ملفات وقضاياشؤون إسرائيليةالمشهد الفلسطيني

هل تسعى “إسرائيل” إلى تقويض الاقتصاد في الضفة الغربية لدوافع سياسية؟

أ. كريم قرط[1]

تشهد الضفة الغربية أوضاعًا اقتصادية كارثية في ظل استمرار عدوان الاحتلال على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة بشكل مواز، فمنذ بدء العدوان “الإسرائيلي” على غزة شرع الاحتلال بتنفيذ جملة من الإجراءات أدت إلى خنق الاقتصاد الفلسطيني في الضفة، وإلحاق خسائر فادحة فيه، تشبه الآثار الناتجة عن أزمة كورونا والإغلاق المرافق لها.

إنّ الحديث عن الاقتصاد لا ينعزل عن المجتمع الفلسطيني الذي تجرع ثِقل هذا العدوان الاقتصادي غير المسبوق، وعل ذلك يعيد إلى الذاكرة ما جرى في السنوات التي أعقبت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، فعقب تلك الانتفاضة سادت لدى الاحتلال جملة من الرؤى السياسية حول مستقبل الصراع، تموضع الاقتصاد في قلبها، ما دفع إلى تقديم أطروحة “السلام الاقتصادي” لرئيس وزراء الاحتلال “بنيامين نتانياهو”، ولكن يبدو أنّ الاحتلال وصل إلى قناعة بأن هذه الرؤى قد وصلت إلى طريق مسدود، وأنّ عليه أن يغير من استخدامه للاقتصاد من أداة ترغيب إلى أداة ترهيب، وذلك لإعادة إنتاج الواقع الاقتصادي بما يتوافق مع الظرف السياسي الحالي والمستقبلي.

يتطرق هذا التقرير إلى مناقشة أبرز معالم الحرب الاقتصادية التي يشنها الاحتلال على الضفة الغربية، وتبعاتها المدمرة على الاقتصاد والمجتمع الفلسطيني، ومحاولة فهم المغزى من ورائها. ويسعى للإجابة عن تساؤل إذا ما كان هذا التقويض منهجي يهدف إلى تحقيق أهداف سياسية بعيدة الأمد مرتبطة بمستقبل الضفة؟

عمال الداخل المحتل:

دأب الاحتلال في السنوات الأخيرة على استخدام مسألة العمل في الداخل المحتل، وإصدار التصاريح على أنها أداة ضبط وسيطرة على المجتمع الفلسطيني، يستطيع من خلالها تحييد جزء كبير من الشعب الفلسطيني عن مجمل القضايا الوطنية، فحصول أحد أفراد أسرة ما -لا سيما إن كان المعيل الأساسي لها- على تصريح للعمل في الداخل المحتل كان يشكل أداة ضبط لكل أفراد العائلة، إذ إنّ سياسة إصدار التصاريح تعتمد على معايير أمنية للاحتلال تصنف الفلسطينيين من خلالها إلى “فلسطيني نظيف” و”غير نظيف”، أي أنه ليس لديه سجل أمني مقاوم للاحتلال أو مشارك في النشاطات الوطنية العامة.

نتج عن هذه السياسة وجود قرابة 170 ألف عامل فلسطيني في سوق الاحتلال حسب بيانات جهاز الإحصاء الفلسطيني، فضلًا عن عشرات آلاف العمال الذين يعملون بلا تصاريح (تهريب)، وحاملي جوزات السفر الأجنبية، وقد كان ملاحظًا في السنوات الأخيرة وجود ميل لدى فئة الشباب للحصول على تصاريح العمل في الداخل المحتمل، مع الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها السلطة الفلسطينية وتدني الأجور والمرتبات في الضفة مقارنة بالداخل.

يضخ عمال الداخل أكثر من مليار و400 مليون شيكل شهريًا في السوق الفلسطيني، وتشكّل هذه الأموال إحدى أهم ركائز الاقتصاد الفلسطيني التي تساهم في تنشيط الحركة التجارية وتوسع نشاط القطاع الخاص، غير أنه منذ 7 أكتوبر أصبح هؤلاء العمال في عداد العاطلين عن العمل نظرًا لسياسة إغلاق الضفة التي اتخذها الاحتلال منذ بداية العدوان، عدا بعض العمال الذين سمح لهم الاحتلال بالعودة إلى عملهم لحاجته الماسة لهم لتشغيل بعض القطاعات الحيوية، وفضلًا عن حرمان السوق الفلسطينية من عوائد أجورهم، أصبحوا عبئا على الاقتصاد الفلسطيني الذي كان يصرف فائض بطالته العمالية في سوق الاحتلال.

من غير المؤكد أنّ الاحتلال سيسارع إلى إعادة هؤلاء العمال إلى عملهم عقب انتهاء عدوانه، فقد وردت تقارير أنّ هناك مباحثات بين حكومة الاحتلال والهند لاستقدام من 50 إلى 100 ألف عامل هندي ليحلوا مكان العمال الفلسطينيين، ما يشير إلى أنّ هناك سياسة لدى الاحتلال بالاستغناء عن العمالة الفلسطينية، تعززها توجهات لدى قطاعات من المجتمع بالانفصال عن الفلسطينيين كليًا.

حصار الضفة:

بالتزامن مع إيقاف عمال الداخل عن عملهم نتيجة إغلاق الضفة، فرضت سلطات الاحتلال حصارًا خانقًا عليها، تمثل في إغلاق الحواجز التي تفصل بين كل محافظة ومدينة وقرية، وتضييق ظروف التنقل عبرها، ومنعها في أحيان كثيرة، إضافة إلى إقامة العديد من الحواجز الأخرى الثابتة والفجائية “الطيارة”، وإغلاق عدد من المناطق بالمكعبات الإسمنتية والبوابات، وانتشار المستوطنين على الطرقات ومهاجمتهم الفلسطينيين وسياراتهم.

أدت هذه السياسات إلى حرمان الضفة الغربية من المتسوقين من فلسطينيي الداخل المحتل والقدس، الذين يفضلون شراء احتياجاتهم من أسواق الضفة لانخفاض الأسعار عنها في الداخل، وقد كان هؤلاء المتسوقون يشكلون مصدر دخل مهم لعديد من القطاعات التجارية في الضفة، حيث كان معروفًا لدى الفلسطينيين أنّ يوم السبت تحديدًا يكون شبه مخصص لأهالي الداخل.

نتيجةً لهذا الحصار الخانق وصعوبة التنقل والحركة، تراجع النشاط التجاري في عموم الضفة، إذ أصبح التنقل بين المحافظات والمدن والقرى مهمة شاقة في ظل هذه الظروف، ما اضطر السائقين إلى سلك طرق وعرة وبعيدة للوصول إلى وجهتهم، وهذا أدّى إلى ارتفاع استهلاك السيارات للوقود، وازدياد الأجرة على الركاب في وسائل المواصلات العامة بين المحافظات والمدن، ففي بعض المناطق ارتفعت الأجرة من 10 إلى 20 شيكل، وبشكل عام انخفضت الحركة في أنحاء الضفة، فوفق عبد الله الحلو رئيس نقابة شركات الحافلات، تراجعت نسبة حركة المواطنين وتنقلهم في الضفة من 60 إلى 70% منذ بدء العدوان.

ألقى هذا الوضع بظلاله الكارثية على النشاط الاقتصادي، إذ أشار تقرير المرصد الاقتصادي التابع لوزارة الاقتصاد الفلسطيني أنّ 78% من المنشآت تعاني صعوبة في التنقل وتوزيع البضائع بين المدن بسبب إجراءات سلطات الاحتلال التعسفية، ووضع الحواجز والاجتياحات للمدن والمخيمات والبلدات الفلسطينية.

وقف رواتب موظفي السلطة:

ظلت السلطة الفلسطينية منذ أكثر من عامين تدفع لموظفيها رواتب منقوصة وبنسبة 80% في أغلب الأشهر، وكان هذا العجز نتيجة اقتطاع سلطات الاحتلال لجزء من أموال عائدات الضرائب التي يجنيها الاحتلال نيابة عن السلطة، والمعروفة بالمقاصة، حيث تقول الحكومة الفلسطينية إنّ حجم الاقتطاع تحت بنود متعددة بلغ قرابة 250 مليون شيكل شهريًا من مجمل 700 إلى 800 مليون شيكل، والذي هو حجم أموال المقاصة الكلي التي تشكل قرابة 60% من إيرادات السلطة الفلسطينية.

ثارت مخاوف من أن تقدم حكومة الاحتلال مع بدأ العدوان على وقف تحويل كل أموال المقاصة إلى السلطة الفلسطينية، وقد تحققت هذه المخاوف عندما قرر وزير مالية الاحتلال المستوطن المتطرف “بتسلإيل سموتريتش” تجميد تحويلها فعليًا، غير أنّ حكومة الاحتلال لم توافق على القرار كليًا، وإنما قررت أن تخصم من المبلغ ذلك الجزء المخصص لقطاع غزة، وعلى إثر ذلك قررت الحكومة الفلسطينية عدم استلام الأموال منقوصًا منها حصة غزة، إذ قالت وزارة المالية الفلسطينية أن حكومة الاحتلال اقتطعت منها 600 مليون شيكل، وعليه فإنّ السلطة الفلسطينية لن تتمكن من دفع رواتب موظفيها ومتقاعديها وما تطلق عليه أشباه رواتب مخصصة للحالات الاجتماعية وعوائل الأسرى والشهداء، حيث يستفيد من رواتب السلطة قرابة 250 ألف موظف ومتقاعد ومستفيد، بواقع أكثر من مليار و100 مليون شيكل شهريًا.

الدمار يطال القطاع الخاص:

يمكن القول أنّ هناك قرابة مليارين و500 مليون شيكل خرجت من السوق الفلسطيني نتيجة توقف عمال الداخل عن عملهم وعدم صرف السلطة الفلسطينية لرواتب موظفيها، وبطبيعة الحال انعكس هذا الأمر سريعًا على القطاع الخاص الفلسطيني، إذ تشكّل أجور عمال الداخل ورواتب السلطة أهم ركيزتين للاقتصاد الفلسطيني برمته، وإضافة إلى هذا الضرر المباشر فإن تشديد الحصار على الضفة الغربية وصعوبة تنقل العمال والموظفين والبضائع وتخوف الناس من استمرار حالة العدوان قد أدى إلى تراجع النشاط الاقتصادي وتكبد القطاع الخاص، لا سيما المنشآت التجارية صغيرة الحجم.

حسب تقرير المرصد الاقتصادي التابع لوزارة الاقتصاد فإنّ 25% من المنشآت أُغلقت بشكل كامل أو جزئي خلال العدوان، كما تعرضت 8% من المنشآت لاعتداءات مباشرة من جيش الاحتلال أو مستوطنيه، وقد كانت قرية حوارة أكثر المناطق التي تعرضت لتضييقات الاحتلال، التي فرض عليها الاحتلال إغلاقًا شاملًا منذ 7 أكتوبر، أدى إلى إغلاق نحو 255 منشأة اقتصادية من أصل أكثر 300 محل في الشارع الرئيسي للبلدة الذي حوله الاحتلال لثكنة عسكرية.

إضافة إلى ذلك، فقد سجلت المحلات التجارية في عموم الضفة -حسب بيان لوزارة الاقتصاد- تراجعًا في المبيعات في الأسبوع الأول من شهر تشرين الثاني/نوفمبر بنسبة تفوق 50%، ويتركز هذا التراجع في محلات الملابس والأحذية والأجهزة الكهربائية والألعاب والمنظفات والأثاث والسلع المنزلية وما شابهها من محلات تبيع منتجات يمكن أن تعتبر كمالية في هذه الظروف، إذ أنّ أغلب المنشآت الخدمية، من قبيل المطاعم والفنادق والسياحة والسفر والنقل تراجعت إيراداتها الشهرية بمتوسط 75%، كما أنّ الطاقة الإنتاجية للمنشآت الصناعية تراجعت بنسبة 50%، وهذا ما يشير إلى أنّ العدوان الحالي قد أصاب معظم قطاعات النشاط الاقتصادي في الضفة الغربية وألحق بها أضرارا بالغة، ومن المتوقع  مع استمرار العدوان أن تتضاعف هذه الأضرار وتطال قطاعات وشركات أخرى، إذ أعلنت وزارة العمل الفلسطينية أنها تلقت عشرات الطلبات من شركات صغيرة ومتوسط وكبيرة، تطلب فيها إعادة الهيكلة بما يشمل تسريح الموظفين.

أمام هذه الأوضاع الاقتصادية الكارثية التي طالت جميع أوجه النشاط الاقتصادي تبرز مشكلات أعمق، فهناك نسبة كبيرة من المجتمع الفلسطيني مرتبطة بقروض من البنوك أو بشيكات ودفعات شهرية لا يمكن الإيفاء بها إلا في حالة توفر الرواتب والأجور للموظفين والعمال، حيث يقوم الاقتصاد الفلسطيني منذ سنوات طويلة على التعامل بالشيكات كأوراق دفع مؤجل لشراء سلع أو خدمات، وتتخذ عملية التعامل بالشيكات منحنى تصاعديًا سنويًا، إذ إنّ التوقعات تشير إلى تسجيل رقم تاريخي في العام الحالي لقيمة الشيكات المصدرة، متجاوزًا حاجز 25 مليار دولار، وبطبيعة الحال كانت ترتفع قيمة الشيكات المرتجعة طرديًا مع ازدياد قيمة الشيكات المصدرة، غير أنّ قيمة الشيكات المرتجعة ارتفعت بنسبة 150% على أساس شهري في أول شهر للعدوان، إذ جاء في مسح أجرته منصة المنقبون استنادا لبيانات سلطة النقد الفلسطينية، أنّ قيمة الشيكات المرتجعة خلال الشهر الماضي بلغت 240.8 مليون دولار، صعودًا من 97.7 مليون دولار في سبتمبر/أيلول السابق له.

من المتوقع أنّ إرجاع الشيكات سيتضاعف مع الوقت في ظل ضبابية المشهد، فلا أحد يعلم متى ستستطيع السلطة دفع رواتب الموظفين، ولا أحد يعلم إذا كان عمال الداخل سيعادون إلى أعمالهم أم لا، ما يعني أن الضرر الاقتصادي سيمتد إلى سلسلة طويلة من أصحاب الشيكات الذين كانت تلك الشيكات وسيلة بيع وشراء متعددة الأطراف لديهم.

خاتمة:

لا يبدو أنّ ما تمر به الضفة الغربية من حرب اقتصادية مجرد أزمة عابرة سينجلي أثرها عقب انتهاء العدوان “الإسرائيلي” على قطاع غزة، إذ يبدو أنّ لدى الاحتلال رغبة حقيقية في عدم إعادة العمال إلى عملهم في الداخل، ولا يبدو أنّ أزمة المقاصة ستحل قريبًا، فأقطاب الحكومة “الإسرائيلية” المتطرفة من أمثال “بتسلإيل سموتريتش” و”إيتمار بن غفير” وبدعم من “نتانياهو” يعارضون تحويل أموال المقاصة إلى السلطة الفلسطينية، وحتى لو قبلت السلطة واستلمت أموال المقاصة بهذا القدر من الاقتطاعات، فإنها لن تكون قادرة على دفع رواتبها بشكل منتظم، ومن المرجح أنّ نسبة الراتب ستنخفض إلى أقل من النصف في هذه الحالة، وبطبيعة الحال فإنّ مثل هذه النسبة ستذهب لسداد القروض والشيكات، ولن يتبقى للموظفين ما يعيلون به أسرهم.

لعلّ هذه الحرب الاقتصادية الشعواء مرتبطة بأهداف سياسية أبعد من الظروف الحالية، إذ يعمل الاحتلال الآن على “كيّ وعي” الفلسطينيين في الضفة الغربية بمختلف الوسائل، ومن أهمها الوسائل الاقتصادية، ويبدو أنّ الاحتلال يوجّه رسالة غير معلنة إلى الشعب الفلسطيني بأنّ مقاومتكم للاحتلال لن تجلب عليكم سوى الدمار، فالاحتلال يبرع كثيرًا في سياسة العقاب الجماعي المفرط الهادف إلى تغيير قناعات الناس وإجبارهم على الاستسلام لمخططاته.

لا يبدو أنّ الحرب الاقتصادية ستنتهي قريبًا، خاصة أنها مرتبطة وناتجة عن عوامل كثيرة وليست ذات منبع وحيد، ولا يبدو أنّ نهاية العدوان على قطاع غزة ستكون أيضًا نهاية للعدوان على الضفة الغربية، في الشق الاقتصادي تحديدًا، فهذا الأمر مرتبط بمخططات تتعلق بمستقبل الضفة والسلطة الفلسطينية فيها، غير أنّ سياسة الاحتلال هذه هي سيف ذو حدين، فمن المحتمل أن تشهد الضفة اضطرابات كبيرة في ظل استمرار هذه الحرب الاقتصادية وعجز الناس عن مجاراة مستلزمات الحياة وهو ما لا يريده الاحتلال مطلقًا، في ظل تركيز جل جهوده على العدوان على قطاع غزة، ومن ناحية أخرى، فإنّ سياسية كي الوعي لم تنجح طوال تاريخ الاحتلال؛ لأنّ سبب المقاومة نابع من وجود الاحتلال ذاته وليس من أية عوامل أخرى، التي هي بطبيعة الحال ناتجة عن الاحتلال.


[1] – باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، رام الله

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى