تقاريرالمشهد الفلسطيني

إحالة المحافظين إلى التقاعد: التوقيت والدوافع

أشرف عثمان بدر[1]

أصدر رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بتاريخ 10 آب/أغسطس 2023، مرسوماً بإحالة 12[2] محافظًا إلى التقاعد، ليستمر 4 محافظين في أداء مهامهم من أصل 16[3]، ثلاثة منهم في الضفة الغربية بمحافظات: القدس، ورام الله والبيرة، وسلفيت، وواحد في قطاع غزة، وهو محافظ الوسطى، علمًا أن المحافظ يعمل ممثلًا شخصيًا للرئيس في جميع الأمور في منطقته، بما في ذلك المسؤولية عن الأجهزة الأمنية، ويتمتع بصلاحيات واسعة تسمح له بإصدار أوامر اعتقال إداري بحق المواطنين، ولم يسبق في تاريخ تولي عباس للرئاسة القيام بخطوة بمثل هذا الحجم، إذ جرت العادة على إقالة عدد محدود من المحافظين، حيث فاجأ المرسوم الكثير من المراقبين، وحتى المحافظين أنفسهم، فقد عبّر عن ذلك محافظ أريحا جهاد أبو العسل بقوله: “لم يكلّمنا أحد بشأن قرار الإحالة للتقاعُد، ولم نبلَّغ به مسبقًا، ولا ندري ما هي الأسباب، وفوجئنا به من وسائل الإعلام”.

أثار المرسوم ردود أفعال متباينة في أوساط المهتمين بالشأن الفلسطيني، ففي حين اعتبره البعض بمثابة ضخ دماء جديدة لمفاصل السلطة المتكلسة، وذهب آخرون إلى اعتباره مناورة من عباس لاستعادة جزء من شرعية السلطة المتآكلة، ومن هنا برزت عدة أسئلة يسعى هذا التقرير لمعالجتها، تتعلق بتوقيت هذه الخطوة والدوافع الكامنة خلفها، فهل جاء القرار في سياق محاولة قيادة السلطة إعادة هيبتها وسيطرتها على الأرض، وكجزء من ترتيب الأوراق للمرحلة القادمة؟

توقيت الإقالة وسياقها:

يأتي قرار عباس مع بروز التقصير في أداء بعض المحافظين من حيث عدم القدرة على ضبط الأوضاع، (على سبيل المثال الفلتان الأمني والاقتتال العائلي في الخليل)، وكذلك تراكم أخطائهم، والمتمثلة بتصريحات صحفية مثيرة للجدل، وذلك في ظل تصاعد أعمال المقاومة في الضفة الغربية، وخصوصاً في شمالها، وعقب انتهاء اجتماع  العلمين في مصر، والذي دعا فيه عباس الأمناء العامين للأحزاب الفلسطينية لمواجهة العدوان “الإسرائيلي” المستمر، وممارسات الحكومة “الإسرائيلية” المتطرفة.

تكررت التصريحات الصحفية المثيرة للجدل من بعض المحافظين، بل إنّ بعضها أثارت سخرية المتابعين، كرد محافظ أريحا والأغوار جهاد أبو العسل حول وجود مقدرة على مقاومة الاحتلال مجيبًا: “حتى لو ما كان عنا مقدرة فأضعف الإيمان نسب عليهم”، وكان قد سبق ذلك تصريحًا لمحافظ نابلس إبراهيم رمضان يصف به بعض أمهات الشهداء ب”الشاذات”، وذلك بقوله: “إنّ الأم هي من تظهر الحنان والعطف، لكن هنالك أمهات شاذات ترسل أبناءها للانتحار، وتظهر للآخرين أنها (المناضلة)، هذه ليست أمّاً”، مما أثار سخطاً شعبياً ومطالبة بإقالة المحافظ، حيث تؤشر هذه التصريحات على ضعف بعض المحافظين وعدم قدرتهم على إدارة الملفات المختلفة، وانفصالهم عن هموم الجمهور الفلسطيني.

ترافَق تزايد أعمال المقاومة في شمال الضفة الغربية مع تراجع سطوة الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، وعدم قدرتها على ضبط الأوضاع، إذ اعتبر محافظ جنين أكرم الرجوب أنّ ما يجري لا يندرج تحت أعمال المقاومة، وإنما الفلتان الأمني، مصرحاً بأنه “لا يوجد مقاومة مسلحة هنا، وإنما خروج عن القانون”، مما دفع بعض المسلحين للرد على ذلك بإطلاق النار صوب مقر المحافظ في جنين، وقد لوحظ في الآونة الأخيرة تزايد أعمال إطلاق النار على بعض مقرات السلطة في مناطق كجنين، في رد على ممارسات الأجهزة الأمنية وخاصة الاعتقال السياسي، بالتزامن مع معركة “بأس جنين” التي غابت فيها الأجهزة الأمنية عن المشهد، حيث دفع تزايد الانتقادات لدور الأجهزة الأمنية، المتحدث باسم حركة فتح منذر الحايك إلى التحذير من تشويه صورة المؤسسة الأمنية والسلطة، حتى لا يتكرر سيناريو “انقلاب” قطاع غزة في الضفة الغربية.

في سياق متصل؛ أسفر اجتماع العلمين بتاريخ 31/7/2023 عن تشكيل لجنة من أجل متابعة الحوار بهدف إنهاء الانقسام، مما يؤشر على تمترس كل طرف في المعادلة الفلسطينية حول مطالبه، فيما اعتبر بعض المحللين أنّ الاجتماع قد فشل في إنهاء الانقسام أو حتى إدارته، بل إنّ مخرجاته كانت أقل من التوقعات المنخفضة، في الوقت ذاته، يرى آخرون خلاف ذلك، حيث أثمر اللقاء في تحقيق مكاسب تمثلت في تبريد الأجواء الداخلية الفلسطينية، والحفاظ على العلاقات الوطنية الداخلية، التي تساهم في الحفاظ على السلم الأهلي.

الدوافع والأسباب:

لم يوضح الناطقون باسم السلطة الفلسطينية الدوافع والأسباب خلف اتخاذ قرار الإحالة إلى التقاعد، أو لماذا أُخرج القرار بهذه الطريقة المهينة للمحافظين، مما دفع محافظ نابلس للتصريح بأنّ طريقة إخراج قرار تقاعد المحافظين من قبل المكلفين بواسطة رئيس السلطة؛ بأنها بائسة ومهينة ومعيبة.

نقلت بعض وسائل الإعلام عن مصادر في السلطة الفلسطينية بأنّ الدافع وراء القرار كان بقاء المحافظين في مواقعهم لفترة طويلة، فمن خلال الفحص نجد أنّ ستة محافظين لهم أكثر من 9 سنوات في موقعهم، دون تدوير أو تغيير، علماً بأن بعضهم يخدم محافظًا منذ حوالي عقدين، وجرى تدويره من موقع لآخر، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ القانون لم يحدد آجال أو مدة محددة لشغل منصب المحافظ، ويرجع تحديد المدة لرئيس السلطة، يضاف إلى ذلك بقاء المحافظين لفترة طويلة تراكم أخطائهم وقصورهم في أداء مهامهم، مع قيام بعضهم باستفزاز مشاعر المواطنين، مما تسبب باعتراضات شعبية، وبحسب قناة “الشرق” طلب رئيس الوزراء محمد اشتية من عباس القيام بتغييرات حكومية واسعة تشمل وزراء ومحافظين وسفراء وأعضاء في مجلس القضاء الأعلى، وذلك لتحسين أداء السلطة التي تعاني حالة من الفشل في إدارة الملفات المتعددة، فيما ذكرت مصادر أخرى بأنّ السبب يعود إلى تلقي عباس إنذارات من الأردن في زيارته الأخيرة لها، تحذره من تراجع مكانة السلطة وخطورة الأوضاع، مما يوجب إجراء تغييرات في تركيبة السلطة.

اعتبر القيادي السابق في حركة فتح ورئيس بلدية الخليل تيسير أبو اسنينة بأنّ القرار يأتي في سياق توجيه ضربة لنفوذ عضو اللجنة المركزية لحركة فتح جبريل الرجوب، كون معظم المحافظين المقالين قد جاؤوا من جهاز الأمن الوقائي الذي كان يترأسه الرجوب، إذ يصب تصريح أبو اسنينة في التحليلات التي تذهب إلى أنّ القرار يأتي في سياق ترتيب مرحلة ما بعد عباس، وتمهيد الطريق أمام الخليفة المحتمل.

امتنع الناطقون باسم الحكومة “الإسرائيلية” عن التعقيب على قرار الإقالة، لكن بعض المحللين “الإسرائيليين” (مدعين بأنهم يستندون على مصادر فلسطينية مطلعة) عقبوا على قرار الإقالة بأنّه محاولة من عباس لاستعادة السيطرة على مناطق السلطة، وذلك بعدما فشل المحافظون بمنع مجموعات المقاومة في الضفة من السيطرة على مناطق واسعة، وطرد السلطة منها، وتعرض مقراتها لإطلاق النار، فبحسب المصادر “الإسرائيلية” فإنّ نقطة التحول باتجاه اتخاذ قرار الإقالة قد حدثت عقب التقارير التي قدمها المحافظون لعباس بخصوص محاربة التنظيمات المسلحة، والتي توحي بأنهم قد قضوا عليها، لكن هذه التقارير تعارضت مع ما يحدث على أرض الواقع، في الوقت ذاته تشير المصادر “الإسرائيلية” بأنّ القرار يأتي في سياق صراع الخلافة ومحاولة التأكد من ولاء من يتم تعيينهم.

الخلاصة:

يبدوا أنّ قرار إقالة المحافظين جاء في سياق محاولة رئيس السلطة ترتيب الأوراق، سواء من أجل ضبط الساحة الفلسطينية، ووقف التراجع في أدائها وشعبيتها، أو من أجل تهيأة الأرض للخليفة المحتمل، لكن من المشكوك به أن يقود قرار تغيير المحافظين إلى تجاوز الأزمة التي تعاني منها السلطة، فالأزمة غير منحصرة في أداء المحافظين، وإنما تمتد إلى مشروع السلطة برمته، والذي وصل إلى طريق مسدود مع توقف عملية السلام والمفاوضات، وعدم القدرة على تحقيق “مشروع الدولة”، والإنزلاق التدريجي إلى ما يخطط له “الإسرائيلييون” ومن خلفهم الإدارة الأميركية، من تأبيد الوضع الحالي للسلطة كأداة وظيفية في المحافظة على الأمن وإدارة السكان، دون أن تتطور وتتحول إلى كيانية فلسطينية مستقلة، كما كان مقرر مع انطلاق عملية السلام.


[1] – أكاديمي وباحث، حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم الاجتماعية.

[2] – في الضفة الغربية محافظي: جنين، نابلس، قلقيلية، طولكرم، بيت لحم، الخليل، طوباس، أريحا والأغوار. وفي قطاع غزة محافظي: شمال غزة، غزة، خان يونس، رفح.

[3] قسمت الضفة الغربية إلى 11 محافظة وهي: القدس، بيت لحم، الخليل، رام الله والبيرة، نابلس، سلفيت، قلقيلية، طولكرم، طوباس، جنين، أريحا والأغوار. بينما قسم قطاع غزة إلى 5 محافظات: شمال غزة، غزة، الوسطى، خان يونس، رفح.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى