مقال مصور: الأرض في المخيال الشبابيّ الفلسطينيّ

توطئة

يسلط هذا التقرير الضوء على صورة الأرض في المخيال الشبابيّ الفلسطينيّ، بأطروحة مفادها أنّ الشباب يسعى اليوم لخلق حالة من الوعي بمعنى الأرض، قوامها الارتباط العضوي بكامل أراضي فلسطين التاريخية، متجاوزًا بذلك البُعد المعرفي إلى البُعد الوجدانيّ، ومتفلتًا من منظومة النسيان التي تنتهجها الجهات الاستعمارية والسلطوية. ولتدشين هذه الأطروحة، يتتبّع التقرير الخيط الناظم الذي ينسجه الشباب بين الأرض والإنسان والحكاية التاريخية، وعبر ثلاث محطات تراتبية. أولها ما أبدعوه من مبادرات لتنظيم زيارات جماعية للقرى والجغرافيات الفلسطينية، أو ما يُعرف بالمسارات والتجوالات التعليمية، والتعرف على أبرز دوافعهم وأهدافهم. وثانيها الوقوف على الدور الذي تقوم به هذه المبادرات لتعزيز الانتماء والهوية عند الشباب. وثالثها البحث في أهمية هذه المبادرات في بناء الذاكرة الفلسطينية، باعتبارها أحد ركائز المشروع التحرري.

الأرض في أجندة المبادرات الشبابية

لا ينفكُ الفلسطينيُّ مرتبطًا بأرضه؛ فبها تُعرف هويته، وعليها صاغ تفاصيل حكايته التاريخية، ولتهجيره القسريّ منها كانت نكبته. وقد تباينت شدة هذا الارتباط، وتعددت مظاهره الثقافية في المراحل المختلفة للتجربة الفلسطينية، فشاع حضور البندقية ترميزًا للدفاع عنها، وارتبط المفتاح بحق العودة إليها. في السنوات الأخيرة أضاف الشباب مظهرًا جديدًا للارتباط بالأرض، وهو ما بات يُعرف بالمسارات أو التجوالات التعليمية، التي تهدف لإعادة ترسيم الروابط بين الإنسان والأرض في فلسطين، من خلال تنظيم رحلات ميدانية إلى قُرى وبلدات في مناطق جغرافية مختلفة تمتد في كل أنحاء فلسطين التاريخية، وتتميّز بمنحاها التعليميّ التثقيفي، ومحاولتها الخروج عن النمط السياحيّ؛ فالزائر هو ابن هذه الأرض، وليس غريبًا عنها.

 تتمحور أهدافُ المنظمين لهذه المبادرات حول غايات المعرفة والتعلّم بشكل رئيس. تقول آلاء سامي، إحدى مؤسِسات مبادرة (شغف للأرض للمعرفة)، التي انطلقت عام 2014: “كانت المبادرة جوابًا لسؤال أرّق عقولنا، وهو: كيف لمن لا يعرف بلده أن يدافع عنها؟، من هنا اجتمعنا حول فكرة تنظيم زيارات لأكبر عدد ممكن من المُدن والقرى الفلسطينية، من رأس الناقورة شمالًا وحتى النقب جنوبًا، وأنصتنا لصوت العروبة الذي حدثتنا به الأرض” (سامي، 2017).

أما سامر الشريف، أحد منظمي مبادرة (تجوال سفر)، التي أُسِست عام 2011، فيضيف: “هدفنا هو الخروج عن نمطية التعليم التي ابتليت بها مجتمعاتنا، وأردنا أن نتعلم فلسطين أولًا، ولجأنا إلى الأرض كمصدر أوليّ للمعرفة يخاطب حواسنا الخمس، فتجاوزت بذلك مخرجات العملية التعليمية حد العقل إلى الوجدان، فعرفنا فلسطين وأحببناها” (الشريف،2017).

يمتزج التعلّم بالترفيه والمتعة في هذه المبادرات، ويتمرد الشباب على النمط النيولبرالي الذي فرض نفسه على المجتمع الفلسطيني كغيره من المجتمعات. فصاروا يخرجون إلى الطبيعة ويتناولون الوجبات الصحية، ويمارسون رياضة المشي لمدة لا تقل عن ثلاث ساعات، أو يركبون الدراجات الهوائية، مثل مبادرة (فلسطين على البسكليت)، التي ينظم القائمون عليها جولات أسبوعية في مناطق مختلفة من فلسطين، مثل منطقة حرم الرامة في الخليل، وقرية بتير التي أدرجتها اليونسكو مؤخرًا في قائمة التراث العالمي (cycling Palestine.2017).

الأرض في مرئيات المبادرات الشبابية

تزخر الصفحات الرسمية لهذه المبادرات على مواقع التواصل الاجتماعي بصور ما أُنجز من تجوالات ومسارات يلتقطها القائمون عليها، أو المشاركون فيها، التي تُظهِر مدى تحقيق هذه المسارات لغاياتها وأهدافها؛ مما يُحفز الشباب للمشاركة في المسارات القادمة.

الأرض في المخيال الشبابيّ

يمكن أن نقرأ محاولة هذه المبادرات التفلُّت من قبضة التقسيمات الجيوسياسية، التي أنتجتها مشاريع التسوية المختلفة من منظورين اثنين. الأول هو طبيعة الأماكن التي يتم اختيارها، التي لا تقتصر على المناطق المحتلة عام 1967، وإنما تمتد لتشمل مناطق من الداخل والقدس وبعض القُرى المُهجّرة، مع الاهتمام بالمناطق المهمشة التي تعاني من وتيرة عالية في عمليات التهويد، كمناطق غرب القدس والبلدة القديمة في الخليل. والثاني هو التشارك بين شباب الجغرافيات المتعددة في المسار الواحد. وفي هذا السياق يقول الشريف: “إنّ ما ننظمه من تجوالات ليس حصرًا على أهل الضفة، وإنما يشارك فيها أهل القدس والداخل أيضا، فمثلا تنطلق حافلة من القدس وأخرى من الناصرة. لدى تجوال سفر منسق في منطقة النقب وآخر في القدس، فضلا ًعن منسقي الخليل ونابلس ورام الله”.

تتميّز هذه المسارات أيضا بدرجات عالية من التنظيم، فالمسار يسبقه جملة من التحضيرات. وعنها يقول صالح غانم مؤسس مشروع فسحة فلسطينية: “لكل مسار برنامج محدد يتم الإعلان عنه على موقع فيسبوك، ولكل مسار موضوع معين يُعنى به، ويرتبط عادةً بما تشتهر به المنطقة التي سنذهب إليها، فبعض القرى المهجّرة شهدت حملات تطهير عرقي، وبعضها شهد قصصًا بطولية في الصمود الفلسطيني. بعضها يتعرّض للتهويد والآخر مُعرّض للمصادرة. يسبق المسار عادةً بعض الزيارات الاستكشافية للمكان بغرض التعرّف عليه، وأستعين بخبرتي وبكوني باحثًا مختصًّا في علوم التاريخ والآثار، لتزويد المشاركين بمعلومات تفصيلية عن أبرز معالم المكان، وتاريخه وآثاره” (غانم، 2017).

فضلًا عن هذا الاهتمام بالأرض، يولي المنظمون اهتمامًا خاصًا لحكايتها التاريخية، التي حاولت السلطات الإسرائيلية طمسها لإثبات أحقيتها في امتلاك أرض فلسطين، فيحرصون على الالتقاء بأهالي القرى ممن شهدوا النكبة والنكسة، ويستمعون إلى شهاداتهم وحكاياتهم التي مازالت تحتضن التاريخ الحقيقيّ للقضية، ويطربون لأغانيهم وأهازيجهم، ويسألون عن أصل التسمية العربية للمكان، التي يحاول الاحتلال طمسها وتغييرها، وأبرز ما تشتهر به من نباتات وأعشاب جبلية، فيستنشقون روائحها المميزة، لتحفر هذه الرائحة خارطة المكان في المخيّلة.

 يجمع المشاركون ما استقبلته حواسهم، وما أدركته عقولهم، لترسم بها صورة الأرض الحيّة في المخيلة الشابة الجديدة، فتتصدى لخيانة الذاكرة، وتسهم في إعادة هندسة وعي الفلسطينيّ المرتبط بغاياته التحررية، فيعاود هو إنتاجها وتوثيقها، إما بالتدوين حولها، كتدوينات مبادرة “شغف للأرض للمعرفة” حول الأماكن التي تتم زيارتها، والتي تُنشر على صفحة المبادرة الرسمية في موقع فيسبوك (شغف للأرض للمعرفة، 2017). أو من خلال إنتاج كتيبات تتحدث بشكل تفصيليّ عن هذه المناطق، مثل الكتيب الذي أصدرته “فسحة فلسطينية” عن قرية دير الشيخ المهجرة غرب مدينة القدس. أو من خلال إنتاج المرئيات والأفلام المستوحاة من الصور التي يلتقطها الشباب بكاميراتهم وهواتفهم المحمولة، كتلك التي أنتجتها مبادرة تجوال سفر عن تجوالها في بلدة دير قديس غرب مدينة رام الله ( تجوال سفر،2017)، التي تهدف إلى إحياء ذاكرة الأرض الفلسطينية، وتكثيف حضورها الثقافي في الشارع الفلسطيني.

الأرض، الهوية وسياسات الذاكرة

تندرج هذه المبادرات ضمن المساعي الحثيثة للقواعد الشعبية الشابة، من أجل تفعيل الحضور الثقافي لعناصر الهوية الفلسطينية، وهي  كما يحددها عبدالرحيم الشيخ –أستاذ الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة بيرزيت-الأرض والشعب والحكاية التاريخية وذلك بغرض خلْق حالة من الوعي الثقافي تسهم في إحداث يقظة بالذات والهوية، باعتبارها أحد العوامل المهمة لإنجاز المشروع التحرريّ. (الشيخ،2017).فالشعب الفلسطينيّ، كما يرى فيصل درّاج، لم ينجز هويته القومية بالشكل الكامل بسبب نكبة عام 1948، بتركيبتها البنيوية المستمرة حتى اللحظة، وذلك بخلاف البشر العاديين الذين تُنتج هويتهم من العيش المستقر ودولة المؤسسات؛ ولذلك يتعين عليهم أن يعوضوا ما سُلِب منهم بأساليب مختلفة كي يبقوا  فلسطينيين. كما أنّ الانتماء إلى الأرض، وتعزيز هذا الانتماء من خلال هذه المبادرات، يعطي هذه الهوية العنصر الثابت الذي يضمن استمراريتها، لتُنجز ذاتها بالتحرر، وذلك على غرار فكرة الإنسان المشروع، الذي تحمله غاياته إلى هويته (دراج،2010، 9).

فإذا كانت الثقافة طريقة شاملة في الحياة كما يقول ريموند ويلم (ويلم،1999،10)، فإن مثل هذه المبادرات تسهم في خلق حياة للشعب الفلسطيني تتمحور حول فلسطين الفكرة الحيّة (الشيخ،2017)؛ إذ تُعيد قدرة الفلسطينيّ على تعريف نفسه بمعرفة الأرض التي ينتمي إليها، واحتفاظه بذاكرته التاريخية التي يحاول الاحتلال سلبها منه، وذلك بسبب اصطدامها بحكايته المزعومة، التي صاغتها الحركة الصهيونية لتبرر إنشاء كيان قوميّ لليهود في فلسطين وتدعمه. إنّ هذا الترابط بين مكونات الهوية القومية الفلسطينية، الأرض والشعب والحكاية التاريخية، يتبلور في حالة ثقافية مجتمعية قادرة على تحويل فلسطين الفكرة الحيّة إلى فلسطين القضية، أيّ تحويل هذه الفكرة إلى مشروع وطنيّ فلسطيني، يسعى لتحرير فلسطين من النهر إلى البحر.(الشيخ،2017).

خاتمة

سلّط هذا التقرير الضوء على محاولات الشباب الفلسطينيّ إعادة صلته المباشرة بالأرض، وذلك من خلال المبادرات التي تنظمها القواعد الشعبية الشابة، وتتضمن مسارات وتجوالات في مناطق جغرافية متفرقة، تشمل كل مناطق فلسطين التاريخية، وترتبط بأهداف معرفية تعليمية تسعى لخلق صورة جديدة للأرض في المخيال الشبابي تتصدى لخيانة الذاكرة. تندرج هذه المبادرات ضمن سياسات الحركة الوطنية الفلسطينية لإحياء الذاكرة الفلسطينية، باعتبارها أحد أهم ركائز المشروع التحرري، إذ تسعى من خلال هذه السياسات لخلق حالة من الوعي في الشارع الفلسطيني بمكونات الهوية المسلوبة، لتكون وقودًا للمشروع التحرري.

قائمة المصادر والمراجع

سامي، آلاء. (25 سبتمبر2017)، “الحديث عن مبادرة شغف للأرض للمعرفة”. (الباحثة، مقابلة شخصية).

الشريف، سامر. (25 سبتمبر 2017)، “الحديث عن مبادرة تجوال سفر”. (الباحثة، مقابلة شخصية).

غانم، صالح.(20 سبتمبر2017)، “الحديث عن مبادرة فسحة فلسطينية”. (الباحثة، مقابلة شخصية).

فلسطين على البسكليت. (28 سبتمبر 2017). “المعلومات التعريفية”، تم الاسترداد من موقع فيسبوك على الرابط التالي https://www.facebook.com/cyclingpalestine/

شغف للأرض للمعرفة. (28 سبتمبر 2017). “المعلومات التعريفية”، تم الاسترداد من موقع فيسبوك على الرابط التالي https://www.facebook.com/shgaaf/

تجوال سفر. (4 أكتوبر 2017). “برومو تجوال عين قديس”، تم الاسترداد من موقع فيسبوك على الرابط التالي https://www.facebook.com/tjwalSafar/

درّاج، فيصل. “فلسطين: الهوية والثقافة “. نسخة إلكترونية على الرابط التالي http://yaf.ps/server/uploadedFiles/docs/palestinian-issuse10/2.pdf

وليام، راموند. طرائق الحداثة، مراجعة فاروق عبدالقادر. عالم المعرفة: الكويت، 1999.

الشيخ، عبدالرحيم. فلسطين-الهويَّة والقضيَّة: الجامعة وإعادة بناء السَّرديَّة الوطنيَّة الفلسطينيَّة.باب الواد،2017.نسخة إلكترونية على الرابط التالي http://cutt.us/ABSeO

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى