مقالات

الانتخابات القادمة والمجتمع المدني الفلسطيني: التأثير والدور المنشود

محمد دار خليل

مقدمة:

في الديمقراطيات الراسخة، ليس من الموضوعي تجاهل الدور الذي يمكن أن يلعبه المجتمع المدني في الرقابة على تجسيدات الديمقراطية، ودفع النخبة السياسية واللاعبين البارزين في المجتمع السياسي، للالتزام بمسؤولياتهم تجاه الديمقراطية. يعود ذلك بشكل بارز إلى توزيع القوة داخل المجتمع، وحظوظ عامة الأفراد منها، كنتاج لعملية تاريخية طويلة الأمد، تجلت فيها مفاهيم المواطنة، وما لازمها من اعتراف السلطات بمختلف الحقوق السياسية والمدنية، وتوسع مساحات الحرية.

وعلى النقيض من تلك الحالة المتقدمة لانخراط المجتمع المدني، وتأثيره في الحالة السياسية، تبرز نماذج مختلفة يكون تأثير المجتمع المدني فيها أقل نسبيا، كدول ما بعد الاستعمار، والتي لم تخضع مجتمعاتها لعمليات تعاقد اجتماعي، كان من المفترض أن تُبرز مجتمعا مدنيا بمثابة خط آخر، فعال ومواز لخط الدولة، ويقوم بمهمته العظمى في المحافظة على أركان العقد الاجتماعي، وتحديد مدى التزام الدولة بها من جهة، ويشكل تمثيلا حقيقيا لتغير مطالب القواعد الشعبية، وتطور توجهاتها، بمختلف ألوانها، أمام الدولة من جهة أخرى.

وفي السياق الفلسطيني، يفترض أن يتميز المجتمع المدني الفلسطيني بازدواجية دوره الوظيفي. فإضافة إلى الدور الذي قد يقوم به وفقا  لنظريات المجتمع المدني الحديثة، تجعل استثنائية السياق الفلسطيني، كمجتمع يخضع للاحتلال، أن تكون أدواره المنوطة به  ذات بعد تحرري، ومنطلقة من إرادة الفلسطينيين للخلاص من براثن الاحتلال، وتحقيق وحدتهم، وبناء دولتهم المنشودة.

ومن الجدير ذكره أنه لا يلقى باللوم على الفلسطيني وحده، كمسبب لحالة الجمود السياسي والانقسام والانسداد في الأفق، إذ تخضع القضية الفلسطينية لمعادلة تتفوق فيها عوامل التأثير الخارجية على الداخلية، مع التأكيد على عدم الاستهانة بأهمية العامل الذاتي. وعند التطرق للعامل الذاتي، فإنه من الخطأ قصره على الفصائل والأحزاب السياسية، إذ يساهم المجتمع، بشكل مباشر أو غير مباشر، في استمرار حالة الترهل في المشهد السياسي، وخاصة من قبل أشكاله الأكثر تنظيما خارج إطار “الدولة” من ناحية، وخارج المجتمع السياسي المتمثل في الأحزاب السياسية من ناحية أخرى. ويتحمل المجتمع المدني الفلسطيني جزءا من المسؤولية كلاعب داخلي، إذا ما غاب دوره المنوط به ذو الأبعاد المختلفة.

تفترض هذه الورقة أن الذهاب للانتخابات يرتبط بعوامل داخلية وخارجية، لم يحظ المجتمع المدني الفلسطيني بدور المؤثر فيها بشكل مباشر،  إلا أنها تفترض أيضا أن لمنظمات المجتمع المدني دورا غير مباشر، لعبته نسبة قليلة منها طوال سنوات الانقسام، وكان له مساهمة، وإن كانت غير وازنة، في الذهاب إلى الانتخابات. كما تفترض الورقة أنه يجدر بالمجتمع المدني الفلسطيني أن يلعب دورا في إنجاح هذه الانتخابات، وفق خطة عملية، وبشكل جمعي وائتلافي.

المجتمع المدني الفلسطيني والانقسام

يصل عدد منظمات المجتمع المدني الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، وفي الأراضي المحتلة عام 1948، وكذلك في الخارج، إلى نحو 4616 منظمة، 60٪ منها منظمات قاعدية[1]، وتتلقى تمويلا يقدر بـ 600 مليون دولار سنويا، لكن تأثيرها على المستوى السياسي العام أقل بكثير من المرغوب، إذ إن الطابع الذي يصبغ توجهاتها هو طابع خدماتي ومهني (سكر و الجرادات، 2020). ويعود ذلك إلى عدة عوامل، أهمها توجهات المانحين، والوعي المجتمعي، والظروف السياسية.

بالرغم من ذلك، برزت محاولات جادة من عدد قليل من المنظمات الفلسطينية غير الحكومية، لإيجاد صيغة توافقية والتمهيد لإنهاء الانقسام، منذ أن بدأ يفعل فعله بالبيت الفلسطيني، لكن لم يرْقَ مستوى تأثير هذه المنظمات، إلى أن تكون ضمن عوامل التأثير الحاسمة في حسابات صانعي القرار، ولم يتجاوز دورها المساهمة في تحريك حالة الجمود، وتعزيز آليات الحوار، وتقديم التوصيات، والتأثير على وعي النخبة. وهنا يجدر التأكيد على أنه، وبالرغم من محاولة بعض المنظمات المساهمة في المصالحة، إلا أن مجمل المجتمع المدني الفلسطيني، بالنسبة إلى حجمه وعدد مؤسساته، لم يؤد الحد الأدنى من دوره المنشود في الخلاص من الانقسام، الذي ضرب بأنيابه مقومات صمود الشعب الفلسطيني، ومكانة قضيته.

لذلك، فإن الإعلان عن عقد الانتخابات الفلسطينية العامة، التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني، في الأشهر القليلة القادمة، هو أمر أكثر ارتباطا بحسابات تقاسم النفوذ وتجديد “الشرعيات” لدى النخبة الفلسطينية الحاكمة، وعودة الديمقراطيين إلى البيت الأبيض، والأمل في التقدم في مشروع التسوية، وحالة الانسداد في الأفق التي واجهتها الفصائل الفلسطينية على مدى العقد الأخير، وما تبعه من انقلاب في توجهات بعض الأنظمة العربية لصالح “إسرائيل” على حساب الفلسطينيين، وعلى حساب توجهات قيادة السلطة الفلسطينية.

يُنظر إلى الانتخابات القادمة كخطوة هامة للخلاص من حالة الانقسام، والانسداد في الأفق الذي تعيشه الحالة الفلسطينية. ولا ينفصل الدور “غير الكافي” لعدد من منظمات المجتمع المدني، والذي لعبته بعض المنظمات كمحاولات للخروج من حالة الانقسام، عن دورها المساهم، وغير الكافي أيضا، في الوصول إلى قرار الانتخابات كخطوة ومحاولة للخلاص من الانقسام، وإن لم يكن مباشرا. هنا تجدر الإشارة إلى عدم تعامل منظمات المجتمع المدني الفلسطيني، مع ملف الانقسام، كوحدة ذات توجه واحد، ولم تتبن تصوراتٍ موحدة حول التخلص منه.

 يمكن تقسيم منظمات المجتمع المدني الفلسطيني في تعاطيها مع ملف الانقسام، إلى ثلاثة أقسام: منظمات آثرت الحياد ولم تكن معنية بالمساهمة في إنهاء الانقسام، ومنظمات عارضت الانقسام، وعملت على إيقافه، ومنظمات انحازت إلى أطراف الانقسام، وساهمت في تعزيزه، وشاركت، للأسف، في شق المجتمع المدني الفلسطيني الذي أثر الانقسام على فعاليته وتأثيره.

 

أبرز المبادرات التي قام بها المجتمع المدني لإنهاء الانقسام

وفي سياق الحديث عن دور منظمات المجتمع المدني الفلسطيني، سيتم الإشارة إلى أبرز المبادرات التي قامت بها المنظمات التي عارضت الانقسام، وعملت على إيقافه (موسى، 2020):

– مبادرة مؤسسة بال ثينك: “الخروج من الأزمة الراهنة: ضرورة وطنية لا تحتمل التأجيل”.

مبادرة مركز مسارات: “وثيقة الوحدة الوطنية”، وما تبعها من تنظيم حوارات مستمرة بين الفصائل الفلسطينية.

مبادرة شبكات “لمعهد دراسات التنمية IDS، وتوقيع مذكرة من شأنها تعزيز الحوار والتفاهم بين أفراد الكتل الطلابية.

  • ائتلاف شباب 15 آذار/ مارس، وهو حراك شبابي كبير تزامن مع موجات الربيع العربي، وكان يهدف إلى إنهاء الانقسام.
  • مبادرة الائتلاف الأهلي لإصلاح القضاء وحمايته: وهي مبادرة لإصلاح القضاء وتوحيده، وقع عليها حوالي 300 منظمة فلسطينية غير حكومية.
  • مبادرة الفريق الوطني لدعم تطبيق بنود العهد الدولي: وقد هدفت إلى الوصول إلى خطة وطنية، لتسريع عمل اللجنة الوطنية لمواءمة التشريعات المعمول بها في فلسطين مع المواثيق والمعاهدات الدولية.
  • مبادرة الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان.
  • مبادرات مركز رؤية للتنمية السياسية في إسطنبول منذ عام 2015، ورعايته المستمرة لحوار وطني فلسطيني جامع.

ساهمت هذه المبادرات في محاولة لتسريع عجلة المصالحة، من خلال ترسيخ وتعزيز فكرة إنهاء انقسام، وضرورة الاتفاق على أرضية جامعة، وعلى برنامج ورؤية وطنية موحدة. كما أن هذه المبادرات عملت على تليين مواقف النخبة من الأطراف المتناقضة، حيث ضمت فعاليات حوارية عملت على تقريب وجهات النظر، وتقليص الفجوة بين أصحابها. ويأتي عدم استهجان فكرة خوض حركتي حماس وفتح وباقي الفصائل الفلسطينية، الانتخابات بقائمة انتخابية موحدة، حتى وإن لم يحدث ذلك، كواحدة من ثمرات تلك المبادرات، التي خلصت في مجملها، إلى ضرورة توحد الفصائل الفلسطينية خلف برنامج ورؤية وطنية موحدة.

وحتى بعد الإعلان عن الانتخابات، لا زالت بعض المنظمات الفلسطينية غير الحكومية، تلعب دورا في تقديم التوصيات، التي من شأنها أن تجعل من الانتخابات أكثر تمثيلا، وأكثر ديمقراطية، كالتوصيات التي قدمها مركز إعلام حقوق الإنسان والديمقراطية “شمس”، والتي تشمل تهيئة سياقات وظروف الانتخابات بما لا يتناقض مع القيم الديمقراطية، كالمطالبة بإنهاء حالة الطوارئ، والعودة عن القرارات الرئاسية المتعلقة بالقضاء (شمس، 2021)، أو كالتوصيات التي قدمتها الأطر النسوية من خلال شبكة المنظمات الأهلية، والتي تطالب برفع التمثيل النسبي للنساء بما لا يقل عن 30%، وهي أعلى من النسبة المقترحة رسميا “26٪” (المرأة، 2021).

المجتمع المدني وإنجاح الانتخابات

ليس من الديمقراطي أن يبقى المجتمع المدني الفلسطيني على هامش العملية الانتخابية، وأن يكتفي بلعب أدوار غير مباشرة، إذ يجدر به أن يلعب دورا ذا تأثير حقيقي، ووزن ثقيل في الحسابات السياسية للنخبة الحاكمة، وكمحرك فعال للقواعد الشعبية، خاصة في أجواء ضبابية الانتخابات. ويمكن تحقيق ذلك من خلال جملة من الأمور، أهمها:

  • أن يتم تشكيل ائتلاف من نخبة من المنظمات (أهلية، نقابية، تعاونية، طلابية، وغيرها)، والاتفاق على برنامج شامل بغرض المساهمة في إنجاح الانتخابات، وضمان نزاهتها.
  • أن تعمل منظمات المجتمع المدني، من خلال القواعد الشعبية التي لن تتردد في التطوع للعمل تحت لجان مستقلة، ومتخصصة بملفات الانتخابات المختلفة.
  • أن تعمل هذه المنظمات على تشجيع المواطنين على المشاركة في الانتخابات.
  • أن يعمل الائتلاف كجهة وسيطة بين الأجهزة التنفيذية، والفصائل، والجهات المشاركة في الانتخابات.
  • أن يقوم هذا الائتلاف بأدوار رقابية وقانونية وإعلامية خلال العملية الانتخابية ومجرياتها، كجهة مستقلة غير رسمية، ويكشف عن أي خروقات، ويحدد المسؤول عنها.
  • أن تتعاون المنظمات وتنسق مع الأطراف الدولية؛ من أجل ضمان انتخابات شفافة ونزيهة.

خاتمة:

لا تزال منظمات المجتمع المدني الفلسطيني تواجه العديد من التحديات الموضوعية والذاتية، والتي تجعل من وزنها الفعلي في معادلة السياسة الفلسطينية غير فعال. ومن أبرز تلك التحديات، الفعل في سياق تحرري، أي العودة إلى فاعليتها الكبيرة قبل أوسلو. وثانيا، الفعل في ظل غياب دولة مستقلة، وهذا يجعل سياقها مختلفا عن المجتمعات التي تحكمها أنظمة حكم راسخة. وثالثا، الفعل وفقا لترتيب سياسي داخلي، تأخذ الفصائل السياسية حظ القوة الأعظم منه، وتهمش فيه الشرائح المجتمعية خارج الإطار السياسي. ورابعا، الفصل بين الفعل المصلحي والتخصصي من جهة، والسياسي التحرري المؤثر من جهة أخرى، إذ إن حوالي 80٪ من منظمات المجتمع المدني الفلسطيني تتبنى توجها خدماتيا خالصا، وكأن منظمات المجتمع المدني الفلسطيني قد خضعت لعمليات فصل مقصودة، ومخطط لها مسبقا. إضافة إلى وجود معطلات أخرى كالتمويل، واستهداف المنظمات للممولين أكثر من استهدافها للقواعد الشعبية، وغياب الائتلافات والفعل الجمعي، وغياب الرؤى والاستراتيجيات طويلة المدى. كل هذه التحديات جعلت منظمات المجتمع المدني الفلسطيني، بشكل عام، غير فاعلة في ملف الانقسام، ولم يكن لها دور مباشر في قرار الرئيس والفصائل في الذهاب للانتخابات.

 

هوامش:

إسلام موسى. (2020). جهود مؤسسات المجتمع المدني لإنهاء الانقسام وتدابير العدالة الانتقالية. تم الاسترداد من المركز الديمقراطي العربي: https://democraticac.de/?p=70557

أشرف سكر، و عهد الجرادات. (2020). ورقة حقائق: مؤسسات المجتمع المدني والشباب الفلسطيني .. تحديات الدور. تم الاسترداد من المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية – مسارات: https://www.masarat.ps/article/5555/ورقة-حقائق-مؤسسات-المجتمع-المدني-والشباب-الفلسطيني–تحديات-الدور

شمس. (2021). مركز “شمس” يقدم رؤيته للفصائل في القاهرة بشأن الحوار الوطني والانتخابات. تم الاسترداد من مركز إعلام حقوق الإنسان والديمقراطية شمس: https://www.shams-pal.org/?p=4167

وكالة أخبار المرأة. (2021). مطالبات فلسطينية برفع تمثيل النساء في القوائم الانتخابية إلى 30%. تم الاسترداد من الاستاد نيوز: https://www.alestadnews.com/egypt/2819/مطالبات-فلسطينية-برفع-تمثيل-النساء-في-القوائم-الانتخابية-إلى-30-.html

[1] تختلف المنظمات القاعدية عن غيرها من منظمات المجتمع المدني بأنها تقوم على العمل التطوعي على خلاف المنظمات التي تشغل عددا من الموظفين. وتسمى قاعدية لأنها تستهدف القواعد الشعبية على خلاف المنظمات التي تستهدف الممولين. ومن الأمثلة على المنظمات القاعدية النوادي الرياضية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى