الإعلام العبري في ظل الحرب على غزة: قراءة في سلطة الرقابة العسكرية
أ. كريم قرط[1] لتنزيل التقرير
يحظى الإعلام العبري، لا سيما في ظل الحرب “الإسرائيلية” على قطاع غزة، باهتمام كبير لدى الإعلام العربي والفلسطيني، والمتابعين لمجريات الأحداث، ومع أهمية الاطلاع على ما يرد فيه من أخبار ومعلومات لا غنى عنها أحيانًا، فإن هناك بعضًا من الاعتبارات المتعلقة به لا بد من أخذها بعين الاعتبار عند التعامل معه، وأحد هذه الاعتبارات هو مسألة الرقابة المفروضة على الإعلام العبري، التي تجعل الرقابة العسكرية مَن تقرر فيما يؤذن بنشره وما لا يؤذن به، والتي يتصاعد تدخلها في محتوى الإعلام في حالة التصعيد أو الحروب، وهذه المسألة بالغة الأهمية، لأنه يخفي حقائق حول الأحداث ويتكتم على أخرى.
يهدف هذا التقرير إلى تسليط الضوء على وحدة الرقابة العسكرية ودورها خلال الحرب الدائرة على قطاع غزة، وأشكال الرقابة الأخرى التي يسعى الاحتلال إلى فرضها على تغطية الحرب، وأبعاد اعتماد الإعلام العربي والفلسطيني على ما ينشره الإعلام العبري الخاضع لهذه الرقابة العسكرية في ظل الحرب.
الرقابة العسكرية على الإعلام:
ورثت دولة الاحتلال منظومة الرقابة العسكرية على وسائل الإعلام من عهد الانتداب البريطاني على فلسطين، إذ أُنشأت وحدة “الرقابة على الصحافة ووسائل الإعلام”، المعروفة اختصارا بـ”الرقابة العسكرية” مباشرة بعد قيام دولة الاحتلال عام 1948، مستمدة صلاحياتها من نظام الدفاع (الطوارئ) لعام 1945 الصادر عن سلطات الانتداب البريطاني، وهي تتبع لشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) في جيش الاحتلال، ويرأسها ضابط ذو رتبة رفيعة يعينه وزير حرب الاحتلال، وقد شهدت صلاحيات وآليات عمل الوحدة تطورات وتغيرات وتقليصات على مدى العقود السابقة، إلّا أنها ظلت تحظى بصلاحيات واسعة في الرقابة على المحتوى الإعلامي وما يُنشر من كتب، وأيضا الرقابة على ما يُسمح بنشره من وثائق أرشيفية.
يخول نظام الدفاع (الطوارئ) الرقيب العسكري “منع نشر أية مادة يؤدي نشرها، أو يمكن أن يؤدي، إلى الإضرار بأمن “إسرائيل” أو بسلامة الجمهور أو بالنظام العام”، إذ يُلزِم القانون “الإسرائيلي” الصحافيين أن يرسلوا كل مادة صحفية متعلقة بقضايا أمنية إلى الرقابة العسكرية لتراجعها قبل نشرها، وحسب تقرير ل”سيحاه مكوميت“، فإن تعريف “قضايا أمنية” فضفاض جدًا، ويشمل ستة أعمدة مكتظة بالعنوانين الفرعية.
يتزايد نشاط الرقابة العسكرية وتدخلها في الإعلام في حالات التصعيد الأمني والحروب والعمليات العسكرية، غير أنّ ذلك لا يعني أنها تكون أقل نشاطًا في الأوقات العادية، فهذه الوحدة تعمل على مدار الساعة يوميًا، وتتدخل عدة مرات في اليوم في المعلومات التي يطلب الصحفيون نشرها للجمهور، بمعدل من 1000 إلى 3000 آلاف مرة في السنة، وينشغل المحررون الرئيسيون لوسائل الإعلام يوميًا في اتخاذ قرارات حول ما يجب تقديمه إلى الرقابة العسكرية قبل نشره.
يتضح في وثيقة قدمتها الرقابة العسكرية إلى حركة حرية المعلومات في شهر أغسطس/آب 2016، بناءً على طلب منها حول نشاط الرقابة العسكرية منذ عام 2011 حتى شهر أغسطس 2016، الحجم المهول للمواد الإخبارية التي عُرضت على الرقابة العسكرية لمعاينها قبل نشرها، وتلك التي حظرتها كليُا أو جزئيُا، كما يوضح الجدول أدناه.
عام | 2011 | 2012 | 2013 | 2014 | 2015 | 2016 حتى شهر أغسطس/آب |
المواد المقُدمة لمعاينة الرقابة | 13503 | 14064 | 13012 | 14274 | 13057 | 9722 |
تعديل (حذف جزئي) | 2415 | 2509 | 2485 | 3122 | 2190 | 1475 |
حذف كلي | 276 | 265 | 327 | 597 | 315 | 156 |
مراجعة استباقية للمواد | 107 | 224 | 197 | 440 | 270 | 256 |
إنّ هذه الأرقام، وإن كانت ضخمة، لا تعكس كل الصورة، فهناك كثير من المواد يحجم الصحفيون عن نشرها طوعًا، لأنهم يدركون أنّ الرقابة العسكرية لا يمكن أن تجيز نشرها، إضافة إلى أنّ وسائل الإعلام العبرية ذاتها تخضع نفسها لرقابة ذاتية على ما تنشره، إذ يرى “أنطوان شلحت” أنّ وسائل الإعلام “الإسرائيلية” تلتزم بالرقابة الذاتية من تلقاء نفسها، “وكلها تصطف في أوقات الحروب وراء شعار “لا صوت يعلو على صوت الأمن”، والأمن نفسه الذي هو ديانة أخرى إلى جانب الديانة اليهودية لمعظم الإسرائيليين”.
على الرغم من أنّ الرقابة العسكرية تتجاوب مع الحركات المطالبة بمعطيات حول نشاطها، بموجب قانون حرية المعلومات لعام 1998، إلّا أنها ترفض أن تقدم أي معطيات حول عدد المواد المحظورة كليًا أو جزئيًا شهريًا، وأسباب تدخلها في تلك المواد المقدمة لها، ووسائل الإعلام التي حظرت موادها، وتبرر ذلك بأنّ هذه المعلومات ستدل على أحداث أمنية وعلى تدخل الرقابة فيما يتعلق بها، وعندما تتدخل الرقابة في المواد المقدمة لها تُمنع وسائل الإعلام من أن تحدد أو تشير إلى أنّ هناك تدخلًا من الرقابة في المادة.
الرقابة العسكرية في الحرب على غزة:
تتزايد تدخلات الرقابة العسكرية في المحتوى الإعلامي عادة مع كل تصعيد أو حدث أمني أو عملية عسكرية، إلّا أنّ الرقابة العسكرية قد حطّمت رقمًا قياسيًا غير مسبوق خلال الحرب الحالية على قطاع غزة، فحسب تقرير لموقع “سيحاه مكوميت” وحركة حرية المعلومات، شهدت السنوات الأربعة السابقة لعام 2023 تراجعًا ملحوظًا في تدخل الرقابة العسكرية في المواد المنشورة، إلّا أنّ عام 2023 شهد تزايدًا في نشاطها من جميع النواحي كمًا ونوعًا، بأضعاف ما كان عليه الحال في السنوات السابقة، إذ تضاعف عدد المواد المقدمة إلى الرقابة العسكرية من 5916 مادة عام 2022 إلى 10527 مادة عام 2023، حظرت الرقابة العسكرية نشر أكثر من 613 مادة منها حظرا كاملًا، وبما يشكل تقريبًا أربعة أضعاف ما كان عليه الحال عام 2022، فيما تدخلت في حذف أجزاء من 2703 مادة أخرى، بما يشكل تقريبًا ثلاثة أضعاف ما كان عليه الحال في السنة السابقة.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذه الأرقام تغطي عام 2023 فقط، ولا تشمل أشهر الحرب التالية من عام 2024، أي أنّ هذا الانفجار في نشاط الرقابة العسكرية يتركز في الربع الأخير من عام 2023 فقط، ما يعني أنّ عدد المعطيات سيكون أكبر بكثير عند احتساب أشهر الحرب الطويلة بما شهدت من أحداث أمنية في مختلف الجبهات والأصعدة.
إن التطور النوعي اللافت الذي يشير إليه التقرير هو أنّ ممثلي الرقابة العسكرية حاضرون بشخوصهم في استوديوهات الأخبار لمراقبة بثها وتغطيتها للأحداث، كما أنّ نشاطها لا يقتصر على وسائل الإعلام التقليدية فقط، وإنما تعداها إلى وسائل التواصل الاجتماعي، إذ إن ممثلي الرقابة العسكرية يمشطون وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي بحثًا عن أيّ خرق لقيود الرقابة.
من اللافت هنا ما صرّح به مالك قناة “حدشوت بزمان” على تطبيق تلغرام، وهي القناة التي تحظى بمتابعة وشعبية كبيرة، سواء لدى الجمهور “الإسرائيلي” أو الفلسطيني والعربي، إذ يُنظر إليها على أنها موثوقة، ومعظم مشاهد اعتراض صواريخ المقاومة أو إصابتها لإهدافها سواء في الشمال أو الجنوب تأتي منها، حيث أكدّ مالكها عدة مرات أنه خاضع للرقابة العسكرية، وأنه يدرك أنّ قناته مليئة بـ”المخربين” حسب وصفه، وأنه حذف أكثر من 20 ألف “مخرب” في شهر فقط، ولذلك يقول: “من حسن الحظ أنني حذر وخاضع للرقابة“، وقد دعا المستوطنين على قناته إلى الانضمام إلى مجموعته على تطبيق واتسآب، لأنه يتمكن من النشر هناك بحرية أكثر بسبب عدم وجود “المخربين”.
الرقابة على وسائل الإعلام الأجنبية:
لم يقتصر نشاط الرقابة العسكرية على وسائل الإعلام “الإسرائيلية” التقليدية والرقمية، وإنما تعدى ذلك إلى فرض الرقابة على وسائل الإعلام الأجنبية، ومع أنّ هذا أمر اعتيادي، إذ يُطلب من الصحافيين الأجانب أن يحصلوا على تصاريح تفيد بالتزامهم بالرقابة، حسب موقع “إنترسبت”، إلّا أنّ هذا الموقع حصل على وثيقة أصدرتها الرقابة العسكرية إلى الصحافة الأجنبية في بدايات الحرب، تحظر عليها نشر أية مواد تتعلق بثمانية مواضيع قبل الحصول على الإذن من الرقيب العسكري، وهذه المواضيع هي:
- الرهائن، أية معلومات عنهم أو عن وضعهم الصحي أو عن المفاوضات حول إطلاق سراحهم.
- العمليات العسكرية، حظر الرقيب كل شيء يتعلق فيها تقريبًا، إضافة إلى انتشار القوات وتحركاتها ومواقع القبة الحديدية وما إلى ذلك.
- المعلومات الاستخباراتية، سواء فيما يتعلق بالنوايا أو القدرات التي تحظى باهتمام العدو.
- منظومات السلاح، بما يشمل التفاصيل حول الأسلحة التي يستخدمها الجيش أو الأسلحة التي غنمها العدو، حتى وإن كان ذلك بناء على معلومات نشرها العدو.
- الهجمات الصاروخية، يُمنع النشر عن الهجمات الصاروخية التي تستهدف البنية التحتية الاستراتيجية ومحطات الطاقة والماء والغاز والمواصلات والقواعد العسكرية والمصانع وغيرها من المواقع الحساسة.
- الهجمات السيبرانية، سواء ما تتعرض له “إسرائيل” أو ما تهاجم هي به أعداءها.
- زيارات القيادات السياسية والعسكرية لمواقع القتال.
- المجلس الأمني المصغر، يُحظر نشر أي تسريبات من اجتماعاته قبل نشرها رسميًا.
قد يبدو من المنطقي أن يُحظَر الحديث عن بعض هذه المواضيع لاعتبارات أمنية، ولكن بعضها الآخر لا ينبع من اعتبارات أمنية، وإنما من اعتبارات سياسية ودعائية، مثل الخسائر التي يتعرض لها الاحتلال.
لم تقتصر جهود فرض الرقابة الإعلامية على ما تمارسه الرقابة العسكرية، وإنما شمل سياسات أخرى لحجب المعلومات خارج نطاق الساحة “الإسرائيلية” ، حيث شمل الساحة الفلسطينية أيضًا، خاصة في قطاع غزة، إذ منع الاحتلال الصحافة الأحنبية من الدخول إلى غزة منذ بداية الحرب، وما زال مستمرًا في منعها، تحت حجة أن الظروف الأمنية لا تسمح بدخولها، كما اغتالت قوات الاحتلال 141 صحفيًا في القطاع وحده منذ بداية الحرب وحتى شهر أبريل/نيسان المنصرم، فضلًا عن إصابة العديد من الصحافيين، منهم مراسل قناة الجزيرة وائل الدحدوح، واستهداف عائلاتهم واغتيال عدد من ذويهم، كما اغتالت قوات الاحتلال صحافيين وجرحت خمسة آخرين في جنوب لبنان، وفي الضفة الغربية اعتقلت قوات الاحتلال 66 صحافيًا حتى شهر أبريل/نيسان.
إضافة إلى ذلك، اتخذت حكومة الاحتلال قرارًا بإغلاق قناة الميادين وحظر بثها في “إسرائيل” في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2023، بذريعة أنها تضر بالأمن، لتبدأ بعدها حكومة الاحتلال بالتهديد والتلويح بإمكانية إغلاق قناة الجزيرة، إذ بادر وزير الاتصالات “الإسرائيلي” “شلومو كرعي” إلى طرح مشروع “قانون منع المس بأمن الدولة من قِبل هيئة بث أجنبية“، المعروف بـ”قانون الجزيرة”، على الحكومة “الإسرائيلية” في فبراير/شباط 2024، وقد حظي بموافقتها، وأقرّ “الكنيست” “الإسرائيلي” هذا القانون في الأول من أبريل/نيسان المنصرم، وبموجب القانون، إذا اقتنع رئيس الوزراء أو وزير الاتصالات بضرر القناة الأجنبية على أمن “إسرائيل” فإنّ بإمكانه إغلاق القناة بموافقة الحكومة ورأي أمني واحد، وفي حال الموافقة تُغلق القناة المستهدفة وتُصادَر معداتها، بما يشمل هواتف الصحفيين، إضافة إلى منع بث تقارير القناة، وإزالتها من شركات البث، وحجب مواقعها الإلكترونية، ويُجدَد القرار كل 45 يومًا.
في الخامس من مايو/أيار اتخذت الحكومة قرارًا بإغلاق قناة الجزيرة ومنعها من البث، وبعيدًا عن جملة الأسباب التي تقف خلف القرار، ولعل أهمها تعثر مفاوضات التبادل ثم انهيارها، فإن هناك سببًا أهم يقف خلف الاستهداف “الإسرائيلي” لقناة الجزيرة تحديدًا، وهو أنها شكّلت بديلًا للجمهور “الإسرائيلي” وقيادته السياسية، وحتى لدى الإدارة الأمريكية، لتجاوز الرقابة الصارمة التي تفرضها الرقابة العسكرية على ما يُنشر في الإعلام “الإسرائيلي”، وقد عبّر عن ذلك تصريحان لافتان، أحدهما لوزير العدل “الإسرائيلي” “ياريف لافين“، وهو “ليكودي” مقرب من “نتانياهو”، الذي نقل عنه في 7 مايو/أيار أنه قال في اجتماع له مع عائلات أسرى الاحتلال: “لا أعرف الكثير عن مسار الحرب والمفاوضات، لا يخبروننا بشيء ولا يشاركون شيئا معنا”، قاصدا بذلك القيادة السياسية والعسكرية لدى الاحتلال، وأضاف أنّ جُل ما يعرفه من معلومات من مشاهدته لقناة الجزيرة، لأنه يعرف اللغة العربية. وأما الآخر فهو لمنسق الاتصالات الإستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأميركي “جون كيربي“، الذي قال في 7 أمايو/أيار أيضًا: أنهم لم يكونوا يعرفون بأن حماس سترد على اقتراح صفقة التبادل إلّا عندما شاهدوا الخبر العاجل على قناة الجزيرة، ولعلّ في هذين التصريحين ما يشير إلى أنّ إشكالية قناة الجزيرة لدى الاحتلال كانت في أنها تتحدى الهيمنة الإعلامية التي تحاول الرقابة العسكرية “الإسرائيلية” فرضها، سواء داخل المجتمع “الإسرائيلي” أم في الغرب، لأنّ الرقابة العسكرية تستهدف الجمهور “الإسرائيلي” أيضًا لأسباب لها علاقة بتماسك جبهته الداحلية.
أبعاد الاعتماد على الإعلام “الإسرائيلي”:
يشير ما سبق من معطيات إلى أنّ الإعلام “الإسرائيلي” يحتوي في داخله على إشكالية كبيرة تجعل التعامل معه يتطلب حذرًا كبيرًا وتيقظًا لكل ما يرد فيه، ما يستوجب التخفيف من حدة التهافت الفلسطيني والعربي على النقل عن هذا الإعلام، والحديث هنا فقط عن إشكالية خضوعه للرقابة العسكرية التي بلغت أوجها في أتون الحرب الدائرة على قطاع غزة، إلّا أنّ الواقع الإعلامي الفلسطيني والعربي يشير إلى عكس ذلك تمامًا، إذ إنّ المُلاحظ وجود حالة تهافت شاملة على الإعلام العبري، بكثافة النقل عنه، سواء أكان إعلامًا رسميًا تقليديًا أم وسائل تواصل اجتماعي، والتعامل معه بنوع من المصداقية العالية، لدرجة أنّ كثيرًا من السرديات التي روّج لها الإعلام العبري والخطاب الصهيوني عمومًا منذ بداية الحرب أصبحت هي السائدة في النقاش السياسي العربي والفلسطيني.
من الموضوعات التي يسعى الإعلام “الإسرائيلي” الخاضع للرقابة والتوجيه العسكري إلى ترويجها، ويكرره الإعلام العربي، هو حصر الحرب واستمراريتها وتطورها بشخص رئيس الوزراء “الإسرائيلي” “بنيامين نتانياهو”، وحصر قرار الحرب والمفاوضات وتوابعها فلسطينيًا برئيس حركة حماس في قطاع غزة يحيى السنوار، فكثيرًا ما تصدر أخبار عن الإعلام العبري تفيد بأن السنوار توقف عن التواصل مع القيادة السياسية في الخارج، أو أنه انتقل من مكان إلى آخر، أو أنه يحيط نفسه بالأسرى “الإسرائيليين”، وهي معلومات تتنافى مع حقيقة أنّ الاحتلال لم يتمكن من معرفة مكان السنوار وبقية قيادة المقاومة في غزة حتى بعد مرور قرابة 8 أشهر على الحرب، فكيف بإمكانه أن يعلم أي تفاصيل أخرى عنه؟
لعلّ من أهم القضايا التي تدور حولها شكوك بأنّ الاحتلال يفرض عليها رقابة عسكرية صارمة هي خسائره المادية والبشرية خلال الحرب الحالية، سواء في قطاع غزة أم على الجبهة الشمالية، أم فيما يتعلق بالهجمات الصاروخية المسيرة التي تُنفَذ من العراق ومن اليمن يوميًا، أم في الضفة الغربية خلال المواجهات مع المقاومة، وقد دأبت قوى المقاومة على الإعلان عن عملياتها وعن خسائر الاحتلال فيها، خاصة في قطاع غزة ولبنان، وفي بعض العمليات في الضفة الغربية أيضًا، غير أنّ ما يُصرّح به الاحتلال يكاد ينفي وقوع أي خسائر في صفوفه، إلّا في حدوده الدنيا، وقد استطاعت قوى المقاومة أن تبرهن على إعلاناتها عن عملياتها وخسائر الاحتلال فيها بتوثيق هذه العمليات بالصورة، غير أنّ الاحتلال، مع ذلك، يتجاهل في أحيان كثيرة هذه التوثيقات، وإن كان يعلن عن سقوط قتلى وجرحى في صفوف قواته، فإنه نادرًا ما يتطرق إلى خسائره المادية، مع أنّ أكثر توثيقات فصائل المقاومة تحتوي على استهداف الآليات العسكرية.
دفعت حالة التجاهل والإنكار هذه الناطق باسم كتائب القسام، وغيره من الناطقين باسم فصائل المقاومة، والأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، إلى التحدث عن هذا الموضوع تحديدًا في عدة من خطابات، وأصدر حزب الله مقطعًا مرئيًا حمل عنوان “والله مخرج ما كنتم تكتمون” مذكرا فيه بتوثيقاته التي أظهر فيها استهداف قوات الاحتلال وتحقيق إصابات مباشرة فيها. وقد خلق هذا الأمر فعليًا أزمة مصداقية، فالإعلام العربي والفلسطيني بغالبيته يميل إلى تصديق ما يقرّ به الاحتلال من خسائر في صفوف قواته، سواء مادية أو بشرية، بينما يتجاهل كلية بيانات قوى المقاومة المرفقة بتوثيق مصور في أحيان كثيرة عند الحديث عن خسائر الاحتلال، ويعتمد رواية الاحتلال حول خسائره في المحصلة النهائية، ليس المقام هنا لإثبات أنّ الاحتلال يخفي خسائره أو لا يخفيها، وإنما لتسليط الضوء على أنّ رواية الاحتلال تميل إلى أن تكون الأكثر قبولًا لدى الإعلام العربي والفلسطيني، في حين تظل رواية المقاومة معلقة حتى يأتي البرهان عليها من لَدُن الاحتلال نفسه، غير أنّ هذا الأمر لا يستقيم مع حقيقة أن الإعلام “الإسرائيلي” خاضع لرقابة عسكرية كثيفة تفرض عليه ما ينشر وما لا ينشر.
الخاتمة:
يتضح أنّ الرقابة العسكرية تحظى بدور محوري في الإعلام “الإسرائيلي”، وقد لعبت دورًا مهمًا في الحرب على غزة، سواء على صعيد حظر نشر المعلومات أو حذف أجزاء منها في وسائل الإعلام “الإسرائيلية” الخاضعة لهذه الرقابة، ما ساهم في التضليل المعلوماتي، لا سيما على صعيد المتلقي العربي، خاصة أنّ كثيرًا من المعلومات والتفاصيل لا يمكن الحصول عليها إلّا من الإعلام “الإسرائيلي”، تحديدًا فيما يتعلق بالشأن “الإسرائيلي” والسجال السياسي والعسكري والأمني المتعلق به، غير أنّ هذا الأمر يجب أن يأخذ بالحسبان مسألة الرقابة العسكرية المفروضة عليه، ومحاولات الاحتلال الهيمنة على الرواية الإعلامية فيما يتعلق بالحرب على غزة وتطوراتها، عبر عزل الإعلام الفلسطيني والعربي والأجنبي عن المشهد، سواء بالاستهداف المباشر أو التضييق أو المنع، فهذه الأمور تحتم على المتابع للإعلام العبري أو المنشغل بما يجول فيه أن يكون حذرًا ومراعيًا لهذه الاعتبارات، وإلّا فإنّ رواية الاحتلال ستتسلل، وقد حدث ذلك بالفعل في بعض الجوانب، إلى الخطاب والنقاش السياسي العربي والفلسطيني وستصبح هي المهيمنة عليه.
[1] – باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، رام الله