طلب العفو الرئاسي لنتنياهو.. وحدود التوازن بين السلطات والقضاء

تُعد محاكمة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، إحدى أكثر القضايا القانونية والسياسية تعقيدًا منذ تأسيس “إسرائيل”، نظرًا لتزامنها مع استمرار توليه المنصب، ولتشابكها مع مصالح سياسية وإعلامية واقتصادية. فقد وُجهت إليه عام 2019 تهم تتراوح بين الاحتيال وخيانة الأمانة والرشوة، في سياقات ترتبط باستخدام النفوذ السياسي لتحقيق مكاسب شخصية أو إعلامية. ومع بدء المحاكمة عام 2020، دخلت “إسرائيل” مرحلة غير مسبوقة، يتم فيها إخضاع رأس السلطة التنفيذية لمساءلة قضائية علنية ممتدة منذ سنوات، وسط متابعة جماهيرية وإعلامية مكثفة.
لكن التطور الأكثر إثارة للجدل ظهر في أواخر عام 2025، حين قدم نتنياهو طلبًا رسميًا للعفو الرئاسي عنه قبل انتهاء المسار القضائي وقبل صدور حكم. لا يُعد هذا الطلب مجرد إجراء قانوني، بل خطوة تحمل أبعادًا سياسية ودستورية، وتعكس إعادة رسم الحدود بين السلطات في لحظة ضغط داخلي وخارجي غير مسبوق.
ومن هنا، تهدف هذه الورقة إلى تحليل هذا التطور عبر تتبع المسار القضائي للمحاكمة، واستعراض محاولات تجنبها، وتفكيك الإطار القانوني للعفو، وتقييم أثر التدخلات السياسية، المحلية والدولية، على مسار المحاكمة.
القضايا الجنائية المرفوعة ضد نتنياهو – الخلفية والاتهامات الأساسية
تشكل القضايا 1000 و2000 و4000 البنية القانونية الصلبة التي دفعت نتنياهو إلى مواجهة أطول محاكمة لرئيس حكومة في تاريخ “إسرائيل”. ورغم اختلاف طبيعة كل ملف، إلا أن القاسم المشترك بينها، هو الاشتباه باستخدام النفوذ السياسي لتحقيق مكاسب شخصية أو إعلامية أو تجارية، بما يمس جوهر مفهوم النزاهة العامة.
فالقضية المعرفة بملف 1000 تدور حول تلقي نتنياهو وزوجته هدايا تبلغ قيمتها نحو 700 ألف شيكل (نحو 200 ألف دولار)، شملت سيجارًا فاخرًا وزجاجات شمبانيا ومجوهرات من رجل الأعمال أرنون ميلتشان والملياردير جيمس باكر. وترى النيابة أن هذه الهدايا لم تكن “مجاملة شخصية”، بل مقابل خدمات قدمها نتنياهو لمصالح شركة ميلتشان التجارية.
مع أن هذه القضية تُعد الأخف من الناحية العقابية، لكنها تشير إلى استغلال المنصب لأغراض خاصة.وتُبرز التقارير الإسرائيلية بُعدًا تحليليًا إضافيًا، يتمثل في أن القضية 1000 بقيت الأكثر تماسكًا من الناحية الإثباتية، بخلاف الرواية السياسية التي تتحدث عن “انهيار الملفات”. فالوثائق تُظهر أن نتنياهو اتخذ قرارات رسمية خدمت مصالح رجل الأعمال أرنون ميلتشن، من بينها تكليف مدير عام وزارة الاتصالات الأسبق شلومو فيلبر، بتقديم استشارات لميلتشن في صفقة اندماج تلفزيونية كان يسعى إليها، وهو ما تعتبره النيابة مثالًا واضحًا على تضارب مصالح مباشر، يمس وظيفة رئيس الحكومة وطبيعة صلاحياته.
في حين تتناول القضية المعروفة بملف 2000 محادثات بين نتنياهو وناشر صحيفة “يديعوت أحرونوت” أرنون موزيس، بهدف ترتيب تغطية إعلامية إيجابية لنتنياهو، مقابل خطوات تشريعية أو سياسية تضعف صحيفة “يسرائيل هيوم” المنافسة. ورغم عدم تنفيذ الاتفاق، إلا أن النيابة ترى أن التفاوض بحد ذاته يشكل خيانة للأمانة، ويمس بحرية الصحافة وتكافؤ المنافسة السياسية.
أما أخطر القضايا الثلاث فهي القضية المعروفة بملف 4000، إذ تتهم النيابة نتنياهو بمنح امتيازات تنظيمية تقدر بنحو 1.8 مليار شيكل، لصالح شركة بيزك للاتصالات، مقابل الحصول على تغطية إعلامية إيجابية وموجهة لصالحه وزوجته على موقع “والا الإخباري”، المملوك لرجل الأعمال شاؤول إلوفيتش. وتُعد هذه القضية الوحيدة التي وُجهت فيها لنتنياهو تهمة الرشوة، إلى جانب الاحتيال وخيانة الأمانة، وهي تهمة قد تصل عقوبتها إلى السجن عشر سنوات.
المسار القضائي للمحاكمة وتطورها منذ 2016
تُعد محاكمة بنيامين نتنياهو الأطول والأكثر تعقيدًا في تاريخ “إسرائيل”، ليس فقط بسبب ثقل التهم الموجهة إليه، بل بسبب موقعه السياسي كرئيس حكومة يواجه محاكمة جنائية أثناء وجوده في السلطة. يتيح تتبع المسار القضائي، فهم السياق الذي مهد لطلب العفو، والضغوط القانونية والسياسية التي رافقت المحاكمة منذ لحظتها الأولى.
بدأت التحقيقات الأولية ضد نتنياهو عام 2016، بعد تراكم شهادات حول تلقيه هدايا ثمينة، وتنسيقٍ إعلامي مع مؤسسات خاصة. ومع نهاية 2018، أوصت الشرطة بتوجيه لوائح اتهام في ملفات 1000 و2000 و4000. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، أعلن المستشار القضائي للحكومة رسميًا، تقديم لائحة اتهام تشمل الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة.
في أيار/ مايو 2020 افتُتحت الجلسات، ليصبح نتنياهو أول رئيس حكومة إسرائيلية يمثل أمام المحكمة وهو في منصبه. منذ الجلسة الأولى، ظهر الطابع غير المسبوق للمحاكمة، حيث ضمّت قائمة الشهود مئات الأشخاص، من بينهم مقرّبون سابقون تحولوا إلى “شهود دولة”، إضافة إلى رجال أعمال وصحفيين ومسؤولين حكوميين.
في المرحلة الممتدة 2020–2023 التي استغرقت معظم فترة المحاكمة، تركز مسار المحاكمة في تقديم الأدلة والإثباتات والشهود، إذ عرض الادعاء آلاف الوثائق والمراسلات الداخلية بين مكتب نتنياهو والمؤسسات الإعلامية ورجال الأعمال. وقدمت النيابة روايتها المتكاملة حول “سلوك منهجي” يقوم على تبادل المصالح. أما فريق الدفاع، فركز على نفي العلاقة السببية بين القرارات الحكومية والمكاسب الإعلامية أو التجارية، إضافة إلى مهاجمة نزاهة جهات التحقيق.
أشارت تحليلات قانونية إلى أن هيئة المحكمة أبدت خلال 2023–2024، شكوكًا حول قدرة الادعاء على إثبات الرشوة في ملف 4000 بالمعنى الضيق، رغم وجود مواد تدعم تهمتي الاحتيال وخيانة الأمانة. شكل ذلك نقطة تحوّل في تقييم المخاطر القانونية على نتنياهو، دون أن يلغي احتمال الإدانة بجُنحٍ أخف.
مع مطلع عام 2024، بدأت محاكمة نتنياهو تدخل مرحلة الدفاع، حيث شرع فريقه القانوني في تقديم الأدلة المضادة واستدعاء الشهود؛ بهدف تفنيد رواية الادعاء، وإضعاف الأساس الإثباتي للقضايا. وتشير تغطيات إعلامية إسرائيلية، إلى أن هذه المرحلة ستستمر لفترة طويلة قبل الوصول إلى المداولات النهائية، نظرًا لضخامة ملف القضية، وتشعب المواد المقدّمة أمام المحكمة.
وخلال جلسات 2023–2024، شدد قضاة المحكمة على بطء تقدم المحاكمة، وعلى الكم الكبير من الوثائق والمراسلات التي يتعين فحصها قبل الانتقال إلى المرحلة الأخيرة. وقد برز هذا التقييم مجددًا في الجلسة التي عُقدت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، حيث لفتت المحكمة إلى أن حجم المواد وتعدّد الشهود، يواصلان إطالة أمد المحاكمة وتعقيد مسارها.
خلاصة القول، يُظهر تتبع تطوّر المحاكمة أنها انتقلت من مرحلة اتهامات ثقيلة، إلى مسار قضائي معقد لا يتيح حسمًا سريعًا. ورغم أن بعض عناصر الادعاء ضعفت سياسيًا أو إعلاميًا، إلا أن البنية العامة للملفات بقيت قوية بما يكفي لجعل الإدانة، ولو بجرائم أخف، احتمالًا قائمًا. هذا التعقيد، إلى جانب طول أمد الجلسات وضغط الرأي العام، يفسر انتقال نتنياهو إلى مسار بديل خارج القضاء، يتمثل في طلبه العفو الرئاسي.
محاولات نتانياهو تجنب المحاكمة
لم يكن طلب العفو الرئاسي خطوة معزولة، بل جاء امتدادًا لسلسلة طويلة من المبادرات التي سعى نتنياهو من خلالها إلى الحد من أثر المحاكمة، أو تفاديها كليًا. برز من بين هذه المبادرات نقاش واسع حول “القانون الفرنسي“[1] و”القانون النرويجي“[2]، رغم اختلاف جوهرهما ووظيفة كل منهما في النظام الإسرائيلي.
فقد ظهر ما يُعرف إعلاميًا بـ “القانون الفرنسي” في أعقاب فتح ملفات الفساد ضد نتنياهو، واقتُرح تعديله بحيث يمنع التحقيق أو المحاكمة مع رئيس الحكومة ما دام يشغل منصبه.
كان الهدف السياسي الواضح وراء هذا الطرح، هو تحصين نتنياهو مؤقتًا من المساءلة الجنائية، وتأجيل النظر في الملفات إلى ما بعد ولايته. ورغم عدم إقرار القانون، إلا أن مجرد طرحه وتكرار إحيائه داخل الائتلافات اليمينية، يعكس رغبة صريحة في إعادة صياغة قواعد الحصانة؛ لخدمة وضع قانوني محدد.
أما “القانون النرويجي”، فخلافًا للتصور الشائع، لا يمنح أي شكل من أشكال الحصانة القضائية، وإنما تكمن وظيفته الأساسية في تنظيم العلاقة بين عضوية الحكومة والكنيست، بحيث يتيح للوزراء الاستقالة من عضوية الكنيست لحساب مرشحين آخرين في القائمة، ثم العودة لشغل مقاعدهم لاحقًا. يخدم هذا القانون إدارة الائتلاف السياسي، لكنه لا يمس قدرة النيابة أو المحكمة على محاكمة رئيس الحكومة أو الوزراء.
إن ربط القانون النرويجي بملفات نتنياهو في الخطاب العام، يعكس، في الغالب، التباسًا أو محاولة لتغليف نقاش الحصانة بمظهر تقني، بينما الواقع أن الأداة القانونية التي سعت بعض الأطراف إلى تمريرها لحماية نتنياهو، كانت القانون الفرنسي حصرًا.
صفقة الإقرار بالذنب عام 2022
توجه نتانياهو لهذا الخيار عقب خروجه من الحكومة في أواسط عام 2021 مع تمكن تحالف المعارضة من تشكيل الحكومة الإسرائيلية 36 التي عرفت باسم “حكومة بينيت – لا بيد”. ومع أنه كانت هناك رهانات على سقوط الحكومة سريعا بسبب تركيبتها غير المستقرة، فإنها تمكن من الصمود لبعض الوقت، وقد تراجعت هذه الرهانات قليلا مع تمكن الحكومة من إقرار قانون الموازنة في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، وهو التحدي الأكبر الذي كانت تواجهه مهددا بسقوطها في غضون أشهر معدودة.
عقب ذلك، مع مطلع عام 2022 دخل فريق دفاعه في مفاوضات متقدمة مع المستشار القضائي للحكومة، للتوصل إلى صفقة إقرار بالذنب، تُنهي المحاكمة بشروط مخففة.
استندت الصفقة المقترحة إلى ثلاثة عناصر جوهرية:
– اعتراف جزئي بمخالفات الاحتيال وخيانة الأمانة، دون تهمة الرشوة.
– استبدال عقوبة السجن بخدمة مجتمعية.
– إدراج بند “وصمة العار[3]” الذي يفرض اعتزال الحياة السياسية لمدة لا تقل عن سبع سنوات.
وقد شكل هذا البند تحديدًا العقبة المركزية أمام الاتفاق، إذ إن أي اعتراف، سواء رُبط رسميًا بوصمة العار أم لا، كان سيؤدي عمليًا إلى إنهاء المسيرة السياسية لنتنياهو. ورغم أن هيئة القضاة شجّعت خلال عامي 2021–2022 على إعادة فحص إمكانية التوصل إلى صفقة، وطُرحت خلالها مقترحات لوساطة قضائية، إلا أن المفاوضات انهارت في النهاية؛ بسبب الرفض القاطع لأي صيغة تعني استبعاد نتنياهو من الحلبة السياسية. وهو ما ترافق مع بوادر تفكك في الائتلاف الحاكم وانهيار في حكومة بينيت- لابيد، التي أعلن عن حلها والدعوة لانتخابات مبكرة في يونيو/حزيران 2022. أدى ذلك إلى تنحية نتانياهو لخيار صفقة الإقرار بالذنب عن جدول أعماله؛ مع تزايد احتمالات عودته رئيسا للحكومة على رأس ائتلاف قوي ومتماسك.
طلب العفو من رئيس الدولة
يمثل طلب بنيامين نتنياهو العفو من الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، في أواخر عام 2025، خطوة غير مسبوقة في التاريخ القضائي والسياسي الإسرائيلي، إذ تختبر هذه الخطوة حدود سلطة العفو الرئاسي، ومدى إمكان استخدامها لإنهاء محاكمة جنائية لا تزال جارية. ويكشف هذا الطلب، في توقيته ومضمونه، عن أبعاد قانونية وسياسية معقدة تعكس عمق الأزمة التي تحيط بالمحاكمة وبموقع نتنياهو داخل منظومة الحكم. ورغم أن القانون يمنح رئيس الدولة صلاحيات واسعة في هذا المجال، فإن الأعراف الدستورية التي تشكلت عبر العقود وضعت قيودًا فعلية على استخدام هذا الامتياز، خاصة عندما يتعلق الأمر بمسؤولين كبار ما زالوا يخضعون لإجراءات قضائية.
تستند صلاحية العفو إلى المادة 11 (ب) من قانون أساس: رئيس الدولة، التي تخول الرئيس تخفيف العقوبات أو إلغاءها، بل وحتى منح عفو قبل صدور الحكم. غير أن الممارسة القضائية الإسرائيلية، ولا سيما في أعقاب سابقة “باص 300” (1984)، أرست مبدأً حذرًا مفاده أن العفو لا ينبغي أن يتحول إلى أداة لتجاوز القضاء أو حماية أصحاب المناصب من المساءلة، بل يُفترض أن يبقى إجراءً استثنائيًا تبرره ظروف خاصة ومحددة.
وعلى الرغم من أن القانون لا يمنع صراحة منح عفو قبل الإدانة، فإن هذا الخيار يُعد إشكاليًا من منظور دستوري، إذ يُنظر إليه كمساس مباشر بمبدأ الفصل بين السلطات، لا سيما إذا جاء دون اعتراف بالمسؤولية أو قبول بنتائج المسار القضائي. ومن هنا، يُفهم طلب نتنياهو باعتباره اختبارًا للحدود غير المكتوبة للنظام الدستوري الإسرائيلي، أكثر منه مجرد إجراء قانوني تقني.
غير إن نتنياهو تقدم بطلب عفو شامل قبل صدور أي حكم، من دون أن يتضمن أي اعتراف بمسؤولية جنائية، ما يجعله أقرب إلى محاولة لوقف المسار القضائي برمّته، لا إلى طلب تخفيف عقوبة محتملة. وقد استند في طلبه إلى جملة من الحجج، أبرزها أن طول إجراءات المحاكمة وكثافة الجلسات تعيق أداء مهامه كرئيس حكومة، ولا سيما في إدارة الملفات الأمنية والدبلوماسية، إضافة إلى الزعم بأن إنهاء المحاكمة يخدم “المصلحة الوطنية” ويساهم في رأب الصدع الداخلي في ظل ظروف سياسية وأمنية حساسة. كما واصل نتنياهو التشكيك في نزاهة التحقيقات، مقدّمًا المحاكمة بوصفها استهدافًا سياسيًا لا إجراءً قضائيًا محضًا.
غير أن هذه المبررات قوبلت برفض واسع في الأوساط القانونية، حيث شدد خبراء القانون والنيابة العامة على أن العفو ليس بديلًا عن القضاء، ولا أداة قانونية مشروعة لوقف محاكمة جارية، وأن استخدامه على هذا النحو يتعارض مع الأعراف الدستورية التي تربط العفو عادة بمرحلة ما بعد الإدانة أو على الأقل بقبول المسؤولية. وفي هذا السياق، أُعلن في مكتب الرئيس أن الطلب سيخضع لـ “فحص قانوني معمق” مع التأكيد على الحفاظ على استقلال القضاء وعدم المساس بمبدأ الفصل بين السلطات.
من زاوية أخرى، أدخلت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ولا سيّما دعوته العلنية للرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ إلى منح بنيامين نتنياهو عفوًا، بُعدًا خارجيًا غير مسبوق على مسار قضائي داخلي ما يزال منظورًا أمام المحكمة. وقد بدت هذه الدعوة تدخلًا سياسيًا مباشرًا في قضية جنائية داخلية، ما فتح نقاشًا واسعًا في “إسرائيل” حول حدود التأثير الأميركي على القرارين السياسي والقضائي، وحول مدى مشروعية إدخال عامل خارجي إلى قلب نزاع دستوري داخلي.
استثمر نتنياهو هذا الموقف بوصفه دعمًا سياسيًا يعزز روايته القائلة إن محاكمته ذات أبعاد سياسية وليست جنائية بحتة، وسعى إلى توظيف خطاب ترامب لتقوية موقعه داخل معسكر اليمين، وإظهار أنه يحظى بغطاء دولي، وخصوصًا أميركي، في لحظة تتراجع فيها ثقة قطاعات واسعة من الجمهور بمؤسسات الدولة. غير أن هذا التوظيف السياسي زاد في المقابل من حدة الانتقادات القانونية والدستورية.
فعلى الرغم من الطابع الخاص للعلاقات الأميركية–الإسرائيلية، فإن التدخل في مسار قضائي يمس رأس السلطة التنفيذية يُعد تجاوزًا غير اعتيادي، ويثير مخاوف تتعلق بالضغط غير المشروع على مؤسسة الرئاسة، وبإقحام السياسة الخارجية في عملية يُفترض أن تبقى قضائية محضة. وقد حذر خبراء قانونيون ومسؤولون سابقون من أن الاستجابة لمثل هذه الضغوط تمس باستقلال القرار السيادي، وتضرب أحد المبادئ الأساسية للنظام الدستوري، وهو إدارة القضاء بمعزل عن التدخلات السياسية، سواء كانت داخلية أم خارجية.
سياسيًا وقانونيًا، أثار الطلب انقسامًا حادًا داخل “إسرائيل”. فبينما رأى مؤيدو نتنياهو فيه مخرجًا ضروريًا لضمان الاستقرار السياسي واستمرارية الحكم، اعتبره معارضوه وخبراء قانونيون سابقة خطيرة تمس مبدأ المساواة أمام القانون، وتفتح الباب أمام تسييس صلاحيات الرئاسة واستخدامها لحماية رأس السلطة التنفيذية من المساءلة.
تزداد حساسية المسألة بالنظر إلى الموقع الرمزي لرئيس الدولة، الذي يُفترض أن يقف فوق التجاذبات السياسية. فقبول عفو لرئيس حكومة متهم بالفساد قد يُفسَّر كتدخل في عمل القضاء أو كمنح حماية سياسية لشخص يخضع لمحاكمة جارية، في حين أن رفض الطلب قد يُقدَّم سياسيًا على أنه اصطفاف ضد رئيس الحكومة. في هذا السياق، شدد مكتب الرئيس على أن الطلب سيخضع لـ “فحص قانوني معمق“، مع التأكيد على الحفاظ على استقلال القضاء.
ويكشف الجدل الدائر حول العفو عن توتر متصاعد بين السلطات الثلاث؛ سلطة تنفيذية يسعى نتنياهو إلى توظيف موقعه فيها، وسلطة قضائية متمسكة باستمرار المحاكمة، وسلطة رئاسية تجد نفسها في مركز توازن بالغ الدقة. ويأتي هذا كله في سياق سياسي أوسع اتسعت فيه محاولات إعادة تشكيل النظام القضائي، من مشاريع “الإصلاح القضائي” إلى مقترحات الحصانة، ما يجعل طلب العفو جزءًا من مشهد بنيوي يتجاوز القضية الجنائية نفسها.
الخاتمة
تكشف محاولة نتنياهو الحصول على عفو رئاسي قبل صدور حكم قضائي، عن تحول نوعي في علاقة السياسة بالقانون داخل “إسرائيل”. فالملف لم يعد مجرد محاكمة جنائية لرئيس حكومة، بل أصبح ساحة يُعاد فيها اختبار معنى الفصل بين السلطات، وحدود التأثير السياسي على القضاء. وتبرز هذه اللحظة باعتبارها نقطة انعطاف في النظام الدستوري الإسرائيلي، بعدما تداخلت فيها مبادرات تشريعية ومحاولات تسوية قانونية وضغوط سياسية داخلية وخارجية، تسعى جميعها إلى إعادة تعريف الإطار الذي تُمارس فيه السلطة.
وتشير التطورات إلى نتيجتين مركزيتين:
1- ما زالت بنية النظام القضائي الإسرائيلي قادرة على فرض إجراءاتها على رأس السلطة التنفيذية، رغم الضغوط الهائلة ومحاولات الحد من استقلالها.
- يتحرك مركز الثقل السياسي تدريجيًا نحو صراع مفتوح حول حدود الصلاحيات، بحيث لم يعد فيه العفو مسألة استرحام قانوني، بل أداة استراتيجية تتصل بتحديد شكل الحكم في المستقبل.
وعليه، فإن السؤال الأكثر أهمية لا يتعلق بمصير طلب العفو بحد ذاته، بل بما إذا كانت المؤسسات الإسرائيلية ستستطيع الحفاظ على قواعد اللعبة الدستورية في مواجهة موجة متصاعدة من التسييس. فمآلات هذا الصراع ستُحدد ما إذا كانت “إسرائيل” تتجه نحو نموذج يرسخ سيادة القانون، أم نحو نموذج تُصاغ فيه القرارات الكبرى وفق ميزان القوى السياسي، داخليًا وخارجيًا، على حساب استقلال القضاء.
[1] القانون الفرنسي: هو مقترح تشريعي طُرح في “إسرائيل” بهدف منح رئيس الحكومة حصانة مؤقتة من التحقيق أو المحاكمة الجنائية طوال فترة تولّيه المنصب، على غرار النموذج المعمول به في فرنسا، حيث لا يُحاكم الرئيس أثناء ولايته. في السياق الإسرائيلي، استُخدم هذا المصطلح لوصف محاولات تشريعية كان من شأنها تجميد أو تأجيل محاكمة بنيامين نتنياهو إلى ما بعد خروجه من الحكم، قبل أن تفشل هذه المبادرات في المرور بالكنيست.
[2] القانون النرويجي: هو ترتيب قانوني معمول به في “إسرائيل” ينظم العلاقة بين عضوية الحكومة والكنيست، ويتيح للوزراء ونواب الوزراء الاستقالة من عضوية الكنيست أثناء تولّيهم مناصبهم التنفيذية، على أن يحلّ محلهم مرشحون آخرون من القائمة الحزبية، مع إمكانية عودتهم إلى الكنيست عند ترك المنصب الحكومي. لا يمنح هذا القانون أي حصانة قضائية، ولا يؤثر على صلاحيات النيابة أو المحاكم، بل يهدف إلى تعزيز عمل الائتلاف والفصل العملي بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.
[3] وصمة العار (קלון): هي أداة قانونية–أخلاقية تمنع السياسي المدان من شغل مناصب عامة لفترة طويلة، وتشكل معيارًا حاسمًا في القضايا المتعلقة بالنزاهة العامة. لذا تُعد في “إسرائيل” إحدى أخطر تبعات الحكم على المستوى السياسي، حتى عندما تكون العقوبة الجنائية نفسها مخففة.



