الانتخابات الإسرائيليّة المقبلة: قراءة استشرافية في التحوّلات والتوازنات ما بعد 7 أكتوبر

تُجرى الانتخابات الإسرائيلية المقبلة، المقرَّر عقدها في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر 2026، ما لم تُحلّ الكنيست قبل موعدها، في ظلّ تحوّلات سياسية وأمنية عميقة فرضها هجوم السابع من أكتوبر 2023، الذي شكّل نقطة انعطاف في الوعي الجمعي الإسرائيلي، وأعاد ترتيب أولويات الدولة والمجتمع، كاشفًا هشاشة منظومة “الأمن القومي” التي قامت عليها “إسرائيل” لعقود. فقد أظهرت الحرب على غزة ارتباكًا داخليًا غير مسبوق، وأزمة ثقة عميقة بالمؤسستين السياسية والعسكرية.

في هذا السياق، تستعد “إسرائيل” لجولة انتخابية يُتوقع أن تكون الأكثر احتدامًا منذ قيامها، لا تدور حول توزيع المقاعد فحسب، بل حول سؤال القيادة والشرعية: هل سينجح بنيامين نتنياهو في تجديد سلطته السياسية رغم أزماته القضائية والضغوط الداخلية؟ أم أن الدولة تتجه نحو إعادة إنتاج نظامها السياسي عبر تحالفات جديدة تعيد رسم خريطتها الأيديولوجيّة وتوازناتها الحزبيّة؟


 PDF تنزيل المادة


الخريطة السياسية الراهنة وتركيبة الحكومة الحالية

تُعدّ الحكومة الإسرائيلية الحالية الأكثر يمينية وتطرفًا في تاريخ دولة الاحتلال، إذ يقودها حزب الليكود بزعامة بنيامين نتنياهو، متحالفًا مع أحزاب الصهيونية الدينية بزعامة بتسلئيل سموتريتش، و”عوتسما يهوديت” بقيادة إيتمار بن غفير، إضافة إلى “شاس” و”يهدوت هتوراه” الحريديين. ومنذ تأسيسها في أواخر عام 2022، جسّدت هذه الحكومة تحالفًا أيديولوجيًا يجمع بين التيار القومي–الديني والتيار الحريدي، غير أنّ الخلافات حول إدارة الحرب على غزة وتداعياتها الأمنية والسياسية، كشفت عن تصدّعات داخلية عميقة داخل الائتلاف الحاكم، وتضارب متزايد بين أولويات الأحزاب الدينية وأجندة الليكود السياسية.

وقد تصاعدت مؤخرًا الأزمة داخل الائتلاف بعد إعلان حركة “شاس” انسحابها من جميع مهامها الائتلافية في الكنيست، تنفيذًا لتوجيهات مجلس حكماء التوراة، التي طالبت الحكومة بإقرار قانون إعفاء طلاب المعاهد الدينية (اليشيفوت) من الخدمة العسكرية. وجاءت الخطوة في ظل تصاعد التوتر بين الأحزاب الحريدية والليكود، واتهام نتنياهو بالمماطلة في تنفيذ التزاماته تجاه القاعدة الدينية، التي تمثّل ركيزة أساسية لتحالفه. وتشير تقديرات داخل الائتلاف إلى أنّ الحكومة مهددة بالانهيار إذا لم يُحرز تقدّم سريع في مشروع القانون، رغم رغبة الجميع في البقاء ضمنها، ما يعكس هشاشة التوازن الداخلي بين المكوّنات الدينية والقومية للحكومة الحالية.

في المقابل، تعاني المعارضة الإسرائيلية من حالة تفكك وضعف بنيوي، إذ يتصدرها جناح اليمين الصهيوني العلماني، ممثلًا بحزبي “يش عتيد” بقيادة يائير لبيد، و”المعسكر الرسمي” بقيادة بيني غانتس، بينما تراجع حضور أحزاب اليسار والمركز التقليدية، مثل “العمل” و”ميرتس” إلى حدود هامشية. ولم تعد المعارضة تشكل بديلًا أيديولوجيًا فعليًا، بقدر ما تسعى لتقديم نسخة “معتدلة” من اليمين ذاته.

أما في المشهد العربي داخل “إسرائيل”، فيبرز الانقسام بين أحزابٍ تشارك في مسار الكنيست، وأخرى وطنية وإسلامية لا تزال تُصرّ على رفضها الانخراط في هذا المسار؛ انطلاقًا من موقف مبدئي يعتبره غير معبّر عن المشروع الوطني الفلسطيني. وفي ظل هذا الانقسام، تعود النقاشات حول تخفيض نسبة الحسم لتثير المخاوف من تفتت القوائم العربية، وازدياد العزوف الشعبي عن التصويت، وسط مؤشرات على أنّ التعديلات المقترحة على قانون الانتخابات، قد تؤدي فعليًا إلى إضعاف التمثيل العربي، وتعزيز هيمنة اليمين الحاكم.

وعليه، يمكن القول إنّ الخريطة السياسية الإسرائيلية تتجه نحو إعادة تموضع داخل اليمين نفسه، أكثر مما تتجه نحو تغيير جوهري في موازين القوى، ما يجعل الانتخابات القادمة معركة داخلية حول زعامة اليمين، لا حول بديل سياسي من خارجه.

تحوّلات داخل حزب الليكود وإعادة ترتيب القيادة

في ضوء التصدعات المتزايدة داخل الائتلاف الحاكم، التي كشفتها الخلافات بين مكوّناته الدينية والقومية، يبرز حزب الليكود بوصفه المحور المركزي في إعادة تشكيل الخريطة السياسية الإسرائيلية. فبينما لا يزال الحزب يحتفظ بموقع القيادة داخل الحكومة، تشير المؤشرات إلى تحوّلات داخلية عميقة في بنيته التنظيميّة والقياديّة، تُنذر بإعادة ترتيب موازين القوى داخله؛ استعدادًا للانتخابات المقبلة.

تتجلّى هذه التحولات في بروز تيارات متباينة داخل الحزب، بين جناحٍ تقليدي محافظ متمسك بقيادة بنيامين نتنياهو، وآخر أكثر براغماتية يسعى إلى إعادة تعريف هوية الليكود السياسية بما يتجاوز شخص الزعيم. ويعبّر هذا الجدل الداخلي عن أزمة أعمق تتعلق بمستقبل الحزب بعد نتنياهو، إذ بدأت شخصيات بارزة مثل يولي إدلشتاين، ونير بركات، وأمير أوحانا، بالتحرك بهدوء داخل مؤسسات الحزب؛ استعدادًا لاحتمال تغيّر القيادة في المستقبل القريب.

على الصعيد الأيديولوجي، يحاول الليكود التوفيق بين إرثه الليبرالي القومي التقليدي، وبين النزعات الدينية والقومية المتشدّدة التي فرضها تحالفه مع أحزاب “الصهيونية الدينية” و”عوتسما يهوديت”. وقد أدّى هذا التوازن الهشّ، إلى تراجع هوية الحزب الأصلية كحزب يميني وسطي واسع الطيف، وتحوله إلى حزب يميني قومي يجنح أكثر نحو اليمين الديني في خطاباته وبرامجه.

في هذا السياق، شكّلت إقالة رئيس مجلس الأمن القومي تساحي هنغبي، مؤشرًا بارزًا على عمق التصدّع بين القيادتين السياسية والأمنية داخل معسكر نتنياهو نفسه. فوفقًا لتقارير إسرائيلية متقاطعة، تصاعدت الخلافات بين الطرفين حول قضايا أمنية جوهرية، بدءًا من خطة “عربات جدعون 2″، ومرورًا بالعدوان على قطر، ووصولًا إلى ملف تبادل الأسرى وإدارة الحرب في غزة. وقد اتّضح توجه نتنياهو نحو الإطاحة بهنغبي في الأسابيع الأخيرة، خصوصًا بعد معارضته فكرة احتلال مدينة غزة، وتأييده صفقة تبادل الأسرى على مراحل، وهو ما اعتُبر تحدّيًا مباشرًا لنهج رئيس الحكومة.

بلغ الخلاف ذروته حين امتنع هنغبي عن مرافقة نتنياهو في زيارته الأخيرة إلى واشنطن أواسط تشرين الأول/ أكتوبر 2025، في خطوة وُصفت في الأوساط السياسية بأنها إقالة فعلية. وقد حذّر مراقبون من أن تؤدي هذه الخطوة إلى خلق مناخ من التردد داخل الأجهزة الأمنية، في طرح مواقف مهنية مخالفة لتوجهات نتنياهو، ما يعمّق الطابع الشخصي لصنع القرار الأمني، ويُضعف مبدأ الرقابة المؤسسية داخل الحكومة والائتلاف الحاكم.

وبهذا، تبدو إقالة هنغبي انعكاسًا لتحوّل الصراع داخل الليكود، من خلافات سياسية ظرفية، إلى انقسامات بنيوية حول إدارة الدولة والحرب، ما يُبرز تآكل الحدود بين الاعتبارات المهنية والحسابات السياسية في عهد نتنياهو، وتحوّل القرار الأمني إلى أداة بيد القيادة الحزبية، أكثر من كونه نتاج منظومة مؤسساتية متوازنة.

استطلاعات الرأي والاتجاهات العامة بعد 7 أكتوبر

كشفت استطلاعات الرأي العام في “إسرائيل” منذ السابع من أكتوبر 2023، عن تحولات عميقة في المزاج الشعبي، لكنها لم تُفضِ إلى انقلاب جذري في موازين القوى الحزبية. فعلى الرغم من تراجع ثقة الجمهور بالمؤسسة السياسية والعسكرية، ظل معسكر اليمين محافظًا على تفوقه العددي، في حين فشلت المعارضة في استثمار حالة الغضب الشعبي لتعزيز موقعها، أو تقديم بديل مقنع.

ملاحظة منهجية:

تمّ اعتماد استطلاعات الرأي الصادرة عن القنوات الإسرائيلية الرئيسة (12، و13، وكان، ومعاريف) لكونها الأكثر انتظامًا وشفافية في عرض منهجيتها وتغطيتها لجميع الأحزاب. اختيار هذه العينة لا يعكس انتقائية سياسية، بل يستند إلى معيار التمثيل والاستمرارية، مع الأخذ في الاعتبار الخلفيات التحريرية لكل وسيلة (حيث تميل “معاريف” و”كان” إلى الوسط–يمين، فيما تحافظ القناتان 12 و13 على قدر من التوازن).

وقد جرى تحليل النتائج وفق مقارنة تقاطعية بين هذه الجهات لتقليل أثر الانحيازات المؤسسية والتركيز على الاتجاهات العامة لا على الفروقات العددية الجزئية.

نستعرض فيما يلي قائمة بأبرز استطلاعات الرأي داخل “إسرائيل” بعد السابع من أكتوبر 2023 حتى تشرين الأول/ أكتوبر 2025:

التاريخ أبرز النتائج والملاحظات الجهة المستطلِعة/ الوسيلة الإعلامية
13/10/2023 انخفضت شعبية نتنياهو بشكل حاد بعد عملية طوفان الأقصى، إذ تراجع حزب الليكود إلى 19 مقعدًا مقابل 41 لغانتس، وانكمشت قوة الائتلاف من 64 إلى 42 مقعدًا مقابل 78 للمعارضة، في انعكاس مباشر للإخفاق الأمني، وتحوّل المزاج العام مؤقتًا لصالح معسكر غانتس. صحيفة معاريف
24/11/2023 ارتفعت شعبية غانتس مقابل تراجع الليكود إلى نحو 18–19 مقعدًا، فيما فشل حزب الصهيونية الدينية في تجاوز نسبة الحسم. وبلغ مجموع مقاعد أحزاب المعارضة، بما فيها “المعسكر الوطني” والأحزاب العربية، 79 مقعدًا مقابل 41 للائتلاف، كما أظهر الاستطلاع أن غانتس يُعدّ الأنسب لرئاسة الحكومة، حتى لدى ربع ناخبي الليكود، في انعكاس واضح لتحوّل المزاج العام بعد الإخفاق الأمني. صحيفة معاريف
11/2/2024 واصل “المعسكر الوطني” بزعامة بيني غانتس تصدر نتائج نوايا التصويت، فيما فشل “الصهيونية الدينية” في تجاوز نسبة الحسم. وأظهر الاستطلاع أن 51% من الإسرائيليين يؤيدون تقديم موعد الانتخابات، مقابل 39% يعارضون، و10% قالوا “لا أعلم”. وفق التقديرات، يحصد “المعسكر الوطني” 37 مقعدًا، يليه حزب الليكود بحوالي 18 مقعدًا. صحيفة معاريف
21/4/2024 أظهر استطلاع للرأي أنّ تحالفًا محتملًا في معسكر اليمين، يجمع نفتالي بينيت، وغدعون ساعر، ويوسي كوهين، إلى جانب حزب المعسكر الوطني بزعامة بيني غانتس، من شأنه أن يمنح اليمين 79 مقعدًا في الكنيست، مقابل تراجع عدد مقاعد الائتلاف الحالي إلى 41 مقعدًا، في حين يتقدم غانتس على الليكود. “القناة 13” الإسرائيلية
21/6/2024 أغلبية تؤيد تبكير الانتخابات وتراجع شعبية غانتس – أظهر استطلاع أنّ 53% من الإسرائيليين يؤيدون تبكير انتخابات الكنيست مقابل 35% يعارضون، مع معارضة 77% من ناخبي الائتلاف لذلك. وتقلص الفارق بين المعسكر الوطني والليكود إلى مقعد واحد (23 مقابل 22)، فيما فشل حزب الصهيونية الدينية في تجاوز نسبة الحسم. وتُظهر النتائج حصول أحزاب المعارضة على 62 مقعدًا مقابل 48 للائتلاف و10 للأحزاب العربية. صحيفة معاريف
25/10/2024 استطلاع يظهر ارتفاعًا في تمثيل حزب الليكود بمقعدين عقب مقتل زعيم حماس يحيى السنوار واستمرار الحرب على لبنان، فيما تبقى قوة الائتلاف 50 مقعدًا مقابل 60 للأحزاب الصهيونية في المعارضة، و10 للأحزاب العربية. وأشار الاستطلاع إلى أنه في حال عودة نفتالي بينيت إلى الحياة السياسية، فسيحصل حزبه الجديد على نحو 22 مقعدًا على حساب المعارضة، ما يؤدي إلى خسارتها 17 مقعدًا. صحيفة معاريف
3/3/2025 بينيت يتصدر ونتنياهو يحتفظ بتفوقه في غيابه – أظهر استطلاع قناة “كان 11” أن حزب الليكود ما زال الأكبر (26 مقعدًا)، فيما يحصل معسكر نتنياهو على 55 مقعدًا مقابل 65 للمعارضة. وعند إدخال نفتالي بينيت إلى المنافسة، فإنه يتصدر المشهد بـ 25 مقعدًا، متقدمًا على الليكود (23)، لتصبح قوة معسكره 74 مقعدًا مقابل 46 لمعسكر نتنياهو. كما أيّد 44% من الإسرائيليين استمرار المفاوضات حول المرحلة الثانية من اتفاق تبادل الأسرى. “قناة كان 11” الإسرائيلية
30/5/2025 استطلاع يظهر أنّ الأحزاب الصهيونية في المعارضة ستحصل على 61 مقعدًا مقابل 49 لأحزاب الائتلاف، مع فشل حزب الصهيونية الدينية في تجاوز نسبة الحسم. وفي حال خوض نفتالي بينيت الانتخابات على رأس حزب جديد، يرتفع تمثيل المعارضة إلى 66 مقعدًا مقابل 44 للائتلاف. صحيفة معاريف
16/7/2025 استطلاع يظهر أن الليكود ما زال الحزب الأكبر (27) مقعدًا، يليه حزب بينيت (23) مقعدًا، بينما يفشل غانتس في دخول الكنيست في جميع السيناريوهات التي يخوض فيها آيزنكوت الانتخابات، سواء بتحالف مع لبيد أو بينيت، أو عبر حزب مستقل. ويشير الاستطلاع إلى أنّ تحالف بينيت–آيزنكوت قد يُزيح الليكود عن الصدارة، في وقت يؤيد 53% من الإسرائيليين تبكير موعد الانتخابات، مقابل 38% يفضلون إجراءها في موعدها عام 2026. “القناة 12” الإسرائيلية
17-18/9/2025 تُظهر استطلاعات الرأي تباينًا واضحًا في تقدير فرص معسكر نتنياهو، بين فقدان الأغلبية وإمكانية تحقيقها. فبعض النتائج تُظهر تراجع الائتلاف الحاكم إلى حدود 50 مقعدًا، مقابل تقدم المعارضة، فيما تشير أخرى إلى قدرته على بلوغ الأغلبية البرلمانية البسيطة. كما تُظهر استطلاعات متزامنة تعادلًا في قوة الليكود وحزب بينيت، مع ثبات ميزان المعسكرات دون تغيّر جوهري. “قناة كان 11” الإسرائيلية

“قناة i24NEWS” الإسرائيلية

“القناة 13” الإسرائيلية

24/10/2025 تراجع ائتلاف نتنياهو إلى 50 مقعدًا فقط، نتيجة ضعف حزب “الصهيونية الدينية”، وتزايد الانتقادات لاتفاق وقف إطلاق النار، إلى جانب الضغوط الأمريكية على العمليات في غزة. وفي المقابل، سجل كل من لبيد وآيزنكوت صعودًا لافتًا، فيما فشل غانتس في تجاوز نسبة الحسم. كما أشار الاستطلاع إلى أنّ توحيد القوائم العربية يمنحها 12 مقعدًا، من دون أنّ يتيح ذلك للمعارضة تحقيق أغلبية مستقرة.  صحيفة معاريف

تحليل النتائج واتجاهات المزاج الانتخابي

تعكس سلسلة الاستطلاعات الممتدة بين تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وتشرين الأول/ أكتوبر 2025 مسارًا متقلبًا لكنّه متماسك في خطوطه العامة. فالمشهد الحزبي الإسرائيلي، رغم الصدمات الأمنية والسياسية المتكرّرة، لم يشهد انقلابًا جذريًا في ميزان القوى بين المعسكرين، بل اتّسم بتغيّرات داخلية ضمن كل معسكر على حدة، مع غياب كتلة حاسمة قادرة على حسم المشهد أو تشكيل حكومة مستقرة من دون تحالفات معقدة.

  1. استمراريّة هيمنة اليمين مع تآكل تدريجيّ في الكتلة الحاكمة

تكشف النتائج أن اليمين الإسرائيلي بقي المكوّن الأقوى عدديًا، لكنه يعاني من تآكل في تماسكه الداخلي، خصوصًا مع تراجع حزب الصهيونية الدينية وتزايد الخلافات بين مركبات الائتلاف (الليكود، وشاس، وعوتسما يهوديت، ويهدوت هتوراه). فحتى في الفترات التي حافظ فيها اليمين على أغلبية اسمية (60–61 مقعدًا)، فإنّ هذه الأغلبية كانت هشة ومشروطة بتحالفات ظرفية لا تعكس قاعدة ثقة مستقرة، خصوصًا مع تصاعد التوتر بين نتنياهو والحريديم بشأن قانون التجنيد وإدارة الملفات الاقتصادية.

  1. تبدّل قيادات المعارضة وتوزّع القوة داخلها

في المقابل، ما تزال المعارضة مشرذمة بلا زعامة موحدة أو برنامج جامع. فـبيني غانتس الذي قفز بعد 7 أكتوبر فقد زخمه لاحقًا، فيما صعد بينيت وآيزنكوت مؤقتًا من دون أن يشكّلا بديلًا قياديًّا مستقرًّا. كما أنّ المعارضة الصهيونية تميل إلى إعادة إنتاج خطاب يميني “معتدل” بدل تقديم رؤية مغايرة. أما الأحزاب العربية، فعلى الرغم من تحسن تمثيلها النسبي (9–12 مقعدًا)، فإنها تظل خارج حسابات الائتلافات المحتملة بعد تجربة الموحدة في حكومة بينيت–لابيد، ما يقلّص فرص المعارضة في الوصول إلى أغلبية برلمانية حاسمة.

3. تراجع نتنياهو واستقرار الليكود كظاهرة بنيوية

يتّضح من تتبع المنحنى الزمني أنّ نتنياهو تراجع شخصيًا أكثر مما تراجع حزبه. فالليكود ظل في معظم الاستطلاعات بين 23 و31 مقعدًا، وهو ما يعكس وجود قاعدة يمينية صلبة لا تتأثر كثيرًا بالأزمات أو التحقيقات أو حتى الحروب. ومع ذلك، فإنّ التراجع في شعبية نتنياهو الشخصية، وارتفاع الأصوات داخل حزبه للمطالبة بتجديد القيادة، يشيران إلى بداية تحوّل بنيوي داخل الليكود قد يظهر أثره في المدى المتوسط.

4. عودة بينيت كلاعب مؤثر وتفكّك “الصهيونية الدينية”

أعادت السيناريوهات التي شملت عودة نفتالي بينيت ترتيب الخريطة داخل معسكر اليمين، إذ أظهرت قدرته على سحب مقاعد من الليكود والمعارضة معًا، ما يجعله لاعبًا حاسمًا في أي تشكيل حكومي قادم. وفي المقابل، برز تراجع “الصهيونية الدينية” إلى ما دون نسبة الحسم، كأحد المؤشرات المتكررة التي تعكس فقدان الجاذبية السياسية لليمين الديني المتطرف بعد أدائه الفوضوي في الحكومة والحرب.

5. تحسّن محدود في التمثيل العربي دون أثر حاسم

تُظهر الاستطلاعات الأخيرة أنّ القوائم العربية تراوح بين 9 و12 مقعدًا، مع تحسن طفيف عند توحيد القوائم. غير أنّ هذا التحسن لم يغيّر موازين القوى العامة، بل يعكس رغبة محدودة في المشاركة السياسية، بعد انحسار الثقة بقدرة الكنيست على التأثير في السياسات تجاه الفلسطينيين في الداخل.

6. تحوّل المزاج الشعبي من الانفعال الأمني إلى القلق الاقتصادي والسياسي

تُظهر المقارنة بين استطلاعات الرأي في الجدول أعلاه أنّ المزاج الشعبي الإسرائيلي انتقل تدريجيًا من الانفعال الأمني إلى القلق السياسي–الاقتصادي.

فبعد أن كانت استطلاعات تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر 2023 تُظهر ميلًا كاسحًا لصالح معسكر غانتس كردّ فعل على الإخفاق الأمني في “طوفان الأقصى”، بدأت نتائج منتصف عام 2024 (استطلاع معاريف بتاريخ 21/6/2024) تعكس تراجع الأولويات الأمنية لصالح المطالبة بتبكير الانتخابات بسبب الأوضاع المعيشيّة والإداريّة، حيث أيّد 53% من الإسرائيليين حل الكنيست.

كما بينت استطلاعات “قناة كان” (3/3/2025) و “القناة 12” (16/7/2025) أنّ المزاج العام اتّجه نحو النقد السياسي للحكومة والقلق من استمرار الحرب أكثر من التركيز على “الثأر الأمني”، مع تصاعد الدعم لمشاريع تبادل الأسرى (44%) والميل إلى انتخابات مبكرة (53%).

هذا التحول التدريجي من خطاب الأمن إلى خطاب السياسة والاقتصاد يُظهر إرهاق المجتمع الإسرائيلي من الحرب وطول أمدها، وازدياد الشكوك في قدرة القيادة على إدارة الدولة في مرحلة ما بعد غزة.

  1. احتمالية تقريب موعد الانتخابات

تزايدت التقديرات في الأوساط السياسية والإعلامية الإسرائيلية بأنّ بنيامين نتنياهو يدرس خيار الذهاب إلى انتخابات مبكرة، مستفيدًا من الأزمة التي أثارتها قضية المدعية العامة العسكرية السابقة، “يفعات تومر يروشالمي”، لتحويل المواجهة مع الجهاز القضائي إلى أداة تعبئة انتخابية في معسكر اليمين.

ووفق تقرير بثته هيئة البث الإسرائيلية “كان 11” في 4 تشرين الثاني/نوفمبر 2025، ناقش نتنياهو في الأيام الأخيرة مع عدد من مقربيه إمكانية حلّ الكنيست وإجراء انتخابات خلال الأشهر القريبة، معتبرًا أن هذه الخطوة قد تمكّنه من تعزيز مكانته السياسية واستثمار التوتر مع المؤسسة القضائية في حملته الانتخابية.

وأشار التقرير إلى أن بعض مستشاري نتنياهو شجعوه على خوض الانتخابات في أقرب وقت ممكن تحت شعار “المعركة ضد النخب القضائية”، في حين أبدى آخرون تحفظًا خشية أن تُعرقل الخطوة مساعيه لتمرير تشريع يوقف محاكمته أو يمنحه حصانة مؤقتة قبل نهاية ولاية الحكومة الحالية.

أما مكتب نتنياهو فقد نفى رسميًا وجود نية فورية للتوجه إلى انتخابات مبكرة، غير أنّ مراقبين إسرائيليين رأوا في هذه التسريبات اختبارًا لردود الفعل السياسية والإعلامية تمهيدًا لقرار محتمل خلال عام 2026، خصوصًا في ظل محاولات نتنياهو استثمار ما تبقى من الزخم الشعبي بعد الحرب وصفقة الأسرى وزيارة ترامب.

تشريعات انتخابيّة جديدة لإعادة هندسة المشهد السياسي

في ظل الأزمة البنيوية التي كشفتها حرب غزة، وما تبعها من تآكل في الثقة بالمؤسسات السياسية والعسكرية، تتجه الحكومة الإسرائيلية نحو استخدام الأدوات التشريعية لإعادة هندسة النظام السياسي، بما يضمن استمرار هيمنة المعسكر اليميني الديني القومي على المشهد العام. وتُعدّ هذه التشريعات أحد أذرع مشروع أعمق يرمي إلى تحصين النظام القائم من أي تحوّل محتمل في موازين القوى، أو تصاعد بدائل سياسية جديدة تهدد استقرار الائتلاف الحاكم.

من أبرز هذه المساعي النقاشات الجارية حول تعديل “نسبة الحسم“، أي العتبة الانتخابية التي تُمكن الأحزاب من دخول الكنيست. تبلغ النسبة الحالية 3.25% من مجمل الأصوات الصحيحة، بعدما كانت 1% عند تأسيس الدولة، وارتفعت تدريجيًا إلى 1.5% عام 1992، ثم 2% عام 2003، قبل أن تُرفع إلى مستواها الحالي عام 2014. ويُبرّر هذا التطور رسميًا بالرغبة في الحدّ من تفتت الأحزاب الصغيرة وضمان “الاستقرار السياسي”، لكنّه تحوّل في الواقع إلى أداة سياسيّة تُستخدم لضبط خريطة التمثيل البرلماني وفق موازين القوى المتغيرة.

فمنذ مطلع عام 2024، أُعيد طرح هذه القضية بقوة داخل الكنيست، سواء عبر دعوات لرفع النسبة إلى 5%، أو عبر مقترحات مقابلة لخفضها جزئيًا إلى نحو 2%، تبعًا للمصلحة الحزبية. فبينما يرى الليكود وحلفاؤه أن رفعها يسهم في “توحيد معسكر اليمين” ومنع تفتت الأصوات بين قوائمه، يدافع سموتريتش وقادة أحزاب يمينية صغيرة عن خفضها لضمان بقائهم داخل الكنيست بعد تراجع شعبيتهم في الاستطلاعات.

في المقابل، تعتبر المعارضة، وخاصة الأحزاب العربية واليسارية، أنّ الهدف الحقيقي وراء رفع النسبة هو إقصاء القوائم الصغيرة، ولا سيما العربية منها، وإضعاف تمثيلها البرلماني. وهكذا تحوّل النقاش حول “نسبة الحسم” من مسألة إجرائية إلى أداة لإعادة هندسة الخريطة الحزبية والسيطرة على بوابة الشرعية البرلمانية.

يرى المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، أن هذه التعديلات التشريعية تعبّر عن اتجاه منظّم لإعادة تشكيل قواعد التمثيل السياسي في “إسرائيل”، بما يقلص من هامش التعدديّة داخل النظام الحزبي، ويُعزّز الوزن النسبي للأغلبية اليهودية المحافظة داخل الكنيست. وتندرج هذه الخطوات، وفق تحليل المعهد، ضمن تصميم سياسي اجتماعي جديد، يهدف إلى ترسيخ هيمنة اليمين الديني القومي، وتهميش الأصوات المعارضة أو الهامشية، بما في ذلك التمثيل العربي في الخارطة الانتخابية.

إلى جانب ذلك، يعمل الائتلاف الحاكم على تعديل منظومة تمويل الأحزاب والدعاية الانتخابية، في إطار ما تصفه الأوساط الحكومية بجهود “ضمان نزاهة الانتخابات” (הבטחת טוהר הבחירות)، إلا أنّ فحوى هذه الخطوات، يُشير عمليًا إلى تشديد شروط الدعم المالي، وربطه بالحجم البرلماني القائم، ما يقلّص قدرة الأحزاب الصغيرة والمستقلين على المنافسة، ويُبقي النظام الحزبي خاضعًا لهيمنة القوى الممثَّلة في الكنيست. وتُدرج هذه الإجراءات ضمن سياسة مؤسسية أوسع لتحصين النظام الانتخابي، عبر ضبط مصادر التمويل والرقابة الإدارية، وهو ما يعتبره مراقبون مسارًا يهدف إلى تثبيت ميزان القوى القائم، ومنع أي تغيّر مفاجئ في الخريطة السياسية خلال الدورات القادمة.

عاد النقاش داخل لجنة القانون والدستور في الكنيست حول مسألة التصويت من الخارج، وهي قضية مثيرة للجدل في النظام الانتخابي الإسرائيلي الذي يقوم على الاقتراع داخل حدود الدولة فقط، باستثناء فئات محدودة مثل الدبلوماسيين وموظفي الدولة في البعثات الخارجية. وقد طُرحت في السنوات الأخيرة مبادرات لإتاحة التصويت للمواطنين المقيمين في الخارج، لكنّ الائتلاف الحاكم يسعى اليوم إلى إلغاء هذه التوجهات أو تقييدها بشدة، بدعوى “منع التدخلات الخارجية في القرار الانتخابي”.

غير أن تحليلات سياسية عدّة تشير إلى أنّ الهدف الفعلي من هذه الخطوة هو تحييد الكتلة الليبرالية المقيمة في أوروبا والولايات المتحدة، والتي تميل في معظمها إلى دعم معسكرات الوسط واليسار، ما يجعل هذا التوجه جزءًا من محاولات أوسع لإعادة هندسة الخريطة الانتخابية بما يخدم استمرار هيمنة اليمين.

وفي موازاة هذه الخطوات، تعمل الحكومة على تعزيز الرقابة على الخطاب السياسي والإعلامي في فترة الانتخابات، من خلال مشاريع قوانين تتعلق بمراقبة شبكات التواصل، وتمويل الحملات الرقمية، وهو ما يُنظر إليه في “إسرائيل” كجزء من اتجاه أوسع نحو تقييد المجال العام، وتسييس الهيئات الرقابية.

وبذلك، فإنّ هذه التعديلات التشريعية ليست مجرد تفاصيل إجرائية، بل تعبّر عن تحوّل بنيوي في مفهوم “الديمقراطية الإسرائيلية” نفسها، من نموذج تعدّدي مفتوح، إلى نظام مقيّد تُدار فيه التعددية داخل حدود تفرضها السلطة اليمينية. وهي تعكس سعي نتنياهو وكتلته إلى إعادة هندسة قواعد اللعبة الانتخابية، بما يضمن استمرارية نفوذهم في المدى الطويل، ويمنع بروز بدائل سياسية قادرة على تهديد مركزية الليكود داخل الدولة العبرية.

الرهانات الإقليميّة وانعكاسها على الساحة الداخليّة الإسرائيليّة

تتزامن استعدادات نتنياهو للانتخابات القادمة مع عودة الخطاب الأمريكي المحافظ، خصوصًا في صفوف التيار الجمهوري ودوائر الرئيس دونالد ترامب، وتتجه نحو إحياء فكرة “التحالف الإبراهيمي الموسع“، بوصفها إطارًا إقليميًا جديدًا للتطبيع والهيمنة الأمريكية الإسرائيلية في الشرق الأوسط. فمنذ مطلع عام 2024، برزت في الحملات الانتخابية الأمريكية، إشارات واضحة إلى إعادة طرح خطة ترامب للسلام بصيغة اقتصادية أمنية محدثة، تتضمّن تسريع مسار التطبيع مع السعودية، ودول عربية وإسلامية أخرى، في مقابل ضمانات أمريكية لـ “إسرائيل” بالحفاظ على تفوقها العسكري، وتوسيع نطاق اتفاقات “أبراهام”.

بالنسبة إلى نتنياهو، تمثل هذه التطورات فرصة لإعادة التموضع داخليًا وخارجيًا من خلال تبني خطاب أكثر براغماتية من شركائه في أقصى اليمين، انسجامًا مع أولويات واشنطن وحلفائها العرب. فبعد 7 أكتوبر 2023، أدرك أنّ استمرار الارتهان لائتلاف اليمين الديني المتطرف يهدد صورته الدولية ويقوّض الدعم الأمريكي التقليدي لـ “إسرائيل”، ما دفعه إلى إعادة تقديم نفسه كـقائد سياسي قادر على إدارة الملفات الإقليمية بعقلانية محسوبة.

في هذا السياق، يسعى نتنياهو إلى توظيف نتائج الحرب على غزة والجبهات الأخرى – ولا سيما التوتر مع إيران وحزب الله والحوثيين – في تعزيز سرديته الأمنية، عبر إبراز ما يصفه بـ “إنجازات إستراتيجيّة” مثل اغتيال قادة ميدانيين أو تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا واليمن، لترسيخ صورته كـقائد أمني قوي قادر على حماية “إسرائيل”.

في المقابل، ترى المعارضة أنّ هذه العمليات لا تعوّض فشل الحكومة في منع هجوم 7 أكتوبر، وأنّها تُستخدم لتغطية الإخفاقات البنيوية في إدارة الحرب والاقتصاد والعلاقات الخارجية. كما تنظر أحزاب المركز واليسار إلى مشروع “التحالف الإبراهيمي الموسع” باعتباره غطاءً دبلوماسيًا لتجاوز الفشل الداخلي وتصدير الأزمة من خلال “سلام اقتصادي–أمني” لا يتطرق إلى جوهر الصراع مع الفلسطينيين.

وفي المحصلة، يظهر أنّ التحالف الأمريكي–الإسرائيلي أصبح جزءًا من المعادلة الانتخابية في تل أبيب؛ فبينما تراهن واشنطن على “إسرائيل المستقرة القابلة للتطبيع“، يراهن نتنياهو على الدعم الأمريكي والإقليمي لتثبيت شرعيته وتجديد موقعه السياسي. وهكذا، تتحول نتائج الحرب ومشاريع التطبيع والتصعيد الإقليمي إلى أوراق انتخابية تُستخدم لتلميع صورة نتنياهو أكثر مما تعبّر عن رؤية إستراتيجيّة مستقلة لمستقبل المنطقة.

محاكمة نتنياهو وتداعياتها على الانتخابات

تشكّل محاكمة بنيامين نتنياهو، المستمرة منذ عام 2020 في قضايا الاحتيال وخيانة الأمانة وتلقّي الرشى، أحد العوامل الأكثر تأثيرًا في المشهد السياسي الإسرائيلي. غير أنّ نتنياهو تمكّن، بخلاف ما توقّعه خصومه، من تحويل المحاكمة من عبءٍ سياسي إلى أداة تعبئة انتخابية فعّالة، وذلك من خلال تصويرها على أنّها جزء من “مؤامرة النخب القضائية والإعلامية”، ضدّ إرادة الشعب ومعسكر اليمين.

منذ السابع من أكتوبر 2023، كثّف نتنياهو استخدامه لخطاب “الدولة العميقة”، و”تآمر النخب القضائية والإعلامية” ضدّه، محاولًا إعادة تأطير محاكمته بوصفها جزءًا من صراع سياسي بين إرادة الشعب والمؤسسة الحاكمة القديمة. ويقدم نتنياهو نفسه في هذا السياق، كزعيم يتعرض لحملة تستهدف إسقاطه عبر أدوات القضاء والإعلام، لا عبر صناديق الاقتراع، في استمرار لنهجٍ دعائي يربط الملاحقة القانونية بمحاولة إضعاف معسكر اليمين برمّته.

وفي حدث رمزي له دلالاته، وجّه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خلال خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي في أيلول/ سبتمبر 2025، نداءً مباشرًا إلى الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ، لمنح نتنياهو عفوًا في قضاياه الجارية، قائلًا: “لدي فكرة: لماذا لا تمنحه عفوًا؟ أحد أعظم القادة، من يكترث؟”، في مشهد عكس حجم التداخل بين محاكمة نتنياهو وموقعه السياسي في الداخل والخارج. وقد قوبل الطلب بتصفيق واسع من أعضاء الائتلاف، ما عكس استعداد القاعدة اليمينية لتبني رواية تبرئة كاملة لزعيمها، حتى على المستوى الأخلاقي والقانوني.

في هذا السياق، تبدو محاكمة نتنياهو أقرب إلى ساحة مواجهة رمزية بينه وبين مؤسسات الدولة، أكثر منها إجراءً قضائيًا بحتًا. إذ يوظفها نتنياهو لتأكيد شرعيته كزعيم مستهدف من “النخب القديمة”، ويحوّلها إلى عنصر تعبوي في حملته الانتخابية المقبلة، محاولًا دمج مصيره الشخصي بمصير المعسكر اليميني كله. ومن المتوقع أن يستثمر هذا الملف في الحملة القادمة؛ لتأكيد سرديته القائلة إنّ “اليسار يخشى إرادة الشعب”، وللدفع نحو إصلاحات قضائية تُعيد رسم حدود استقلال القضاء، وتُحصّن موقع رئيس الحكومة من الملاحقة.

ورغم ذلك، لا توجد حتى الآن قيود قانونية تمنع بنيامين نتنياهو من الترشّح طالما لم يصدر قرار قضائي نهائي ضده. فالقانون الإسرائيلي لا يحظر على رئيس حكومة متهم بالفساد خوض الانتخابات أو الاستمرار في منصبه إلى حين صدور الحكم النهائي. غير أنّ إنشاء لجنة تحقيق رسمية في إخفاقات 7 أكتوبر، إن تشكلت بضغط المعارضة أو المؤسسة الأمنية، قد يُغيّر المعادلة جذريًا، إذ قد تُحمّله مسؤولية سياسية مباشرة عن الفشل، ما سيؤثر في شرعيته العامة وربما في قدرته على قيادة الليكود أو تشكيل الحكومة المقبلة.

أما على الصعيد الخارجي، فيترك الاستخدام السياسي لمحاكمته أثرًا سلبيًا على صورة “إسرائيل” في الغرب، حيث تُرى هذه التحركات كمؤشّر إضافي على تراجع الديمقراطية الإسرائيلية وتآكل استقلال القضاء، ما قد يثير تحفظات متزايدة في العواصم الغربية على دعم حكومة يقودها زعيم متهم بالفساد ويجاهر بعدائه للمؤسسات الرقابية.

السيناريوهات المحتملة بعد الانتخابات

مع اقتراب موعد الانتخابات الإسرائيلية المقرّرة، أو المتوقعة، في عام 2026، تتبلور ثلاثة سيناريوهات رئيسة تحدد ملامح المرحلة المقبلة في “إسرائيل”، تختلف في طبيعتها، لكنّها جميعًا تدور حول مستقبل معسكر اليمين وقيادة بنيامين نتنياهو.

السيناريو الأول: استمرار هيمنة اليمين بقيادة نتنياهو

يبقى هذا السيناريو الأكثر ترجيحًا في المدى القريب، استنادًا إلى قدرة نتنياهو على توحيد معسكره رغم التصدّعات الداخلية، واستثماره المتقن لخطاب “الخطر الوجودي” في ظل الحرب على غزة والجبهة الشمالية. كما أنّ أدواته في إدارة الائتلاف، والتحكم بالتشريعات الانتخابية والإعلامية، تمنحه هامشًا واسعًا لإعادة إنتاج شرعيته السياسية. غير أنّ هذا المسار، إن تحقق، سيعني استمرار الانزياح نحو اليمين الديني القومي، وتآكل ما تبقى من الطابع المؤسسي الديمقراطي في النظام السياسي الإسرائيلي.

السيناريو الثاني: تحالف يمين وسط بدفع أمريكي لإدارة ملف التطبيع

يفترض هذا السيناريو أنّ الولايات المتحدة ستسعى في المرحلة المقبلة إلى دفع المشهد الإسرائيلي نحو تشكيل حكومة “يمين–وسط” أكثر اعتدالًا، تكون قادرة على إدارة مسار “التحالف الإبراهيمي الموسع” وتوسيع دائرة التطبيع لتشمل السعودية ودولًا عربية أخرى. غير أن قدرة واشنطن على ترجمة هذا التوجه عمليًا تبقى محدودة، إذ لا تستطيع التأثير المباشر في نتائج الانتخابات، بل تمارس نفوذها عبر أدوات غير رسمية، مثل توجيه الدعم السياسي والإعلامي، وتنسيق المواقف الأمنية، وتفضيل التعامل مع شخصيات إسرائيلية “براغماتية” تحظى بقبول في العواصم الغربية والعربية.

ويستند هذا التصور إلى مؤشرات عدة، أبرزها محاولة نتنياهو إعادة التموضع بخطاب أكثر “عقلانية”، وسعيه إلى فتح قنوات تواصل مع شخصيات من خارج معسكره التقليدي، مثل غدعون ساعر وبيني غانتس، في إطار ائتلاف موسع يرضي واشنطن ويعيد ترميم صورة “إسرائيل” الخارجية. ومع ذلك، تبقى جدوى هذا المسار الانتخابية موضع شك، لأنّ جمهور اليمين الإسرائيلي لا يصوّت استنادًا إلى الضغوط الخارجية بقدر ما يستجيب لمعادلات الأمن والهوية، وهو ما يجعل أي تحالف “معتدل” محتمل هشًا ومؤقتًا.

وليس مستبعدًا، في هذا السياق، أن يشمل هذا الانفتاح يائير لبيد نفسه، الذي خصه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإشارات ودّ لافتة في خطابه أمام الكنيست، حين مازحه إلى جانب نتنياهو، الأمر الذي فُسّر سياسيًا كرسالة أمريكية مزدوجة، تشجع على بناء تحالف أوسع يضم أطياف اليمين والوسط.

ومع ذلك، سيواجه هذا السيناريو تحديات داخلية حادة من أحزاب اليمين الديني والقومي، التي تنظر إلى أي تقارب مع قوى الوسط، أو أي مرونة في مسار التطبيع، على أنه تنازل عن الهوية الأيديولوجية، ومساس بمصالح جمهورها القاعدي، ما قد يعمّق الانقسامات داخل الائتلاف، ويهدّد تماسكه من الداخل.

السيناريو الثالث: تفكّك الليكود وتصدّع اليمين الداخلي

يستند هذا الاحتمال إلى مؤشرات متزايدة على انقسامات داخل حزب الليكود نفسه، مع تصاعد تحركات قيادات، مثل يولي إدلشتاين ونير بركات وأمير أوحانا، تحضيرًا لمرحلة “ما بعد نتنياهو”. في حال تصاعدت الأزمات القضائية والسياسية التي تحيط برئيس الحكومة، فقد يشهد الحزب انقسامًا بين جناح محافظ متمسك بالتحالف الديني القومي، وآخر يسعى لاستعادة “الليكود التاريخي” كحزب يميني ليبرالي معتدل. مثل هذا التفكك، إن حدث، قد يفتح الباب أمام إعادة تشكيل المشهد السياسي الإسرائيلي برمّته، ويُنهي عقودًا من هيمنة نتنياهو على الحياة الحزبية والسياسية.

السيناريو الرابع: الجمود السياسي واستمرار الأزمة

يُعد هذا السيناريو امتدادًا مباشرًا لحالة عدم الاستقرار التي رافقت المشهد الإسرائيلي بين عامي 2019 و2022، حين فشلت خمس جولات انتخابية متتالية في إنتاج أغلبية حاكمة مستقرة.

استنادًا إلى طبيعة الانقسامات داخل اليمين، وضعف التنسيق في المعارضة، وتشتت الأحزاب العربية، يُرجّح أن تواجه “إسرائيل” بعد الانتخابات المقبلة مأزقًا مشابهًا، يتمثل في فشل كل من الائتلاف والمعارضة في بلوغ عتبة الـ61 مقعدًا اللازمة لتشكيل حكومة، أو نجاح أحدهما في إقامة ائتلاف هش يشبه حكومة بينيت–لابيد (2021–2022) أو حكومة نتنياهو–غانتس (2020)، وكلاهما أثبت هشاشته في الممارسة العملية.

هذا السيناريو لا يُستبعد تكراره في ضوء استمرار الاستقطاب المجتمعي وتراجع الانضباط الحزبي، ما قد يقود إلى مفاوضات ائتلافية طويلة أو حتى إلى جولة انتخابية إضافية، بما يعيد إنتاج الأزمة السياسية المزمنة ويُبقي على حالة الشلل البنيوي في النظام السياسي الإسرائيلي.

إن تحقق هذا السيناريو، يعني أن الانتخابات المقبلة لن تكون مخرجًا للأزمة، بل حلقة جديدة ضمن مسار الاستعصاء السياسي المتجدّد الذي بات سمة مميزة للحياة الحزبية الإسرائيلية في العقد الأخير.

خلاصة استشرافيّة

تُظهر المؤشرات السياسية والانتخابية أنّ “إسرائيل” تتجه نحو انتخابات شكليّة تُعيد إنتاج هيمنة اليمين، ولكن بصيغة أكثر براغماتية وتكيّفًا مع المرحلة الأمريكية المقبلة. فالأزمة التي فجّرها السابع من أكتوبر 2023 لم تُحدث انقلابًا في موازين القوى، بل كشفت هشاشة المنظومة السياسية وتآكل الثقة بالمؤسسات، من دون بروز بديل قيادي قادر على كسر هيمنة اليمين أو طرح رؤية سياسية جديدة تتجاوز معادلة الأمن والهوية.

يبقى الجدل في “إسرائيل” اليوم محصورًا في شكل اليمين لا في إسقاطه، إذ تتحرك شخصيات انتقالية مثل بينيت وآيزنكوت ضمن الإطار ذاته، في محاولة لإعادة صياغة المشروع اليميني بملامح أكثر اعتدالًا وواقعية. وتشير التقديرات إلى أنّ نتنياهو يدرس بجدية خيار تقديم موعد الانتخابات إلى أواخر 2025 أو ربيع 2026، مستفيدًا من الهدوء النسبي بعد الحرب وتحسّن مؤقت في شعبيته عقب صفقة الأسرى وزيارة ترامب، ومحاولًا استباق تآكل مكانته أو تصاعد الخلافات داخل ائتلافه الحاكم. غير أنّ هذا الخيار محفوف بالمخاطر، إذ قد يؤدي تبكير الانتخابات قبل ضمان أغلبية مريحة إلى تفكّك الائتلاف، أو إلى بروز منافسين من داخل الليكود كغالانت وبركات، ما يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من عدم الاستقرار السياسي.

في المقابل، يعمل نتنياهو على تحصين موقعه القانوني والسياسي عبر الدفع بتشريعات لتقييد الجهاز القضائي وتعليق محاكمته، محوّلًا قضيته إلى أداة تعبئة انتخابية تحت شعار “استهداف الزعيم”. وهكذا، تتحول المحاكمة من ملف جنائي إلى رافعة سياسية تُعيد توحيد اليمين حوله وتُكرّس سرديته القديمة حول “المؤامرة القضائية والإعلامية”.

ومع ذلك، لا يمكن استبعاد سيناريو استمرار الأزمة السياسية التي تعيشها “إسرائيل” منذ عام 2019، في حال عجز أيّ من المعسكرين عن تحقيق أغلبية مستقرة داخل الكنيست، مما قد يُعيد البلاد إلى دوامة من المفاوضات الائتلافية والانتخابات المتكررة، أو إلى حكومة انتقالية ضعيفة تفتقر إلى قدرة الحسم السياسي.

في المحصلة، يبدو أنّ “إسرائيل” تتجه نحو إعادة تشكيل اليمين لا تغييره، حيث يشكل “التحالف الإبراهيمي” غطاءها الخارجي، وتشكل التعديلات القضائية والإعلامية أدوات تحصينها الداخلي، فيما تبقى “الديمقراطية الإسرائيلية” أمام اختبار بنيوي عميق بين منطق السيطرة ومنطق المساءلة، وبين شرعية انتخابية متآكلة وواقع سياسي يزداد هشاشة وتصدعًا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى