الشراكة الوطنية حجــر الأساس لخارطة الطريق الفلسطينية

أيمن دراغمة

مع تواصل جهود تحقيق التقارب الوطني ومحاولاته، فإنه من الأهمية بمكان البحث العميق والموضوعي من قبل المهتمين، في معيقات التقدم نحو إحراز نجاح واضح وملموس. ويبدو أن مسألة دراسة الحالة باتت حيوية ومفيدة، وقد تساهم في فهم الطبوغرافية السياسية والبنيوية، وغيرها من المؤثرات الداخلية والخارجية التي تلعب دورا هاما، وتؤدي إلى الجمود وعدم الوصول للمحطة الأخيرة بنجاح، خاصة وأنه لم يتم الكشف بشكل صريح وواضح، ولأسباب مختلفة، عن سبب الإخفاق في كل هذه الجولات.

من النقاط الهامة التي تم الاتفاق عليها في لقاءات التقارب بين حركتي فتح وحماس في اسطنبول، التأكيد على مبدأ الشراكة الوطنية، والعمل المشترك، واعتمادها كآلية لنظم العلاقات الفصائلية. ويعتبر هذا التوجه إيجابيًا، خاصة وأنه جاء بعد سنوات من الخصام والتنافس ولي الأذرع، علما أنه كان قد تم التأكيد على مبدأ الشراكة في وثيقة الوفاق الوطني، ثم تمت الإشارة إليها في عدد من الاتفاقيات اللاحقة. ولكن المطلوب اليوم هو أبعد من هذا، وذلك باعتماد مبدأ الشراكة، كعقد وطني ينظم العلاقة بين الفصائل على أساس التعاون والتكامل في مواجهة الاحتلال ومخططاته، وفي مواجهة كل ما تتعرض له قضيتنا من أخطار، وهو بديل عن الاستحواذ، ومركزية القرار، واحتكار السلطة والمنظمة ومؤسساتها، وبديل أيضا عن احتكار التمثيل، وبعيد عن المحاصصة والاستئثار. إن الشراكة المنشودة هي التي تبعث رسائل تطمين أولا إلى الشعب الفلسطيني، بأنه صاحب الولاية، وأن جميع أبنائه متساوون في المواطنة والحقوق والواجبات وفقا للقانون، ومتساوون في الفرص، والحق في الوظيفة العامة، والممثليات والسفارات، وهم سواءٌ أمام القضاء والقانون، وفي العلاقة مع الأجهزة الأمنية، التي ينبغي أن تخدم المواطن، وتحافظ على سلامته وأمنه، وتحمي الوطن. والمطلوب أيضا شراكة على قاعدة الانتماء الوطني، والحفاظ على الثوابت، وشراكة يحكمها القانون والدستور، وأُسس ومبادئ الديمقراطية المتعارف عليها، والمتمثلة في الفصل بين السلطات، والتداول السلمي للسلطة وفقا للقانون، والتعددية السياسية، وسيادة القانون، وحرية الإعلام والرأي.

إن اعتماد مبدأ الشراكة يحمل رسائل إيجابية لكل الفصائل والأحزاب، بما فيها حركتا فتح وحماس، وينعكس على الصعيد الداخلي ووحدته في مواجهة الاحتلال، وأيضا على الصعيد الخارجي، العربي والإسلامي والدولي. كما أن اعتماد مبدأ الشراكة يساهم في إنهاء الانقسام، وتحقيق الوحدة، وإصلاح المؤسسات، وإحياء دورها وفاعليتها.

ولكن الوصول لهذا الهدف الوطني الهام، يحتاج لتهيئة كل الظروف اللازمة لذلك، من خلال خارطة الطريق الشاملة، التي تأتي كمحصلة لحوار شامل واسع وجامع وغير مستعجل، يضع النقاط على جميع الحروف، وبروح وطنية صافية وواعية، تؤدي إلى عَقد سياسي اجتماعي، وثقافي واقتصادي، ينظم العلاقة بين المكونات الفلسطينية المتباينة، ويؤدي إلى توافق يحكمه القانون والدستور، وتحميه الشراكة.

إن النجاح في التوافق على الشراكة الوطنية، سيكون بمثابة الروح التي تسري في جسد كل المؤسسات والنقابات والاتحادات في الداخل والشتات، وسيؤدي إلى بناء مؤسسات ممثلة وقوية، وعلى أسس توافقية وديمقراطية وفاعلة يحكمها القانون والنظام، مما سيساهم في رفع شأن القضية الفلسطينية، ويعيد لها الصدارة، وينزع الذريعة ممن يتذرعون بالانقسام لتبرير عجزهم ونكوصهم. كما أن توحيد فصائل العمل الوطني، وصهرها في بوتقة العمل المشترك على قاعدة الشراكة، كفيل بإعادة الروح الوطنية النضالية لشعبنا، وتوحيده، واستنهاض قواه في مواجهة مخططات الاحتلال، وتمكينه من الصمود على أرضه أمام سياسات التوسع والضم.

 

معادلة الانحناء الطوعي

لا شك أن هناك معيقات موضوعية وبنيوية تعيق الشراكة الفلسطينية، ولكن ليس صحيحا أن الوصول لهذا الهدف صعب لدرجة المستحيل، كما يظن البعض. صحيح أن ما نراه من أعراض مرضية ناجمة عن الانقسام، وعن الواقع الحالي، تشير إلى درجة عالية من التعقيد، إلا أن هذه هي طبيعة المشكلات الاجتماعية والسياسية، والأزمات المركبة والمتداخلة. وصحيح أن الخطين المتوازيين لا يلتقيان، لكن مطلوب من مهندسي التقارب أن يضغطوا على الأطراف بحكمة وأناة، من أجل الانحناء الطوعي للوصول لنقاط التقاطع والالتقاء.

 يمكن استلهام العبر والدروس من أدبيات النضال الفلسطيني عبر التاريخ الحديث، فمبدأ الشراكة له رصيد تاريخي ومتجذر في الوعي الوطني، والفكر والتراث الفلسطيني. ففي تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، ما يكفي من تجارب، كتجربة ثورة الـ 36، وثورة القسام والحسيني، وكذلك الثورة المعاصرة. كما أن الحركة الأسيرة في سجون الاحتلال، سطرت نموذجا متقدما في العمل المشترك بين كل ألوان الطيف الاعتقالي، مما ساهم في صمودهم داخل قلاع الأسر، حتى أنهم تمكنوا من قيادة الشارع الفلسطيني وتوجيهه من داخل السجون في أكثر من محطة، بل ونجحوا في تحقيق الانتصارات أمام إدارات السجون، وكان لهم السبق في إبرام وثيقة الأسرى لحل الخلاف بين حركتي فتح وحماس، ووقف الانقسام، والتي أصبحت وثيقة الوفاق الوطني الفلسطيني.

 

آليات الوصول للشراكة ووجهات النظر المختلفة

توجد أكثر من وجهة نظر حول طريقة تحقيق الشراكة. فهناك من يرى أن الانتخابات الشاملة كعملية ديمقراطية، ستؤدي إلى الشراكة من خلال الوصول إلى مجلس وطني ومجلس تشريعي منتخبيْن، وهي بمثابة ممارسة واقعية وعملية للشراكة، بحيث تتسع هذه المجالس المنتخبة، من خلال أنظمتها ولوائحها وقوانينها، للجميع، وتسمح بالمشاركة الفاعلة والحرة. وكذلك فإن الشراكة الفعلية تتحقق من خلال لجان العمل المختلفة والمتخصصة، والتي تضم الجميع، وهي بذلك كفيلة بتحقيق الشراكة من خلال العمل المشترك.

ولكن في المقابل، يرى البعض عدم ضرورة الانتخابات، خاصة وأننا جربناها سابقا، وكانت نتائجها سلبية على الوضع العام، ولم تؤد إلى إصلاح الوضع، ولذا فإن أسهل الطرق للوصول للشراكة، هو إحياء مؤسسات المنظمة والسلطة، ودخول حركتي حماس والجهاد الإسلامي فيها، خاصة وأن المنظمة هي الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، والمعترف به دوليا. وإضافة إلى رصيد المنظمة، وتجربتها التاريخية في قيادة المشروع الوطني وتمثيل الشعب الفلسطيني، فإن دخول حركتي حماس والجهاد الإسلامي فيها، كفيل بإحياء دورها، وإعطائها الصبغة التمثيلية الشاملة.

وفي سياق مشابه، هناك وجهة نظر ثالثة، ترى أن برنامج المفاوضات وأُوسلو الذي قادته المنظمة قد فشل، وأن الشراكة من خلالها لا يمكن أن تتحقق، ومطلوب من قيادة المنظمة الإعلان عن فشل مشروعها، والانحياز لبرنامج المقاومة، الذي يحظى بثقة الشعب، والذي أثبت قدرته على مواجهة الاحتلال ومخططاته، والتصدي لها، وذلك من خلال حل السلطة، وإحياء دور منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج، لتقود نضال الشعب الفلسطيني، كما كان عليه الحال قبل أُوسلو.

في المحصلة، فإن الخيار المناسب والعملي والواقعي، والذي يحظى بتأييد شعبي وفصائلي، هو الاتفاق على خريطة الطريق الشاملة، أو كما سماها هاني المصري برنامج الحزمة الشاملة، وذلك من خلال اعتماد كل الاتفاقيات التي تم التوقيع عليها كمرجعيات لهذه الرزمة، وعلى رأسها وثيقة الوفاق الوطني (وثيقة الأسرى)، ومن خلال حوار وطني شامل ومفتوح، يشارك فيه ممثلون عن الداخل والشتات، يفضي إلى خارطة طريق شاملة ومتفق عليها، وتعتمد الشراكة الوطنية كعنوان للمرحلة، ويتم الاتفاق حول البرنامج الوطني وبناء المؤسسات من خلال الانتخابات حيث أمكن.

أُسس الوصول للشراكة الفعلية وآلياته

من أجل الوصول إلى شراكة دائمة وفاعلة وحيوية، هناك بعض الآليات والأسس المقترحة:

  • معالجة آثار الانقسام المختلفة، الإجرائية والمؤسساتية والقانونية والنفسية والفكرية، ومعالجة آثار التفكير الفئوي السلبي، وذلك من خلال التوجيه والتعبئة والممارسة العملية على الأرض، المدعومة بخطوات تؤكد ضرورة مغادرة ثقافة مربع الانقسام وإرثه، وما صاحبه من سلوك خاطئ، الأمر الذي يتطلب شجاعة وجرأة قيادية، وبالتحديد من الرئيس وقيادات حركتي فتح وحماس.
  • الإعلان الواضح والصريح عن وقف كل أشكال التعبئة والتوجيه السلبي، وتغيير الخطاب الإعلامي، واستبداله بما يساهم في التأكيد على مبدأ الشراكة.
  • البدء بورشة حوار شامل ومفتوح بعيدا عن أي أجندة حزبية، وتحت عنوان الشراكة الوطنية، للوصول إلى خارطة طريق شاملة تعالج جميع الملفات المختلف حولها، وتضع الأسس والآليات والمعايير والمواقيت اللازمة لإصلاح وضعنا، وبناء مؤسساتنا على أسس جديدة، وعلى مبادئ وقواعد راسخة وشاملة ومتينة، تفضي إلى بناء النظام السياسي الفلسطيني بثوبه الوحدوي الجديد.
  • تحصين التفاهمات من أي أجندة حزبية أو شخصية، أو مؤثرات خارجية.

وأخيرا، وعلى قاعدة أن الحكم على الشيء جزء من تصوره، فإنه مطلوب رؤية موضوعية استراتيجية، تضع الحالة الراهنة على الطاولة، ويتم النظر لها من كل الزوايا، من أجل الوصول للشراكة الفعلية الواقعية.

إن من الأمور الموضوعية التي تتطلب دراسة عميقة، طبيعة النظام السياسي الفلسطيني، الذي يعاني من الانفصام، والذي يحمل الشيء وضده. فمثلا، كيف بسلطة تحت الاحتلال، ومكبلة بقيود ثقيلة، أن تجمع بين شروط أوسلو والتزاماتها من جهة، وبين مقاومة الاحتلال والشراكة مع فصائل المقاومة من جهة ثانية؟ وكذلك الحال بالنسبة للمنظمة، وتوقيعها على اتفاقيات أوسلو، وتمسكها بها، وببرنامج المفاوضات الذي لا يختلف فلسطينيان على فشله وضرره. فكيف لها أن تكون بيتا لكل ألوان الطيف السياسي والفصائلي الفلسطيني المختلفة؟ وهل هي في واقعها وحاضرها أهلٌ لذلك؟ أم أنه ثقل الواقع، والقبول به، وسياسة أيسر الحلول؟

إن هذه الظروف الموضوعية بحاجة لرؤية صريحة وواضحة ومتفق حولها، تُخرج حركة فتح والسلطة والمنظمة من هذه الدوامة، وذلك بإعادة النظر بمستقبل السلطة وشكلها ودورها، وإعادة النظر في العلاقة بين السلطة والمنظمة ومؤسساتها، وجغرافية كل منهما، والفصل بينهما. وكذلك لا بد من توافق على واقع المقاومة ومستقبلها، وواقع قطاع غزة ومستقبله، وهذا يحتاج إلى آلية وطنية تُخرج قطاع غزة وبرنامج المقاومة، من الفصائلية إلى الشراكة الوطنية.

إن هذا الواقع السياسي والجغرافي والفصائلي، فيما هو عليه، وبحد ذاته، يعتبر معيقا أساسيا، وسيُفشل كل الجهود المخلصة للوصول للشراكة والوحدة والتقارب، وإنهاء الانقسام، وتحقيق المصالحة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى