المشهد الفلسطيني

لجان مواجهة كورونا في الضفّة الغربية.. بين التحدي والتسييس

لتحميل الملف اضغط هنا

أعدّ هذه الورقة ساري عرابي
وشارك في محتواها أيضا: د. إياد أبو زنيط، وسليمان بشارات.

مقدمة

كما هو شأن بلدان المنطقة والعالم، وجدت السلطة الفلسطينية في الضفّة الغربية نفسها أمام جائحة كورونا، التي دخلت إلى فلسطين مع وفد من السيّاح اليونانيين، الذين نقلوا العدوى لعدد من مواطني محافظة بيت لحم، وهو الأمر الذي عالجته السلطة الفلسطينية بإعلان حالة الطوارئ[1]، ثمّ إغلاق محافظة بيت لحم[2]، وقد شمل إعلان حالة الطوارئ إغلاق المدارس والجامعات[3]، ثم إغلاق المساجد في وقت لاحق، لتعلن السلطة تاليًا، حظر التجوال، وحزمة إجراءات أخرى، شملت منع التنقل بين المحافظات، ومنع المواطنين في القرى من الوصول إلى مراكز المدن، وتعطيل الحياة العامة بإلزام المواطنين بالحجر المنزلي، وذلك بعد استمرار المرض في التفشي في بقية مناطق الضفّة الغربية[4]، وهو قرار جرى تمديده لاحقًا مع استمرار ظهور حالات جديدة مصابة.

لم يكن باستطاعة السلطة الفلسطينية، لأسباب سياسية وأمنية واقتصادية، فرض إجراءاتها على أراضي الضفّة الغربيّة بقواها وممكناتها الذاتية دون الاستعانة بالمجتمع الأهلي، ومؤسساته الرسميّة وغير الرسمية، والاعتماد على أُطر حركة فتح في المواقع المختلفة، كما أنّ المجتمع الأهلي نفسه، بشرائحه وبناه المتعدّدة وفي العديد من المواقع وجد نفسه مضطرًا للأخذ بزمام المبادرة، مما أفضى إلى تأسيس لجان في المواقع تشرف على إنفاذ إجراءات الحظر، واستيعاب تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية والصحيّة، دون أن يخلو الأمر من دوافع سياسية، واستثمار الحدث للترويج السياسي وإعادة العافية لبعض الفصائل الفلسطينية، وخاصّة حركة فتح التي تُشكّل البنية الاجتماعية والسياسية الأساس للسلطة الفلسطينية، وهذ فضلاً عن اللجان الرسميّة المنبثقة عن هياكل السلطة، لتسهيل عملها، واللجان الأخرى المنبثقة عن مؤسسات غير سلطويّة.

تقرأ هذه الورقة في ظروف تأسيس تلك اللجان المتعدّدة، وتُركّز على اللجان الأهلية سواء تلك المختلطة من مجمل الشرائح والفعاليات في المواقع، أو المتركّزة في حركة فتح، وتبحث في مؤشّرات عملها على إمكانية تطوير عمل فلسطيني موحّد، وفي ماهية المشكلات التي تعانيها وقد تعوق تلك الغاية.

في ظروف التأسيس وآليات العمل

  • اللجان الرسمية

بدأ تأسيس اللجان رسميًّا أوّل الأمر في محافظة بيت لحم بعد التخوّف من أن يكون وفد كوريّ[5] قد نقل العدوى إلى السكان في بيت لحم، ثم في وقت لاحق جرى تطوير اللجان الرسميّة في محافظة بيت لحم، لتُنقل خطة اللجان إلى بقيّة المحافظات تاليًا[6]، فقد بدأ الترتيب والتنظيم لمواجهة الجائحة بتشكيل لجنة عليا في المحافظة، وهو ما جرى استنساخه في بقية المحافظات، ينبثق عنها عدد من اللجان الفرعية، أبرزها لجنة أمنيّة مصّغرة لقادة الأجهزة الأمنية، وأخرى موسّعة تضمّ رؤساء بلديات ودوائر حكومية سيادية، ولجنة طبيّة قُسّمت إلى عدد من الأقسام كقسم أخذ العينات، وقسم المصابين والحجر المنزلي، ولجنة الإرشاد والدعم النفسي التي قُسّمت بدورها إلى عدد من الأقسام، وضمّت نقابة الأخصائيين والدفاع المدني ووزارة الصحة والأمن الوطني، ولجنة الإسناد العليا التي تتولّى مهمّة دراسة الاحتياجات الإنسانية والاقتصادية واستقبال المساعدات وتوزيعها، ولجنة الدعم الجماهيري التي تتولّى مهمّة التعبئة المعنوية، والتواصل الإعلامي، والتصدّي للإشاعات[7].

وإذا كان هذا هو المشهد الغالب على تنظيم اللجان الرسمية التابعة للمحافظات، فإنّ التنظيم المركزي الأعلى في السلطة الفلسطينية يستند إلى لجنة طوارئ عليا برئاسة رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتيّة، يتبع لها مركزيًّا ومباشرة لجنة تضمّ جميع محافظي الضفّة الغربية[8].

ولجنة الطوارئ العليا تضمّ بالإضافة إلى ذلك اللجنة الاقتصادية التي تتولّى التنسيق مع القطاع الخاصّ والبنوك وسلطة النقد؛ لضمان سير الحد الأدنى من الحركة الاقتصاديّة، واحتواء التبعات السلبيّة على وقف الحركة الاقتصادية، ثمّ يتبع لجنة الطوارئ العليا لجنة طبيّة عليا، ولجنة طبيّة أخرى متخصّصة في مواجهة الأوبئة تضم عددًا من الأطباء والعلماء المتخصّصين في المجال؛ يتابعون خرائط انتشار الفيروس ويقدّمون لوزارة الصحة الآراء والمشورة والتوصيات، وهي اللجنة التي تعتمد الحكومة ولجنة الطوارئ العليا توصياتها لتحديد الخطوات القادمة[9].

ومن تلك اللجان المركزيّة أيضًا، لجنة مشتركة لمتابعة قضايا العمال، وتضم وزارة العمل وهيئة الشؤون المدنية والاتحاد العام لنقابات العمال، ولجنة لمتابعة القضايا اليومية، تضم جميع الوزارات والمؤسسات ذات العلاقة يرأسها مساعد وزير الداخلية للشؤون الأمنية، وهذا بالإضافة إلى اللجنة الإعلامية العليا والتي من مهامها تنظيم المؤتمر الصحفي للناطق الاعلامي وذوي الاختصاص بشكل منتظم، كما أسّست لجنة طبيّة مشتركة بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي[10].

وبالإضافة إلى اللجنة الأمنية، فإن لجنة الطوارئ، تضم 22 مؤسسة مدنيّة تتولّى مهمّات توزيع المساعدات، وتُشرف عليها وزيرة شؤون المرأة[11].

 

  • لجان المؤسسات المدنيّة

سبقت الإشارة إلى تعاون عدد من المؤسسات المدنيّة مع لجنة الطوارئ العليا الرسمية، وكان من ضمن تلك المؤسسات المدنيّة التي بادرت إلى تشكيل اللجان، أو الانضمام إلى لجان الطوارئ، وتقديم الخدمات لصالح لجان الطوارئ المتعدّدة، جمعية التنمية الزراعية “الإغاثة الزراعية” التي أعلنت عن انضمامها لخطط الطوارئ كافّة في فلسطين، جاعلة إمكانياتها تحت تصرّف لجنة الطوارئ، وخاطبت الجمعية لجان الحماية المجتمعية ومجموعات المتطوعين الذين قامت بتدريبهم على الاستجابة لحالات الطوارئ والحدّ من مخاطر الكوارث لممارسة دورهم الوطني والمجتمعي، وأطلقت عدّة حملات للتعقيم في عدد من المحافظات، ولتسويق منتجات المزارعين، ومساعدتهم في طحن الحبوب، ولمساعدة المحتاجين، وقدّمت بعض مقرّاتها لوزارة الصحة لاعتمادها للحجر الصحّي، وقادت مبادرات زراعية تهدف إلى إنشاء حدائق منزلية للاكتفاء الذاتي[12].

وانضمت الإغاثة الطبيّة كذلك إلى جهود مواجهة جائحة كورونا، سواء من خلال انضمام ممثليها للجنة الطوارئ الوطنية الصحية التي شكلتها وزارة الصحة الفلسطينية وإلى اللجنة الوطنية لمقاومة الأوبئة، أو لجان الطوارئ في المحافظات، أو لجان الطوارئ في القرى والمواقع المتعدّدة، أو من خلال حملات التوعية وحملات التعقيم، وقدّمت خدمات الإرشاد عبر مواقع التواصل الاجتماعي وأنشأت خطًّا ساخنًا للإرشاد النفسي، وواصلت عياداتها ومراكز الإغاثة الطبية التابعة لها العمل بما في ذلك عياداتها المتنقلة في أكثر من ثمانين قرية وتجمع سكاني وتجمعات بدوية في مناطق (ج) في مجمل محافظات الضفّة الغربية، وتضمنت أنشطتها خدمات رعاية للحوامل وكبار السن، وللمعاقين، وأنشطة رعاية مجتمعية لدعم العائلات الفقيرة والمحتاجة[13].

ما سبق يلقي الضوء على آليات عمل بعض المؤسسات المدنية، وكيفيّة تعاطيها مع لجان الطوارئ بشقيها الرسمي والأهلي، بالإضافة إلى النشاط الخاص المستقل بكل جمعية، سواء من خلال لجنة الطوارئ العليا كما سبق بيانه، أو من خلال التعاون مع وزارات السلطة ذات الاختصاص، كوزارة التنمية الاجتماعية[14]، التي تعاونت معها عدد من الجمعيات الخيرية لإيصال المساعدات العينية للمحتاجين، وهو أمر يتطلب بالضرورة التعاون كذلك مع اللجان الأهلية في المواقع، وقد ذكّرت هذه أزمة جائحة كورونا، بالعديد من المؤسسات الخيرية والمدنيّة التي أغلقتها السلطة الفلسطينية بعد الانقسام الفلسطيني، وهو ما دعا بعض السياسيين والمواطنين والنشطاء لدعوة السلطة إلى إعادة افتتاح هذه المؤسسات التي كان من شأنها المساهمة في إغاثة المجتمع والانضمام إلى الجهود المكرّسة الآن لمواجهة الجائحة[15].

أمّا لجان الزكاة، فهي تابعة لوزارة الأوقاف الفلسطينية، بواسطة صندوق الزكاة الذي تُشرف عليه الوزارة، بمعنى أنّها لم تعد مؤسسات مدنيّة مستقلّة، وذلك منذ الانقسام الفلسطيني حينما أُلغيت لجان الزكاة القائمة القديمة، وأعيد تشكيل لجان جديدة، بإشراف وزارة الأوقاف، وبمصادقة رئيس الوزراء في ذلك الوقت سلام فياض[16]، وبحسب تصريحات وكيل وزارة الأوقاف حسام أبو الربّ فإنّ صندوق الزكاة الفلسطيني، التابع للوزارة، ومن خلال لجان الزكاة المركزية والمحلية والمستقلة في المحافظات الشمالية (الضفّة الغربيّة)، قد أنفق خلال فترة الطوارئ، وحتى مطلع نيسان/ أبريل الجاري جراء وباء (كورونا) ما تزيد قيمته على المليون وستمئة ألف شيكل، وقد بلغ عدد لجان الزكاة المركزية العاملة 14 لجنة مركزية و29 لجنة مستقلة ومحلية [17].

وفي إحصائيّة رسميّة، حتى 16 نيسان/ أبريل الجاري قال وزير الحكم المحلي، إنّ عدد اللجان المجتمعية قد بلغ 396 لجنة، جهّزت 15 مركزًا للحجز والفرز، وبلغت مصروفاتها 10 مليون شيكل، وجرى تأمين 58 مليون شيكل لدعم الهيئات المحلّية، وصرف صندوق البلديات 16.5 مليون شيكل للمقاولين خلال فترة الطوارئ[18].

  • اللجان الأهلية في المواقع
  • ضرورات التشكيل

لأسباب سياسية وأمنية واقتصادية لم يكن للسلطة الفلسطينية، بمؤسساتها ولجانها وأجهزتها أن تغطّي رقعة الضفّة الغربيّة كلّها، فالفاعلية المباشرة للسلطة محكومة باتفاقياتها مع الاحتلال، وواقعيًّا يسيطرة الاحتلال على أراضي الضفّة الغربيّة كلّها، وفي حين تتجّه قوّات الأمن الفلسطينية لإنفاذ حظر التجوال ومنع الحركة بين المحافظات، وبين القرى والمدن، ممّا يتطلّب إغلاق مداخل المدن والقرى، وسيطرة فعليّة على الشوارع الواصلة بين المحافظات والقرى ومدنها، فإنّ أجهزة السلطة غير قادرة على ممارسة هذا الدور إلا في حدود مناطق (أ)، وعلى مداخل هذه المناطق، حيث إنّها تحتاج إلى تراخيص وترتيبات أمنية مع الاحتلال الإسرائيلي، والذي لن يسمح بتواجد أمنيّ دائم لأجهزة السلطة في مناطق (ب) و(ج) التي يسيطر عليها الاحتلال أمنيًّا[19].

والواقع أن القرى الفلسطينية تقع في تجمعات قرويّة، مما يعني تداخل القرى فيما بينها، وهو الأمر الذي يحتاج عزلاً للقرى الموبوءة بإغلاق مداخلها والتحكّم بحركة السكان فيها دخولاً وخروجًا، فضلاً عن الإجراءات الوقائية لمنع دخول مصابين إلى القرى غير المصابة، وهذه المهمّة بالنظر إلى ما سبق، لا يمكن للسلطة الفلسطينية القيام بها للاعتبارين السياسي والأمني سابقي الذكر[20].

لا تقتصر الإشكالية على محدودية الحضور السلطوي الأمني في أراضي الضفّة الغربيّة من تلك الجهة فحسب، فواحدة من أكبر منافذ دخول الفيروس للفلسطينيين تتجسّد في عشرات آلاف العمّال الفلسطينيين، الذين يعملون داخل الأراضي المحتلّة عام 1948 أو في المستوطنات المقامة على أراضي الضفّة الغربيّة، وهذا المنفذ لا يمكن للسلطة أن تتحكّم به لا ابتداء ولا تدبيرًا، فالتصاريح تُمنح من الاحتلال حصرًا، ولا سيطرة للسلطة على طرفي الحواجز التي تصل بالداخل الفلسطيني أو المستوطنات، وهي حواجز ومداخل كثيرة ومتناثرة خارج السيطرة الأمنيّة للسلطة، ممّا يجعل حركة العمال برمّتها خارج قدرة السلطة، وإلى حدّ ما خارج ملاحظتها، ويمكن قول الأمر نفسه بخصوص المعابر وحركة السفر مع العالم الخارجي، بيد أن الاحتلال أوقف هذه الحركة من طرفه[21].

وبما أنّ التداعيات الاقتصادية على المجتمعات المحلّية، وعلى أفراد الناس، هائلة، بسبب وقف الحركة الاقتصاديّة، فإنّ السلطة الفلسطينية بمحدودية مواردها، والتي انحسرت بالضرورة بسبب تراجع دخلها الضريبي، لن تتمكن من احتواء الاحتياجات الإنسانية، والأزمات الاقتصادية، والمشكلات الاجتماعية الناجمة عمّا سبق، وكان رئيس الحكومة الفلسطينية محمد اشتيّة قد أعلن في التاسع من نيسان/ أبريل أن عجز الموازنة سيرتفع إلى 1.4 مليار دولار وفق التوقعات بفعل انخفاض الإيرادات لأكثر من 50%، الأمر الذي ألجأ الرئيس محمود عبّاس لإقرار ميزانية طوارئ قد تتضمّن تخفيضًا في الرواتب المدفوعة، هذا فضلاً عن خسائر الاقتصاد الفلسطيني التي بلغت حتّي التاريخ المذكور 3.8 مليار دولار[22].

إنّ المعيقات الأمنيّة والسياسيّة، والتداعيات الاقتصادية والاجتماعية الهائلة، والخارجة في جملتها عن قدرات السلطة، دفعت المجتمع الأهلي في المواقع كافّة، ولاسيما في القرى، فضلاً عن المخيّمات وأحياء المدن، إلى تأسيس لجان طوارئ تغطّي النقص الأمني الحاصل، وتسعى إلى احتواء الآثار الاقتصادية والاجتماعية على الأهالي، وذلك ابتداء بالإشراف على إغلاق مداخل القرى، وضبط حركة الدخول إليها والخروج منها، ومتابعة ملف العمّال العائدين من الداخل المحتلّ أو المستوطنات، والتنسيق مع الجهات المختصة في الطب الوقائي، ولجان المحافظات، والأجهزة الأمنيّة، بالإضافة إلى المتابعة الاجتماعية للعائلات الفقيرة وتوزيع المساعدات على الأهالي[23]، سواء بالجمع المباشر للتبرعات، والتي بلغت في بعض القرى والبلدات مئات آلاف الشواكل[24]، أو بالتنسيق مع الجمعيات الخيرية والمؤسسات المدنية والجهات الحكومية.

  • التشكيل.. ملابسات ومشكلات

يمكن القول إنّ لجان الطوارئ تشكّلت في الاتجاهين من الموقع إلى المركز والعكس، ففي العديد من المواقع بدأ تشكيل اللجان بمبادرات محلّية فيها بالتعاون مع مختلف فعاليّاتها؛ العائلات، والوجهاء، والناشطين، والنوادي، والمجالس المحلّية، والتنظيمات الفلسطينية، والجمعيات، وفي المقابل كانت المحافظات واللجان التابعة لها، ووزارة الحكم المحلّي معنية بتغطية النقص من خلال استنهاض المجتمع الأهلي، وفي الجملة لم يكن للجان الطوارئ أن تعمل دون غطاء رسمي من السلطة وتنسيق مع أجهزتها ولجانها[25].

ومن المتوقّع، والحال هذه، أن تهيمن حركة فتح على تلك اللجان، بعدّة اعتبارات، منها؛ أنّها حزب السلطة، والحركة التي تتمتع بحرّية حركة في كامل الضفّة الغربيّة، والأكثر قدرة وخبرة على التواصل مع أجهزة السلطة ومؤسّساتها، ثم إنّها، وفي الكثير من المواقع مارست في السنوات الأخيرة الماضية دورًا قياديًّا محلّيًّا في إطار ما يُعرف بـ “التنظيم” كان يُعنى بحلّ المشكلات الاجتماعية والإدارية في المواقع، بيد أنّه لم يكن لفتح أن تتفرّد بتلك اللجان لجملة أسباب من أهمّها طبيعة الأزمة التي هي في أصلها، ليست أزمة سياسيّة، والبنى العائلية في القرى، وتكوين المجالس المحلّية بحسب آخر انتخابات جرت في العام 2017، فقد فازت الكتل المستقلة بـ 65٪ منها، بينما فازت حركة فتح بـ 27.6٪ منها فقط[26]، وهو ممّا يعنّي بالضرورة، مساهمة شرائح وشخصيات وأطر من خارج فتح، على الأقلّ بسبب مركزية دور المجالس المحلّية في مواجهة الجائحة.

ويدخل في العوامل التي لم تجعل الهيمنة على اللجان كاملة لحركة فتح، العامل الاقتصادي، فواحدة من أهمّ وظائف لجان الطوارئ، جمع التبرعات وتوزيعها، وهو أمر لا يمكن لحركة فتح أن تستقلّ به، لحساسيته من جهة، وارتباطه بعامل الثّقة، والحاجة لأي متبرع بصرف النظر عن الجهة التي ينحدر منها أو ينتمي إليها، وكذا الحاجة لأيّ قادر على جمع التبرعات، هذا فضلاً عن حالة الترهّل العامّة في العمل العام، وتراجع دور القوى السياسية وحضورها، بما يشمل حركة فتح نفسها، ممّا يجعل المجال قابلاً لاستيعاب فعاليات متعدّدة، ومتطوّعين لا ينتمون للحركة.

ولا شكّ، والحال هذه، أن حرّكة فتح، ومن خلفها السلطة الفلسطينية وأجهزتها لم تجد بدًّا من التعاون مع هذه الفعاليات ومع عديد المتطوعين، بما في ذلك من ينتمون لفصائل فلسطينية أخرى، بيد أنّ المشكلة ستواجه سياسات السلطة، في متطوّعي حماس والذين لن يعملوا بعنوان حزبيّ، لضمان مشاركتهم وتجنّب ملاحقة السلطة، ولأنّ ما غلب على اللجان المشتركة من جملة الفعاليات هو الاتفاق على تجنّب العناوين الحزبيّة والفصائلية[27].

بيد أنّ الأمر لم يكن مستقرًّا على هذه الحال دون تدخّل من أجهزة السلطة، أو مساعٍ واضحة للتسييس، كما بيّن ذلك عبد الرحمن زيدان عضو المجلس لتشريعي السابق، ووزير الإسكان والأشغال العامّة في حكومة إسماعيل هنّية الأولى، والذي استقال من اللجنة الاجتماعية التابعة للجنة الطوارئ في بلدة دير الغصون، بعدما قامت حركة فتح بتأسيس لجنة اجتماعية موازية بعنوان حزبي[28].

ولم تقتصر الإشكالية على مظاهر التسييس، كرفع شارات حركة فتح وشعاراتها على الحواجز المقامة وبعض مظاهر نشاطات اللجان، أو استثناء الحركة نفسها من قرارات الحظر كما حصل في عدد من حالات استقبال الأسرى[29]، أو السلطويّة في طريقة التعاطي مع المواطنين، كما اشتكى المواطنون في عدد من المواقع[30]، وإنّما طال الأمر محاولات لإقصاء عناصر حركة حماس عن اللجان، وهو ما نجح نسبيًّا أو كلّيًّا في عدد من المواقع، وذلك بحسب استجابة المجالس المحلّية وحركة فتح لأجهزة السلطة الأمنية.

 لم تستطع بعض البلديات مقاومة الضغوط التي تتعرّض لها من الأجهزة الأمنيّة، مما أقصى عناصر حركة حماس بالكلّية عن لجنة الطوارئ التي فيها، ولم تكن تلك الضغوط ولا مصدرها خافيًا، فقد صرّح بعض رؤساء البلديات بذلك لبعض عناصر حركة حماس ممن شاركوا في تلك اللجان[31]، كما وأُقحمت مؤسسات أخرى كالدفاع المدني لإقصاء المتطوّعين كما جرى في بلدة نحّالين في محافظة بيت لحم، حيث أصدر الدفاع المدني قرارًا بوقف 14 متطوعًا عن العمل في صفوف الدفاع المدني، وبحسب رئيس البلدية فإنّ بلديته تلقت كتابًا من مدير الدفاع المدني في المحافظة جاء فيه تقلص المتطوّعين إلى 11 من أصل 25، وهو ما عدّه النشطاء نتيجة لاعتبارات سياسية وحزبيّة، كما تحفظ رئيس البلدية على هذا القرار[32].

هذه الإشكاليات التي شابت تشكيل لجان الطوارئ، مع استمرار الاعتقالات السياسية في ظل الجائحة[33]، دفعت العديد من المراقبين والفاعلين لانتقاد أداء اللجان، لا من حيث الأخطاء فحسب، والتي قد تكون طبيعيّة في ظروف الارتباك وبدايات التشكيل، ولكن وبشكل أساسي فيما عدّه هؤلاء المراقبون نَفَسَا إقصائيًّا يتضمن رسائل سلبيّة في ظروف حرجة[34].

 خلاصة.. التقييم والدلالات

وجدت السلطة الفلسطينية نفسها بحاجة إلى المجتمع الأهلي في القرى والمخيمات وأحياء المدن، لعجزها عن التمدّد اللازم على جغرافيا الضفّة الغربية كاملة، لأسباب سياسية وأمنيّة، مرتبطة بالاحتلال والاتفاقات معه، كما أنّها لن تتمكن بقدراتها الذاتيّة من احتواء التداعيات الاجتماعية والاقتصاديّة للأزمة، وفي حين يملك الشعب الفلسطيني خبرة كبيرة في هذا المجال منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى، بالإضافة لحضور حركة فتح في المواقع وخبرتها عبر “التنظيم” في إدارة مهمّات من هذا النوع، فإنّه لم يكن بمقدورها تجاوز مجمل الفعاليات الأهلية والوطنيّة، لطبيعة الأزمة غير السياسية، ولترهّل مجالات العمل العام بما يطال فتح نفسها، وللاحتياج الشديد لجهود التعويض الاقتصادي والاحتواء الاجتماعي لنتائج الأزمة، ولاستقلالية العديد من المجالس المحلّية عن هيمنة حركة فتح.

وفي حين تجد السلطة نفسها مضطرة إلى المجتمع وبما لا تملك عنه بديلاً، فإنّها تعاين مجدّدًا قصورها، وحدود فاعليتها ومحدودية ممكناتها، وهذا المُركّب، من محورية المجتمع وقصور السلطة، ينبغي أن يدفع السلطة لإعادة حساباتها في خيارتها الأمنيّة والسياسية والاجتماعية، بما يعيد المكانة للمجتمع ويرمّم مجالات العمل العام، ويبدأ في ابتداع نمط من الوحدة الوطنيّة، لاسيما وأن التحديات السياسية الكبرى، كصفقة القرن، ومخطّطات ضمّ الضفّة الغربية، ما تزال ماضية[35].

وإذا كانت الجائحة فرصة للسلطة دعائيًّا وأمنيًّا، بالرغم من التحدّي الكبير الذي تنطوي عليه، وكانت الأجهزة الأمنيّة ترى فيها حدثًا عابرًا لا ينبغي استخدامه غطاء لعناصر حركة حماس لإعادة إنتاج نشاطهم ولو في أطر عامّة غير حزبيّة، فإنّ نشاط العديد من هؤلاء العناصر الذين أثبتوا وجودهم وتمكنوا من نسج علاقات متينة مع مجمل فعاليات قراهم، وتثبيت أنفسهم في اللجان، يعطي بدوره مؤشرًا على ممكنات العمل المجتمعي والأهلي في أطر وطنيّة عامّة.

  • لا تعبر المقالات المنشورة بالضرورة عن رأي مركز رؤية.

—————–

[1]. الرئيس يصدر مرسوما بإعلان حالة الطوارئ في جميع الأراضي الفلسطينية لمدة شهر، وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية- وفا، 5 آذار/ مارس 2020، https://bit.ly/3cB2XRk

[2] . رئيس الوزراء يعلن رزمة جديدة من الإجراءات الاحترازية لاحتواء فيروس كورونا، وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية- وفا، 6 آذار/ مارس 2020، https://bit.ly/2yxaJNl

[3]. “كورونا” بالضفة: إعلان حالة طوارئ تشمل إغلاق المدارس والجامعات، موقع عرب 48، 5 آذار/ مارس 2020، https://bit.ly/3eGqy50

[4]. رئيس الوزراء يعلن المزيد من الإجراءات والتدابير الاحترازية المشددة لمنع تفشي “كورونا”، وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية- وفا، 22 آذار/ مارس 2020، https://bit.ly/2ywEU7m

[5]. الضفة: إغلاق الأماكن التي زارها الوفد السياحي الكوري منعا لانتشار كورونا، موقع عرب 48، 22 شباط/ فبراير 2020، https://bit.ly/2VNRyqr

[6]. المحافظ حميد يكشف في لقاء تلفزيوني موسع مع PNN تفاصيل عمل لجان الطوارئ وحجم الإنجاز ويثمن تجاوب المواطنين، موقع شبكة فلسطين الإخبارية PNN، 12 آذار/ مارس 2020، https://bit.ly/2VqDOmI

[7]. المصدر السابق.

[8]. اشتية: استمرار إغلاق المرافق التعليمية والمعابر ووقف التنقل بين المحافظات، وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية- وفا، 3 نيسان/ أبريل 2020، https://bit.ly/2KuSoTH

[9]. المصدر السابق.

[10]. المصدر السابق.

[11]. اللجنة الأمنية والمدنية تباشر مهامها في مساعدة الأسر الفقيرة، وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية- وفا، 23 آذار/ مارس، https://bit.ly/2Vu00MP

[12]. مجمل معلومات نشاط الإغاثة الزراعية مستفاد من صفحتهم على موقع الفيسبوك، https://www.facebook.com/parc.palestine/

[13]. “الإغاثة الطبية” توسع حملتها لمواجهة الكورونا، موقع وكالة معا، 26 آذار/ مارس 2020، https://bit.ly/2XXajL0

[14]. انظر على سبيل المثال حملة “قادر إذا بادر” التي نظمتها جمعية إنعاش الأسرة بالتعاون مع وزارة التنمية الاجتماعية، https://www.facebook.com/InashAlusra/posts/3357101394305215

[15]. لمواجهة “كورونا”.. مطالبة للسلطة بفتح المؤسسات الخيرية المغلقة، موقع المركز الفلسطيني للإعلام، 6 نيسان/ أبريل 2020، https://bit.ly/3cPuIWD

[16]. وزارة الاوقاف تجمد لجان الزكاة القديمة وتعلن تشكيل 11 لجنة جديدة في الضفة الغربية، وكالة معا، 4 كانون لأول/ ديسمبر 2007، https://bit.ly/2znng6z

[17]. أبو الرب: صندوق الزكاة أنفق خلال فترة الطوارئ أكثر من مليون وستمائة ألف شيكل، شبكة فلسطين الإخبارية PNN، 1 نيسان/ أبريل، https://bit.ly/2RY2lNO

[18]. من الصفحة الرسمة لوزارة الحكم المحلي على موقع فيسبوك، https://www.facebook.com/pg/molg.pal/posts/

[19]. ساري عرابي، كورونا وهموم فلسطينيّة خاصّة!، موقع عربي21، 14 نيسان/ أبريل 2020، https://bit.ly/2VKyE3Q

[20]. المصدر السابق.

[21]. المصدر السابق.

[22]. اشتية: 137 مليون دولار تكلفة خطتنا لمواجهة “كورونا” و3.8 مليار دولار تقديرات خسائر الاقتصاد الفلسطيني، وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية- وفا، 9 نيسان/ أبريل 2020، https://bit.ly/2S0A3lJ

[23]. لجان الطوارئ.. ظاهرة تصنع فَرقاً في زمن كورونا، موقع صحيفة الأيام، 30 آذار/ مرس 2020، https://bit.ly/2xT8ofN

[24]. لجان الطوارئ في المحافظات.. جهة إسناد للحكومة في مواجهة “كورونا”، موقع صدى الإعلام، 23 آذار/ مارس 2020، https://bit.ly/2VOThvN

[25]. مقالة خاصة: لجان طوارئ فلسطينية في مناطق (ج) الخاضعة لسيطرة إسرائيل لمنع تفشي كورونا، وكالة شينخوا الصينية للأنباء، 5 نيسان/ أبريل 2020، https://bit.ly/34UKRXK

[26]. عادل شديد، مما جرى في الانتخابات المحلية الفلسطينية، موقع صحيفة العربي الجديد، 24 أيار/ مايو 2017، https://bit.ly/3eSb0LE

[27]. إفادة من أحد المتطوّعين في واحدة من لجان قرى ضواحي القدس، أفاد بها الباحث، جرت المقابلة في 11 أبريل/ نيسان 2020.

[28]. منشور على صفحته على موقع فيسبوك، 12 أبريل/ نيسان 2020، https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=2593144004339641&id=100009322011050

[29]. فيديو من صفحة شبكة قدس على الفيسبوك، 24 آذار/ مارس 2020، https://www.facebook.com/watch/?v=549400369025208

[30]. لجان الطوارئ بالضفة.. تنمّر واستياء يهدد السلم الأهلي، موقع المركز الفلسطيني للإعلام، 31 آذار/ مارس 2020، https://bit.ly/3bB4SW8

[31]. إفادة من أحد المتطوّعين في واحدة من لجان بلدات محافظة رام الله، أفاد بها الباحث، جرت المقابلة في 11 أبريل/ نيسان 2020.

[32]. نحالين: المطالبة بإلغاء قرار صادر عن الدفاع المدني بوقف 14 متطوعا عن العمل، مدونة الصحفي نجيب فراج، 7نيسان/ أبريل 2020، https://bit.ly/3avomd2

[33]. الاعتقال السياسي بالضفة مستمر رغم تفشي “كورونا”، موقع صحيفة فلسطين، 8 آذار/ مارس 2020، https://bit.ly/2VrtQBo

[34]. “لجان الطوارئ” بالضفة.. قفزٌ عن الكفاءات الوطنية بـ” نفس حزبي”، موقع صحيفة فلسطين، 8 نيسان/ أبريل 2020، https://bit.ly/3cDfSC9

[35]. بومبيو: ضمّ أجزاء من الضفة الغربية قرار يعود لإسرائيل، موقع الجزيرة نت، 22 نيسان/ أبريل 2020، https://bit.ly/3eHTw4r

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى