ملفات وقضاياالمشهد الفلسطيني

القدس تتصدر واجهة النضال الفلسطيني: الأسباب والدوافع

حمدي علي حسين[1]

أشعلت القدس شرارة اندلاع الانتفاضات والهباّت الشعبية في آخر ثلاثة عقود، بفعل مكانتها الدينية والعربية، وتوزع هذا الفعل النضالي منها على باقي المناطق الفلسطينية، وقد باتت المدينة والأحياء المحيطة في الآونة الأخيرة تمثل نقطة ارتكاز لتجديد وتكثيف واستئناف الفعل النضالي وإعادة تصويبه في ظل سكون ساحات المواجهة الأخرى، مما جعلها تتصدر النضال الفلسطيني، وتساند الساحات التي تشهد نشاطاً لبؤر المقاومة المسلحة في جنين ونابلس، وفي الوقت الذي كانت تعجز فيه الساحات عن الرد على جرائم الاحتلال وآخرها جريمة اغتيال تسعة فلسطينيين في عملية عسكرية في مخيم جنين، ردّت القدس بعملية خرج منفذها من مخيم شعفاط، وأخرى منفذها من العيسوية جاءت كرّد على عملية اغتيال خمسة مقاومين نفذها الاحتلال في مخيم عقبة جبر في أريحا، واعتبرت هذه العمليات ضربة لاستخبارات الاحتلال، حيث تجاوز منفذوها الإجراءات الأمنية المشددة، وسياسات عزل القدس عن الضفة الغربية، كما أنَّ المواجهات الشعبية التي تندلع في القدس، لها أيضاً خصوصية في الثقل والتأثير داخل مجتمع الاحتلال بشكل يفوق الساحات الأخرى لعوامل جغرافية وسياسية واقتصادية مختلفة.

يناقش هذا التقرير أبرز العوامل التي تجعل القدس مركزا لتجديد الفعل النضالي ضد الاحتلال “الإسرائيلي” في ظل الانتهاكات المستمرة التي يتعرض لها الفلسطينيون في القدس والضفة، وما يميزها عن بقية المناطق الأخرى، وأبعاد ذلك.

القدس في الذاكرة النضالية: أبرز المحطات والتحولات:

احتلت “إسرائيل” الشق الشرقي من مدينة القدس بعد الهزيمة العربية في حرب عام 1967، وأصبحت المدينة بعد ذلك تتعرض لابتزازات الاحتلال والمستوطنين في الأحياء العربية، ومن أبرزها البلدة القديمة التي تشكل بيئة للمواجهة اليومية بفعل الاحتكاك المستمر مع المستوطنين وجيش الاحتلال، فالمقدسي يشعر بأنّه مستهدف بشكل مستمر من خلال السياسات الاستعمارية الموجهة ضده، سواء المكانية أو الحياتية في إطار مساعي اقتلاع المقدسيين وتهجيرهم، وقد ساهم هذا الاحتكاك في إشعال فتيل الانتفاضات والهبات الشعبية التي جاءت كرّد فعل على استهداف المقدسات وعلى رأسها المسجد الأقصى، الذي يتعرض لخطر التهويد المستمر وإجراءات فرض التقسيم الزماني والمكاني فيه من خلال سياسات ممنهجة بدءًا من إحراقه عام 1969، مروراً بتنفيذ مجازر بحق المصلين مثل عام 1990 و2000، وصولاً إلى تنظيم اقتحامات مستمرة للمستوطنين.

وجدت القدس نفسها بعد توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 خارج المعادلة الرسمية الفلسطينية بعدما وضع موضوع القدس في إعلان المبادئ ضمن الملفات التي سيجري نقاشها في المراحل النهائية من مفاوضات الوضع الدائم، ولذلك ورغم محاولات السلطة الفلسطينية زج المدينة في مشروع الحكم الذاتي الانتقالي، فإنّها فشلت لعدة أسباب أبرزها: استمرار وتسارع الاحتلال في تطبيق سياساته العنصرية والاستيطانية التوسعية عبر بلدية القدس بشكل مغاير لما ورد في أوسلو، والآخر هو ضعف التمثيل الفلسطيني في المدينة خصوصًا بعد وفاة فيصل الحسيني عام 2001، وإغلاق بيت الشرق الذي شكل في تلك الآونة مركزاً لعمل السلطة الفلسطينية دبلوماسياً وميدانياً؛ ما أحدث حالة من الفراغ التي عمقت الفجوة بين المقدسيين ومشروع الحكم الذاتي، الذي باتوا ينظرون إليه بأنّه بعيد عن واقعهم وطموحاتهم، فوجدوا أنفسهم وحيدين في ساحة المواجهة أمام المستوطنين والمشاريع الاستعمارية وانتهاكات الاحتلال المستمرة بحق المقدسات، خاصة في أوقات الهدوء التي نشأت في ظل جهود استمرار “عملية السلام”، إنَّ ذلك كله، قد أسهم في تشكّل الشخصية المقدسية النضالية التي تحمل سمات مغايرة عن واقع الأحزاب الناشطة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وقد تعمقت هذه الخصوصية المقدسية بعد إتمام فصل المدينة عن محيطها بفعل جدار الضم والتوسع الاستيطاني عام 2008، وتحويل حاجز قلنديا إلى معبر، لترسيخ صورة أنَّ المقدسي يعيش في دولة أخرى، ويحمل وثيقة هوية مقدسية حصل عليها من “إسرائيل” تمكنه من اجتياز الحواجز، وبات فضاؤها مخصصاً لسكانها المقدسيون بمعزل عن أهالي الضفة الغربية.

لماذا القدس الآن:

برزت شخصية القدس المتصدرة منذ تبلور مفهوم “وحدة الساحات” في المواجهة؛ على إثر هبة القدس التي بدأت من الشيخ جراح عام 2021، والتي تحولت إلى هبة شعبية ساندها العمل المسلح انطلاقاً من غزة، حيث وجدت القدس نفسها قادرة على إعادة لملمة النضال الفلسطيني العابر للتجمعات الفلسطينية وتوحيده انطلاقاً من القدس وحي الشيخ جراح المستهدف، فلم تشكّل القدس فقط شرارة لانطلاق الهبة، بل ساهمت أيضاً في قيادة الهبة وتكثيفها متجاوزة الانقسامات الفصائلية؛ عبر التركيز على نموذجين متوازيين من العمل الفردي والجماعي الشبابي في المواجهة الميدانية التي لا تحتاج إلى تخطيط وتنظيم مسبقين من قبل الفصائل وقياداتها، وتميزهذا الفعل بالعفوية التي تترك للميدان المجال لتحديد طبيعة الفعل القادم وقيادته وآلية تنظيمه، ولكن تراجع هذا المفهوم في هبة رمضان عام 2022، عندما وقفت “إسرائيل” في وجه “وحدة الساحات”، حينما قامت بتنظيمها لمسيرة المستوطنين السنوية واقتحامها للمسجد الأقصى، متجاوزة تهديدات المقاومة في غزة وحراك الشارع المتأهب في القدس، إذ وجدت القدس نفسها أمام مسؤولية إعادة لملمة النضال الفلسطيني وتوجيهه، وبذلك عمل التصاعد الثوري في القدس على ربط ميادين العمل بالضفة الغربية (جنين ونابلس وأريحا) من خلال الرد على عمليات الاغتيال بعمليات مسلحة، ولعل ذلك يتطور تدريجيًا، خاصة في شهر رمضان المقبل، إلى إعادة إحياء مفهوم “وحدة الساحات” في حال انخراط المقاومة في غزة وفلسطيني ال48 في أي حراك متوقع.

سمات القدس المكانية تصنع وسائلها وأداتها النضالية:

تتمتع القدس بسمات نضالية ترتبط بالمكان الذي يتعرض لمحاولات إعادة هندسته اجتماعياً في إطار مخططات الاحتلال، وهي:

أولًا- وحدة الهوية الجماعية للمقدسي المعرض للاستهداف: حاول المقدسيون تجاوز أدوات الضبط الاستعماري والمراقبة والعقاب المفروض، من خلال الانخراط في نضال جماعي يرفع فيه المقدسيون سقف أدواتهم النضالية في مواجهة الهوية الأخرى، ولتجاوز العقوبات التي كانت تفرض على محاولات إظهار معالم الهوية وإحيائها، لتتحول لاحقاً إلى أحد أنماط المواجهة اليومية الجماعية.

ثانياً- نجاعة العصيان المدني: دفعت الخصوصية المكانية للقدس العصيان المدني، ليصبح أحد أبرز الأنماط الناجعة للمواجهة، لأنّه يعطل معالم الحياة اليومية التي يسعى الاحتلال إلى تحويلها إلى حياة مشتركة، عبر فرض الهدوء بالسطوة العسكرية، ليقابلها محاولة فرض الذات الفلسطينية في الحيز المكاني، كما العصيان المدني الأخير الذي شهده مخيم شعفاط والعيسوية والرام وعناتا وجبل المكبر؛ رداً على محاولات فرض العقاب الجماعي من خلال إغلاق الحواجز وقمع السكان الذي تعرّض له مخيم شعفاط على وجه الخصوص.

ثالثًا- وثائق الهوية الخاصة بالمقدسيين: التي ساهمت في تسهيل القدرة على التنقل بين أحياء القدس، والقدرة على التخفي والتخطيط والاختراق من الداخل، من قبل الفلسطينيين في الوقت الذي لا يتمكن فيه حاملو هوية الضفة الغربية بسهولة من اجتياز هذه الحواجز والجدار.

رابعًا- التنافس الديمغرافي في المدينة: من خلال سعي الفلسطينيين إلى الحفاظ على تواجدهم داخل المدينة، وزيادة أعدادهم لمواجهة مشاريع تصفيتهم، وذلك في ظل مساعي حكومة الاحتلال لرفع عدد المستوطنين بشكل مضطرد داخل المدينة.

الخلاصة:

رغم تشكل الهوية الخاصة بالمقدسيين، ورفع قدرتهم وجاهزيتهم للمواجهة والصمود، فإنَّ القدس تسعى أيضاً إلى استنهاض التجمعات الأخرى، وقيادة النضال واستبقاء تمركزه حولها، وتشعر بمسؤولية إزاء تفعيل النضال العام الذي بات واقعاً تحت ضغوط داخلية وملاحقة مزدوجة من قبل السلطة الفلسطينية و”إسرائيل”، وجعله يستمد الطاقة من الالتفاف حول القدس كمكان وكفعل مقاوم، وهنالك توّجه اليوم لاستغلال تشكّل بؤر المقاومة في جنين ونابلس وصولاً إلى أريحا، لإعادة ترميم نهج المقاومة المسلحة المرفوض من قبل السلطة الفلسطينية؛ عبر دعم خواصره بعمليات فردية مصدرها القدس، وفي ذات الوقت تسعى المدينة المحاصرة إلى خلق حالة من التكاثف الشعبي لمواجهة محاولات فرض العقاب الجماعي وكسر العزائم، التي تنفذها حكومة الاحتلال في محاولة منها لتفتيت النسيج الاجتماعي وتجزئته، وضرب محاولات تأسيس حاضنة اجتماعية للفعل المقاوم المنبعث من القدس، فالضغط بالنسبة لهم يخلّف مزيداً من الانفجار الذي تخشى منه حكومة الاحتلال.


[1] باحث حاصل على درجتي الماجستير في السياسات العامة من معهد الدوحة للدراسات العليا في قطر، وفي الدراسات الدولية من جامعة بيرزيت في فلسطين، وله عدد من الأبحاث والأوراق المنشورة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى