مقالاتشؤون إسرائيلية

المنطلقات الأيديولوجيّة والفكريّة لحركة “جباية الثمن” اليهوديّة “تاغ محير”

شهد الكيان الإسرائيلي خلال العقود الأربعة الماضية، وما يزال، حالة من التحوّل الفكري والأيديولوجي على المستويين الرسمي والشعبي. فالتغيرات السياسيّة التي حصلت في قمّة الهرم الحاكم، لعبت دورًا محوريًّا في ظهور النزعة الفكريّة الجديدة، والميل نحو التطرّف داخل المجتمع الإسرائيلي.

شجّع هذا التحوّل ظهور حركات وجماعات، وحتى أفراد، يحملون أفكارًا صارخة الّلون والطرح، ويرفعون شعارات كانت الحكومات الإسرائيلية السابقة غير معنيّة برفعها، إلى حين التمكين لهذا الكيان في الإقليم، وهذا ما كان يُستشف من تصريحات كبار قادتهم السابقين. 

كان لتغيير القيادة السياسيّة، أي انتقال السلطة من المعسكر الصهيوني الاشتراكي العلماني إلى المعسكر اليميني المتطرّف، بالغ الأثر في ميل المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين، والعودة إلى التمسّك بالعامل الديني كوسيلة سهلة لإثبات ما يدّعونه من حق في فلسطين. فوصول حزب الليكود المتطرف عام 1977 إلى رئاسة الحكومة بعد فوزه في الانتخابات على حزب العمل، جعل من الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة إلى اليوم، وَكْرًا وملاذًا للمتطرّفين اليهود، وحاضنة للمشاريع العنصريّة، وبوقًا إعلاميًّا ضد الفلسطينيين. 

يعاني المجتمع الإسرائيلي اليوم شرخًا عميقًا في نسيجه العام، وعلى جميع المستويات الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة، خاصّة بعد تنامي ظاهرة التطرّف الفكري والعقائدي والأيديولوجي وحتى السياسي، والأخطر من ذلك كله تركيبة الحكومة الإسرائيلية اليمينيّة نفسها، الداعمة للتطرّف والتغوّل في مواقفها تجاه الشعب الفلسطيني، والحاضنة لهؤلاء العنصريين، بالمال والإعلام والخدمات. 
إن موقف السلطات الإسرائيلية غير الجدي في التصدي لمثل هذه الحركات المتطرّفة، دفع الأخيرين إلى بلورة تصوّر خاص، ورؤية أخرى، تحرّض على إسقاط السلطة الإسرائيلية، وإقامة دولة يهودية دينية في الضفة الغربية المحتلة، بل والتحريض على قلب نظام الحكم.  

أنتج هذا التطرّف الفكري في أوساط المجتمع الإسرائيلي، توليفة من الجماعات والحركات اليمينيّة والفاشيّة، مسلّحة بما تربّى عليه أفرادها في المدارس الدينيّة، والدروس الأسبوعيّة، والمناهج العنصريّة، وما يروّج له وزراء وأعضاء كنيست وقادة دينيون، من أفكار ومشاريع عدوانيّة ولا إنسانيّة ضد الآخر الفلسطيني، بل أحيانًا ضد الآخر اليهودي العلماني أو اليساري.

نشطت هذه الحركات التي تغذّت بالفكر الديني المتطرّف، والغطاء السياسي العنصري الداعم لها، ولو بشكل غير مباشر أو معلن، ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية والداخل الفلسطيني، أي فلسطين المحتلة عام 1948، مرّة بالقتل، وأخرى بإتلاف المحاصيل الزراعيّة والممتلكات الخاصّة، وأخيرًا بالاعتداء على المقدسات الإسلاميّة والمسيحيّة بالحرق والتدنيس، ناهيك عن الشعارات العنصريّة التي يكتبونها على الجدران. 

تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن حركة "جباية الثمن" هذه تأسّست واعتمدت على ما يلي:

  1. مبادرة من قيادة المستوطنين في إطار نشاطات وفعاليات لجان المستوطنين، فيما يطلقون عليها مناطق شمرون وبنيامين (شمرون: منطقة نابلس، وبنيامين: المناطق الواقعة من جبال القدس الشمالية مرورًا برام الله حتى تصل جنوبي نابلس).
  2. تمويل هذه الحركة من قبل المجالس المحليّة التابعة للمنطقتين المذكورتين، أي من أموال الدولة، وبملايين الشواكل.
  3. دعْم أعضاء كنيست من اليمين، وبصورة واضحة، لأعمال الحركة المتطرّفة، وإعاقة إخلاء بؤر استيطانية غير قانونية، وتسريب معلومات عن أوامر اعتقالات للمشاغبين منهم (عيدان، 2015).

الخلفيّة الأيديولوجية والفكريّة لحركة "جباية الثمن"

حركة جباية الثمن هي حركة إرهابيّة، تعمل، وما تزال، ليل نهار ضد الفلسطينيين في الضفة الغربيّة والداخل الفلسطيني. يقيّمها بعض الإسرائيليين، رغم كل ما حصل، بأن أنصارها يحملون رؤية بسيطة جدًا وغير معقّدة، لخّصها أحد مستوطني يتسهار بقوله: "لقد حان الوقت ليكون من بيننا أيضًا مجانين، ومن يصعب السيطرة عليهم، وأعمالهم غير طبيعية، حتى يستنتج العرب والجيش أنه من الأفضل عدم التعامل معهم. سيؤدي هذا إلى عودة النظام مجددًا، بحيث يصل الفلسطينيون والجيش إلى إعادة حساباتهم مرتين قبل المس بنا". 

ورغم أن السلطات الإسرائيلية تدّعي أن حركة جباية الثمن تعمل بشكل فردي، وأنه لا يقف خلفها جسم ما، إلا أن الأدلة تشير إلى عكس ذلك تمامًا (وهذا ما سيتم بيانه لاحقًا). فالحديث يدور عن أكثر من 3000 شاب أعضاء فيها ممّن يعرفون بشباب التلال، وهم من مستوطنات ذات أيديولوجية دينيّة متزمّتة، من جنوب جبل الخليل ومنطقة رام الله، ممّن هم دائمًا مستعدون للتحرّك بهدف تنفيذ هجمات وأعمال إرهابية ضد أهداف فلسطينية.

وتصويبًا للموضوع، وبعيدًا عن رواية الأجهزة الأمنيّة الإسرائيلية، وأساليبها المداهنة للحركات المتطرّفة، ومنها "جباية الثمن" و"لهافا"، وغيرهما من حركات وتنظيمات يهودية إرهابية أخرى، فإن دراسة الموضوع بعمق أكثر، ستكشف حقيقة هذه الحركة الإرهابية، ومرجعيّتها، والفكر المغذّي لأنصارها، والأيديولوجية التي يؤمنون بها، كما هو مبين أدناه (موشيه، 2011).
 
التطرّف الديني ومشروع إقامة دولة دينيّة

ازدادت وتيرة التطرف الديني في المجتمع الإسرائيلي خلال العقود الأخيرة، كما أشير أعلاه، الأمر الذي أثّر كثيرًا على النسيج الاجتماعي الإسرائيلي، ليس على مستوى العلاقات العربية – اليهودية فقط، بل اليهودية – اليهودية أيضًا، حتى وصل إلى حدّ تصريح جماعات يهوديّة متطرّفة علانيّة بضرورة تغيير النظام في البلاد من علماني إلى ديني.

لم تقتصر أفعال حركة جباية الثمن على الأراضي المحتلة عام 1948 فقط، وإنما تخطّتها إلى داخل ما يسمى بالخط الأخضر. بل يرى بعض الباحثين أنه لا تقف خلف هذه الأعمال المتشابهة مجرد الصدفة، وإنما هناك أيديولوجية منظّمة، تنشر في صفحات الكتب علانيّة، وعبر مقالات ومواقع الشبكة العنكبوتية (غبيريه،غادي، 2011).

يقف خلف حركة جباية الثمن مجموعة يطلق عليهم "النواة الصلبة"، وهم من الشباب اليهود المتطرّف من جميع مناطق البلاد، هؤلاء المتطرّفون يتحفّظون على مبادئهم الأيديولوجية التي تربّوا عليها سابقًا، فتبنّوا أفكارًا وأيديولوجيّة أخرى مشتركة بينهم، معادية للصهيونيّة، ومتعصّبة. يسعوْن على حد قولهم، للقضاء على الدولة الصهيونية، وإقامة دولة دينيّة مقدّسة مكانها. وفي صميم أيديولوجيتهم تلمس الرغبة في استهداف نقاط الضعف الخاصّة بالمجتمع الإسرائيلي، من خلال تهجير الغرباء، وإشعال فتيل الصراع حول المسجد الأقصى، بهدف خلق فوضى والإطاحة بنظام الحكم، أو "القضاء على دولة الصهاينة، وإقامة مملكة مكانها" (يحزقيلي، 2015).  

أخذت مظاهر التغيير هذه بالظهور بشكل بارز منذ السبعينيات، فازدادت الكراهيّة والأعمال العدوانيّة ضد العرب الفلسطينيين، كما ازداد أيضًا عدد من يضعون القبعات الدينية على رؤوسهم. ورغم أن من جملة وصايا التوراة "لا تقتل"، إلا أن الكثيرين منهم قتلوا باسم الدين. فـ "إيغال عمير"، قاتل إسحق رابين، كان قد صرح مباشرة بعد اعتقاله خلال تحقيق الشرطة معه: "كل ما فعلته ما كنت لأفعله لولا مسؤوليّتي الدينيّة للدفاع عن الشعب الإسرائيلي"، وأضاف في نفس التحقيق بأن ما يقوله هو يقوله أيضًا الكثير من الحاخامات (رجال الدين اليهود). (تسبي،أساف، 2015)

وهذا ما أكده "يهودا عصيون"، عضو المنظمة اليهودية المتطرّفة في ثمانينيات القرن الماضي، عندما قال بأن "ما قام به ضروري لتغيير الوضع القائم المُنافي لرغبة الرب". (تسبي،أساف، 2015)

أما عند سؤال "ياردين موراغ"، من مستوطنة "بات عاين"، عن سبب وضعه عربة ملغومة في مدخل مدرسة عربيّة للبنات، في شرقي القدس في شهر نيسان/ إبريل 2002، فأجاب بكل بساطة: "شعرت بأن هذا ما يريده الله مني". (تسبي،أساف، 2015)

لقد أعطت مجموعات من اليهود المتطرفين قيمة عليا للأيديولوجية الدينية، رغم موقف الشريعة اليهودية من القتل، وهذا ما أكّدت عليه "مالكة بيوتروكوفسكي"، في معرض حديثها عن عمليات العنف (الإرهاب اليهودي)، فقالت لمحاورها: "أتظن أني أفعل ذلك لمصلحتي الخاصة، أو للدفاع عن بيتي؟ هل أصبت بالجنون؟ أنا أحميك بهذا! .. عليّ إنقاذك من نفسك، فإذا تظاهرت ضدي سأعتدي عليك لأصحّحك، هل فهمت الآن كم هو خطير، عندما يتم الحديث عن الله…". (تسبي،أساف، 2015)

وأيضًا عبّر "تومر بارسيكو"، الباحث في الشؤون الدينية، وبكل وضوح، عن تأثير أعمال الجماعات اليهودية المتطرّفة على فكر وعقليّة اليهود، وكيف يدفعهم ذلك للعودة إلى الدين، فهو يرى أن مخططات تفجير قبة الصخرة والمسجد الأقصى، ما هي إلا محاولة لبعث الصحوة في نفوس اليهود، وهي صحوة الخلاص، لأن هذه الأعمال ستؤدي لا محالة إلى ردة فعل في الشارع العربي، على حد قوله، وسيتصدى لهم اليهود، وهذا في حدِّ ذاته صحوة دينيّة وعودة إلى الدين اليهودي، بل سيؤدي إلى الاستعداد للحرب الدينية. (تسبي،أساف، 2015) 

وفي الوقت الذي فقدت فيه الجماعات اليهودية المتطرّفة زعيمها "الراب كهانا"، ظهر على الساحة متطرّفون آخرون، أمثال الراب "يتسحاق غينزبورغ"، رئيس المدرسة الدينية "يوسف لا يزال حيا" في مستوطنة "يتسهار"، والناشط في مؤسسات توراتية أخرى، والذي يُعدُّ من المتمكنين في علم التوراة، والعلوم الدينية الأخرى والفلسفة، وقد أسّس حركة  ضمّت 3730 عضوًا باسم "طريق  الحياة"، حيث حدّدت هدفها تحت شعار "لنوحد الشعب اليهودي"، وذلك بهدف تغيير "إسرائيل" من دولة ديمقراطية إلى دولة ربانية (دينية). 

وفي كراسة بعنوان "نحو دولة يهودية"، نشرتها الحركة المذكورة بمناسبة ما يسمونه عيد الاستقلال الـ 66، عرضت الخطوط العريضة لهذا المشروع، وأُسس مملكة "إسرائيل" في مجالات الحكم، والأمن، والقانون، والعلاقة بغير اليهود، على أن تكون التوراة هي مرجعيّة الدولة، التي يرأسها ملك ومجلس ديني. والمهم في الأمر هو موقف هذه الحركة من غير اليهود، الذين تعتبرهم مفسدين في الأرض، ولذا يجب تحويلهم إلى مقيمين لا غير، وتشجيعهم على الهجرة لدول أخرى. أما على مستوى الأمن، فيجب الحكم عليهم حسب تعاليم التوراة، وكما ورد في آية "من جاء ليقتلك قم فاقتله" (تسبي،أساف، 2015)

جاء نشر كتاب "توراة الملك"، لمؤلّفيْه الراب "يوسف اليتسور"، و"يتسحاق شابيرا"، ليضع أشبه ما يكون بخارطة طريق لأولئك الذين يسموْن "شباب التلال"، من أبناء المستوطنين والمتطرفين. فقد أجاز الكتاب قتل غير اليهود، لأن وجودهم غير شرعي أصلاً، ولأنهم يُقْدمون، على حدِّ قول الكاتبيْن، على أعمال مخلّة بالوصايا السبع، ويشكّلون خطرًا على حياة الإسرائيليين. فهؤلاء يجب قتلهم حتى وإن كان بعضهم غير مذنب، أو لا دخل له بكل ما يحصل. يُذكر أن الكثير من الحاخامات اليهود من سكان المستوطنات، أيدوا ما ورد في الكتاب من تعاليم وشرائع تدعو إلى قتل العرب وإهدار دمائهم. (سنيور،ايلي، 2010)

لعب كتاب "توراة الملك" المذكور، دورًا ودافعًا مهمًّا لكبار حاخامات المستوطنين، للبدء بعملية أشبه ما تكون تمردًا على "دولة الاحتلال"، ونظامها المتّهم من قبلهم بالتواطؤ مع الأغيار، أي الفلسطينيين، فأخذوا يتزعّمون حركة شبابيّة من أبناء المستوطنين وغير المستوطنين ضد الدولة من ناحية، وضد الفلسطينيين العدو الرئيس من ناحية أخرى. وعلى رأس هؤلاء الحاخامات الراب "غينزبورغ"، الذي روّج لتلك الأفكار المتطرّفة، وغذّاها من خلال مواقفه المؤيدة للاعتداء على العرب، ومواجهة الجيش الإسرائيلي. لقد صبّ كل ذلك في صالح مواقف حركة جباية الثمن، وأنصارها من رافضي سياسات كيان الاحتلال، ضد الفلسطينيين (غبيريه،غادي، 2011) 

وعليه، فان العامل الأساس لرؤية أنصار حركة جباية الثمن، هو العامل الديني قبل كل شيء. فهو الدافع القوي لشباب التلال الذين هم أصلاً أبناء المستوطنين الأوائل، ومن أتباع التيار القومي الديني. فأتباع هذه الحركة تمرّدوا على الكثير من حاخاماتهم الأوائل، بل حتى آبائهم وذويهم، بحجّة فشل الأخيرين في الاختبار، وعدم تطبيقهم الشعارات التي رفعوها، ولا التعاليم التي ربّوا أتباعهم عليها، وعلى رأسها وحدة أرض "إسرائيل"، وأحقيّة الشعب اليهودي الكاملة في هذه الأرض، التي لا مكان للأغيار فيها. كما أنهم أيضًا حمّلوا الكيان الإسرائيلي المسؤولية الكاملة، ورأوْا بأن النظام الإسرائيلي قد فشل، وعليه فإنهم يدعون إلى إقامة دولة دينيّة تحكم بالتوراة.

السياسة الإسرائيلية الرسميّة وقضية المستوطنات

جاء وقع الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة وثلاث مستوطنات من شمالي الضفة الغربية عام 2005، قويًّا على جمهور المستوطنين، خاصة الشباب منهم، ممّن تربوا على أفكار ومبادئ أيديولوجيّة تمنحهم الحق الكامل على كل التراب الفلسطيني، الذي يطلقون عليه أرض "إسرائيل". 

علّق وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق "موشيه أرينس" على هذا الانسحاب، وعلى تأسيس حركة جباية الثمن، فكتب في مقال له: "لقد تركت خطة فك الارتباط (الانسحاب) جرحًا في نفوس من تم اقتلاعهم من بيوتهم، ممّن لا يزالون إلى اليوم دون سقف يأويهم، بل أيضًا في نفوس مئات الآلاف ممن عارضوا هذه العملية، وإن حركة جباية الثمن ظهرت على هامش ما حصل". (أرينس،موشيه، 2011)

ومن جهة أخرى، أُجريت عدّة أبحاث حول حالة التيار القومي المتدين في أوساط اليهود، خاصة مستوطني الأراضي المحتلة عام 67، وكان من بين النتائج التي توصلت إليها هذه الأبحاث أن الدولة تفقد شرعيتها في حال تنازلت عن مبدأ وحدة البلاد التي يسمونها أرض "إسرائيل"، حتى وإن وافقت الكنيست بأغلبية أعضائها على إخلاء مستوطنات، فإن ذلك لن يرضيهم، بل سيضطرهم للتصدي لقرار كهذا بكل ثمن، لأن الدولة التي تمس بسلامة الوطن ووحدته، ينتهي تمثيلها لرغبة الشعب، ولهذا فهي لا تفقد قدسيّتها فحسب، وإنما هم، أي المستوطنين، مجبرون شرعًا على مواجهتها، حتى وإن أدى الأمر إلى  حرب أهلية بين أبناء الشعب الإسرائيلي، وهذا ما يراه المستوطنون مشروعا عندهم. (روت،عينات)

يعتقد التيار القومي المتدين، الذي تنتمي إليه حركة جباية الثمن، أنه كلّما استمرت الدولة في منح فرصة تطبيق الأوامر الإلهية بالاستيطان في البلاد، فإنها تحفظ لها قداستها. والعكس لديهم صحيح، إذ إن الدولة ستفقد احترامها وقداستها وشرعيتها في حال تم تفكيك مستوطنات، أو مُنع الاستيطان.

ويرى الباحث "دون_ يحيى"، أنه في حال موافقة غالبية الشعب على قرار الحكومة إخلاء مستوطنات، فإن التيار القومي الديني سيحترم ذلك، وهذا ما حصل عندما انسحبت "إسرائيل" من سيناء، لكن الانسحاب من غزة لم يكن كذلك، وعليه تصدى المستوطنون للجيش الإسرائيلي حينها. 

لكن الواقع الحالي يختلف عما سلف، فالتيار الحالي، ومن جملته جباية الثمن، ليسوا ممن يلتزمون برأي الأغلبية، فهم يعتقدون أنه تم التغرير بهم من قبل الحاخامات والمربين، وحتى الأهل، ممن سوّقوا لهم أفكارًا، وزرعوا في عقولهم قناعات، سقطت على أرض الواقع العملي. وعليه، فلن يستسلم هؤلاء للدولة، ولا لقرارات الحكومة، بل سيتصدون للجيش بالقوة.

لم يظهر مصطلح جباية الثمن على يد جماعات تخريبية من المستوطنين ضد الفلسطينيين، بل ظهر تحت رعاية القانون، فموقف مجلس المستوطنات في الضفة الغربية تعامل مع إخلاء مستوطنات غزة بنوع من الحرْفيّة والمسؤولية الوطنية، كما يدّعي أتباع جباية الثمن. صحيح أنه أنقذ البلاد من صدام بين الدولة والمستوطنين، كما يرى بعض الباحثين الإسرائيليين، لكنه أوجد شرخًا كبيرًا في صفوف التيارات الوطنية الدينية، وتحديدًا فئة الشباب منهم.

إن شباب التيار الوطني المتدين اليوم، ومنهم أنصار حركة جباية الثمن، يختلف عن ذلك الجيل الذي اكتفى بالبكاء على أكتاف الجنود الإسرائيليين، الذين حضروا لإخلائهم من المستوطنات. إن هذا الجيل يرى أنه خُدع وتربى على أفكار ومبادئ وقناعات لم يلتزم بها آباؤهم، ولا حاخاماتهم، بل رضخ مجلس المستوطنات أيضًا لأوامر الحكومة، وأن مبدأ الاستيطان الذي أعلنوه نتاج العمل اليهودي والصهيوني، لم يصمد أمام الدولة، وأمام الاختبار. (طاؤوب،غادي، 2011)

وبناء عليه، أقدم المستوطنون فورًا بعد طردهم من قطاع غزة، على إيجاد طريقة عمل جديدة، أطلق عليها جهاز الأمن العام الإسرائيلي "تاغ محير"، أي جباية الثمن. بدأت هذه الحركة تعمل ضد الجيش الإسرائيلي، وقد طرحت نفسها طرفًا هدفه مساعدة المواطنين اليهود في الدولة، للتعامل مع عدم الشرعية التي تمارسها الدولة ضدهم، من خلال سلب حقوقهم الشرعية في الحرية والملكية. (عيدان، 2015).

عقد المستوطنون الذين أخلوْا مستوطنات غزة لقاءات مع الراب "يتسحاق غينزبورغ"، راب مستوطنة يتسهار، المعروف بتطرّفه وتزعّمه لعدد من الحركات الدينية المتزمته، ومن خلال تعليماته وتوجيهاته، تبلورت لديهم رؤية خاصّة تختلف عن تجربتهم في غزة. يقول عنهم غينزبورغ: شباب فقدوا الأمل في السلطة، وهم يشبّهون النظام الإسرائيلي بالنظام التركي والانتداب البريطاني، فهذه السلطة بالنسبة لهم أجنبيّة ولا تمثّل اليهود. وتتلخّص رؤيتهم في أن البلاد هي لليهود وحدهم فقط، وكل محاولة للمساواة بين اليهود والعرب أو مشاركتهم، مصيرها الفشل وستؤدي إلى تدهور الأوضاع.

وقد كشفت الناطقة باسم حركة جباية الثمن في مقابلة معها، أن حركتها لم تأت لاستبدال الجيش الإسرائيلي، بل للاحتجاج على السلطة القائمة، وإقامة دولة جديدة. وأضافت أنها ترى في أعمال حركة الليحي (لوحمي حيروت ليسرائيل: مقاتلون من أجل حرية إسرائيل)، نموذجًا لحركتها ولفعالياتها، وأكّدت أنهم سيواصلون الطريق الذي اتبعته الليحي المذكورة. (تاغ محير، 2013)

لقد أعلنت مجالس المستوطنات بصراحة، وعلى رأسها مجالس منطقة بنيامين (رام الله وضواحيها)، وشومرون (نابلس وضواحيها)، أن على الجيش أن يعلم أنه لكل فعل ردة فعل وثمن، وأن كل عملية هدم ستقابل بأخرى داخل القرى والمدن الفلسطينية العربية، وأضافت مجالس المستوطنات: "سنجعل الجيش يجثوا على ركبتيه".

تطرف أعمى

يدرك المرء من خلال دراسة ما سلف، عمق رؤية أنصار حركة جباية الثمن، والأسس والمبادئ الأيديولوجية والفكرية، التي يستندون إليها في تفسيرهم لما يقومون به من أعمال إرهابية، ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية وأراضي عام 1948، ومثال ذلك جريمة حرق عائلة دوابشة التي يتفاخرون بها.

إن حركة جباية الثمن هذه، حركة قوميّة دينيّة تستمد فكرها من منظومة التراث اليهودي، والحق التاريخي المزعوم لليهود في فلسطين، والأهم من ذلك كله الحق الديني الإلهي في هذه الأرض، على حدِّ زعمهم. كما ترى هذه الحركة أنه لا حق للأغيار الغرباء، أي الفلسطينيين، في ذرّة تراب منها. بل إنهم لا يعتبرونهم بشرًا، وإنما بهائم خلقهم الرب ليخدموا اليهود، ولهذا يجب نزع الجنسيّة منهم، وتحويلهم إلى مقيمين، وتشجيعهم على الهجرة.

ورغم كل هذه الأفكار، فإن حركة جباية الثمن، وإنْ صنّفها بعض الإسرائيليين منظمة إرهابية، إلا أن فعالياتها ونشاطاتها مقبولة لدى شرائح واسعة من المجتمع الإسرائيلي، وعلى رأسهم فئة المستوطنين، والتيار القومي الديني.

لذلك، واهم من يشبّه الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين بالاحتلال الانجليزي للهند، والفرنسي للجزائر، فالمستوطنون يعتبرون وجودهم في فلسطين أبدي، وهو حق إلهي بناء على قاعدة العودة إلى أرض الميعاد، ولهذا فالعرب والفلسطينيون هم غرباء عن أرض "إسرائيل"، كما يدّعون.

 

المراجع: 

أرينس،موشيه. (27 12, 2011). لهتنتكوت ييش تاغ محير (لفك الارتباط يوجد جباية ثمن). تم الاسترداد من هأرتس:
http://www.haaretz.co.il/opinions/1.1601849
تاغ محير:جباية الثمن. (11 10, 2013). تم الاسترداد من ريشيموت لبادينغ:
http://shmulikfiksman.blogspot.co.il/2013/10/blog-post_8563.html
تسبي،أساف. (25 10, 2015). حوتريم تحتينو(يتسللون تحتنا). تم الاسترداد من أتار حشبون وزخرون (موقع حساب وذاكرة) (لريغل رتصح رابين: بمناسبة مقتل رابين):
http://rabin20.co.il/%D7%97%D7%95%D7%AA%D7%A8%D7%99%D7%9D-%D7%AA%D7%97%D7%AA%D7%99%D7%A0%D7%95/
روت،عينات. (بلا تاريخ). مشبير همملختيوت: توخنيت ههتنتكوت وههتمدودوت عيم همشبير هأموني شيتصراه (أزمة الدولة: خطة الانفصال والتعاطي مع أزمة الثقة التي أوجدتها)، فصل من رسالة دكتوراه للباحثة روت بإشراف البروفيسور أشر كوهين، تحت عنوان: نظريات الأصوليين تحت التجربة…. تم الاسترداد من أوروت: 
http://www.orot.ac.il/publications/amadot/amadotpdf/6-14.pdf
ريشوموت لبادينغ. (11 10, 2013). تم الاسترداد من تاغ محير: جباية الثمن: 
http://shmulikfiksman.blogspot.co.il/2013/10/blog-post_8563.html
سنيور،ايلي. (19 8, 2010). تورات هميلخ: نعتصار هراب يوسف اليتسور ميتصهار (توراة الملك: اعتقل الراب يوسف اليتسور من مستوطنة يتصهار). تم الاسترداد من يديعوت احرونوت:
http://www.ynet.co.il/articles/0,7340,L-3939721,00.html
طاؤوب،غادي. (24 3, 2011). تولدوت تاغ محير:تاريخ جباية الثمن. تم الاسترداد من طاؤوب،غادي (أتار وبلوغ طاؤوب،غادي: موقع ومدونة طاؤوب،غادي):
http://www.gaditaub.com/hblog/?p=738
غبيريه،غادي. (11 10, 2011). هحزون هتغشيم:مسماخ ههورؤوت لتاغ محير. (الرؤية تحققت: وثيقة الأوامر لجباية الثمن). تم الاسترداد من يديعوت احرونوت:
http://www.ynet.co.il/articles/0,7340,L-4133794,00.html
 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى