الجدل الإسرائيلي حول عودة المختطفين، والثمن الباهظ المدفوع للمقاومة

نضال شرف
تحوّل تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار في غزة في التاسع عشر من يناير 2025، إلى موضوع نقاش عام، متّخذًا أشكالًا مختلفة. ورغم أنّ إعادة الأسرى جميعًا رغبة مشتركة بين جميع الإسرائيليين، لكنّ طريقة إطلاق سراحهم، والثمن الذي بدؤوا بدفعه، أثار جدلًا حول الموضوع الذي تميّز بديناميكيات متغيّرة منذ بداية العدوان على غزّة وحتى اليوم، ودارت الخلافات حول تصوّر أهدافها المختلفة، وتحديد أولوياتها، وارتباطها بالإطار السياسي.
حول الجدل المجتمعي بخصوص هذا الموضوع نشرت عيديت شيفران جيتلمان، الباحثة في معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي ورقة بعنوان “مواقف الرأي العام الإسرائيلي من قضية الأسرى والمفقودين خلال الحرب”[1]، في 6 فبراير/شباط 2025. تسعى هذه الورقة إلى تلخيص أهم ما جاء في الورقة التي تناقش الديناميكيات الخاصة بعودة أسرى الاحتلال، وتشير لنقاط تحوّل رئيسة في تطوّرها حتى باتت قضيتهم محلّ جدل طوال أشهر الحرب، مع طغيان الخلافات الشخصية والحزبية، وامتدادها للفضاءات السياسية، وصولًا لاتهام بعض السياسيين لعائلات الأسرى بعرقلة الانتصار على حماس. مع العلم أنّ هدف الورقة الأصلية هو قياس تفاعل الجمهور مع قضية عودة الأسرى الإسرائيليين، وعلاقتها بأهداف الحرب، لأنّ الورقة بالمجمل تعتمد على استطلاعات الرأي العام حول الموضوع وتحليلها بشكل عام.
- تحدّيات الجيش والدولة
طوال أشهر الحرب، عُرض على الجمهور الإسرائيلي هدفان رئيسان للحرب: تدمير حماس، والإفراج عن المختطفين، صحيح أنّها ليست الصيغة الدقيقة للأهداف كما حدّدها مجلس الوزراء، لكنّها أصبحت راسخة بهذه المفردات في الإدراك العام، وفي بعض الأحيان، بدا أن هذين الهدفين متّسقان، ويرجع أساسًا لتكراره من قبل المستويين السياسي والعسكري، ولكن مع مرور الوقت، تم استيعاب تفاهم مفاده أنّهما قد يكونان متعارضين.
زاد الجدل الإسرائيلي، مع تضاؤل الأمل بعودة معظم أسرى الاحتلال من خلال العمليات العسكرية، مع الفهم المتزايد بأنّ الوقت ينفد، وأنّ الأسرى يموتون في الأسر، وفي الوقت نفسه، طرأت تغيرات على تصورات الجمهور الإسرائيلي بشأن طريق استعادة المختطفين، والثمن الذي يجب دفعه مقابلهم.
ركّزت الدراسة الإسرائيلية المشار إليها أعلاه، أنّه مع بداية الحرب، تجلّى القضاء على حماس كهدف نهائي، ووحيد، ولم يحتل إطلاق سراح المختطفين مكانًا متصدّرًا في الخطاب العام، وبدا أنّ كلّ الاهتمام منصبٌّ على ضرورة إزالة ما زُعم بأنّه “التهديد الأمني” الذي تشكّله حماس.
مع مرور الوقت، رأت بعض القطاعات الإسرائيليّة أنّ المظاهرات الأسبوعية من أجل إطلاق سراح المختطفين لن تعجّل بعودتهم، بل قد تدفع حماس لتشديد مطالبها كشرط للإفراج عنهم، وبعد بضعة أسابيع، وعقب الضغوط العامة، خاصة من جانب عائلاتهم، حدّدت الحكومة هدف الحرب المتمثل بـ”بذل أقصى جهد ممكن لحل قضية المختطفين”، مع مزاعم روّجها المستويان السياسي والعسكري، ولم تجد لها رصيدًا على الواقع، أن هدفي الحرب يمكن تحقيقهما في وقت واحد، وأنّ الضغوط العسكرية التي مورست على حماس تدعم الجهود الرامية لدفع عملية إعادة المختطفين.
ومع ذلك، فقد لاقى المفهوم قبولًا من قبل غالبية الإسرائيليين، كما انعكس في نتائج العديد من استطلاعات أجرتها مراكز الرأي العام، وأجاب معظمها بأن أهداف الحرب يجب أن تُنفَّذ، وأن تُحلّ قضية الأسرى في أثنائها، بل إنهم بدوا منسجمِين مع الموقف الرسمي الزاعم بأن الضغط العسكري يزيد من فرصة إعادتهم.
في المقابل، ركّز الخطاب الإسرائيلي العام على التخوّف من أن يؤدي وقف الحرب لإعادة الأسرى قبل القضاء على حماس، وبجانب هذا الادّعاء، برزت في الخطاب بين معارضي الاتفاق مزاعم مفادها أن وقف الحرب مؤقّتًا من أجل تنفيذه قد يعرّض الجنود في الميدان للخطر، كما أثار إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين كجزء من الاتفاق معارضة أيضًا، مع التشديد على عدم شمول مقاتلي نخبة حماس المشاركين في هجوم السابع من أكتوبر على مستوطنات غلاف غزة.
- تراجع الثقة في الجيش
ساهم اتفاق وقف إطلاق النار بالتأثير على ثقة الجمهور الإسرائيلي في الجيش، رغم أنّها تكون عالية بالعادة حين يشتدّ القتال، لكن نتائج آخر استطلاع للرأي العام أُعلن عنها قبل أيام قليلة فقط من بدء تنفيذ وقف إطلاق النار، كشفت تراجعًا واضحًا في هذه الثقة، رغم أنّ وقف الحرب كان بهدف يُجمع عليه الإسرائيليون، ويتمثّل باستعادة الأسرى من غزة.
بلغة الأرقام، أشار 59% فقط من الإسرائيليين إلى مستوى عالٍ من الثقة بقائد الجيش هرتسي هاليفي، مقارنة بـ73% أعربوا عن ثقتهم العالية به في استطلاع سابق، وفيما يتعلق بفرضية انتصار الجيش في حرب غزة، أعلن 77% فقط عن ثقتهم بذلك، مقارنة بـ90% في استطلاع سابق، أمّا عن زوال التهديد الأمني في غلاف غزة عقب وقف الحرب، فأجاب 71% منهم بالموافقة على ذلك، بعد أن وافق 78% في استطلاع سابق.
لا تبدو مَهمّةُ تفسير هذا التراجع في معدلات استجابة الإسرائيليين صعبة وعسيرة، على اعتبار أنّه كلما تراجع القتال بات انخفاض الثقة في الجيش أكثر منطقية.
ذات الدراسة الإسرائيلية المشار إليها أعلاه، ذكرت أنّه مع مرور الوقت، ظهرت حالة من التباين بين هدفي الحرب: القضاء على حماس، واستعادة المختطفين، خاصة وأنّ العديد من التقارير تحدثت أنّ عددًا منهم قُتلوا نتيجة لقصف الجيش، ممّا زاد من دعوات إعطاء الأولوية لهدف استعادتهم على حساب استمرار الحرب، في حال تمثلت الطريقة الوحيدة لإعادتهم من خلال اتفاق وليس العمليات العسكرية، رغم موافقة 61٪ من الإسرائيليين على مواصلة الحرب حتى الإطاحة بحماس، ولو بثمن عدم استعادة الأسرى.
طوال أشهر الحرب الخمسة عشر، أصبحت عبارة “إسقاط نظام حماس” راسخة في الخطاب الإسرائيلي العام باعتبارها هدفًا يمكن تحقيقه، وعدم استعادة الأمن إلا بذلك، مما يعني عدم وقف الحرب، رغم أنه بات مفهومًا غير واقعي، سواء من حيث إمكانية تنفيذه، أو التوصل لتفاهم حول معناه، أو ارتباطه بنهاية الحرب.
- تسييس قضية الأسرى
مع تزايد الفهم بأنّ هدفيْ الحرب قد يكونان في توتر مع بعضهما، وتزايد المطالبة بإنهاء الحرب كجزء من اتفاق متشكّل لإعادة الأسرى، وعدم الاكتفاء بهدنة قصيرة فقط، فقد تعمّق التوتر أيضًا بين المطالبين بالإفراج الفوري عنهم جميعًا تحت شعار “كلّهم الآن”، وبين من تبنّوا مطلب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بعدم وقف الحرب “حتى النصر الكامل”، ولم يتردّد اليمين باتّهام عائلات المختطفين بعرقلة الانتصار على حماس.
وفّر هذا الانقسام خلفية خصبة لتسييس قضية المختطفين، لاسيما عقب إعلان الوزيرين بيتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير أنهما لن يدعما صفقة تبادل تتضمن وقف الحرب، بل وهدّدا بحل الائتلاف، مما ساهم بشكل أكبر في التركيز السياسي على القضية، وبات واضحًا أنّ نتنياهو يرفض التقدّم بالاتفاق خشية حلّ حكومته، وتزايد هذا الاتجاه حدّة، الأمر الذي دفع “منتدى عائلات المختطفين” الذين وصفتهم أوساط الحكومة بـ”اليساريين”، لاعتبار سلوكها الرافض لإبرام الصفقة سببًا إضافيًا للمناداة للإطاحة بها.
أكثر من ذلك، فقد انقسمت المظاهرات الرئيسة للتضامن مع المختطفين، لاسيما التي شهدتها شوارع تل أبيب، وأشارت بإصبع الاتهام للحكومة برفضها التوصل لاتفاق، خاصة بعد إعلان المستوى السياسي أنّ الاتفاق الذي يتضمن وقف القتال سيضرّ بتحقيق أهدافه، وفي مقدمتها انهيار حماس، لكن تبيّن لاحقًا أنّه ليس صحيحًا.
في المقابل، سعى المستوى العسكري للترويج لرواية بديلة مفادها أنه ينبغي اتخاذ إجراءات لتعزيز مثل هذا الاتفاق، في محاولة لتعزيز التوقعات لدى الجمهور الإسرائيلي بشأن القدرة على انهيار حماس، خاصة بعد أن دخلت الحرب في الأسابيع الأخيرة مرحلة من الجمود، وبدا كما لو أنّ الجيش يطالب بوقفها، لأنه لم يعد يرى أي فائدة حقيقية من استمرارها، لكنه امتنع عن الإعلان عن ذلك، خشية الدخول في سجال جديد مع المستوى السياسي من جهة، ومن جهة أخرى خشية اتهامه من الجمهور بـ”الضعف والتراجع أمام حماس”، وأنه لا يسعى لتحقيق النصر الكامل.
تجلّى ذلك بصورة مثيرة في التصريح الصارخ الذي أعلنه المتحدث باسم الجيش دانيئيل هاغاري، واعترف فيه بأنه “لا يمكن الإطاحة بحماس”، مما أثار انتقادات واسعة النطاق سواء من حيث محتواه، الذي تم تفسيره على أنه ضعف وانهزامية، أو اعتباره تدخّلًا غير لائق في قرارات المستوى السياسي، حتى تم تصنيفه بأنه شخصية سياسية وليس عسكرية، ويعبر موقفه عن أجندة اجتماعية وسياسية، وليس موقفًا أمنيًا.
- الخلاصة
رغم الجدل الإسرائيلي حول قضية استعادة المختطفين، وما واكبها من تغيّرات وتطورات استعرضتها السطور السابقة، لكن أغلبية كبيرة من الإسرائيليين دعمت استكمال الاتفاق بنسبة 64٪ وفق استطلاع يناير 2025، مع أنّهم يدركون أن الاتفاق سيترتب عليه أثمان مرتفعة، لكنهم في الوقت ذاته يدركون فداحة الثمن المقابل المتمثل بعدم إعادة الأسرى، وصعوبة تعافي دولة الاحتلال من آثار الهزيمة التي حلّت بها صباح السابع من أكتوبر، دون إعادتهم.
لا شكّ أنّ الورقة المشار إليها تضع يدها على أهم مكامن الضعف الإسرائيلية الخاصّة باستعادة الأسرى، الأمر الذي شكّل ضغطًا جدّيًا على دوائر صنع القرار في تل أبيب للمضيّ قدمًا في إبرام الصفقة. ورغم أهميّة هذه المسألة، ونيلها تأييد، وربما إجماع الرأي العام الإسرائيلي، لكنّ الورقة أَغفلت، عن قصد أو غير قصد، عاملًا مهمًّا يفوق ذلك العامل بأضعاف، ويتمثّل في تغيّر الإدارة الأمريكيّة في واشنطن.
كما تجاهلت الورقة، إمعان رئيس الحكومة والائتلاف اليميني في رفض إبرام مثل هذه الصفقة، بل إنهم تحدّوا الرأي العام الاسرائيلي، وأصرّوا على عدم المضي قدمًا فيها، حتى لو مات بقية الأسرى في الأسر، تحت دعاوى شتّى متعلقة بتحقيق النصر المطلق، والقضاء على حماس، وتغيير الشرق الأوسط، وهي مزاعم نجحت حكومة اليمين في تسويقها لدى الجمهور الإسرائيلي، طوال أربعة عشر شهرًا، حتى بدأ العد التنازلي لتنصيب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي عمل على ممارسة نوع من الضغط الجاد على حكومة نتانياهو لدفعها للموافقة على الاتفاق. دون أن يعني ذلك أنّ ترامب يعارض الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وإنّما تفرض عليه أجندته السياسيّة والاقتصاديّة العمل على تهدئة بعض الصراعات في العالم؛ لانشغال الولايات المتحدة في قضايا داخلية، والتنافس الإستراتيجي مع الصين. وعلى ذلك، فموقفه الداعي إلى تهجير أهالي قطاع غزة يصبّ في مصلحة حكومة نتانياهو التي تشجّعت لهذا الموقف.
في المقابل، فقد أظهرت الورقة، ولعلّها أصابت في ذلك، أنّ قطاعًا واسعًا في الجمهور الإسرائيلي أظهر صلابة في الوقوف خلف الحكومة والجيش في سعيهما لتحقيق هدف الحرب الأساسي المتمثّل بالقضاء على حماس، وألًا تشكّل غزّة لاحقًا تهديدًا مستقبليًّا، بما في ذلك من أثمان باهظة، بشريّة وعسكريّة واقتصاديّة. هذا الأمر يستدعي إعادة قراءة واعية وهادئة لتوجّهات الرأي العام الإسرائيلي، بدليل أنّ حكومة الاحتلال وظّفت هذه الرغبة العامة لجمهورها، للمضيّ قدمًا في حرب ضروس في غزة.
[1] يشار إلى التسمية التي يعتمدها الاحتلال، والرأي العام العالمي المتأثر برواية الاحتلال، لأسراه لدى المقاومة الفلسطينية هي “المختطفون” أو “الرهائن”، وهذا الأمر يهدف بطبيعة الحال إلى إنكار شرعية الكفاح المسلح الفلسطيني وتصوير عمليات المقاومة على أنها “إرهاب”.