عودة ترامب: اختبار حقيقي لاستقرار مالية السلطة الفلسطينية
إخلاص طمّليه
في أواخر عام 2016، شكّل انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة نقطة تحول حاسمة ومفاجئة في السياسة الأمريكية، ما انعكس سلباً تجاه حجم الإيرادات المالية للسلطة الفلسطينية؛ إذ قاد ترامب خلال ولايته الأولى تغييرات جذرية في المسارات السياسية والاقتصادية الناظمة للعلاقات الأمريكية-الفلسطينية. وعلى الرغم من تعقد الأحداث وتداخلها، فإن “الصفقات” غير المنتهية لا تزال تتصدر أجندة ترامب في ولايته الثانية.
وقد انعكس تأثير هذه السياسات بشكل مباشر على إيرادات السلطة الفلسطينية من المقاصة والمساعدات الدولية، وامتد تأثيرها بشكل غير مباشر على المساعدات الموجهة للشعب الفلسطيني عبر قنوات المنظمات الدولية والأهلية العاملة في الضفة الغربية وقطاع غزة. وتجلّت آثارها بوضوح في تراجع حجم المساعدات الأمريكية والدولية المخصصة للسلطة الفلسطينية، بالإضافة إلى تغاضي الإدارة الأمريكية عن الاقتطاعات الإسرائيلية الجائرة من أموال المقاصة.
يركز هذا التقرير على استعراض المسارات الرئيسة التي قد تؤثر بها سياسات ترامب على الأوضاع المالية للسلطة الفلسطينية، من خلال تجفيف الموارد وزيادة حجم الارتهان المالي إلى سياسة “الحكومة الإسرائيلية”، والاضطرار للتعامل مع صفقات أمريكية يفاضل فيها الفلسطيني ما بين الخبز والكرامة.
المساعدات الدولية
شكلت المساعدات الدولية الركيزة الأساسية لتمويل خزينة السلطة الفلسطينية منذ إنشائها بُعيد توقيع اتفاق أوسلو عام 1993. فتدفقت مليارات الدولارات لدعم نموذج “التنمية والسلام”؛ إذ قدمت الولايات المتحدة نحو 7.6 مليار دولار مساعدات للشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة بين عامي 2001 و2024. وصلت ذروتها عام 2009، إذ ساهمت بـ 918 مليون دولار دعماً لميزانية السلطة الوطنية، وجهودها في بناء مؤسسات الدولة خلال تلك الفترة (الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، 2024).
وتفاوتت كثافة المساعدات الأمريكية المقدمة للسلطة الفلسطينية تبعاً للمواقف السياسية للإدارات الأمريكية المتعاقبة تجاه القضية الفلسطينية. فعلى سبيل المثال، في عهد إدارة أوباما، بلغ إجمالي المساعدات المقدمة للشعب الفلسطيني حوالي 4.9 مليار دولار، ما يعادل نحو 71% من إجمالي المعونات الأمريكية للفلسطينيين، بينما كانت نسبة المساعدات المقدمة للفلسطينيين خلال السنوات الثماني لولاية جورج بوش الابن أقل بكثير، حيث بلغت نحو 21% فقط من إجمالي المعونات الأمريكية الموجهة للسلطة الفلسطينية (ماس، 2019). ومع تولي ترامب الرئاسة، شهدت هذه المساعدات تراجعاً حاداً حتى توقفت تماماً اعتباراً من عام 2019.
وقد بلغت قيمة المساعدات الدولية الإجمالية المقدمة للفلسطينيين في عام 2015 حوالي 1.5 مليار دولار، ممثلةً ما نسبته 20-30% من الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني (بوابة اقتصاد فلسطين، 2024). ومع وصول ترامب إلى الحكم، تراجعت المساعدات الأمريكية المباشرة للفلسطينيين بنسبة تجاوزت 85% بين عامي 2016 و2018، وذلك عبر اتخاذ إدارته العديد من القرارات مثل إعادة برمجة 231 مليون دولار من المساعدات الأمريكية التي كانت مخصصة في الأصل للضفة الغربية وغزة (بما في ذلك 25 مليون دولار لمستشفيات القدس الشرقية) لأغراض أخرى (Congressional Research Service,2018). كما أن التشريعات التي أُقرَّت في عام 2018 أثرت بشكل كبير على المساعدات الأمريكية للفلسطينيين. فقد أقر الكونجرس قانون “آتكا” عام 2018 الذي يجعل متلقي المساعدات الأميركية تحت الولاية القضائية الأميركية، ما يعني تعرض السلطة لملاحقات قانونية (فلسطينيات، 2022).
وتصاعدت حدة السياسات الأمريكية حتى توقفت المساعدات تماماً في عام 2019، وذلك بموجب قانون تايلور فورس (Taylor Force) [1] الذي أقرّه الكونغرس نهاية شهر سبتمبر عام 2018، ووافق عليه ترامب، وهو القانون الذي يتيح للأمريكيين الذين أصيبوا أو لحقت بهم أضرار أو قتل أحد أقاربهم في “عمليات عدائية”، أن يقدّموا شكوى ضد أي كيان دولي يحصل على مساعدات أمنية من الولايات المتحدة (النجاح الإخباري، 2018)، مما أثر بشكل رئيس على الفئات المعتمدة على الإعانات النقدية والغذائية التي تقدمها الحكومة الفلسطينية، بالإضافة إلى توقف برامج دعم بناء المدارس والمساعدات الطبية.
ومن المتوقع أن يعيد ترامب في ولايته الثانية إمداد السلطة بالمساعدات عن طريق برنامج “صندوق الشراكة الفلسطينية الإسرائيلية”[2] أو بشكل شبيه له، كبديل عن مساعدات دعم الموازنة وبناء المؤسسات وإصلاح الأمن، والذي خصص سابقاً لمشاريع اقتصادية وبحثية واستثمارية مشتركة بين الشركات الفلسطينية والأمريكية والإسرائيلية، بما في ذلك الشركات المقامة في المستوطنات الاستعمارية الإسرائيلية، وذلك بما يتماشى مع مضمون وأهداف صفقة القرن (ماس، 2019).
أزمة أموال المقاصة
في إطار محددات اتفاق أوسلو، وُلد بروتوكول باريس الاقتصادي، ومن أبرز ملامح هذا البروتوكول أنه ربط الاقتصاد الفلسطيني مع الاقتصاد الإسرائيلي بغلاف جمركي موحد، وأبقى وظيفة جباية الجمارك والقيمة المضافة على مستوردات الفلسطينيين من الخارج أو من “إسرائيل” بيد الاحتلال الإسرائيلي، فيما يعرف بأموال المقاصة، والتي بدونها تجد السلطة نفسها عاجزة عن الإيفاء بالتزاماتها، في ظل عجزها عن إيجاد بدائل تمويلية أخرى.
تشكل المقاصة نحو 67% من إجمالي إيرادات السلطة، وقد أمعن ترامب في استخدامها سابقاً كأداة للضغط على السلطة الفلسطينية من أجل القبول بصفقة القرن، فبدأت “إسرائيل” سياسة الاقتطاع من أموال المقاصة منذ عام 2019 خلال فترة رئاسة ترامب بما يعادل 42 مليون شيكل شهرياً، أي 502 مليون شيكل سنوياً، وبما يشكل حوالي (10%) من إجمالي أموال المقاصة السنوية. (وزارة المالية، سنوات متعددة). وقد وصل حجم الاقتطاعات الإسرائيلية من أموال المقاصة الفلسطينية نحو 7.9 مليار شيكل (حوالي 2.1 مليار دولار) حتى شهر أكتوبر 2024 (Middle East Monitor, 2024). كان منها قرابة 3.4 مليار شيكل، تحت ذريعة “مخصصات قطاع غزة”، و3.6 مليار شيكل تحت مسمى “مخصصات عائلات الشهداء والأسرى”.
بدأت كل الاقتطاعات السابقة تحت غطاء قانون “مكافحة الإرهاب” آتكا (ACTA) عام 2018، وقانون تايلور فورس (Taylor Force) عام 2018، اللذيْن صدرا في عهد ترامب، ينص قانون تايلور فورس على وقف معظم المساعدات الأمريكية غير الأمنية للفلسطينيين ما دامت السلطة الفلسطينية تقدم رواتب للأسرى في السجون الإسرائيلية والجرحى وذوي الشهداء. وذلك كجزء من إستراتيجية أوسع لوقف ما وصفته واشنطن بتشجيع الإرهاب (فلسطينيات، 2022). وهو ما هيأ لإقرار الكنيست قانون خصم رواتب الأسرى والشهداء عام 2018، الذي يتيح خصم مبالغ تعادل قيمة هذه الرواتب من أموال المقاصة، والتي تُقدر بنحو 150 مليون دولار سنوياً. تبع ذلك قوانين أخرى مثل قانون التجميد الأمني عام 2019، الذي يمنح “إسرائيل” الحق في تجميد أو تأخير تحويل أموال المقاصة بناءً على مزاعم أمنية. وقانون تعويض القتلى والجرحى عام 2024 الذي ينص على أن ضحايا العمليات سيتمكنون من مقاضاة السلطة والحصول على تعويض قدره 10 ملايين شيكل للعائلة التي قُتل قريبها في عملية ” إرهابية”، و5 ملايين شيكل لكل من أصيب (اندبندنت، 2024).
تصفية الأونروا
تُعتبر الولايات المتحدة أكبر مانح لوكالة الأونروا منذ تأسيسها، حيث قدمت ما يقرب من 6.25 مليار دولار لها منذ عام 1950. وقد وصلت مساهماتها إلى ذروتها في عامي 2014 و2016، إذ بلغت حوالي 400 مليون دولار في 2014 و360 مليون دولار في 2016، مما يشكل حوالي 30% من الميزانية السنوية للأونروا. وبعد تولي ترامب الرئاسة وفي عام 2018، انخفضت هذه المساهمة إلى 65 مليون دولار فقط قبل أن تتوقف كلياً في أغسطس 2018 بقرار من إدارة ترامب (ماس، 2019).
يعود القرار إلى افتراض إدارة ترامب بأن الولايات المتحدة تتحمل عبئاً غير متناسب في تمويل الأونروا، وأن النموذج المالي للوكالة أصبح غير مستدام، خاصة مع توسع مجتمع اللاجئين المستفيدين من خدماتها. نتيجة لذلك، واجهت الأونروا عجزاً مالياً وصل إلى حوالي 211 مليون دولار في بداية عام 2019 (ماس، 2019)، ما اضطرها إلى تقليص برامجها التعليمية والصحية، التي كانت تقدم خدمات أساسية لأكثر من نصف مليون طالب فلسطيني، وملايين المستفيدين من الرعاية الصحية.
تعتبر هذه الخطوة جزءاً من سياسة أمريكية إسرائيلية تهدف إلى تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، وذلك من خلال تقليص الدعم المالي والإنساني للوكالة، وتقويض دورها في خدمة اللاجئين. وقد صادق الكنيست الإسرائيلي على مشروع قانون يحظر عمل الأونروا في “إسرائيل” ويمتد إلى القدس الشرقية، مما يعكس الرغبة في زيادة الضغوط على الوكالة الدولية.
وفي حرب الإبادة بعد السابع من أكتوبر 2024 على قطاع غزة استهدفت الأونروا بشكل مباشر، وعززت “إسرائيل” من ضغوطها السياسية ضد الوكالة الدولية، وتم التحرك في الكنيست لإضعاف فعاليتها من خلال التشكيك في شرعية أعمالها ونواياها. ذلك في الوقت الذي يعتمد فيه ما يزيد عن 2 مليون شخص في قطاع غزة على الأونروا للحصول على الغذاء والرعاية الصحية والدعم النفسي. ويعمل موظفوها في ظروف شديدة الخطورة حيث استشهد حوالي 237 من موظفي الأونروا جراء الهجمات الإسرائيلية. كما تضررت مراكز الصحة والملاجئ وغيرها من المنشآت الحيوية التي تديرها الأونروا نتيجة الغارات “الإسرائيلية” المستعرة (Global Voice, 2024) .
من المتوقع أن تتبنى إدارة ترامب في ولايته المقبلة سياسات تتسم بالتشدد والعدوانية تجاه المنظمات الدولية الداعمة للفلسطينيين، وقد يسعى لتطبيق إجراءات صارمة ضد وكالة الأونروا، عبر قطع الدعم الأمريكي عنها، وربما يتجه نحو إغلاقها تماماً. وهو ما قد يؤدي إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية للفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، حيث يعتمد ملايين اللاجئين على خدمات الأونروا في مجالات التعليم والصحة والمساعدات الإنسانية.
في الختام، فإن المؤشرات المالية للسلطة الفلسطينية ومستوى الدين العام يُنذر بصعوبة تأقلم الخزينة الفلسطينية مع أي من العقوبات المالية المتوقعة في عهد ترامب، وعدم القدرة على التعامل مع أي اقتطاعات إضافية من أموال المقاصة أو الاستمرار في تأخير تحويلها. وفي حال تم قطع المساعدات الأمريكية الحالية فمن المتوقع أن يبرز تأثيرها بشكل كبير على استدامة المشاريع الحيوية المتعلقة بالبنية التحتية والتعليم والصحة، مثل مشروع دعم مشافي القدس.
لذا يجب التأكيد على أن المساعدات الدولية ليست عنصراً دائماً وثابتاً في موازنة السلطة، بل يجب النظر إليها باعتبارها مؤقتة وغير مضمونة؛ يتوجب على السلطة بذل أقصى درجة ممكنة من الحكمة والكفاءة في استغلالها عند توفرها مع مواصلة البحث عن السبل الكفيلة بالتخلص من الاعتماد عليها تدريجياً. وعلى السلطة الفلسطينية تكثيف جهودها للبحث عن مصادر تمويل بديلة، وتوسيع نطاق الشراكات الدولية. إلى جانب ذلك، يجب أن تكون هناك رؤية إستراتيجية واضحة لإعادة بناء نظام الإيرادات العامة والترشيد في النفقات مع ضرورة مراعاة العدالة الاجتماعية في توزيع أعباء التقشف، والحفاظ على الحقوق المكتسبة والمشروعة للموظفين، بعيداً طلب الائتمان من سلطة النقد الفلسطينية، وهذا يتطلب إصلاحات اقتصادية جذرية، وتعاونًا مستمرًا مع الشركاء الدوليين.
المصادر:
- النجاح الإخباري، 2018. قانون يسمح للأمريكيين المطالبة بتعويضات من السلطة الفلسطينية. فلسطين.
- معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس)، قطع المساعدات الأميركية المقدمة لفلسطين: الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية وسبل مواجهتها. فلسطين. https://mas.ps/publications/2844.html
- بوابة الاقتصاد الفلسطيني. (2024). المانحون، https://www.palestineeconomy.ps/donors/ar
- اندبندنت بالعربي، 2024، ، اقتطاع ملايين من الأموال الفلسطينية لمتضرري إسرائيل يفاقم نزيف الحرب.
- فلسطينيات، 2022، الاقتصاد الفلسطيني 2021 تتمة لسنوات عجاف.
- Congressional Research Service (Specialist in Middle Eastern Affairs – name redacted), “U.S Foreign Aid to the Palestinians”, December 12, 2018.
- El Houri, W. (2024, October 30). Israel’s war on the United Nations: Why a ban on UNRWA sets a dangerous precedent. Global Voices. https://globalvoices.org/2024/10/30/israels-war-on-the-united-nations-why-a-ban-on-unrwa-sets-a-dangerous-precedent/
[1] سُمي بهذا الاسم نسبةً لجندي أمريكي قُتل على يد فلسطيني بعملية طعن في يافا عام 2016.
[2] صندوق الشراكة الأمريكية الفلسطينية الإسرائيلية: هو مبادرة ظهرت في عام 2020 خلال إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. يهدف هذا الصندوق إلى تعزيز التعاون الاقتصادي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وذلك كجزء من خطة السلام الأمريكية المعروفة بـ “صفقة القرن”. كانت الفكرة من الصندوق أن يُخصص التمويل لمشاريع اقتصادية تخدم الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء، بهدف دعم الاستقرار الاقتصادي والفرص الوظيفية في المنطقة.