه 5000 شيكل (1353 دولار) مثلًا، ثم التحق بعمل جديد في مؤسسة جديدة ولكن ضمن راتب 1500 شيكل (406 دولار) مثلًا، فإن راتبه التقاعدي يكون على أساس راتبه الجديد، رغم أنه أسهم عشرات السنوات بمساهمة عالية ضمن راتب 5000 شيكل (1353 دولار). وهكذا، هناك أمثلة كثيرة على حقوق يعتبرها المعارضون غائبة من القانون.15

مستحقات العمال في الداخل: شكوك مشروعة

مع أن استرداد هذه المستحقات التي يحتجزها الاحتلال، يعتبر خطوة وطنية قد يحققها قانون الضمان الاجتماعي، كما تمت الإشارة سابقًا، إلا أن البعض يخشى من مماطلة الاحتلال الإسرائيلي، ويشكك في إمكانية تحقيق ذلك، وخاصة أن اتفاقية باريس الاقتصادية لم تعد فاعلة، كما أن الأوضاع السياسية قد تدفع الاحتلال إلى ابتزاز السلطة الفلسطينية لدفعها نحو خطوات سياسية، أو التحايل في دفع هذه الاستحقاقات، وخاصة أن آلية الدفع غير واضحة. ثم إن ضعف الموقف الفلسطيني الحالي قد يدفع الاحتلال، ومؤسسات إسرائيلية كالهستدروت ومؤسسة التأمين الوطني، إلى اختلاق مبررات أخرى، كفكرة الدفع للعامل نفسه أو لورثته، وليس لصندوق فلسطيني، وهذا الأمر اعتبرته الحملة الوطنية للضمان الاجتماعي "خط فاصل في مسيرة النضال الاجتماعي".16

لذلك لا يعول معارضو القانون على هذه الفكرة، ويطالبون الحكومة بعدم التذرع بهذا الأمر لتمرير القانون تحت حجج وطنية.

وهنا لا بد من الإشارة أيضا إلى تساؤل كبير عن سبب غفلة القيادة الفلسطينية والمفاوض الفلسطيني عن هذه المليارات طيلة هذه السنوات، وعدم المطالبة بها منذ توقيع اتفاقية باريس عام 1994، وعدم البدء بإجراءات تأسيس مؤسسة للضمان الاجتماعي لاستردادها؟؟

  • إلزامية تطبيق القانون: اتهامات متبادلة

يرى بعض المختصين أن إلزامية تطبيق القانون على المؤسسات والهيئات والمنظمات هو أمر غير منطقي، وخاصة أن القانون يتعلق بمخاطر عالية محتملة، ويرتبط ارتباطا وثيقا بحقوق العمال والموظفين ورواتبهم وتقاعدهم وغير ذلك. ويزيد من مخاطر ذلك أن القانون لم يمر بمرحلة تجريبية تقيس إمكانية التطبيق بصورة ناجحة. لذلك يقترح البعض أن يكون الانضمام للضمان الاجتماعي اختياريا وليس إجباريا، وخاصة أن الحكومة تقول إن القانون يهدف إلى تحقيق مصلحة العاملين، فلماذا لا تترك لهم الخيار بشأن مصلحتهم، ولو للسنة الأولى كفترة تجريبية، وذلك من باب "أنا أعرف مصلحتي"؟17

ولكن في المقابل ترى الحملة الوطنية للضمان الاجتماعي أن هذا المطلب ليس إلا للتهرب من الاستحقاقات المالية، ولخلط الأوراق، إذ إن أصحاب هذا المطلب هم أصحاب الشركات الكبرى الذين تصرفوا بمكافآت نهاية الخدمة وصرفوها، أو من كبار مالكي ومدراء بعض شركات القطاع الخاص، الذين يحصلون على امتيازات ومنافع منها أعلى بكثير مما سيحصلون عليه من الضمان الاجتماعي، وبالتالي فهم يحرضون على القانون بسبب مصالحهم الشخصية وليس من مصلحة عليا.18 أو هم من أصحاب العمل الذين لا يلتزمون بالحد الأدنى للأجور، ويحرمون العاملين لديهم من هذا الحق، وبالتالي فهم يعارضون القانون، أو يطالبون بعدم إلزاميته، وذلك للتهرب من استحقاقات العمال.

  • اتهامات للقطاع الخاص

إلى جانب اتهام القطاع الخاص بالاتهامات المشار إليها في الفقرة السابقة، كالتهرب من استحقاقات مكافأة نهاية الخدمة، واستحقاقات الحد الأدنى للأجور، يرى البعض أن القطاع الخاص هو أبرز من يقف ضد القانون، أو يحرض عليه بشكل أو بآخر، ويمول معارضي القانون من أجل ذلك، على حد تعبير الحملة الوطنية للضمان الاجتماعي.19

كما أن قانون الضمان الاجتماعي لا يسمح أن يزيد الراتب التقاعدي للموظف أو العامل عن عشرة أضعاف الحد الأدنى للأجور، أي أكثر من 14,500 شيكل (3924 دولار)، ونظرًا لأن هذا الأمر قد يحصل مع بعض أصحاب المناصب العليا في القطاع الخاص، فإنهم هم الذين قد يعارضون القانون لأسباب شخصية.20

كما أن هناك من يرى أن القطاع الخاص يعارض القانون لأنه سيكشف أسراره، ويجبره على التصريح عن الرواتب والدخول التي يحصل عليها العاملون لديه، الأمر الذي سيحرج أصحاب الرواتب العالية، وربما سيسبب لهم إشكاليات حقيقية لدى دوائر ضريبة الدخل.21

والبعض الآخر يتهم بعض شركات القطاع الخاص بأنها تحصل على إعفاءات غير قانونية بطريقة أو بأخرى، ولأن قانون الضمان الاجتماعي سيمنع هذه الإعفاءات، فإن هذه الشركات ستعارض القانون تحت مبررات جانبية.22

  • غياب الثقة: مخاوف سياسية وإدارية

هناك عدم ثقة بخصوص استثمار أموال مؤسسة الضمان الاجتماعي، التي ستكون بعد فترة وجيزة بالمليارات. تنشأ عدم الثقة من تجارب سابقة تتعلق بضياع أو استهلاك مدخرات بعض الصناديق العامة من ناحية، ولأن مجلس إدارة المؤسسة معظم أعضائه من المقربين للحكومة، ولأن طريقة اختيار ممثلي النقابات وممثلي العمال ليست ديمقراطية. كما أن تجربة تطبيق قوانين أخرى كانت غير موفقة، مثل بعض بنود قانون العمل، وعدم تطبيق قانون الحد الأدنى للأجور.23

وعلى صعيد الفساد، تتزايد عدم الثقة بسبب تفاقم الفساد وعدم المساءلة والمحاسبة الجدية، فهناك خشية من تكرار حالات فساد وعدم محاسبة المسؤولين، وبالتالي خشية الموظفين على مستحقاتهم ومدخراتهم، وخاصة في ظل غياب المجلس التشريعي، الذي يمثل أهم جهة رقابية في الظروف الطبيعية، وفي ظل عدم نص القانون على وجود مجلس رقابي، واقتصار ذلك على وجود مجلس إدارة مؤسسة الضمان الاجتماعي.24

ومن ناحية أخرى، فإن عدم الثقة تنبع من أن اللوائح التنفيذية للقانون غير جاهزة، وإنما سيضعها مجلس الوزراء كما ينص القانون، أو على الأقل غير منشورة حتى الآن، وبالتالي هناك خشية من الصورة التي ستكون عليها هذه اللوائح.25

كما أن تطبيق ثلاثة تأمينات فقط في المرحلة الحالية، هي تأمينات الشيخوخة والعجز والوفاة الطبيعييْن، وإصابات العمل وأمراض المهنة، وتأمين الأمومة، وتأجيل تطبيق المخاطر الأخرى إلى حين وضع أنظمتها من قبل مجلس الوزراء، وهي التأمين الصحي، وتأمين المرض، وتأمين البطالة، وتأمين التعويضات العائلية، يثير عدم الثقة من جديد لدى المعترضين على القانون، سواء من حيث الصورة التي ستكون عليها هذه اللوائح، وسواء من حيث التخوف من رفع قيمة مساهمة العامل والموظف من راتبه عند تطبيق التأمينات الأخرى.26

على صعيد آخر، يعتبر بعض المعترضين أن عدم الاستقرار السياسي يثير المخاوف بشأن موضوع الضمان، حيث يخشى البعض أن تضيع مدخرات الموظفين والعمال، والمبالغ المقتطعة من رواتبهم، في حال اهتزاز السلطة الفلسطينية، وخاصة أن القانون يتحدث عن اقتطاعات مالية ورواتب تقاعدية لعشرات السنين، وهنا يتساءل المعترضون كيف تكون الدولة هي الضامن للقانون كما جاء في نصوصه؟ وذلك في ظل مؤشرات التدهور السياسي، وتهديد الرئيس الفلسطيني بـ "تسليم المفاتيح"، وتراجع حل الدولتين، ومخاطر فرض تسوية سياسية عبر ما يسمى بصفقة القرن.27

  • المقدسيون: مخاطر محتملة

يخشى المقدسيون العاملون في أراضي السلطة الفلسطينية، الذين ينطبق عليهم القانون، أن تنكشف أمورهم المالية أمام الاحتلال، وأن يؤدي ذلك إلى نتائج غير معروفة، سواء على صعيد إلزامهم بدفع ضرائب معينة، أو إلزامهم بالمساهمة في الضمان الاجتماعي الإسرائيلي، وخاصة أن القوانين والقرارات الإسرائيلية تجاه المقدسيين الفلسطينيين، تتغير باستمرار من أجل تهجيرهم خارج المدينة. وبسبب هذه القرارات والقوانين التي تستهدف تهويد القدس، يُخشى أن تظهر نتائج سلبية على صعيد الإقامة وحمل الهوية المقدسية، بالنسبة للعاملين في أراضي السلطة الفلسطينية. لذلك يدعو المهتمون بالقانون إلى ضمان أمن معلومات المقدسيين، والحذر من النتائج السياسية المتعلقة بالإقامة وحمل الهوية، والتكاليف المالية المتعلقة بضريبة الدخل.28

خاتمة

إضافة إلى القضايا المشار إليها، هناك نقاشات، وربما اعتراضات، على قضايا أخرى يعتبرها الحقوقيون تمس حقوق العمال والموظفين، مثل سن التقاعد المبكر، ومنحة العمر، ونظام تقاعد الشيخوخة التكميلي الاختياري، وحقوق ذوي الإعاقة، وشراء سنوات التقاعد. ومنها أيضا استثناء القانون للموظف أو العامل الذي يستشهد على أيدي قوات الاحتلال، على اعتبار أن وفاته غير طبيعية، وبالتالي تُحرم عائلته من الراتب التقاعدي.

ورغم إعلان رئيس الحكومة ووزير العمل عن تطبيق القانون في موعده المقرر في بداية تشرين ثاني/ نوفمبر 2018، إلا أنه ليس من المستبعد أن يتم تأجيل ذلك، ولو لفترة محددة، حتى يُنظر مرة أخرى في مطالب المعترضين على القانون، وإجراء بعض التعديلات عليه، وذلك في ظل استمرار الاحتجاجات على القانون، وانتشارها في مختلف المحافظات، واجتماع بعض ممثلي القطاع الخاص مع الرئيس الفلسطيني لإقناعه بفكرة التأجيل؛ حماية للنسيج الاجتماعي، وتجنبًا لتفاقم سخط الموظفين والعمال.


 

1 صفحة "ضد قانون الضمان الاجتماعي بصورته الإجبارية" على الفيسبوك" https://www.facebook.com/groups/718140295211533/

2 وكالة سما الإخبارية 16/10/2018. http://samanews.ps

3 القرار بقانون هو القانون الذي يصدره رئيس السلطة الفلسطينية وليس المجلس التشريعي، وذلك في ظل غياب المجلس التشريعي واستنادا إلى المادة (43) من القانون الأساسي.

4 موقع مؤسسة الضمان الاجتماعي https://www.ssc.ps

5 شاهر سعد، الأمين العام لاتحاد نقابات العمل، وكالة الأنباء الفلسطينية/ وفا، 30/6/2018 http://www.wafa.ps

6 محمد جوابرة، الضمان الاجتماعي الفلسطيني: صراع على الحقوق الاجتماعية، موقع جبهة العمل النقابي التقدمية http://pluf.ps

7 مقابلة مع وكيل وزارة العمل، صحيفة الحدث، 25/6/2018 /www.alhadath.ps

8 بيان الهيئة الإدارية لنقابة العاملين في جامعة بير زيت. انظر صفحة "ضد قانون الضمان الاجتماعي بصورته الإجبارية" على الفيسبوك، 18/10/2018. https://www.facebook.com/groups/718140295211533/

9 بيان هام صادر عن نقابة المهندسين بخصوص قانون الضمان الاجتماعي، موقع نقابة المهندسين 18/10/2018 www.paleng.org

10 حسمت المحكمة الدستورية قرارها بتاريخ 17/10/2018، أثناء إعداد هذا التقرير، وأصدرت قرارها الذي يؤيد التسوية على أساس راتب شهر عن كل سنة.

11 الحملة الوطنية للضمان الاجتماعي، بيان توضيحي بتاريخ 8/10/2018. موقع الحملة على الفيسبوك ://www.facebook.com/SSC.PAL/

12 ثابت أبو الروس، آلية تطبيق قانون الضمان الاجتماعي، موقع الاتحاد العام للاقتصاديين الفلسطينيين http://www.gupe.plo.ps

13 محمد جوابرة، الضمان الاجتماعي الفلسطيني: صراع على الحقوق الاجتماعية، موقع جبهة العمل النقابي التقدمية http://pluf.ps

14 انظر صفحة "ضد قانون الضمان الاجتماعي بصورته الإجبارية" على الفيسبوك. https://www.facebook.com/groups/718140295211533/

15 ثابت أبو الروس وعبد الرحمن الطرمان، مختصون ماليون، مقابلة شخصية بتاريخ 17/10/2018.

16 الحملة الوطنية للضمان الاجتماعي، بيان توضيحي بتاريخ 8/10/2018. موقع الحملة على الفيسبوك ://www.facebook.com/SSC.PAL/

17 انظر صفحة "ضد قانون الضمان الاجتماعي بصورته الإجبارية" على الفيسبوك. https://www.facebook.com/groups/718140295211533/

18 الحملة الوطنية للضمان الاجتماعي، ورقة حقائق حول الضمان الاجتماعي، صحيفة القدس، 15/10/2018، ص 3.

19 الحملة الوطنية للضمان الاجتماعي، بيان توضيحي بتاريخ 8/10/2018. موقع الحملة على الفيسبوك. ://www.facebook.com/SSC.PAL/

20 ثابت أبو الروس وعبد الرحمن الطرمان، مصدر سابق.

21 المصدر السابق.

22 الحملة الوطنية للضمان الاجتماعي، بيان توضيحي بتاريخ 8/10/2018.

23 مركز بيسان للبحوث والإنماء، ورقة حول قانون الضمان الاجتماعي وتداعياته https://www.bisan.org/

24 الحملة الوطنية للضمان الاجتماعي، ورقة حقائق حول الضمان الاجتماعي، صحيفة القدس، 15/10/2018، ص 3.

25 الحملة الوطنية للضمان الاجتماعي، بيان توضيحي بتاريخ 8/10/2018.

26 الضمان الاجتماعي: جدل مستمر ومستقبل مبهم، موقع قدس الإخباري 30/9/2018 https://www.qudsn.co

27 موقع جبهة العمل النقابي التقدمية، مصدر سابق http://pluf.ps

28 ثابت أبو الروس وعبد الرحمن الطرمان، مصدر سابق.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى