الواقع في قطاع غزة: الحرب توقّفت، ولكنّ الإبادة مستمرة

في العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول 2025 أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن اتفاق وقف إطلاق النار بين حركة حماس والاحتلال الإسرائيلي، بوساطة مصرية وقطرية وتركية ورعاية أمريكية، توقفت بموجبها العمليات العسكرية واسعة النطاق في قطاع غزة. ومع بدء سريان المرحلة الأولى من الاتفاق التي تضمنت تبادل الأسرى، وهي التي امتدت لما ينيف عن الشهرين، على خلاف ما كان يوحي به نص الاتفاق، تشكل انطباع بأنّ الحرب في قطاع غزة قد انتهت بلا عودة. وقد عزز ذلك ما ينشر من مشاهد من قطاع غزة لعودة محدودة لبعض مظاهر الحياة، وإعادة ترميم بعض المرافق الصحية والتعليمية وغيرها.
غير أنّ الواقع على الأرض مغاير تمامًا لتلك الصورة، فإن كانت الحرب بصورتها الأكثر عنفًا وتطرّفًا قد توقفت، فإنّ الإبادة ومفاعليها ما زالت مستمرة، ولم تتوقف للحظة، ومع مرور الوقت تزداد خطورة ما يعانيه الناس جرّاء ذلك.
فمنذ بدء سريان وقف إطلاق النار وجيش الاحتلال الإسرائيلي يقتل الغزيين، ويصيب ويعتقل آخرين، ويختلق الذرائع لتنفيذ اغتيالات وتصفية لكوادر في المقاومة عجز عن استهدافها في أتون الحرب. ومن ناحية أخرى، ما زال الاحتلال يغلق المعابر الحدودية، ويواصل سياساته الممنهجة في التهجير القسري وفرض الحصار على القطاع، وتقييد حركة الأفراد ومنع الإغاثة عنهم، لتتغير وتيرة القتل من السريع إلى البطيء، بعيداً عن مرأى ومسمع العالم الذي أدار كاميراته وشاشاته عن غزة وحوّلها إلى مناطق أخرى، في مسعى لإيهام العالم أن الإبادة الجماعية في قطاع غزة قد انتهت. وذلك ضمن الأهداف الإسرائيلية المرجوة من وقف إطلاق النار، التي منها خفض الاهتمام الدولي ليتواصل الهجوم بلا توقف، وفرض هيمنة دمــوية تمتد من غزة إلى الضفة وسورية ولبنان، وفقاً لصحيفة الغارديان.
وقالت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالأراضي الفلسطينية المحـتلة فرانشيسكا ألبانيزي إنّ ما يوصف بوقف إطلاق النار في غزة “غير موجود أساساً”، واعتبرت أنّ ما يجري هو إبـادة جـماعية مستمرة بوسائل أخرى، في ظل غياب أي نية “إسرائيلية” للتخلي عن السيطرة على القطاع، وبتـواطؤ حكومات دولية توفر غطاءً سياسياً لذلك، وأنّ ما سُوِّق عالمياً كخطة سلام لا يتجاوز كونه ذريعة لوقف الضغط الدولي والانخراط الحقيقي مع غزة.
يستعرض هذا التقرير الجوانب المتعددة للإبادة المستمرة على قطاع غزة، التي لا يمكن النظر إليها كانتهاكات لوقف إطلاق النار، وإنما كسياسة شاملة تسعى لتحقيق هدفي الإبادة والتهجير. وهما الهدفان اللذان رافقا حرب الإبادة من يومها الأول، مع الأخذ بعين الاعتبار التصريحات المتواترة لعدد من قادة الاحتلال المهددة بعودة الحرب من جديد.
التكييف القانوني لاستمرار الإبادة
تنطلق الورقة من طرح مفاده أن الإبادة ما زالت مستمرة في قطاع غزة، رغم توقف الحرب. وهذا الطرح يقوم على المعطيات والوقائع التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي على الأرض في قطاع غزة. وبالعودة إلى اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948، فإن ما يجري حاليّاً في غزة، عقب وقف إطلاق النار، يتطابق بشكل شبه كلي مع الأعمال التي تندرج، حسب الاتفاقية، في إطار ممارسة الإبادة الجماعية. إذ تشمل تلك الأعمال والجرائم:
- قتل أعضاء الجماعة.
- إلحاق أذى جسدي أو نفسي خطير بالجماعة.
- إخضاع الجماعة عمداً لظروف معيشية تهدف إلى تدميرهم كلياً أو جزئياً.
- فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.
- نقل الأطفال عنوةً من الجماعة إلى جماعة أخرى.
وإذا ما أسقطنا تلك الاتفاقية وبنودها على الوقائع في قطاع غزة، فإننا نجدها تتطابق مع عدد منها، كاستمرار الحصار ومنع الغذاء والدواء، ما يندرج في إطار “فرض ظروف معيشية قاتلة”. وكذلك التهجير القسري الواسع، الذي ما زال واقعاً متصاعداً في غزة، فإنه يصنف كجريمة حرب وقد يدخل في إطار الإبادة. كما أنّ استهداف البنية التحتية المدنية والمساكن وغيرها، وإعاقة إعادة إعمارها، يجعل الحياة منعدمة الأساس.
تترافق مع تلك الوقائع تصريحات من قيادات عسكرية وسياسية إسرائيلية تهدد بعودة الحرب على قطاع غزة، ففي جولة لقائد هيئة الأركان الإسرائيلي أيال زامير في شمال قطاع غزة 7 كانون الأول/ديسمبر صرّح بأنّ “الخط الأصفر” يمثّل الحدود الجديدة مع قطاع غزة. ما يشير إلى نية إبقاء الاحتلال لما ينيف عن نصف مساحة قطاع غزة، وهو احتلال متوسع جغرافيّاً ويساهم في عملية التهجير وتكديس مئات آلاف الناس في مساحة ضيقة منكوبة، تساهم بدورها في استنزاف “الجماعة البشرية” وإضعافها على نمط معسكرات الاعتقال. وقد أضاف زامير أنّ هناك احتمالاً لوقوع حرب مفاجئة، ومع أنه لم يحدد الجبهة المقصودة بتلك الحرب، فإنّ هناك تهديدات متوالية من عدد من قيادات الاحتلال، مثل رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتانياهو الذي صرّح بأن: “حماس ستجرد من سلاحها إما بالطريقة السهلة أو بالطريقة الصعبة”.
وإلى ذلك، فإنّ خطاب الإبادة مستشرٍ في المجتمع الإسرائيلي، وقد أتاح دخول فصل الشتاء إعادة ذلك الخطاب إلى الواجهة في الإعلام الإسرائيلي الذي انتشى، كما هو حال قناة 14، باحتمالية غرق خيام النازحين في قطاع غزة. وهذا يشير إلى أنّ الظروف الحالية في قطاع غزة، التي تترافق مع سياسات إسرائيل لإدامتها وجعلها أكثر سوءاً، إنما هي سياسة مدروسة لاستمرار الإبادة والتهجير.
واقع الإبادة في قطاع غزة خلال وقف إطلاق النار
أوّلاً: استمرار العمليات العسكرية
ما أن أعلن عن اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، حتى انتقلت كاميرات التلفزة والفضاءات المختلفة لنقل أخبار عامة هنا وسياسية هناك، بينما العمليات العسكرية تتواصل في المناطق المصنفة بالآمنة أو التي يطلق عليها “المنطقة الخضراء”، خلف “الخط الأصفر”. والإشكالية هنا أنّ هناك نوعاً من التعامل مع التدمير الممنهج لما خلف الخط الأصفر وكأنه ليس أمراً ذا شأن، في حين أنّ هذه المنطقة تناهز في مساحتها 60% من مساحة القطاع.
كشف تقرير المجموعة البحثية FORENSIC ARCHITECTURE عن وجود تناقض بين حدود الخط الأصفر ومواقع الكتل الإسمنتية الصفراء التي وضعها جيش الاحتلال لترسيم الخط. وتبين أنّ جميع الكتل الـ 27 تقع خارج الحدود المعلنة من قبل جيش الاحتلال، وتتوغل حتى 940 متراً داخل المنطقة التي من المفروض عدم وجود جيش الاحتلال الإسرائيلي فيها.
وعن ذلك، يقول المواطن رمضان أبو سكران أحد سكان حي الشجاعية[1]، أنه أقام خيمته على بعد كيلو متر وربع من الخط الأصفر المؤقت، بينما أصبح اليوم لا يبعد عنه سوى ربع كيلو متر، “ما يشكل خطراً على حياتنا”، في ظل إطلاق النار المتواصل من قبل رافعات الاحتلال وقناصته ودباباته، وكذلك إطلاق الطائرات المسيرة “كواد كابتر” القنابل والرصاص اتجاه النازحين، بالإضافة إلى تقدم الآليات وتفجير العربات المفخخة ما يؤدي إلى قتل وإصابة العديد من المواطنين الذين يتواجدون غرب الخط الأصفر.
وبيّن التقرير السالف، أنه وعلى الرغم من وقف إطلاق النار، تكشف الأدلة أنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي يستمر في هدم المنازل وتجريف الأراضي شرق الخط الأصفر ما يحوّل نزع الملكية إلى تهجير فعليّ. أما في غربه، فتتواصل الضربات على البنية التحية مع تعطيل جهود إعادة البناء.
وتكشف صور أقمار صناعية حديثة توسع النقاط العسكرية على طول الخط الأصفر منذ وقف إطلاق النار، حيث بنى الاحتلال طرقاً وسواتر و4 مواقع عسكرية جديدة وسط ركام المنازل بما يعزز الوجود طويل الأمد.
من ناحية أخرى، وبعد مرور أكثر من شهرين على إعلان وقف إطلاق النار، سجل المكتب الإعلامي الحكومي[2] ما يقرب من 738 خرقاً لوقف إطلاق النار، ما بين 205 عمليات إطلاق نار مباشر على المواطنين، و37 توغلاً لآليات جيش الاحتلال تجاوزت فيه الخط الأصفر المؤقت، و358 استهدافاً بريّاً وجويّاً، نتج عنه ارتقاء 386 مواطناً وإصابة 980 مدنياً، بالإضافة إلى اعتقال 43 آخرين، حتى تاريخ كتابة التقرير.
ثانياً: انهيار المنظومة الصحية
بعد مرور شهرين على إعلان اتفاق وقف إطلاق النار، لم يشعر المرضى والمصابون بأي تحسن يذكر على الوضع الصحي في قطاع غزة، فالمستشفيات منهارة، والدواء شحيح والمستلزمات الطبية غير متوافرة، بالإضافة إلى أنّ آلاف المرضى ينتظرون فتح معبر رفح من أجل استكمال العلاج خارج القطاع.
وكتب مدير عام وزارة الصحة بغزة منير البرش في صفحته على منصة إكس بتاريخ 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، أنّ الاحتلال الإسرائيلي يغلق البوابات في وجه الأدوية والمحاليل الوريدية والمضادات الحيوية وأجهزة غسيل الكلى ومستلزمات العمليات الجراحية، كما أنه يبقي المستشفيات بلا جدران، وغرف العمليات بلا أجهزة، والأدوية تُقسّم بالقطارة، والوقود غير متوفر لتشغيل المولدات، ولا اتصالات تربط الأطباء بالإسعاف، “لنجد أنفسنا في ساحة نجاة يومية بأدوات شبه معدومة”.
وبحسب الطبيب منير البرش فإن قطاع غزة يعاني من الانهيار الصحي بعد حرب الإبادة ووقف إطلاق النار، حيث إنّ 54% من الأدوية الأساسية غير متوفرة لدى وزارة الصحة، و40% من أدوية الطوارئ صفرية، وهناك عجز صفري في المستلزمات الطبية بنسبة 71% وهي الأعلى في تاريخ قطاع غزة. وهو ما أدى إلى زيادة عدد الوفيات التي كان من الممكن تفاديها لو توفر العلاج الأساسي مثل المضادات الحيوية أو غسيل الكلى، بالإضافة لانتشار الأمراض المعدية بين النازحين خاصة في ظل الاكتظاظ البشري بالمخيمات ومراكز الإيواء، فضلاً عن انتشار أكوام النفايات والصرف الصحي في الشوارع.
ووفقاً لمدير عام وزارة الصحة منير البرش، فإنّ إغلاق المعابر في وجه المرضى أدى إلى وفاة 1000 مريض كانوا ينتظرون العلاج في الخارج رغم امتلاكهم أوراقاً رسمية، بينما لا يزال 18,100 مريض ينتظرون السفر للعلاج لتصبح حياتهم معلقة على قرار سياسي لا طبيّ، فضلاً عن ذلك، فإن ما يقرب من 6000 إنسان بُترت أطرافهم دون برامج لإعادة التأهيل، مع اختفاء لأبسط المسكنات من القطاع.
ثالثاً: انعدام الأمن الغذائي
على صعيد سياسة التجويع التي يفرضها الاحتلال على القطاع، فما زال جوهر الأزمة فيما يتعلق بواقع الأمن الغذائي في قطاع غزة قائماً ولم يشهد أي تحسن جوهري. فالاحتلال لم يرفع الحصار نتيجة استمراره في إغلاق المعابر، ولم يلتزم بتسهيل انسياب سلاسل الإمداد الغذائي. وأما ما يدخل فهو شحيح جداً وغير كافٍ، لتستمر معاناة الأطفال والنساء الحوامل من سوء التغذية. حيث أعلنت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف)، عن تسجيل نحو 9 آلاف و300 حالة سوء تغذية حاد بين الأطفال دون سن الخامسة في قطاع غزة خلال أكتوبر/تشرين الأول 2025. وقالت منظمة الغذاء العالمي أن نحو 640,000 شخص يعيشون في ظروف المجاعة، و132,000 طفل معرضون لخطر الموت بسبب سوء التغذية الحاد.
من جهتها، ذكرت وزارة الصحة الفلسطينية أن 82% من أطفال غزة دون السنة الأولى مصابون بفقر الدم. فيما ارتفع عدد شهداء المجاعة وسوء التغذية منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 وحتى تاريخ كتابة التقرير إلى 475 شهيداً بينهم 165 طفلاً، اثنين منهم استشهدوا بعيد إعلان وقف إطلاق النار في العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول 2025[3].
ويرى المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة[4]، أنّ الأوضاع الحالية لا تمثل “هدوءاً إنسانياً”، بل امتداداً لسياسة التجويع التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي، وباتت حالة مؤسفة ومتحققة. إذ ترتفع معدلات سوء التغذية الحاد بين الأطفال والنساء الحوامل بشكل دراماتيكي في ظل عجز المساعدات المحدودة وغير المنتظمة عن تلبية الاحتياجات الأساسية، في انتهاك مباشر لاتفاقية جنيف الرابعة والقانون الدولي الإنساني. وأضاف أنّ ما يدخل من الشاحنات قليل جداً مقارنة بما يحتاج إليه قطاع غزة، “منذ شهرين لم يدخل إلا 13511 شاحنة من أصل 36 ألف شاحنة مقررة، بمتوسط يومي 226 شاحنة فقط من أصل 600 شاحنة مقررة يومياً، أي التزام بنسبة 36% فقط، ما يعني استمرار التجويع كأداة حرب منظمة”.
وإلى ذلك، فقد عمد جيش الاحتلال الإسرائيلي مذ بدأت حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة إلى منع إدخال أي من مقومات الحياة الطبيعية التي من بينها المواد ذات القيمة الغذائية العالية، وفقاً لرئيس غرفة تجارة وصناعة غزة عائد أبو رمضان. إذ إن الاحتلال يمنع إدخال موادَّ غذائية مثل البيض والدجاج واللحوم بأنواعها والأجبان والألبان والخضار والفاكهة التي تحتوي على عناصر غذائية تتنوع ما بين البروتينات والألياف والفيتامينات التي تخفف من آثار سوء التغذية المتراكم لدى سكان القطاع. بينما يسمح بدخول بعض الأغذية الثانوية كالحلويات والبسكويت والأندومي والقهوة السريعة وغيرها مما لا يحتوي على أي قيمة غذائية تذكر، لا بل إن ضررها على الصحة العامة، على المدى الطويل، أكبر من نفعها الآني المتدني أساساً[5].
وحتى تلك الأغذية الثانوية التي يسمح بدخولها تخضع لاحتكار تجار الحرب الذين يعملون على رفع أسعارها حتى وصل التضخم إلى 150%، ما يمنع ويحرم معظم الأسر من شراء تلك الأغذية، حيث إن نسبة الفقر في قطاع غزة، نتيجة حرب الإبادة، وصلت إلى 100%[6].
وعليه، فإن الأرقام والمعطيات السابقة تشير إلى عجز آليات الإغاثة في ظل الحصار الإسرائيلي المستمر، وتؤكد أن وقف إطلاق النار لم يوقف مسار التجويع المزمن كجريمة مستمرة.
رابعاً: تهجير واسع دون عودة
عاد آلاف النازحين الذين هجرهم جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى مناطق سكنهم أو ما يحاذيها بالقرب من الخط الأصفر المؤقت فور إعلان اتفاق وقف إطلاق النار قبل 60 يوماً، إلا أنّ الاحتلال الإسرائيلي لم يترك لهؤلاء النازحين أي سبيل للاستقرار حتى وإن كان في بيوت مدمرة أو خيام مهترئة. فقد استمر في عدوانه عبر إطلاق الرصاص والقنابل من طائراته المسيرة “الكواد كابتر”، وتقدم للآليات العسكرية، ووضع للعربات المتفجرة بالقرب من منازل المواطنين. أعقبها، كما ذُكر سابقاً، تغييره لمواقع المكعبات الإسمنتية الصفراء التي ترسّم حدود ما يسمى “الخط الأصفر” ما أسفر عن موجات جديدة من النزوح، وخاصة من حيّي التفاح والشجاعية في شرق مدينة غزة باتجاه الدرج والنصر ومناطق أخرى في وسط المدينة. وذلك يعني استمرار سياسة “المناطق الآمنة” و”المناطق الخطرة الممنوع الاقتراب منها”، التي تعرقل الاستقرار أمام المواطنين في قطاع غزة، وتجعلهم وكأنهم معتقلون في معسكرات اعتقال جماعي.
من ناحيته، سجل مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأرض الفلسطينية المحتلة (أوتشا)، منذ سريان وقف إطلاق النار في 10 تشرين الأول/أكتوبر وحتى 2 كانون الأول/ديسمبر 2025، 135 ألف حالة نزوح قسري في جميع أرجاء قطاع غزة. حيث يعمد الاحتلال الإسرائيلي إلى فرض “هندسة تهجير” تبقي مناطق بكاملها غير صالحة للعيش، وتحرم السكان من العودة إلى بيوتهم، لتمثل خرقاً واضحاً لاتفاقيات جنيف، وتصنف كـجريمة حرب وتهجير قسري تُضاف إلى جرائم الإبادة الجماعية المتواصلة[7].
خامساً: تدمير البنية التحتية الأساسية
لا تزال البنية التحتية الأساسية في قطاع غزة مدمّرة بشكل واسع، فحجم الدمار في المنازل والمباني والشوارع كبير جداً، وما زال مئات الآلاف من الناس بلا مأوى دائم ملائم. فقد تغيّر الوضع العمراني تغيّراً جذريّاً، والخدمات الأساسية منهارة بشكل كامل، فالمستشفيات والمراكز الصحية، والمدارس التعليمية، وشبكات المياه والكهرباء والاتصالات كلها مدمرة أو معطّلة، كما أنّ محطات الصرف الصحي غير قادرة على العمل، وخدمات التعليم متوقفة أو محدودة.
هدم جيش الاحتلال الإسرائيلي 90% من البنية التحتية المدنية، أخرج فيها 38 مستشفى وعشرات المراكز الصحية وسيارات الإسعاف عن الخدمة، ودمر 670 مدرسة و165 مرفق جامعي ومعهد تعليم عالي، كما دمر معظم القطاعات الحيوية في قطاع غزة التي بلغت خسائرها الأولية 70 مليار دولار[8].
من جانبه، ذكر نائب المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة فرحان حق، أنّ مركز الأمم المتحدة للأقمار الصناعية رصد تضرر 81% من المباني في قطاع غزة. وقالت صحيفة “لوموند” إن مراسلها في القدس لوك برونير دخل مدينة غزة برفقة موكب عسكري للاحتلال الإسرائيلي في زيارة نادرة دامت ثلاث ساعات، كشفت له حجم الدمار غير المسبوق، بعد أن دخل منطقة دمرت بشكل شبه كامل بفعل القصف والجرافات، وخلت تماماً من سكانها.
وعليه، فإنّ البنية التحتية الأساسية في غزة ما زالت منهارة بالكامل، لتعنّت الاحتلال وتعطيله إدخال المواد اللازمة لإعادة الإعمار، التي يصنفها تعسفاً بأنها “مزدوجة الاستخدام” أي يمكن أن تستخدم لأغراض عسكرية، وهي مواد مدنية بحتة مثل مقاعد الحمامات ومواد البناء الحيوية، ما يعمّق الأزمة ويمنع أي عملية إعادة تأهيل أو ترميم[9].
كما تستمر القيود على إدخال الوقود والطاقة، مما يشلّ عمل المستشفيات، ومحطات المياه، وشبكات الصرف الصحي، ومحطات التحلية، ولذلك فإن وقف إطلاق النار لم يغيّر شيئاً من واقع الدمار، لأن الاحتلال أبقى على الهندسة نفسها التي تُبقي غزة غير قابلة للحياة.
ختاماً
على الرغم من توقف العمليات العسكرية واسعة النطاق في قطاع غزة، فإنّ الإبادة بمعناها القانوني والإنساني لا تزال مستمرة، حيث القتل والتدمير والتهجير القسري لسكان المناطق الشرقية، كذلك تواصل الحصار وإغلاق المعابر، بالإضافة إلى هندسة التجويع التي ينتهجها العدو من خلال تغييب الأمن الغذائي والصحي، وحرمان المدنيين من أبسط أساسيات البقاء، تحت مرأى ومسمع الدول الوسيطة والضامنة لاتفاق وقف إطلاق النار. وعليه فقد تحولت الإبادة من الوتيرة السريعة إلى الوتيرة البطيئة على مرأى ومسع العالم أجمع.
[1] مقابلة أجرتها الباحثة مع المواطن رمضان أبو سكران بتاريخ (5/12/2025).
[2] المكتب الإعلامي الحكومي، تشرين الثاني/ نوفمبر2025، بيان صحفي رقم 1026.
[3] مقابلة أجرتها الباحثة مع مدير مركز المعلومات في وزارة الصحة زاهر الوحيدي بتاريخ (16/12/2025).
[4] مقابلة أجرتها الباحثة مع إسماعيل الثوابتة، المرجع السابق.
[5] مقابلة أجرتها الباحثة مع رئيس غرفة تجارة وصناعة غزة عائد أبو رمضان بتاريخ (17/12/2025).
[6] المرجع نفسه.
[7] مقابلة أجرتها الباحثة مع إسماعيل الثوابتة، المرجع السابق.
[8] المكتب الإعلامي الحكومي، تشرين الأول/ أكتوبر2025، بيان صحفي رقم 1000.
[9] مقابلة أجرتها الباحثة مع إسماعيل الثوابتة، المرجع السابق.



