المشهد الفلسطيني

تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على فلسطين

عرفات الحاج

أحدثت ما أسمته روسيا بـ”العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا، موجة من التطورات المؤثرة على كثير من السياقات، لا سيما الوضع الفلسطيني التي خلقت تداعيات له في العديد من جوانبه، بحسب ما تقدره كثير من القراءات، إذ تخضع توازنات الصراع الفلسطيني “الإسرائيلي” لمعادلات النظام الدولي، فمنذ انتهاء الحرب الباردة وانفراد الولايات المتحدة بالهيمنة على النظام الدولي، باتت الأخيرة المتحكم الرئيس في ملف الصراع/ التسوية، كما تلعب دور اساسي في تشكيل السياسات الدولية تجاه الفلسطينيين.

إن اقتصار قراءة التأثير المحتمل للأزمة الروسية-الأوكرانية على الوضع الفلسطيني على احتمالية حدوث تغير شامل في النظام الدولي، يحصر القراءة الفلسطينية لهذه الأزمة وتداعياتها في الرهان على حدوث تطور استراتيجي يخلق نظام دولي أكثر توازنُا واستجابة للتطلعات الفلسطينية والعربية عمومًا، وقد تكون مباعث هذه القراءات -المتفائلة- مفهومة في ضوء العامل التاريخي، الذي يستعيد ذاكرة الحرب الباردة، خصوصًا أن الأزمة تجري على تلك التخوم بين حلف الناتو وروسيا الاتحادية، وريث الاتحاد السوفياتي،  إلا أن الحكم بحدوث تحول دولي بهذا الحجم حاليًا لا زال مبكرًا، كما أنه يحمل تأثيرًا إشكاليًا بربطه الموقف بالحدث، وقراءة التداعيات المحتملة على فلسطين، بمعادلة لا يستطيع الفلسطينيون التحكم بها، ناهيك عن ضعف صحة هذه التنبؤات، وكون هذه المقاربة تغفل جملةً من التداعيات الأخرى على الفلسطينيين، أكثر احتمالية وواقعية، ترتبط بطبيعة الأزمة والأدوار المباشرة لأطرافها، تجاه الصراع الفلسطيني “الإسرائيلي”.

إنًّ ما مثلته الحرب من أزمة دولية، فإنها تعدُّ أزمة أوروبية تقع أحداثها وتداعياتها الرئيسة على القارة الأوروبية ودولها، وقد أفرزت بالفعل جملة من التحولات الفارقة بشأن واقع الدول الأوروبية وسياساتها، أبرزها ما أحدثته من تغير في أولويات الدول الأوروبية، وتقلص هامش المناورة والاستقلالية النسبية لهذه الدول في نسج سياسات مستقلة عن الحليف الأمريكي، سواء في الحيز الأوروبي ذاته، أو في إطار سياساتها وتوجهاتها في ملفات خارج القارة الأوروبية، مثل الملف الفلسطيني، وهذا من شأنه إحداث ارتدادات على الوضع الفلسطيني؛ إذ يلعب الاتحاد الأوروبي في إطاره العام، كما العديد من دوله الرئيسة، أدوارًا أساسية تتعلق بالوضع الفلسطيني، بل وبتشكيل بنية النظام السياسي الفلسطيني ومواقفه، حيث شكل الاتحاد الأوروبي بدوله الرئيسة الداعم الأبرز -المتبقي- لمشروع حل الدولتين خلال السنوات الأخيرة، وكذلك لعب دور محوريًا في تمويل السلطة الفلسطينية، وبناء سياساتها وهياكلها، ارتباطًا بهذا التمويل والرؤية السياسية.

في فهم الأزمة “روسيا الإقليمية”:

يمكن النظر لتأثير الأزمة على السياسات الأوروبية، بما فيها تلك المتعلقة بفلسطين وقضيتها، من خلال قراءة موضع روسيا فيما يمكن تسميته بمسار “الاستقلالية النسبية” في هذه السياسات عن التوجهات الأمريكية، أعقاب نهاية الحرب الباردة، هذه الاستقلالية الأوروبية التي نشأت في ظل تزايد الهيمنة الأمريكية الأحادية على النظام العالمي، وشملت بناء جدول أولويات أوروبي مختلف عما سبقه، حيث لم تعد مواجهة “الخطر السوفياتي” أولويته الأولى، وبات فيه التغيير في وزن روسيا وتطلعاتها عاملًا مؤثرًا،

فمنذ انهيار الاتحاد السوفياتي، عانت الدولة الروسية للحفاظ على تماسكها، ومواجهة أزماتها الاقتصادية،  وإحياء بعض من دورها على الساحة الدولية، وإبقاء الدول المتاخمة لحدودها في خانة نفوذها بشكل أكثر محورية، ومنع انضمامها لحلف الناتو، أو وصول حكومات مناوئة لروسيا لسدة الحكم في هذه الدول، ولقد خلق هذا الوضع أرضية لبناء علاقات مختلفة بين روسيا والدول الأوروبية الرئيسة، حيث تحررت دول أوروبا الغربية من مخاوف “التمدد الشيوعي”، والاجتياح السوفياتي والحرب النووية، ما دفع بعضها لانتهاج مقاربات سياسية مختلفة تجاه روسيا، سعت إلى خفض وتيرة التوتر معها، وإنتاج تفاهمات تكفل المصالح المشتركة للطرفين، بحيث تلعب روسيا دور المصدر الموثوق للغاز لأوروبا، وتتفهم أوروبا الاحتياجات الأمنية لروسيا ومخاوفها من تمدد حلف الناتو شرقًا نحو حدودها، ومن مشروع الدرع الصاروخي الذي ترى أنه يقلص قدرتها الردعية تجاه الولايات المتحدة، ويشكل خطراً عليها.

تحركت أوروبا على أنها فاعل مستقل نسبيًا عن الرؤية الأمريكية، ومضت باتجاه إنتاج سياساتها الخاصة في ملفات دولية هامة، كان من بينها القضية الفلسطينية، وملف العلاقات مع تركيا في ظل الأزمة الأمريكية التركية، وفي ظل نوع من التعايش مع روسيا،  أبدت فيه مقاومة لمطالب الحليف الأمريكي حول زيادة الإنفاق العسكري للدول الأوروبية، ورفع عدد وقدرات جيوشها، وأعطت فيه الأولوية للنمو الاقتصادي، وقدرتها التنافسية في الأسواق العالمية، الذي مثّل الغاز الروسي مورد مهم له، وجاء الاتفاق على تدشين خطنورد ستريم ٢” لزيادة إمداد أوروبا بالغاز الروسي، أحد العناوين التي عارضتها الولايات المتحدة،

وقد كفل هذا الوضع منفعة متبادلة لكل ٍمن روسيا والدول الأوروبية، فيما جاءت الأزمة الأوكرانية لتنهيه تقريبًا، وتعيد حشد أوروبا تحت مظلة الحماية العسكرية الأمريكية، حيث أرسلت الولايات المتحدة ٧ آلاف جندي إضافي إلى ألمانيا، وطائرات مقاتلة وجنود إضافيين لبولندا ورومانيا ودول البلطيق، وفي الوقت الذي أعلنت فيه روسيا عن حملتها العسكرية في أوكرانيا؛ تأكيدًا على حمايتها/ هيمنتها لحلفائها في الناتو، وهو ما ركز عليه الرئيس الأمريكي جو بايدن في تصريحاته المتكررة حول ما أنتجته الأزمة من تأكيد على وحدة حلف الناتو.

تشير مؤشرات عدة إلى تحولات في السياسة الأوروبية على وقع الحرب الروسية ضد أوكرانيا، شكلت في معظمها استجابة لمطالب أمريكية سابقة، حيث أعلنت ألمانيا تخصيص ١٠٠ مليار دولار كموازنة إضافية لزيادة قدراتها العسكرية، وتوافقت الدول الأوروبية على تشكيل قوة عسكرية مشتركة للاستجابة العاجلة، وانضمت معظم الدول الأوروبية لفرض عقوبات مشددة على روسيا، ما يعيد اصطفاف الطرفين لمواقع المواجهة ويقوض أرضية المصالح المشتركة، ويجعل أوروبا في وضع أكثر التصاقًا بمظلة الحماية الأمريكية.

يبدو انعكاس الأزمة على السياسات الأوروبية-المؤثرة في الوضع الفلسطيني- تبعًا لما تقدم فاعلًا بمسارات عدة، فمن جانب، تبدو الأولوية القصوى لهذه السياسات في المرحلة المقبلة هي رفع استعدادية القارّة لحماية أمنها، والتعامل مع التأثير السلبي للعقوبات على سلاسل توريد الطاقة والغذاء إلى أوروبا، ومن جانب آخر، عودة الثقل الأمريكي للهيمنة على السياسة الأوروبية بشكل أكبر.

 

فلسطين وأوروبا في سياق الأزمة:

إن الحديث عن “أزمة أوروبية” تعيد بناء وتشكيل سياسات دول القارّة،  يرتبط بكون الاتحاد الأوروبي فاعلًا أساسيًا بشأن السلطة الفلسطينية، ورغم أن المظهر الأساسي لسياسة الاتحاد الأوروبي ودوله الرئيسة تجاه الفلسطينيين، هو تقديم الدعم المالي للسلطة الفلسطينية، والذي قد يوحي بضآلة تأثير الدور الأوروبي المتعلق بفلسطين، إلا إن حقيقة هذا التأثير تبدو أعمق من ذلك، إذ يمكن الإشارة إلى الاتحاد باعتباره الداعم الأبرز لخيار حل الدولتين، في ظل انحسار تأييد الولايات المتحدة لهذا الخيار، خصوصًا في عهد إدارة دونالد ترامب، وأحد أكثر الأطراف محورية في تشكيل سياسات وبنية السلطة الفلسطينية، كما أن الاتحاد و بمساهمته المباشرة أو مساهمات دوله الرئيسة، قد أصبح المانح الأكبر للسلطة الفلسطينية في الأعوام الأخيرة، ومنذ إنشاء السلطة لعب الاتحاد الأوروبي دورًا أكثر محورية في تشكيل بنيتها البيروقراطية وجهازها الحكومي، خصوصًا في شقه المدني، في ظل استئثار الإدارة الأمريكية بالملفين الأمني والسياسي فيما يتعلق بالفلسطينيين، وفي هذا السياق  أشرف الأوروبيون بشكل مباشر أو شبه مباشر على تشكيل البنى القانونية للسلطة الفلسطينية عبر العديد من المشاريع، وكذلك في الإشراف على إعادة تشكيل بنية القطاع المالي للسلطة، والرقابة على موازنتها العامة، ولا زالت الرقابة الأوروبية محورية في تشكيل سياسات قطاع التعليم وتحديد المناهج الدراسية، كما خضع الجهاز الشرطي لإشراف أوروبي بشأن إعادة هيكلته، خصوصًا بعد العام ٢٠٠٧.

خلال السنوات الماضية، وفي ظل توجه الولايات المتحدة لفرض رؤيتها لتسوية شرق أوسطية، تتجاوز المطالب الفلسطينية الرسمية لحد كبير، وتتبنى بناء تحالف شرق أوسطي بين عدد من الدول العربية و”إسرائيل”، بحسب ما نصت “خطة السلام في الشرق الاوسط”حسب مسماها الرسمي أو “صفقة القرن” حسب الاسم المتداول إعلاميا، بدت الدول الأوروبية أكثر اهتمامًا بالإبقاء على السلطة الفلسطينية في مرحلة الأزمة بينها وبين الإدارة الأمريكية، والتي اشتملت على قطع للمساعدات الأمريكية عن السلطة الفلسطينية، وفي تلك المرحلة بين عامي  2017 و2020، دفع الاتحاد الأوروبي من موازنته أو دول أعضاء فيه نحو 2.3 مليار يورو مساعدات مباشرة إلى السلطة الفلسطينية، أو على شاكلة مشاريع نفذت في مناطقها، كما حافظت معظم الدول الأوروبية على موقف ناقد للتوسع الاستيطاني “الإسرائيلي”.

إنّ ما تنتجه الأزمة الأوكرانية من قائمة لأولويات أوروبية مختلفة، على المستوى السياسي كما هو على المستوى المالي، تعني إمكانية تراجع الدعم الأوروبي للسلطة الفلسطينية، والحديث هنا عن طرف يواكب عن كثب خلال السنوات الاخيرة عمليات إنعاش السلطة، ويلعب أدوار بالمعنى اليومي في الإبقاء عليها.

يتضافر تأثير الأزمة الروسية-الأوكرانية على الأولويات الأوروبية، وعودة الهيمنة الأمريكية على سياسات الدول الأوروبية بشكل أكبر، في تعزيز احتمالية انزياح مواقفها فيما يتعلق بالشأن الفلسطيني لمساحات أقرب للموقف والسياسة الأمريكية، مع عوامل متجذرة في بناء هذه السياسات، فغالبًا لم تسعَ السياسة الأوروبية لدور مبادر لإنفاذ حل الدولتين، أو للصدام مع الرؤى والمساعي الأمريكية والسياسات “الإسرائيلية” لتجاوزه، ورفضت معظم الدول الأوروبية أو أجلت اعترافها بالدولة الفلسطينية،  وشاركت بعض الدول الأوروبية الرئيسية في المحطات الخاصة بالإعلان عن صفقة القرن، وإن كانت مشاركتها بتمثيل منخفض، إذ تعلن المواقف الأوروبية الرئيسية أن ضمان أمن “إسرائيل” أولوية رئيسة في تعاملها مع هذا الملف، وفي جوهره كان الدعم الأوروبي لـ”حل الدولتين” ليس دعمًا موجهًا للمطالب الفلسطينية الرسمية بشأن هذا الحل، بقدر اعتباره إطار سياسي مقبول أوروبيًا يضمن أمن إسرائيل“، وتعتبر أن طريق تحقيقه لا يتأتى إلا عبر القبول “الإسرائيلي” به من خلال عملية المفاوضات، وهو ما يجعل هذه السياسات مرشحة للإزاحة، خصوصًا أن دور إنعاش السلطة أو الإبقاء عليها كيانًا خاضعًا للهيمنة “الإسرائيلية” دون أفق سياسي قد يكون قابلاً للاستمرار والتعايش مع الرؤية الأمريكية للوضع الفلسطيني والدور الأوروبي بشأن فلسطين، أو بالحد الأدنى لانخراطٍ أقل في الأدوار المعهودة تجاه السلطة الفلسطينية، وحراسة ما تبقى من “إرث مساعي حل الدولتين”،  خصوصًا أن هذا المسار يتداعى بالفعل في ظل السياسات “الإسرائيلية” لتقويضه، وفقدان معظم الفلسطينيين للقناعة به، وقوة الدفع الأمريكي باتجاه تجاوزه نحو بناء تحالف إقليمي ذا دور أمني، بعبارة أخرى قد تكون أوروبا المنخرطة بشكل أكبر في الناتو في مواجهة روسيا، أقل ميلًا لإعاقة ترتيبات بناء ناتو شرق أوسطي سيواجه أيضا حلفاء لروسيا أو خصوم للولايات المتحدة.

إن التأثير المحتمل لا يتعلق بشكل أساسي باحتمالية سحب التمويل الأوروبي للسلطة، ولكن في إعادة تدوير هذا التمويل على نحو أكثر مواءمة للرؤية الأمريكية، وأيضا لواقع إخفاقات السلطة الفلسطينية، وضعف قدرتها على تمثيل الفلسطينيين، ووجود ملامح لأزمة متعددة الجوانب في العلاقة بين السلطة وداعميها الأوروبيين، تتمحور حول الحرج الذي يسببه استمرار تعطيل الانتخابات الفلسطينية التشريعية والرئاسية، وتورط السلطة الفلسطينية في تصفية واعتقال معارضيها والتنكيل بهم، هذا بخلاف وجود وجه آخر للأزمة، يتمثل في تأخير صرف معظم التمويل الأوروبي للسلطة ما بعد العام ٢٠٢٠ وهو ما تعزوه مصادر عدة لاشتراطات فرضها الاتحاد الأوروبي على السلطة بشأن تعديل المناهج الدراسية التي يتبنى الاتحاد شكاوى “إسرائيلية” بشأن محتواها.

إن تحولات السياسة الأوروبية مرشحة للتأثير على مسارات أخرى للفلسطينيين، إذا كان ما سبق يتعلق بتأثير الأزمة على سياسة أوروبا الخارجية تجاه السلطة الفلسطينية؛ فخلال العقود الأخيرة شكلت أوروبا أرضية خصبة للنشاط التضامني مع القضية الفلسطينية، وأيضًا لنخب فلسطينية تقدم مقولات ورؤى سياسية متعددة، حاول معظمها المواءمة بين القانون الدولي وتوازنات السياسة الأوروبية ومطالب الفلسطينيين، وما ساعد في زيادة وزنها فلسطينيًا، التصاعد في أنشطة الحالة التضامنية مع فلسطين خلال السنوات الأخيرة، ومنحها القدرة على إعطاء ثقل إضافي للرؤى السياسية التي تقدمها في أي نقاش حول بناء بدائل أو سياسات فلسطينية جديدة.

تمثل استعادة أجواء الحرب الباردة في معظم الدول الأوروبية، وموجة التعبئة في ظل هيمنة الخوف على المجتمعات الأوروبية، بيئةً خصبةً للتضييق على تلك القوى المناهضة للحروب والمتضامنة تقليديًا مع الفلسطينيين، وبجانب ما يمثله ذلك من تأثير على النشاط الفلسطيني والتضامني مع فلسطين في أوروبا، فإنه قد يشكل متغيرًا في العملية السياسية الفلسطينية؛ فالقوى والأصوات الفلسطينية المعبرة عن هذه الحالة قد تكون أقل وزنًا مما سبق فيما يتعلق بالنقاش حول البدائل الفلسطينية.

يعزز ما سبق التأثير القائم بالفعل للمطالب الأمنية والسياسيةالإسرائيليةعلى السياسات الأوروبية بشأن النشاط الفلسطيني، أو المتضامن مع فلسطين على أراضيها، إذ اتجهت ألمانيا نحو اعتبار حركة المقاطعة “بي دي اس” شكل من أشكال معاداة السامية، وقامت مؤسسات إعلامية عامة فيها بفصل موظفين عرب على خلفية موقفهم من الاحتلال “الإسرائيلي”،  وشرعت سلطاتها الأمنية كما السلطات في فرنسا والنمسا، في حملات أمنية موجهة ضد المؤسسات الفلسطينية، ومجموعات تضامنية نشطة على أراضيها، كما ذهبت العديد من الدول الأوروبية لوضع حركات المقاومة الفلسطينية على قوائم الإرهاب الخاصة بها، وتعول هذه المجموعات والمؤسسات على الرأي العام والقوانين في مقارعة الإجراءات الأمنية الموجهة ضدها، فإن هذا الرأي العام قد بات بالفعل أكثر انشغالاً وتحشيداً نحو مواقف تتعلق بمخاوفه، كما أن القرارات المتعلقة بالعقوبات ضد روسيا قد فتحت الباب واسعًا أمام تقييد كبير لحرية التعبير، وخلقت أرضية لمزيد من التوسع في السياسات والإجراءات المتذرعة بالأسباب الأمنية.

 

الخاتمة:

إن تأثير الأزمة الأوكرانية- الروسية على الوضع الفلسطيني لا يرتبط بالضرورة بحدوث تحول في النظام الدولي، أو تغيّر حاد في موازين القوى الدولية، وهي تطورات يبدو من المبكر الحكم بشأنها في هذه المرحلة، ولكن يرتبط بالأساس بالسياسات الأوروبية المؤثرة على الوضع الفلسطيني، والمرشحة للتغير في ظل ما تحدثه الأزمة من تغيير في مدخلات صناعة هذه السياسات، خصوصًا لجهة زيادة ثقل التأثير الأمريكي على السياسات الأوروبية.

إن أي من سيناريوهات التحول أو التغير في السياسات الأوروبية تجاه القضية الفلسطينية، يكتسب ثقله الأساسي  على الحالة الفلسطينية من عمق ارتباط السلطة الفلسطينية بالدعم الأوروبي سياسيًا وماليًا، وكذلك من الحقائق التي تؤكد تراجع أي أفق لمشروع السلطة السياسي، و لمشروع التسوية وحل الدولتين، وسواء تراجع الدعم الأوروبي لهذا الحل، أو تراجع الوزن الأوروبي وقيمة دعمه وموقفه بشأن الوضع الفلسطيني، أو خضوع الموقف الأوروبي جزئيًا أو كليًا للتوجهات الأمريكية بشأن فلسطين، فإن هذا يعني تراجعًا في دور آخر الداعمين النشطين لحل الدولتين، وتزايد للاعتبارات التي تدعو لسحبه عن الطاولة الفلسطينية.

يعدُّ الدور والموقف الأوروبي بالنسبة لفلسطين، صانعًا للسياسات والمواقف الفلسطينية الرسمية، وليس داعمًا لها فحسب، وقد لعبت السياسات الأوروبية تجاه الفلسطينيين دورًا مهيمنًا، ساهم في تقييد الإرادة الشعبية الفلسطينية؛ حيث لعب الاتحاد دورًا نشطًا في حصار نتائج الانتخابات الفلسطينية، ودعم باستمرار اختزال تمثيل الفلسطينيين بالسلطة الفلسطينية، أي أن التغييرات في السياسات الأوروبية، وثقل واتجاهات دعمها، لن يقتصر تأثيرها على الصراع بين الفلسطينيين والاحتلال “الإسرائيلي”، بل وعلى توازنات الكتل والمواقف السياسية الفلسطينية، وما قد يمثله تراجع الدعم الأوروبي لروافع مشروع التسوية على أساس حل الدولتين، أو لدور السلطة كونها جسم فلسطيني يدير حياة السكان بشروط الاحتلال، ويختزل تمثيل الفلسطينيين، بقدر ما هو تهديد لواقع هذه السلطة، وكذلك المتشبثين بآمال التسوية، أو المؤمنين عمومًا بإمكانية تحقق حل الدولتين، فإنه قد يمثل أرضية لبناء موقف فلسطيني مختلف بالنسبة لكتل فلسطينية أخرى.

 

المراجع:

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى