مراجعات كتب

دراسة إسرائيلية “سياسة هدم بيوت الفلسطينيين كلفة دون فائدة”

 

أجرى الدراسة عميحاي كوهن، وهو بروفيسور في القانون، يشغل منصب عميد كلية القانون في أكاديمية "أونو"، ويعمل كذلك باحثًا في المعهد الإسرائيلي للديمقراطية. وفيتال ميمران: باحث في ذات المعهد، والذي أقيم عام 2012 على اسم الكاتب الفرنسي إميل زولا، الذي يُنسب له العمل على تبرئة الضابط الفرنسي اليهودي درايفوس من تهمة الخيانة. يقوم المركز بإجراء الدراسات حول حقوق الإنسان في "إسرائيل".

المقدمة 

قبل انتهاء إجراءات المحاكمة ضد الفلسطينيين، يُتَّخذ القرار بهدم بيت العائلة، اعتمادًا على القانون رقم (119) من قوانين الطوارئ لسنة 1945. إن قانون (119) هو جزء من مجموع التشريعات التي شرّعها البريطانيون ضمن قوانين الطوارئ، لمحاكمة من اشتركوا بتنفيذ أعمال من قبل أعضاء تابعين لتنظيمات عربية أو يهودية. وتشمل هذه القوانين بالإضافة إلى هدم البيوت صلاحيات للاعتقال والإبعاد ومصادرة الممتلكات، وذلك دون أي وجه حق.

يمنح قانون (119) الصلاحية لهدم بيوت في "إسرائيل" وفي مناطق الضفة الغربية. ويمكن القيام بخطوة أقل خطورةً كإغلاق البيت جزئيًّا أو كليًّا. ولأن الحديث يدور حول بيوت في الضفة الغربية، فإن ذلك من صلاحيات القائد العسكري، وهو قائد الجيش في الضفة الغربية، أما إذا كان الحديث عن المناطق السيادية لـ "إسرائيل"، بما فيها شرقي القدس، فالقائد العسكري في هذه الحالة هو قائد الجبهة الداخلية.

وبسبب خطورة العقوبات المذكورة، فإن المحاكم في "إسرائيل" قد أقرت بأن القائد العسكري يستطيع أن يصدر أوامر بهدم بيت، أو بإغلاقه، حتى قبل إدانة المتهم من قبل المحكمة، حيث يكفي أن تكون هناك شبهات في تنفيذ مخالفة أمنية.

تُعتبَر سياسة هدم البيوت الوسيلة الأقسى والأكثر تطرفًا، التي تستخدمها دولة "إسرائيل" بصفتها قوة احتلال، وقد لاقت هذه السياسة انتقادات شديدة بسبب المسّ بالممتلكات كعقاب جماعي. وفي ظل غياب موازنات مناسبة للفوائد التي تبرر هذه السياسة، فإن الانتقادات قد شملت البعد العدلي والبعد الأخلاقي. وعلى مدى السنين الماضية، تذرع متخذو القرار في "إسرائيل" بأن هدم البيوت يُشكّل ردعًا يبرر المسّ والضرر الناتج عن استخدام هذه السياسة، وقد قدمّت المحاكم الإسرائيلية، في معظم القضايا، غطاءً قضائيًّا لموقف الدولة.

وفي إطار الالتماس الذي قدّمته بعض العائلات الفلسطينية، تم طلب إصدار قرار يمنع هدم بيوت عائلات. فقد جددت المحكمة العليا منح الصلاحية للاستمرار في استخدام هذه السياسة، وهذا القرار عاد وأكد الأسس التي اعتُمد عليها سابقًا في قرارات هدم البيوت.

وفي إطار قرار المحكمة، تم التأكيد على صلاحيات القائد العسكري في إصدار أمر الهدم أو الإغلاق، وتم أيضًا التأكيد على مبرر البعد الردعي الذي يُشكِّل أساس هذه السياسة. إضافةً لذلك، أوضحت المحكمة أنه مسموح للدولة أن تغير سياستها بناءً على تغير الظروف. هذا التغيير متروك لشعور (تقدير) المسؤولين في الفترة الحالية. وأخيرًا، عادت المحكمة مرةً أخرى لتؤكد الفتوى القضائية الأكثر أهميةً، في نظرنا، وهي أنه ليس باستطاعة المحكمة التدخل في مسألة الكلفة الناجمة عن استخدام هذه الوسيلة.

سنقف خلال هذا البحث عند أهم المسائل المركزية المتعلقة بسياسة هدم البيوت، ومبررات إصدارها. والأهم أن تتم الإجابة عن السؤال: هل يتم الحديث عن سياسة ناجعة من أجل تحقيق الردع أمام العمليات الفلسطينية؟ سوف نركِّز على الأسس الأمنية التي اعتمد عليها متخذو القرار في "إسرائيل" في تبرير عمليات الهدم أو الإغلاق، وسنحاول نقاش كل المعطيات ذات العلاقة، وسنناقش مسألة على من تُلقى المسؤولية في معرفة الحقيقة (تحقيق الردع)، وبالتالي الموازنة بين الكلفة والفائدة.

سياسة هدم البيوت – نظرة عامة   

يُعتبَر هدم البيوت إحدى الوسائل التي تستخدمها "إسرائيل" ضد العمليات الفلسطينية التي تمارس في إطار النزاع الإسرائيلي الفلسطيني. استُخدمت هذه الوسيلة لسنوات طويلة ضد البيوت المأهولة في مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، وبالنسبة لغزة استمر ذلك حتى الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من القطاع عام 2005. كما سوف نتطرق إلى سياسة هدم البيوت في شرقي القدس، حيث بُدئ بتطبيق القانون الإسرائيلي في سنة 1967.

تعود سياسة هدم البيوت إلى تجارب دول أخرى في الماضي، فقد استخدمتها روسيا والولايات المتحدة لتواجه العصابات المسلحة، أما في "إسرائيل"، فقد تم الاعتماد على نفس الإجراءات التي كان يتخذها الانتداب البريطاني في فلسطين، فعلى مر السنين، استُخدِمت سياسة هدم البيوت ضد السكان الفلسطينيين، ولم تُستَخدَم، ولو حتى مرة واحدة، ضد السكان اليهود، وحتى لم تُستخدَم ضد باروخ غولدشتاين الذي نفّذ العمل الإرهابي في المسجد الإبراهيمي. 

في الآونة الأخيرة، وفي إطار الالتماس ضد قرار إغلاق وهدم بيوت عائلات الخاطفين للشبان اليهود الثلاثة، غيل – عاد ساعر، إيال يفراح، ونفتالي فرانكل، رُفِضَ الادعاء بالتمييز (العنصرية)، بحجة عدم هدم بيوت القتلة اليهود، مثل عدم إصدار قرارات هدم بيوت قتلة الفتى محمد أبو خضير.

وقد ورد في قرار رد الالتماس أن المحكمة لم تنحرف عن القوانين الموجودة بين يديها، وهي قوانين الطوارئ المطبقة في المناطق (الضفة الغربية وقطاع غزة)، بينما يُطبَّق القانون الإسرائيلي على الإسرائيليين، فلا يوجد مكان للتمييز هنا.

كما ورد في القرار أن هدم البيوت يهدف إلى تحقيق الردع وليس بهدف العقوبة، ولذلك لا ترى المحكمة العليا أي داع لاستخدام قانون الطوارئ ضد اليهود، فهي غير معنية بردعهم.

المبرر الأساس الذي يقف وراء سياسة هدم البيوت هو الادعاء بأنها تؤدي إلى ردع الآخرين. هذا المبرر مؤسس على شدة وقسوة هذه العقوبة تجاه منفذ العملية وأبناء عائلته من ناحية، وعلى كونه عقوبة سريعة التنفيذ من ناحية أخرى.

المحكمة العليا حكمت، ولمرات عديدة، لصالح استمرار هذه السياسة، بالرغم من المعاناة التي تتسبّب بها للعائلة ككل، إذ إن هدم البيت كله يمسُّ بملكية جميع أفراد العائلة، ولا يوجد أي دليل على أن أفراد العائلة كانوا على علم بما يقوم به ابنهم.

في عام 2005، تَقرَّرَ وقف سياسة هدم البيوت، وكان القرار قد اتُّخِذ على ضوء توصيات اللجنة المهنية التي ترأسها الجنرال أوري شني، والتي شُكّلت على يد رئيس الأركان حينها موشيه يعلون، إذ قالت اللجنة –عن قانونية هذه السياسة- إن سياسة هدم البيوت تقف على "حافة القانون"، وإن "جيش الدفاع الإسرائيلي"، والذي يعمل في إطار دولة يهودية، لا يمكن له أن يعمل ضمن حافة القانون، وبالتالي على حافة الشرعية.

أما فيما يتعلق بمبرر الردع، فقد تم التوصل إلى نتيجة مفادها أن الأضرار الناتجة عن عملية الهدم، أكثر من الفوائد المرجوة منها، لأنه تبين أن الردع محدود إذا ما قورن بالكره والعداوة التي تترسخ في أوساط الفلسطينيين. في أعقاب نتائج اللجنة برئاسة الجنرال شني، قَرَّر وزير الدفاع شاؤل موفاز، وقف هذه السياسة حتى تتغير الظروف.

وحسب تقديرات جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك)، فقد طرأ تغيير دراماتيكي في سنة 2008، في ظل ازدياد عدد العمليات الخارجة من شرقي القدس، وبناءً على ذلك، تَطلَّب الأمر مراجعة المسألة مرةً أخرى، لإعادة استخدامها في شرقي القدس، حيث كانت المحكمة العليا قد قررت أنه يمكن تغيير القرار بناءً على تغير الظروف، وأكدت أنها لا تميل إلى التدخل في تقديرات الجهات الأمنية فيما يتعلق بكلفة استخدام هذه السياسة كوسيلة لردع الآخرين.

إن موقف المحكمة العليا فيما يخص سياسة هدم البيوت يحتاج نقاشًا موسّعًا للأساس الأخلاقي، الذي يجب أن تقف وراءه دولة "إسرائيل"، ونقاشًا لبقية المسائل ذات العلاقة، وسوف نناقش كل مسألة على حدة.

بين النظرية والتطبيق

إن استخدام سياسة هدم البيوت للتعبير عن مكافحة الإرهاب يتم ضمن أيديولوجيتين متناقضتين: الأيديولوجية المنفعية من جهة، والأيديولوجية العواقبية من جهة أخرى (تعود هذه النظرية إلى الفيلسوف توماس مايكل سكاتلون، الذي طوّر مفهومًا خاصًّا بحقوق الإنسان، وربطه بعلم الأخلاق، حيث يمكن تبرير أي فعل بعد إيضاح العواقب الناتجة عن ممارسة تلك الحقوق).

السبب في التناقض هو أن "إسرائيل" قد تمترست خلف مبرراتها في تحقيق المنفعية، وعلى طول السنين، حيث إن المبرر هو أن يتم المسّ بعائلة الناشط، التي هي في معظم الحالات ليست متورطة في العمليات، وذلك بهدف ردع الآخرين عن القيام بأعمال ضد أهداف إسرائيلية في المستقبل. وكما قيل أعلاه فإن موازنة الردع قد اعتُرف بها رسميًّا في مرات عديدة من قِبَل المحاكم، وتم الحسم لصالح الاستمرار في هذه السياسة، بالرغم من المسّ بالأفراد وممتلكاتهم.

الأساس النظري لموقف دولة "إسرائيل" مؤسس على الأيديولوجية المنفعية، التي تبرر المسّ بالأفراد والجماعات بهدف جلب الرضا لأكبر عدد ممكن من الناس (اليهود)، ويأتي ذلك من خلال احتساب الكلفة (الفائدة بين الربح والتسبب بالأذى).

يوجد عدد من المحددات الأخلاقية التي يجب أن تُشمل في الحوار. ولتحديد هذه المحددات للفعاليات الأمنية، يجب المنع المطلق لاستهداف المدنيين وقت الحرب. إن الدافع لهذا المنع هو نفس الدافع لمنع هدم البيوت بحجة تحقيق هدف آخر، وهو ردع الآخرين.

من المهم أن يتم التعمق في الجدال بين الأيديولوجيتين لنتعرف على فرق إضافي بينهما: الموقف المنفعي. وبخلاف الموقف العواقبي (النتائجي)، مطلوب أن يتم تأسيس ودعم الادعاء العواقبي (النتائجي) بالأدلة والبراهين. في حين أن الموقف المنفعي يلزمه إثبات صحة موقفه، من خلال إثبات المنفعة المرجوة من استخدام نفس الوسيلة المتخَذة، وإذا لم يكن كذلك، فلا فائدة من استخدام هذه الوسيلة التي تمسّ بحقوق أخرى. وإذا وافقنا على استخدام الطرحين لصالح إثراء النقاش، فإنه يوجد مكان للتأسيس على موقف أخلاقي عواقبي (نتائجي) – منفعي: أي الدمج بينهما. 

موقف كهذا يجب أن يُدعم بالبراهين الواضحة تمامًا، فكل وسيلة تسبب الأذى للآخرين يجب دراستها بذاتها، لمعرفة إذا ما كان يمكن تحقيق الهدف المنشود أم لا؟ هذا يعني أنه ليس في كل مرة يجب إجراء "فحص من رأس الهرم"، وبالتالي، فمن أجل التأسيس للجانب الأخلاقي، يجب إجراء فحص بين الحين والآخر، ومع مرور الوقت، لا بد من استمرار فحص نتائج استخدام الوسيلة إذا ما زالت تخدم مبدأ "النفعية".

وفيما يتعلق بسياسة هدم البيوت، وعلى مدى سنوات طوال، وبالرغم من الاحتجاجات والاعتراضات الكثيرة التي وُجِّهت لها من المستوى الأكاديمي، وبغطاء كامل من المحاكم، فإن هذه السياسة تشير إلى أن موازنات الكلفة – المنفعة، وعلى مدار السنين، قد قدّمت المبررات الكثيرة مع كل تناقضاتها أخلاقيًّا وعدليًّا.

إن الادعاء المركزي في هذا البحث القصير فيما يتعلق بموضوع هدم البيوت، يبين أن التأسيس للحقائق ضروري لحاجة تبرير الوسيلة. إن هذا التأسيس ليس موجودًا البتة، بل يمكن التأسيس لحقائق الطرح المعاكس، وهذا يعني أنها وسيلة مضرة، أي ليست نفعية.

فعلى ضوء توصيات لجنة شني، التي رأت أن أضرار هدم البيوت أكثر من فوائدها، حيث إن الردع المحدود الحاصل من هدم البيوت، لا يتطرق إلى الكره والعداوة الذي تسببه هذه الخطوة الصعبة للفلسطينيين، لذا ينبغي أن يتم فحص الخطوة من جديد، وخصوصًا موقف المحاكم، وعلى طول السنين، فيما يخص هذه السياسة.

ومع ذلك، فإن المحكمة العليا لم تتصرف هكذا، وأعادت عام 2008 التأكيد على "شرعية" استخدام هذه السياسة. خلاصة القول إنه إن لم تستطع المحكمة أن تثبت نجاعة هدم البيوت، فإن الأساس الأخلاقي لموقف دولة "إسرائيل" ومحاكمها تم القفز عنه.

 المعطيات الإحصائية والأهداف المرجوة

توجد طريقة تمكّن من فحص مدى نجاعة سياسة هدم البيوت، وذلك باستخدام المعطيات التجريبية (الإمبريقية). حيث يتم استخدام تقنيات البحث للمعطيات الإحصائية كمعطيات لاستخلاص العبر الأساسية. السبب وراء ذلك هو أن المعطيات الإحصائية تُمكّن من اتخاذ القرار الأنسب في المواضيع المقصودة، وبالتالي يتم تحديد السياسة. ومع ذلك، فقد قررت المحكمة العليا في "إسرائيل" أن الأبحاث العلمية المعتمدة على المعطيات الإحصائية، لا تستطيع أن تثبت نجاعة السياسة. كما شكّك جهاز الأمن العام (الشاباك) في قدرة المعطيات الإحصائية الرقمية على إثبات إن كانت سياسة هدم البيوت ناجعة أم لا؟ 

النتائج التي يمكن أن يتوصل إليها الباحثون التجريبيون لا تأخذ بها المحكمة العليا في "إسرائيل". إن هناك استخدامًا شحيحًا، وربما معدومًا، للمعطيات الإحصائية في إطار الأبحاث القضائية، وبالذات المتعلقة باتخاذ القرارات. ومع ذلك، ففي بداية القرن الحادي والعشرين، وُجد توجه جديد يشير إلى ازدياد الأخذ بالمعطيات القياسية في الأدبيات القضائية، التي تتعلق باتخاذ القرارات. إن جزءًا معروفًا من الأدبيات القضائية يتبلور ضمن المنهج التجريبي، ويشغل حيزًا في اتخاذ القرارات في المحاكم، وهو المهمة المركزية في المنظومة القضائية. 

تشير الحقيقة إلى أن هناك صعوبات عديدة في المستوى العملي، تؤدي إلى المسّ بالقدرة على جمع المعطيات القياسية بالنسبة لسياسة هدم البيوت. الخط الرابط بين هذه الصعوبات هو أنها كلها تؤدي إلى خلاصة واحدة، مفادها أنه من الصعب التعويل على (مدى الوثوق) بالمعطيات الإحصائية ذات العلاقة.

تنبثق الصعوبة الأولى من حقيقة أن معطيات الحكومة الإسرائيلية مختلفة عن معظم المعطيات التي صدرت عن منظمات حقوق الإنسان، وتنبع الصعوبة الثانية من معيقات مختلفة في البعد الجغرافي للمناطق ذات العلاقة، وهي الضفة الغربية وقطاع غزة، وأما الصعوبة الثالثة فتشير إلى أنه وخلال السنوات الأولى للحكم العسكري للضفة الغربية وقطاع غزة، تم تنفيذ عمليات هدم كثيرة، لا تتوفر معطيات حولها، وعدم توفر المعلومات عن عمليات الهدم السابقة يؤدي إلى عدم التعويل على المعطيات الحالية، وتنبع الصعوبة الأخيرة من عدم وضوح صحة الاعتماد على الغاية المرجوة من وراء كل عملية هدم لأحد البيوت (هل هي خطوة ردعية، أم نابعة من موازنات أمنية تنفيذية؟). 

في هذا السياق، وفي بعض الحالات، تم الأخذ ببعض المعطيات دون اختبارها، وبذلك تم المسّ بمبدأ التعويل عليها. هذه التحديات هي التي تؤدي إلى الصعوبات في استخدام المعطيات التجريبية القياسية، من أجل فحص واختبار نجاعة سياسة هدم البيوت من قبل محكمة العدل العليا في "إسرائيل".

ومع ذلك، لا يجب أن تُشكّل هذه التحديات عائقًا أمام متّخذي القرار في الحكومة، فالحكومة تمتلك التعامل الأفضل مع المعطيات ذات العلاقة بعمليات هدم البيوت، والتي نُفّذت باسمها، فبالإضافة إلى أن المحددات الجغرافية تُصعّب الدخول إلى المناطق ذات العلاقة، فإنها أيضًا تُصعّب الحركة أمام منظمات حقوق الإنسان والعاملين في إطارها، لإجراء البحوث اللازمة، وهذا لا ينطبق على الجهات الحكومية (الجيش).

مبدئيًّا، من الصعب أن يتم نقاش النتائج المترتبة على سياسة هدم البيوت دون التطرق للمعطيات التجريبية القياسية. تتحدث الأرقام عن نفسها، وهي أدق من أي كلمات تعبيرية أخرى، ومع ذلك، ففي هذه الحالة لم يتم الأخذ بالمعطيات التجريبية القياسية. إن دولة "إسرائيل" اختارت، وما تزال تختار، أن تمسّ بحقوق الإنسان، وذلك لأنها تعتمد فقط على موازنات الكلفة – الفائدة. تقوم الحكومة بذلك دون أن تثبت الفائدة المرجوة مقابل المسّ الشديد بحقوق الإنسان للقاطنين في البيوت، التي يتم هدمها أو إغلاقها. 

على سبيل المثال، وخلال السنوات 2003 – 2005، أُجريت سلسلة نقاشات في لجنة الدستور حول مدى قانونية سياسة هدم البيوت، ونجاعتها وشرعيتها، وقد امتنعت الجهات ذات العلاقة عن تقديم معطيات تجريبية قياسية يمكن أن تساهم في إثراء النقاش، ومع ذلك، استدل جزء من الضيوف بمعطيات متوفرة لدى الجيش، فقد تساءل البروفيسور مردخاي كرمنيتشر: "هل حقًا يوجد لدى الجيش معطيات تدل على أن سياسة هدم البيوت لها فعالية ردعية؟" يجيب كرمنيتشر بأن "المعطيات غير كافية وغير كاملة، وأنه من المناسب أن يتم فحص معطيات شاملة، وبدونها لا نمتلك ميزان فائدة حقيقي، وما نقوم به عبارة عن تلفيق".

واقترح إجراء بحث يشمل أشخاصًا نفّذوا عمليات، وأشخاصًا كانوا قتلى في هذه العمليات، أو أشخاصًا كانوا شهودًا على أعمال عدائية، لأنه يجب عدم الاكتفاء بفحص الأسباب التي تؤدي إلى تنفيذ العمليات، والأسباب التي تؤدي إلى العدول عن تنفيذها. كذلك يجب التعمق في الميول النفسية التي تُزرع في أشخاص آخرين (التأثيرات)، والتي تشجعهم وتدفعهم للاشتراك في الأعمال، هكذا يمكن أن نفحص مدى الفائدة. 

هناك مصدر آخر يجب أن نتوقف عنده طويلاً عند التعمق بسياسة هدم البيوت، وهو توصيات اللجنة التي ترأسها الجنرال أودي شني، علمًا أن محاضر اللجنة وتوصياتها لم توضع بين يدي الجمهور، ولذلك توجهت "الحركة من أجل حرية الحصول على المعلومات" إلى الجيش بطلب للحصول على التقرير الذي أعدّته اللجنة، وقد تلقت الحركة جزءًا من محاضر اللجنة ومن توصياتها، وللأسف الشديد لم يتم استخدام المعطيات القياسية بهدف تحقيق الردع. 

وحسب رأينا، لا يوجد أي إمكانية لفحص مدى نجاعة سياسة هدم البيوت، دون عرض معطيات تجريبية قياسية، أو أي معطيات أخرى ذات علاقة بالنقاش، فعلى سبيل المثال، وكما تم العرض على يد كرمنيتشر، كان من المفروض أن يتم التطرق إلى عدد الأشخاص الذين نفّذوا عمليات، وذلك كنتيجة لتطبيق سياسة الردع الناجمة عن الإغلاق أو هدم البيوت، كما يمكن تجريب ورؤية العلاقة بين عدد الأشخاص الذين نفّذوا عمليات ولم يتم هدم بيوتهم، وبين الأشخاص الذين نفّذوا عمليات وتم هدم بيوتهم.

يبدو إن السياسة التي فُرضت بعد بحث سطحي، ستؤدي إلى احتمالات ضئيلة في تحقيق الردع، ومن غير الواضح كيف ينبغي أن تُنفّذ موازنة كلفة – فائدة، دون فحص المعطيات التجريبية نفسها.

اعتمد موقفنا، بالإضافة إلى ما ذُكر أعلاه، على أنه يوجد ادعاء يشمل أدلة تجريبية قياسية، تشير إلى أن سياسة هدم البيوت لم تؤدِّ إلى الردع، بل أدت إلى العكس، أي إلى زيادة العمليات والعداء، وأنتجت الدافعية له. ما يؤكد ذلك أن العميد احتياط آرييه شلو، وجد أن التأثير الردعي لسياسة هدم البيوت في فترة الانتفاضة الأولى، قد تضاءل مع الأيام، فقد قدّم العميد شلو معطيات لعدد من حالات الهدم مقابل حالات تنفيذ أعمال إرهابية بنفس الفترة، مقارنةً مع فترة الشهر التي سبقت، وقد توصل إلى نتيجة مفادها أنه في البداية كان هناك نوع من الردع لعمليات هدم البيوت، ولكن مع مرور الزمن، وخصوصًا بعد أن بدأت منظمة التحرير بدفع التعويضات المالية لعائلات المصابين، قلَّ التأثير.

أقرَّ العميد شلو بنفسه أن فحصه للمسألة كان جزئيًّا، لأنه أخذ في الحسبان فقط العلاقة بين العمليات وبين هدم البيوت، دون التطرق إلى تأثير وسائل أخرى، كالاعتقال الإداري، أو تغيير أوامر إطلاق النار، أو موازنات إضافية، كأعداد الجنود المنتشرين في المناطق في نفس الفترة الزمنية، لكن من ناحيتنا، تكفي هذه المعطيات على سبيل إظهار حقيقة الأمور.

يقول العميد شلو إنه بعد أن بدأ باستخدام سياسة هدم البيوت، حَصَلت نتيجة عكسية بالنسبة للغاية التي قصد تحقيقها، وهي تقليص مستوى الفعاليات العنيفة، حيث وجد أنها قد ازدادت. فمثلاً، بعد أن تم هدم 23 بيتًا في شهر نيسان 1988، ارتفعت نسبة العمليات في الشهر التالي، حيث ازدادت بمقدار 244 حدثًا، وبعد أن تم هدم 24 بيتًا في شهر أيلول 1988، ازداد عدد الأحداث في الشهر الذي يليه بمقدار 1186 حدثًا، ويوجد ادعاء مشابه بالنسبة للانتفاضة الثانية.

وعلى ضوء الخلاصة الأخيرة للجنة شني، لم يتم إثبات نجاعة سياسة هدم البيوت، فيبدو أنه لو كان بين يدي الجيش معطيات تجريبية، لما اقتنع أعضاء اللجنة بعدم نجاعة السياسة. وهناك إمكانية أخرى وهي أن أعضاء اللجنة قد اقتنعوا بالمعطيات المتعارضة مع المعطيات الموجودة لدى الجيش الإسرائيلي، أو على الأقل اقتنعوا بالتشكيك في مدى التعويل عليها. وللأسف الشديد، وبعد أقل من عقد على إصدار توصيات اللجنة، عدنا مرة أخرى إلى النقطة الأولى قبل انعقاد اللجنة. 

في البحث الموسع الذي ننوي نشره، توصلنا إلى نتيجة مفادها أن متخذي القرار قد توصلوا إلى نتائج خاطئة بشأن نجاعة استخدام وسيلة هدم البيوت، ليس بسبب الحقائق، بل بسبب تأثيرات الميول (Biases) الانتقائية عليها. في هذا البحث توصلنا إلى نتيجة مفادها: إذا كانت سياسة الكلفة – الفائدة قد نجحت في ميادين معينة عند اتخاذ قرارات عقلية، فإنه في ميادين أخرى، وبالذات في سياسة هدم البيوت، لم تنجح، وذلك لإن القرارات تكون متأثرة من الميول الانتقائية، ولا يتم اختبارها بشكل عقلاني.

إن مسألة نجاعة سياسة هدم البيوت، وكل ما يتعلق بالمعطيات التي تؤيد نجاعتها، ما زالت تصدح في أروقتنا، وتحلق من فوق النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، ومع ذلك، لم يتم الكشف عن المعطيات التي تشير إلى نجاعة سياسة هدم البيوت، علمًا أن المصلحة العامة تتطلب الكشف عنها. إن العبء يقع في هذا الكشف على دولة "إسرائيل"، التي تمارس هذه السياسة العقابية الصعبة ضد الشخص، حتى قبل إدانته في المحكمة، هذا إضافةً إلى العقوبة التي سيتلقاها الشخص، وهي السجن. 

الخلاصة 

خلال الفترة الطويلة التي تم فيها استخدام سياسة هدم البيوت، استُخدمت موازنة الكلفة – الفائدة كمرجعية للتبرير، بالرغم من المعارضة الأخلاقية والعدلية لذلك. قُدّمت هذه المرجعية من قبل دولة "إسرائيل"، وحصلت على الغطاء القضائي من المحاكم الإسرائيلية.

يتم استخدام هذه السياسة دون تقديم المعطيات ذات العلاقة، ونحن لم ننجح في الحصول عليها لمعرفة إذا ما كانت هذه السياسة تحقق الردع أم لا؟ ومقابل ذلك نجحنا في الحصول على معطيات عكسية، تشير إلى عدم تحقيق الردع، فقد زادت الأحداث وشجعت الانخراط فيها. وفي كل الأحوال: لا حاجة لحسم السؤال إذا كانت سياسة هدم البيوت ناجعة أم لا؟ إنما يكفي أنها لم تحقق الردع وهو الغاية التي تقف من وراء سياسة هدم البيوت.

في عام 2005، وبعد أن قدمت لجنة شني توصياتها، حدث انقلاب تنفيذي تجاه سياسة هدم البيوت، فبعد أربعين سنة، وصل الجيش ووزير الدفاع إلى نتيجة مفادها أن سياسة هدم البيوت ليست ناجعة، أو على الأقل ليست ناجعة كما كان يُتوقع لها خلال الفترة السابقة.

المغزى من وراء الانقلاب أن متخذي القرار تصرفوا، ولفترة طويلة، بشكل غير عقلاني. ينبع هذا التصرف من حقيقة أنه لم يتم التفكير بفحص المسألة، ليتم التوصل إلى معطيات تفيد بأن هدم البيوت يؤدي إلى تشجيع الانخراط في الأعمال الإرهابية، وإلى نتائج سلبية أخرى.

بشكل عام، إن الاعتماد على موازنة الكلفة – الفائدة دون تأسيسها على معطيات عقلانية، سيفتقد إلى النجاعة، فإذا لم تكن هناك معطيات تُثبت نجاعة سياسة ما، فمن الصعب الاعتماد عليها لتحقيق النجاعة، ومن رفعوا راية استخدام سياسة هدم البيوت، لم يستطيعوا إثبات نجاعة هذا الاستخدام، والدليل أنهم لم يضعوا المعطيات على الطاولة، وفي ظل عدم توفر هذه المعطيات، سيبقى الجدال بين الطرح العواقبي (النتائجي) والطرح المنفعي يفقد من محتواه، طالما أن رافعي راية الطرح المنفعي لا يستطيعون إثبات موقفهم.

وفي النهاية، نقدم كلمة أخيرة بشأن الردع. إن ميزان الردع أصلاً ليس مجمَعًا عليه، ويثير انقسامًا كبيرًا في الرأي، ليس فقط بالنسبة لهدم البيوت، فلقد أقرت المحاكم في "إسرائيل" بميزان الردع، ولمرات عديدة، كميزان حاسم لصالح استمرار استخدام هدم البيوت، بالرغم من المعاناة التي سيتم التسبب بها للبشر.

وللمحكمة العليا موقف آخر، عبّرت عنه القاضية "عدنه أربيل" بالنسبة لسياسة الردع، وذلك في ردها على الالتماس الذي قُدّم لها حول مدى دستورية قانون منع التسلل، وهو قانون رقم (3) لسنة 2012، والذي يهدف إلى ردع المهاجرين والمتسللين حتى لا يأتوا إلى "إسرائيل"

 تقول أربيل: "بعد الادعاء بأن ردع المهاجرين وطالبي اللجوء هو تحقيق لمصلحة اجتماعية ضرورية، نجد أن التشريع الذي شُرّع قد غض الطرف عن حقوق الإنسان. إن اعتقال إنسان من أجل أن تردع الآخرين لتمنعهم من التسلل، هو مس خطير بمبادئ حقوق الإنسان، وهو ليس غايةً بل وسيلة".

إن موقف القاضية أربيل هو موقف مناسب، ويمكن الاعتماد عليه، ونحن نأمل من المحاكم أن تنهج نفس النهج بالنسبة لسياسة هدم البيوت، ونأمل أن يتم نشر المعطيات حول هذا الموضوع، والتي استخدمتها المرجعية المنفعية، وذلك بعد مرور سنوات عديدة من تفعيل استخدام هذه الوسيلة المتطرفة، وفي ظل استمرار حجب المعطيات، ستبقى هذه السياسة فاقدة للبعد الأخلاقي والعدلي، عدا عن أنها يمكن أن تنقلب إلى الضد، فهنا يمكن النظر إلى هذه السياسة على أنها عبثية وعديمة المسؤولية.

تعقيب الباحث

اخترنا هذا الموضوع لأهميته، ولأنه موضوع متجدد، فقد قامت "إسرائيل" بهدم العشرات من البيوت خلال انتفاضة القدس الحالية، وطالما أن ممارسة هذه السياسة لم تحقق الردع، فلماذا تواصل "إسرائيل" استخدامها بعد توقف لمدة ثلاث سنوات 2005- 2008؟ 

لم يشأ الباحثان أن يتطرقا إلى مركّب مهم في نفسية الصهاينة، كما هي نفسية كل احتلال كولونيالي إحلالي، ألا وهو حب الانتقام وممارسة إرهاب الدولة، وماذا يمكن أن يُطلق على هذه السياسة سوى ذلك؟! فما دام المشارك في العمل المقاوم قد تم اعتقاله، فما معنى أن يتم تشريد أفراد عائلته من أطفال ونساء وشيوخ، سوى حب الانتقام؟ 

لقد ثبت أيضًا خلال الهبة الشعبية الأخيرة، أو انتفاضة القدس، وبالأرقام، أن سياسة هدم بيوت منفذي العمليات والشهداء، زادت من نسبة العمليات ضد أهداف إسرائيلية، وبعضها قام به أحد أفراد عائلة مَن هُدمت بيوتهم، وهو ما يُثبت مجددًا أن سياسة هدم البيوت غير مجدية، ولم تحقق الهدف منها بالردع، كما أنها أيضًا مخالفة للقانون الدولي وحقوق الإنسان.

إن ما يتم تداوله من نظريات فلسفية تحكم السلوك وتؤثّر على اتخاذ القرار في هدم البيوت، إنما يدل على أن الفكر الصهيوني يفتقد إلى أي مرجعية فكرية، فقادة "إسرائيل" على استعداد لممارسة أي سلوك في سبيل إطالة عمر دولتهم، التي تفتقد الاستقرار بالرغم من مرور 67 عامًا على إقامتها.

إن الحديث عن النظرية النفعية أو النظرية العواقبية، ما هي إلا محاولة من الكاتبيْن للتأصيل لسلوك "إسرائيل". 

يفتقد البحث لتأصيل معنى "إرهابي"، التي ذُكرت كثيرًا في البحث الأصلي، فمن هو الإرهابي؟ هل كل من اشترك في عمليات ضد "إسرائيل" هو إرهابي؟ وهل الإرهابي تشمل المتطرفين اليهود الذي أحرقوا عائلة دوابشة؟ أم فقط الذي قام بالمس بالمدنيين دون العسكريين؟

الحالة التي شكّلت منطلقًا لكتابة هذا البحث، هي ملف الأسير زياد عواد، الذي قَتل ضابطًا كبيرًا في الجيش الإسرائيلي، وتم هدم بيته. فإذا كانت الجهات الرسمية في "إسرائيل" لا تُفرّق بين المدنيين والعسكريين، فلماذا لا يفرق الباحثون كذلك؟ 

كذلك يفتقر البحث إلى إحصاءات حول عمليات الهدم، وذلك بحجة أن الجيش الإسرائيلي لم يكشف عنها، ولم يتطرق البحث كذلك إلى عمليات هدم البيوت بحجة عدم الترخيص، والتي هي حجة تستخدمها "إسرائيل" لزيادة السيطرة على الأرض، وتهجير أكبر عدد ممكن من السكان الفلسطينيين. 

هذه الوثيقة يجب أن تولى أهمية خاصة من قبل القانونيين الدوليين، حيث يتم الإضافة عليها من أجل تجهيز ملف كامل لملاحقة "إسرائيل" في المحافل الدولية، وكشف ممارساتها الإرهابية على الأرض.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى