المشهد الفلسطيني

زيارتان منذ بدء الحرب الأوكرانية: قراءة في المصالح الجيبوليتيكية التي تكشَّفت بين حماس وموسكو

علي حسن أبو رزق[1]

زيارة هي الثانية منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية لوفد رفيع المستوى من حركة حماس للعاصمة الروسية موسكو، لإجراء مباحثات مع المسؤولين الروس، حيث ترأس الوفد الفلسطيني رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية الزيارة الحالية، وجاءت هذه الزيارة بعد أشهر قليلة من زيارة مهمة قام بها مسؤول مكتب العلاقات الدولية في الحركة موسى أبو مرزوق، وناقش عددًا من القضايا مع الجانب الروسي منها تسهيل زيارة هنية الحالية.

ليس توقيت الزيارة فحسب ما يطرح تساؤلًا عن الدوافع الروسية، بل أجندة الزيارة واللقاءات التي أجراها وفد حماس في موسكو والشخصيات التي التقى بها لأول مرة، وماذا عند حماس من أوراق لتعرضها على موسكو؛ لتُرتب زيارتان في هذا المستوى في غضون فترة زمنية قصيرة، وهي قراءة تتجاوز النقاشات السابقة حول علاقة روسيا، كونها قوة عظمى منافسة للهيمنة الأمريكية، مع الحركات الاجتماعية (القوى الفاعلة دون الدولة) التي تنصبها واشنطن العداء وتضعها على قوائم الإرهاب، إذ قامت علاقات روسيا مع كثير من هذه الجهات على أساس التناقض مع سياسات الولايات المتحدة في المنطقة والإقليم.

يسعى هذا التقرير لفهم النقاط التي تكشفت بعد الحرب الأوكرانية، والتي قرأتها قيادة حماس وتسعى من خلالها تعزيز علاقتها مع موسكو عبر طرح نفسها كشريك محتمل يلبي بعضًا من المطامح الجيوبوليتيكية لروسيا في المنطقة والإقليم.

المصالح الجيوبوليتيكة بين روسيا وحماس:

كشفت الحرب الروسية الأوكرانية عن دوافع جيوبولوتيكية كبيرة لموسكو في “عالم ما بعد القطب الواحد”، إذ كرر عدد من المسؤولين الروس، وخصوصًا وزير الخارجية “سيرغي لافروف” أن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين لا يريدون عالماً متعدد الأقطاب، “لكنهم لن يتمكنوا من العودة إلى النظام أحادي القطب،” والمشاركات الفاعلة لعدد كبير من قادة دول العالم مثل روسيا والصين والهند وباكستان وتركيا وإيران في قمة “شنغهاي” التي عقدت حديثًا في سمرقند في أوزبكستان تلفت الانتباه إلى مسعى موسكو في هذا الإطار، بعد تصوير القمة ك “جبهة رفض” كبيرة تقودها روسيا ضد النظام العالمي أحادي القطبية.

أمّا المصالح الجيوبوليتيكة بين روسيا وحماس التي كشفتها الحرب الروسية الأوكرانية؛ فيمكن إجمالها في ثلاث نقاط: التوتر الحاصل ما بين روسيا و”إسرائيل” بعد الحرب، طموح “إسرائيل” أن تكون بديلًا عن الغاز الروسي لأوروبا، وأيضًا الاستفادة من حماس كونه تنظيم يحظى بقوة ناعمة في كثير من دول العالم الإسلامي.

أولًا: إن تطوير العلاقة مع حماس يخدم روسيا في ظل تصاعد التوتر مع “إسرائيل” حول الأزمة في أوكرانيا وسوريا، إذ أشار وزير الخارجية الروسي “سيرغي لافروف”  إلى ما أسماه “فوضى متزايدة” في العلاقات بين بلاده و”إسرائيل” إثر القصف “الإسرائيلي” الذي استهدف مطار “حلب” في الأسابيع القليلة الماضية والذي أدانته روسيا، ودعت إلى “احترام سيادة ووحدة أراضي سوريا”، ويشار هنا إلى أن “إسرائيل” وروسيا كانتا قد اتفقتا على ما أسموه ب “الخط الساخن” للتواصل بشأن الأهداف الإيرانية المحتملة ل”إسرائيل” في سوريا، قبل أن تُطلق صواريخ روسية مضادة للطائرات في شهر يوليو الماضي على مقاتلات تابعة لسلاح الجو “الإسرائيلي”، كانت تقوم بمهام حربية بالقرب من مدينة مصياف و اللاذقية شمال غرب سوريا، ورغم أن الصواريخ الروسية لم تشكل تهديدًا حقيقيًا للطائرات “الإسرائيلية”، إلا أنها بعثت برسالة سياسية تعبر عن انزعاج موسكو من تل أبيب، فمضادات الطائرات في دمشق تديرها كتائب دفاعية روسية، ولا يمكن إطلاقها إلا بموافقة روسية، والتطور الملحوظ في ذلك أن الذي أعلن عن استهداف الطلعات الجوية “الإسرائيلية” في سوريا، هو نائب مدير مركز حميميم اللواء البحري “أوليغ جورافلوف” في تصريحات لوكالة تاس الروسية.

بدأ التوتر في العلاقات بعد إدانات “إسرائيل” للحرب الروسية في أوكرانيا، والدعم الذي قدمته تل أبيب لكييف، إذ زدوت “إسرائيل” أوكرانيا بمعدات دفاعية منخفضة التقنية، بالإضافة إلى مساعدات إنسانية، ناهيك عن صور ووثائق تُدووٍلَت بشكل كبير، وتشير إلى مشاركة عسكريين “إسرائيليين” في التوجيه والقتال على عدة جبهات في كييف.

بُلوٍرَ الغضب الروسي المتنامي من سياسة “إسرائيل” الخارجية، إزاء الوضع في أوكرانيا في تحذير روسي غير مسبوق حول الوكالة اليهودية وإعلانها عن نيتها إغلاق المنظمة شبه الحكومية، التي تعمل على تشجيع وتسهيل هجرة الروس اليهود إلى “إسرائيل”، متذرّعة بأسباب منها أن الوكالة تنتهك قوانين الدولة عبر الاحتفاظ بسجلات للمواطنين الروس بشكل غير صحيح.[2] ، كما يعد استضافة وفود من حركة حماس كلاعب مهم في المعادلة الفلسطينية، في هذا التوقيت الحساس وترتيب زيارتين لقيادات وازنة من الحركة في أقل من أربعة أشهر، عاملًا لا يمكن فصله عن التوتر الروسي “الإسرائيلي”، وطبيعة العلاقات التي تحكم الدول والمنظمات الاجتماعية أو “الجهات الفاعلة ما دون الدولة”، وحاجة الدول إلى نسج علاقات مهمة مع هذه الجهات لتحقيق أكبر مصلحة ممكنة عبر توازن القوة والضغط على الجهة المناوئة أو الاستفادة من العلاقة لدفع التهديد المحتمل، وهذا أحد أهم مكامن “النظرية الواقعية الجديدة أو الواقعية الهجومية”[3]، التي تسلكها روسيا في سياساتها التوسعية منذ حرب القرم عام 2014.[4]

ثانيًا: مصلحة روسيا في المشاغبة أو حتى تخريب أي مشروع “إسرائيلي” لتعويض الغاز الروسي في أوروبا، ومنذ الحرب الروسية في أوكرانيا، تنظر تل أبيب إلى القطيعة الأوروبية لموسكو،  كفرصة لاستبدال الغاز الروسي بالغاز “الإسرائيلي”، مع التأكيد في عدة مواقف أن تل أبيب بإمكانها تعويض الفجوة من صادرات الغاز إلى أوروبا في غضون سنوات معدودة، إذ تسعى أوروبا إلى الاستفادة من الغاز “الإسرائيلي” للهروب من الابتزاز الممارس من قبل الروس عبر تصديره إلى مصر، ومن ثم إسالته من خلال شركات ومنشآت ضخمة ستشيدها على الأراضي المصرية؛ لتسهيل عملية التصدير إلى أوروبا، مما يفتح فرصًا استثمارية ضخمة وآفاق أكبر من التعاون ما بين الاحتلال ومصر وأوروبا في السنوات القليلة المقبلة.

يمكن قراءة الحاجة الأوروبية العاجلة للغاز “الإسرائيلي”، جنبًا إلى جنب مع المسعى الأمريكي لتقويض صادرات روسيا من الطاقة، من الدبلوماسية المكوكية التي تمارسها الولايات المتحدة حول حقل “كاريش” المتنازع عليه بين لبنان و”إسرائيل”، إذ زار المبعوث الأمريكي “آموس هوكستين” المنطقة عدة مرات وعبر عن “تفاؤله” بالتوصل إلى اتفاق وشيك حول ترسيم الحدود البحرية بين الجانبين.[5]، ويمكن فهم مدى حرص الولايات المتحدة على حلحلة هذا الملف من خلال ما نقله موقع “أكسيوس” الأميركي عن مسؤول في البيت الأبيض قال إن “حل النزاع البحري بين “إسرائيل” ولبنان يمثل أولوية رئيسة لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن”.

تقدم حركة حماس نفسها على أنها الرافض الأبرز لأي مشاريع تعاون في مجال الطاقة على المستوى الإقليمي؛ لما تراه الحركة أن الغاز هو مسروق من قبل الاحتلال، وأن الأخير يحرم الشعب الفلسطيني من الاستفادة من ثرواته، ناهيك عن محاولات الجناح العسكري لحركة حماس، كتائب القسام، استهداف منصات غاز “إسرائيلية” خلال الحرب “الإسرائيلية” صيف عام 2021 ، أو ما يعرف فلسطينيًا بحرب “سيف القدس”، وصحيح أنها كانت مجرد محاولات ولم تؤدي إلى خسائر مادية جسيمة في منصات الغاز، ولكن مثل هذه المحاولات تشكل مصدر قلق لصانع القرار في “إسرائيل”، الذي يخشى من امتلاك حماس لصواريخ أكثر دقة تؤثر بشكل جدي على مشروعها في أن تكون بديلًا محتملًا للغاز الروسي في القارة العجوز، ومن المهم الإشارة إلى أن زيارة وفد حماس إلى روسيا، رافقها مسيرات احتجاجية في غزة تطالب بحق الشعب الفلسطيني في الغاز في الحقول المقابلة لقطاع غزة.

ثالثًا: تطرح حماس نفسها على القيادة الروسية، كونها قوة ناعمة ولها حضور وتأثير كبير في العالم الإسلامي بشكل عام والجمهوريات المسلمة في روسيا الاتحادية على وجه الخصوص، إذ تعتبر موسكو أن الجمهوريات المسلمة وشعوبها في الداخل الروسي؛ هم بمثابة حلقة وصل بينها وبين العالم الإسلامي، وهي بذلك حصلت على صفة عضو مراقب في منظمة التعاون الإسلامي منذ 2005، وهذا ما يبدو أن روسيا قد قرأته من خلال تسهيل عقد لقاءات بين وفد حركة حماس، وزعماء جمهوريات مسلمة في الاتحاد الروسي، وهذا يحدث لأول مرة في تاريخ العلاقات بين الجانبين، إذ اجتمع وفد حماس مع زعيم جمهورية تتارستان السيد “رستم مينيخانوف”، وهنأه هنية  بمناسبة مرور 1100 عام على اعتناق شعوب بولغار الفولغا الإسلام، وحصول مدينة قازان الواقعة في تتارستان على لقب عاصمة الشباب الإسلامي للعام الحالي،[6] وأيضًا، تقدم حماس نفسها كونها حركة لها حضور كبير بين شعوب العالم الإسلامي، الكارهة لسياسات الولايات المتحدة الداعمة ل”إسرائيل” والمتضررة من النظام العالمي أحادي القطب، الذي جعل “إسرائيل” تتوغل في انتهاك حقوق الفلسطينيين دون مساءلة أو محاسبة، وذلك قد يخدم روسيا في الاستفادة من استراتيجيتها المرسومة ل “عالم ما بعد حرب أوكرانيا” أو عالم متعدد أو ثنائي الأقطاب، في حال صدقت الدراسات والتوقعات الروسية لمآلات الحرب وحصدت ما تصبو إليه من ثمار.

الخلاصة

هناك مجموعة من المصالح الجيوبوليتيكية التي تكشَّفت منذ الحرب الروسية الأوكرانية، والتي قد تدفع روسيا إلى تعزيز علاقاتها بحركة حماس، ظهر ذلك عبر ترتيب زيارات لوفدين رفيعي المستوى من الحركة في غضون فترة وجيزة، وأهمها أن روسيا يمكنها الاستفادة من حماس كونها لاعب مهم في الساحة الفلسطينية، وسط عدد من الأزمات التي اندلعت بين روسيا و”إسرائيل” منذ الحرب الأوكرانية، وعلى وقع الضربات “الإسرائيلية” المتكررة للحليف السوري. بالإضافة إلى ذلك، تقدم حماس نفسها كونها جهة رافضة لمخططات “إسرائيل” في إنشاء مشاريع إقليمية ضخمة، تسعى خلالها لتكون بديلًا محتملًا للطاقة القادمة من روسيا لأوروبا، دون اعتبار للمصالح الفلسطينية، ويضاف كذلك إلى أن حماس، بقوتها الناعمة في الإقليم وداخل عدد كبير من دول العالم الإسلامي، قد تخدم روسيا في عالم ما بعد “حرب أوكرانيا” التي تسعى روسيا لتثبيته منذ عام 2014.


[1]  كاتب وباحث فلسطيني، يحمل درجة الدكتوراة في العلاقات الدولية.

[2]  تصريحات لافروف عن سوريا.. الفجوة تتسع بين روسيا وإسرائيل، الحرة.

[3]  مدرسة منبثقة عن المدرسة الواقعية الكلاسيكية في العلاقات الدولية، من أهم منظريها كينيث والتز صاحب كتاب “نظرية السياسة الدولية” وجون ميرشايمر صاحب أفكار “المدرسة الواقعية الهجومية”. تفترض الواقعية الجديدة أنّ الدول يجب عليها أن ترسم سياستها على أسوأ الافتراضات، وتتوقع الخطر دائمًا، لذلك يسعى أصحاب هذه المدرسة لنسج التحالفات الدولية بشكل مستمر وتحفيز القوى الرادعة تحسبًا لأي خطر محتمل.

[4] Jacek Wieclawski, Contemporary Realism and the Foreign Policy of the Russian Federation.

[5] EU signs gas deal with Israel, Egypt in bid to ditch Russia, Al Jazeera.

[6] هنية ووفد قيادة حماس يلتقون رئيس جمهورية تتارستان الروسية، صحيفة فلسطين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى