وادي السُّخُنْ.. سرقة تاريخ وترحيل عِزِبْ رعوي

ينشر مركز رؤية للتنمية السياسية هذه المادة كرسالة رثاء ونعي ووداع للزميل الباحث حمزة العقرباوي، وهي آخر مادة كان قد كتبها قبل أن توافيه المنية مأسوفا على شبابه أولا، وعلى الذاكرة الجمعية الفلسطينية التي كان حمزة أمينا عليها ثانيا. وإن المركز، وهو يتقدم من عائلة الفقيد ومحبيه بأحر التعازي راجيا الله أن يلهمهم الصبر والسلوان، فإنه يعد وفاته المفاجئة خسارة كبيرة للمركز بشكل خاص. إذ كنا في مركز رؤية قد توصلنا إلى اتفاقية، تمت فصولها في 29 ديسمبر/كانون الأول، مع حمزة على مشروع كتاب لتوثيق التجمعات البدوية المهجرة في الأغوار الفلسطينية، كانت المادة التي ننشرها اليوم هي النموذج الذي قدّمه الفقيد للمركز حول طبيعة العمل والتوثيق المكاني والإنساني الذي سيعمل عليه. ولكن قضاء الله كان أسبق، وقدره أمضى.


المقدمة

في ربيع العام 2024 تعرّض العِزِبْ الرّعوي القائم عند تخوم وادي السُّخُنْ في الأغوار الوسطى لاقتلاعٍ قسريّ نفّذه المستعمرون الرُّعاة، حيث أُجبرت عائلات فلسطينية من قرى قصرة وعقربا والعوجا على الرحيل نحو قرى السفوح الشرقية لجبال نابلس.[1] وقد شكّل هذا التهجير ذروة سلسلة طويلة من الاعتداءات والمضايقات، انتهت بطمسٍ ممنهج لحضورٍ بشريّ ظلّ متصلاً بالمكان بلا انقطاع.

ولم يكن عِزِبْ السُّخُنْ مجرّد تجمع رعويّ على أطراف الغور،[2] بل مثّل امتدادًا حضاريًا عند هُدب الغور الغربي، حيث يلتقي منبسط الوادي بأقدام سفوح الشَّفا المنحدرة من جبال نابلس.[3] وعند عنق هذا الوادي تفجّر نبع فاتر الماء، دافئ حتى في الشتاء، منح المكان اسمه ودورة حياته، وعُرف باسم نبع السُّخُنْ. وقد شكّل هذا النبع شريان وجودٍ متجذّر وموطئ حضارة متواصلة، إذ بقي الموقع مأهولًا وعامرًا حتى وقت قريب، إلى أن لاحقته يد العنف الاستعماري وأنهت الحياة فيه.

في هذا المقال نتتبّع حكاية المكان وحياته، حفظًا لذاكرته من النسيان في زمن الملاحقة والاقتلاع.

  • ذاكرة تاريخ وحكاية أرض

تُعدّ منطقة وادي السُّخُنْ مختبرًا حيًّا للتاريخ الأركيولوجي، إذ يتجلّى فيها تسلسل حضاري متصل يمتد من العصور الحجرية حتى الحياة الرعوية الحديثة دون انقطاع. ولا يقتصر هذا الحضور على التّعاقب الزمني فحسب، بل يكشف عن تداخل حضاري واضح، حيث أُقيمت مبانٍ رومانية–بيزنطية فوق مواقع أقدم تعود إلى العصر الحجري، واستمر استخدامها وتكييفها عبر الفترات الإسلامية والعثمانية. وَتدعّم هذا الاستمرار بانتشار السناسل الحجرية، والفخار، والكهوف، والمُغر المسكونة، بما يثبت تواصل الحياة الزراعية والرعوية في محيط النبع حتى زمن قريب.[4]

بقايا سلاسل تاريخية في منطقة واد السخن

تؤكّد المكتشفات الأثرية في محيط نبع السُّخُن، رغم محدودية المصادر المكتوبة عنها، عمق هذا الوجود البشري، إذ عُثر على مئات الأدوات الصوانية من العصر الحجري الحديث (ما قبل الفخار)، إضافة إلى رؤوس فؤوس وسهام وأجران صخرية، تدلّ جميعها على استغلال طويل الأمد للمياه والموارد.[5] وتنتشر هذه اللقى على امتداد وادي السُّخُنْ، مع تركزها في مناطقه الشمالية الأكثر ملاءمة للزراعة، حيث تظهر بيادر القمح وصِيَر تربية الأغنام، وقد عُثر في محيطها على شفرات المناجل الحجرية، في دلالة على حِرف متواصلة حافظت على شكلها ووظيفتها عبر العصور.

وتشير الشواهد الأثرية إلى أن ذروة الحياة في وادي السُّخُنْ كانت خلال الفترات الرومانية–البيزنطية والأموية، حين برز الموقع كمنطقة زراعية منظّمة ومركز اقتصادي فاعل. ويتجلّى ذلك في كثافة البيادر الضخمة، والمدرّجات، وأبراج التخزين، والمراقبة. ويعزّز هذا الواقع الترابط الجغرافي والتاريخي مع قرى جنوب شرق نابلس، والانتساب إلى مقاطعة عَقربتا الرومانية.[6] فضلًا عن بقاء الأسماء المحلية للمواقع الزراعية والرعوية في محيط السُّخُنْ شاهدًا لغويًا حيًّا على علاقة متجذّرة بالمكان، تنفي أي ادعاء بكون العِزِبْ مجرد تجمعٍ طارئ أو وجود مؤقت، ومن ذلك أسماء الأراضي: المراح، البيدر، بيادر أبو علي، صِيرة ذياب، المِثقاة، والسّهلات.[7]

واد السخن من بعيد
  • الماء شريانُ حياة.. وَبوّابة صِراع

تنبع أهمية وادي السُّخُنْ من موقعه الجانبي بين مناطق عامرة، كأنه واقع في ظلّ الجغرافيا لا في هامشها، حيث منحته تموّجات الأرض ووعورتها حماية طبيعية جعلته ملاذًا لاستمرار الحياة. كما يقع وادي السُّخُنْ على حافة الطرف الغربي للطريق الروماني القديم الذي يربط خربة فصايل بخربة طانا مرورًا بمنطقة الحفيرة–إفجم، ما أكسبه موقعًا حيويًا مع ميزة الخفاء والانزواء النسبي.[8] ولا تزال أجزاء من رصف هذه الطريق ظاهرة للعيان أثناء التجوال في المكان.[9]

كهوف في منطقة واد السخن

وقد شكّل نبع السُّخُنْ القلب النابض للوجود البشري في هذه المنطقة من الغور، إذ اعتمد الأهالي على مياهه الدائمة، بما في ذلك البرك التي أُنشئت بالقرب من العين، التي اكتُشفت إحداها بالصدفة من قبل الرعاة.[10] إلى جانب الآبار التي حُفرت في محيط الوادي ضمن منظومة إدارة للمورد المائي، هدفت إلى التكيّف مع شحّ المياه صيفًا وضمان الاستمرار والقدرة على البقاء في الغور.[11]

زاوية من عين السخن

غير أنّ هذا الشّريان الحيوي تحوّل إلى هدفٍ مُباشر في سياق الصّراع على الوجود، حين مُنع الأهالي من الوصول إلى المياه أو نقلها إلى العِزب القائم في كتف الوادي، في مقابل استنزاف منظّم للمياه الجوفية عبر مضخات عرفت باسم (ماتور السُّخُن) وقد أُقيمت شرق النبع لصالح مستعمرة (معاليه افرايم).[12] وقد أدّى ذلك إلى إضعاف العين وتجفيف محيطها الحيوي، إذْ باتت المياه الجوفية التي تغذّي النبع تُسحب لصالح المستعمرات، وَيُحرم منها أصحاب الأرض. وَمع الوقت، أصبحت المنطقة جُزءًا من حدود المستعمرة بفعل السيطرة على ماتور المياه، وبدأت عمليات الملاحقة الممنهجة للوجود الفلسطيني في وادي السُّخُنْ.

وادي السُّخُنْ
  • ملاحقة الوجود الرعوي وسياسات العزل

بدأت ملاحقة العِزِبْ في وادي السُّخُنْ بشكل متدرّج بعد احتلال الضفة الغربية عام 1967، منذ إعلان الأغوار منطقة عسكرية مغلقة، وما تبعه من تجريدها من بعدها المدني عبر تحويلها إلى أحزمة أمنية ومناطق تدريب عسكري. غير أن جوهر الاستهداف انصبّ على القاعدة الاقتصادية للحياة الرعوية والزراعية، من خلال ملاحقة الرّعاة، وإطلاق النار على الأغنام، ومصادرة المواشي واحتجازها، ومنع الفلاحين من حراثة السهول والأراضي الزراعية.[13] وصولًا إلى رشّ المحاصيل بالمبيدات السامة كما حدث في منطقة الطويل عام 1972.[14] وهي سياسة واضحة استهدفت استنزاف سبل العيش وهدم مقومات البقاء في الغور.

كما تعرّض الأهالي للملاحقة عبر منعهم من الرعي في التلال والمناطق الواقعة شرق وشمال العِزب، باعتبارها ضمن المحمية الطبيعية المعروفة باسم (محمية سرطبة). وقد كانت سيارات مراقب الطبيعة، التابعة للاحتلال، تلاحق الرعاة وَجامعي النباتات البرية، وتقوم باعتقالهم وتغريمهم ماليًا، وأحيانًا سجنهم لعدة أيام.[15]

وفي مطلع الألفية الجديدة، بدأ المشروع الاستيطاني في منطقة وادي السُّخُنْ بتنفيذ مرحلة العزل الجغرافي الكامل، حيث فُرضت الإغلاقات المتكررة على مداخل العِزِبْ ومُنع الأهالي من عبور الطريق المُعبّدة المؤدية إليه من جانب المنطقة الصناعية. وبات الوصول إلى العِزِب يتم عبر طريق بديلة ووعرة من جهة شرق سهل إفجم.[16] وفي الوقت ذاته، لاحقت الإدارة المدنية الإسرائيلية أصحاب العِزب بإخطارات الهدم والترحيل، ما اضطرهم في كل مرة إلى تفكيك بيوتهم ونقلها مؤقتًا إلى مناطق مجاورة، ثم العودة إلى موضع العِزب الأساسي بعد انقضاء حملات الهدم.[17]

أهالي واد السخن بالقرب من إحدى الطرق المؤدية له
  • الاستيطان الرعوي أداة للاقتلاع

بلغت سياسة المحو ذروتها في الأغوار الفلسطينية بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، حين تداخل العنف الاستيطاني مع الغطاء العسكري في أكثر أشكاله توحشًا. وشهدت مناطق الغور وشفا الغور هجمات مفتوحة وسرقة منظّمة للمواشي، بالتزامن مع إقامة بؤر رعوية استيطانية ملاصقة للتجمّعات والخرب والقرى الفلسطينية، من بينها البؤرة التي أُقيمت في 11 آذار/مارس 2024 بالقرب من عِزِبْ السُّخُنْ. وقد سبقتها إقامة بؤر رعوية في المناطق التي تربط عِزِبْ السُّخُنْ بخربة الطويل غربًا خلال الأعوام 2022–2024، وأسهمت هذه البؤر في تهجير عدة تجمعات رعوية، منها عِزِبْ المناخير، وعِزِبْ إفجم، وعِزِبْ كمّونية، الواقعة جميعها على خط جغرافي واحد بين وادي الغور وشفا الغور.

وقد مكّنت هذه البؤر المستعمرين الرّعاة من تنفيذ تهجير قسري وفق تكتيك “الزحف البطيء”، الذي يبدأ بخيمة أو عربة وينتهي بقطع الطرق وفرض السيطرة الميدانية، وإطلاق المواشي في الجبال، ومنع الفلسطينيين من التواجد في المنطقة.

كان التّحول الأشد خطورة في وادي السُّخُنْ قد بدأ بعد إقامة بؤر رعوية استيطانية في المنطقة الواقعة بين المحمية الطبيعية (سرطبة) وبين عِزبْ السخن، بالتزامن مع إغلاق الطريق غرباً نحو خربة الطويل بإقامة بؤرة استيطانية.[18] فتدحرجت سياسة الاستيطان في المنطقة بشكل متسارع، وبدأت تأخذ طابعا عدائيا مُستغلة حالة الحرب وانفلات أخلاق الجيش وَعدوانيته تجاه الفلسطينيين. حيث كان جيش الاحتلال يتدخل كشريك فعلي في التّرحيل من خلال المداهمات المتكررة، واحتجاز الشباب المتواجدين في العِزِبْ لساعات طويلة، ثم مصادرة الهواتف منهم ومنعهم من التصوير،[19] وكذلك توفير حماية مطلقة للمستوطنين حتى في حال سرقتهم للأغنام والأبقار. كما في سرقة ومصادرة 70 رأسا من البقر في منطقة السُّخُنْ تعود ملكيتها للحاج نافر أحمد ناصر (80 عاماً)، حيث منعه الجيش من إخراجها من المنطقة بحجة أنها منطقة عسكرية يمنع عليه التواجد فيها وذلك في شهر نيسان\أبريل 2024.[20]

إحدى حظائر الأغنام في واد السخن

لم يكن هناك خيار أمام الأهالي في عِزبْ السُّخُنْ إلا الرحيل ومغادرة الموقع، فلا طريق تصل إليهم ولا ممر يمكنهم من خلاله التّنقل، كما أنّ المراعي في محيطهم أصبحت مصادرة ويمنعون من وصولها، وجيش الاحتلال يقتحم العِزِبْ خدمة للمستعمر الذي أقام بؤرته مُقابلهم، وصار يهددهم ويتوعدهم بالقوة.

  • شهادات الرحيل القسري من عِزبْ السُّخُنْ

يروي السيد فراس أبو لحية (49 عامًا)، أحد آخر الأشخاص الذين غادروا عِزِبْ السُّخُنْ، تفاصيل الرحيل الذي وقع في 20 آذار/مارس 2024، قائلًا:

“المستوطن جاء يوم الثلاثاء 11/3/2024 مع العصر – قبل المغرب – وحط كرفان قُبالنا، وكان معه بقر وحصان، وبلّغنا إنه من الواد وشرقه هذه المنطقة تابعة له. يومها جاء خَصْ نَصْ حامل سلاحه حتى يِشتَغِل فينا، وأعطانا مهلة أسبوع للرحيل، وإلا بتصير مشاكل. بعد ذلك صار كل يوم يعملنا مشاكل: يوم يسكر الطريق ويربط البقر في منتصف الشارع، ويوم يهجم علينا لأنه بدنا نسرح بالغنم، وإذا رفضنا يجيب الجيش. وكل يوم يقطع خط المياه من نبع السُّخُنْ لجوابي الغنم، ولا يريد الغنم تطلع من صيرتها. ولما نطلع الغنم يعمل مشكلة ويجيب الجيش. وهذا خلال عشرة أيام، وكل ساعة فيه مشكلة.”[21]

ويضيف أبو لحية أن الطريق أُغلقت بالكامل أمام الأهالي، ولم يعد هناك مدخل آمن للعِزبْ حيث لم يكن بالإمكان الوصول إليهم إلا عبر بوابة المنطقة الصناعية التابعة لمستعمرة معاليه افرايم، كما أصبح الخروج من منطقة العِزِب خطرًا في ظل غياب الأمان. ويقول:

“في الأخير صار الجيش كل حين يأتي يِحجِزنا ويعمل لنا مشكلة بسبب هذا المستوطن، مع إنه قررنا نختصره ونبعد عنه، وصرنا نسرح بالغنم باتجاه الشمال على مناطق مراح السّهلات والمناخير، وما نبعد ونظل بجوار العِزِب، بس الموضوع كان واضح أنه لا يريدوننا في هذه المنطقة.”

قطيع أغنام لأهالي واد السخن

وعلى الرغم من محاولة الرعاة الابتعاد عن موقع البؤرة الاستيطانية الجديدة وتجنب الاحتكاك بالمستوطن وعدم الرد على الاعتداءات، إلا أن المضايقات استمرت، بحسب شهادة أبو لحية. وعندما لم تُفضِ هذه الممارسات إلى تهجيرهم الفوري، تدخّل الجيش مستخدمًا العنف والتهديد مداهماً العِزب أكثر من مرة حيث يقوم بالتفتيش لكل البيوت وإثارة فوضى فيها. وفي يوم 19 آذار/مارس 2024، جرى احتجاز الأهالي وترهيبهم لإجبارهم على المغادرة، كما يروي أبو لحية:

“في آخر ليلة حَجزنا الجيش بالبرد برا الخِيم وَبهدلونا، وَكانت الدنيا مطر وبرد، وهم فاتوا قعدوا جوّا العِزِب وخلّونا أكثر من أربع ساعات في البرد والمطر، مع تفتيش مهين لكل الأغراض. وكان واضح إنه ما في طريق ثاني قدامنا، فما قدرنا نعمل شي، واضطررنا يوم الخميس 20 آذار نرحل. حملنا ما نقدر على نحمله، وجزء منّا رحل على خربة الطويل، وجزء على عقربا، وجزء على قصرة، وجزء على العوجا، وهذا كان آخر يوم لنا في العِزب.”

أما الشيخ زاهي فهمي ريحان (مواليد 1970) وهو أحد آخر الأشخاص الذين رُحّلوا عن عِزِبْ وادي السُّخُنْ، فيقدم شهادته حول إقامة البؤرة الاستيطانية وظروف الرحيل، فيقول:

“أنا كنت معزّب في كرزلية ورحلت منها للسُّخُنْ. وفي أول رمضان 2024 جاء المستوطن، وحط كرفان في الجهة الجنوبية من عِزِب السخن، وتحديدًا على ظهر ماتور السُّخُنْ، وسحب خط مياه من الماتور للشرب ولسقاية الأبقار التي جلبها معه. بعد ذلك منعنا من الشرب أو سقاية أغنامنا من نبع السُّخُنْ غربًا، ومنعنا بالقوة والسلاح من الرعي في الجهة الشرقية، يعني شرق الوادي.”[22]

ويتابع الشيخ ريحان موضحًا أن اعتماد الأهالي للشرب في عزبْ السُّخُن كان على مياه النبع التي تُنقل عبر (خرطوم) إلى الخزان، إلا أن المستوطن كان يتعمّد قطع هذا الخط بشكل يومي، ثم تطور الأمر إلى سرقته بالكامل، ما اضطر الأهالي في كل مرة إلى شراء (خرطوم) جديد بدل التالف أو المسروق.

ويضيف: “المستوطن ضيّق الخناق علينا وحصرنا في قطعة أرض صغيرة، وحدّد لنا حدود لا تتجاوز عشرين متر. وإذا قرّبت الغنم على المناطق التي حكى ما نروح عليها، كان يرفع السلاح على الشّباب. وفوق ذلك، كان يربط البقرة بمنتصف الطريق الترابي الذي يوصل على العِزِب، ويمنعنا نمر بالسيارة. وإذا حاولنا نبعد البقرة عن الطريق، كان يهدد بإطلاق النار ويستدعي الجيش بتهمة الاعتداء عليه وعلى بقرته.”

ويشير الشيخ إلى أن المستوطن كان يصرخ مدعيًا ملكيّته للأراضي قائلًا: “هذا الشّيتح[23] لي حتى جبل سرطبة”. في حين قام مستوطن آخر أقام بؤرة من الجهة الغربية -جنوب مستعمرة جيتيت- بمنعهم من الرّعي باتجاه الغرب بحجة أن المنطقة التي تمتد غرباً حتى خربة الطويل هي ملك له. ولم يتبقَّ لهؤلاء الغَنّامة سوى الجهة الشمالية للرعي، وهي منطقة محدودة وَمُصنّفة منذ سنوات كمحمية طبيعية، ما جعل الرعي فيها ممنوعًا أيضًا.

  • تفكك العِزِبْ والرحيل النهائي

وأمام هذا الحصار المتواصل والتضييق الشديد، اضطرت العائلات في عِزبْ السُّخُنْ إلى مغادرة المنطقة. ففي الأسبوع الأول من بدء المضايقات، وتحديداً قبل 15 آذار/مارس 2024، غادرت عدة عائلات منطقة العِزب وهم: موسى عطية بني منية، يوسف عطية بني منية، سمير داهش بني فضل، صلاح حسن، ومراد حسن، وكان قد سبقهم في الرحيل: ماجد عبد المجيد عودة.

وبقيت أربع عائلات أخرى لفترة أطول حيث حاولت البقاء إلا أن حَجم المضايقات وإغلاق سبل الحياة في وجههم دفعهم للرحيل مُضطرين فكانوا آخر من غادر المكان. حيث صمدوا حتى صباح الخميس 20 آذار/مارس 2024، وهي عائلات: زاهي فهمي ريحان، ومحمد ياسين الرشايدة (أبو نسيم)[24]، وعيد علي الزواهرة (أبو علي)، وفراس محمد أبو لحية.

وعند مغادرة منطقة السخن، لم تتمكن العائلات من نقل جميع ممتلكاتها، إذ اضطرت إلى البدء بالأغراض الأساسية فقط. وعندما عادوا ظهر ذلك اليوم لجلب ما تبقى من أغراضهم، فوجئوا بقيام المستوطنين بسرقة الأغراض، ومن بينها عشرة معالف للأغنام، إضافة إلى بقية الخيام وعدد من الممتلكات الشخصية الأخرى.[25]

  • نهاية العِزِبْ وبقاء الرواية

يشكّل اقتلاع عِزِبْ السُّخُنْ الرعوي إغلاقًا قسريًا لصفحة وجود طبيعي امتدّ لعقود، ودليلًا صارخًا على خطورة الاستيطان الرعوي في إنجاز ما عجزت عنه الأدوات العسكرية لدولة الاحتلال. فقد جرى تفريغ موقع حياة ووجود طويل في الأغوار الفلسطينية عبر هجوم مركّب جمع بين العزل الجغرافي، والتجفيف الاقتصادي، والعنف المباشر، لتحلّ قسوة الصمت مكان حركة الأغنام ودورة الحياة.

ولم يكن الرحيل خيارًا ولا إغراءً، بل نتيجة حصارٍ محكم تُرك فيه الأهالي وحدهم، حتى تشتّتت العائلات القليلة المتبقية بين القرى المجاورة، منهية وجودًا شكّل نموذجًا للصمود والتكيّف وإدارة الموارد الشحيحة.

ومع ذلك، لم تُغلق الحكاية؛ إذ بقي النبع المختبئ، وتلال الغور، والشواهد الحضارية الممتدة من الصِّيَر والبيادر إلى مغر الرعي، علاماتٍ حيّة على وجودٍ لم يُمحَ. فالسُّخُنْ، وإن أُفرغت من سكانها، تحوّلت من مكان إلى معنى، ومن جغرافيا إلى ذاكرة عصيّة على المحو. وكما لخّصها أحد أبنائها، فراس أبو لحية، في وداعها المرّ بقوله:

“نغادر السُّخُنْ اليوم، لكن السُّخُنْ لا تغادرنا.”

وهي عبارة تختصر معركة الوجود بوصفها معركة الذاكرة في مواجهة النسيان، وتؤكد أن رواية وادي السُّخُنْ ستظل محفورة في الذاكرة، شاهدة على ما كان، وباعثة لأملٍ بعودةٍ قريبة.


[1]  مقابلة شفوية: السيد ماجد عبد المجيد عودة (مواليد 1962)، تاريخ المقابلة: 15\11\2025

[2]  العِزب أو التعزيب من “العزبة” (الجمع: عِزَب وعزبات)، والعزبة تجمع صغير يسكنه الناس في الغور أو على أطراف القرى، بشكل مؤقت غالباً وتكون الإقامة فيه داخل كهوف أو بيوت حجرية أو عرائش، أو في خيام شعر وخيش.

[3]  شفا الغور أو السفوح الشرقية: هي القاع الشرقي لسلسلة الجبال الوسطى، وهي مناطق منحدرة بشدة نحو وادي الغور، وتمتد من شرق جنين شمالاً حتى البحر الميت جنوباً بمساحة 1.5 مليون دونم. وهي مناطق شبه جافة بأمطار قليلة، مناخها معتدل صيفاً وشتاءً، ويكتسب موقعها أهمية استراتيجية لإشرافها على الأغوار.

[4]  Zertal, Adam & Bar, Shay. The Manasseh Hill Country Survey, Volume IV: From Nahal Bezeq to the Sartaba. Leiden; Boston: Brill, p:480-490

[5]  المصدر السابق الصفحات: 630-636.

[6]  عايد، مصطفى محمود. (2005). عقربا بين الماضي والحاضر. إصدار بلدية عقربا، الصفحات: 47-49.

[7]  مقابلات شفوية: السيد ماجد عبد المجيد عودة (مواليد 1962)، تاريخ المقابلة: 15\11\2025. الحاج عمر محمد عبد زين الدين (مواليد 1969)، تاريخ المقابلة 18\11\2025.

[8]  الطريق الروماني القديم الذي يربط خربة فصايل الأثرية بخربة طانا يمر بالقرب من عدة عيون ماء في غور العقاربة بدءاً من قناة عين فصايل ومنها إلى قاع عيون مانع، ثم تصعد شمالاً بالقرب من عين الحفيرة، ومنها إلى الشمال الغربي حيث سهل افجم وصولاً إلى خربة طانا ثم إلى نابلس.

[9]  The Roads and Highways of Ancient Israel. David A. Dorsey. (Previously published by The Johns Hopkins University Press, 1991) p:178.

[10]  بركة الماء: البركة مساحتها (2*2) متر وبعمق (2) متر. وهي مقصورة بالملاط بحيث تمنع تسرب المياه، وبالقرب منها عثرت على قطع فخار متناثرة (مشاهدة ميدانية آذار 2021).

[11]  منها بئر أبو وائل في واد ابو الليل، وبير الخرزة عند صفاة أبو العدس، وبير المناخير لربيح أبو لحية، وبير الحمام.

[12] مستعمرة معاليه افرايم: أقيمت على أراض قرية مجدل بني فاضل في العام 1978م، وتعتبر المستعمرة كُبرى المستعمرات الواقعة على الهضاب المُشرفة على غور الأردن، وترتفع (178 م) عن سطح البحر. واسمها نسبة لسبط افرايم بن يوسف. وهي مستعمرة فيها مركز شرطة ومعسكر جيش وَتتبع لها منطقة صناعية.

[13]  مقابلة شفوية: الحاج عمر محمد عبد زين الدين (مواليد 1969)، تاريخ المقابلة 18\11\2025

[14]  مقابلة شفوية: الحاج نافز أحمد ناصر أبو ناصر (مواليد 1938)، تاريخ المقابلة 16\11\2025.

[15]  مقابلة شفوية: السيد زاهر يوسف عايش أسمر (مواليد 1983) مقابلة بتاريخ   12\11\2025

[16]  مقابلة شفوية: السيد فراس محمد خضر أبو لحية (مواليد 1976)، تاريخ المقابلة 12\11\2025.

[17]  مقابلة شفوية: بكر حازم واصف ناصر (مواليد 1999)، تاريخ المقابلة: 20\11\2025.

[18] أقيمت عدة بؤر استعمارية في المنطقة الواقعة بين خربة الطويل وقرية فصايل وذلك على جانبي الطريق الالتفافي (عابر السامرة وكذلك على جانب طريق ألون الذي يمر بجانب خربة الطويل -الجفتلك)، وكان من هذه البؤر، البؤرة الرعوية جنوب مستعمرة جيتيت حيث أقيمت في بداية العام 2022، وقد قطعت الطريق ومنعت أصحاب الأغنام من المرور نحو الأراضي في الغور ومنها عزب وادي السُّخُنْ وعزب المناخير.

[19] مقابلة شفوية: السيد فراس محمد خضر أبو لحية (مواليد 1976)، تاريخ المقابلة 12\11\2025.

[20] مقابلة شفوية: الحاج نافز أحمد ناصر أبو ناصر (مواليد 1938)، تاريخ المقابلة 16\11\2025.

[21]  مقابلة شفوية: السيد فراس محمد خضر أبو لحية (مواليد 1976)، تاريخ المقابلة 12\11\2025.

[22]   مقابلة شفوية: الشيخ زاهي فهمي قاسم بني منية (مواليد 1970)، تاريخ المقابلة 14\11\2025

[23]  كلمة عبرية تعني منطقة.

[24]   توفي الحاج أبو نسيم محمد ياسين الرشايدة رحمه الله إثر حادث سير بالقرب من فصايل بتاريخ (27\5\2025)، وكان في قلبة حسرة على الرحيل من السُّخُنْ، وعنده أمل بالعودة إليه.

[25]  مقابلة شفوية: الشيخ زاهي فهمي قاسم بني منية (مواليد 1970)، تاريخ المقابلة 14\11\2025

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى