كيف انهار وقف إطلاق النار: سياسة الاحتلال الإسرائيلي خلال الهدنة بين 19 يناير و3 أبريل 2025

الهدنة
هدى نعيم
في الثالث من نيسان/أبريل من عام 2025، بدأت قوات الاحتلال الإسرائيلي عملية عسكرية جديدة ضد قطاع غزة تحت اسم “العزة والسيف”، افتتحتها بحملة قصف جوي عنيف تلتها عمليات برية في أجزاء مختلفة من القطاع. جاءت هذه العملية لتشكّل عودة إسرائيلية إلى حرب الإبادة الجماعية بحق قطاع غزة، ولتُنهي عمليًا اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في 15 كانون الثاني/يناير 2025 بوساطة إقليمية ودولية.
الاتفاق كان قد نصّ على تقسيم مرحلة التهدئة إلى ثلاث مراحل متتالية، تشمل تبادل الأسرى، وانسحابًا تدريجيًا لقوات الاحتلال من القطاع، والسماح بإدخال المساعدات الإنسانية وفتح المعابر، وصولًا إلى وقف الحرب وبدء عملية إعادة الإعمار. كانت المرحلة الأولى من هذا الاتفاق قد انتهت فعليًا في 20 شباط 2025، دون الدخول في المرحلة الثانية، لتعثر المفاوضات نتيجة تعنت الاحتلال في تنفيذ ما نص عليه الاتفاق، غير أن الهدنة استمرت لما يقارب شهرًا ونصفًا بعد نهاية المرحلة الأولى، دون اتفاق على تمديدها أو الشروع في مفاوضات المرحلة الثانية من الاتفاق. استمرت في المقابل جهود الوسطاء في طرح مقترحات جزئية تتعلق بصفقة تبادل الأسرى في محاولة لإنقاذ اتفاق وقف إطلاق النار ومنع عودة الحرب.
تهدف هذه الورقة إلى قراءة السلوك الإسرائيلي خلال مرحلة الهدنة من 19 كانون الثاني وحتى 3 نيسان 2025، بوصفه مسارًا متكاملًا من التعطيل والانقلاب التدريجي على الاتفاق، وصولًا إلى استئناف العدوان العسكري. كما تناقش الورقة المؤشرات المبكرة على نية العودة للحرب، والأهداف الأمنية والسياسية الكامنة خلف هذا الانقلاب، في سياق استراتيجي أوسع يسعى إلى فرض وقائع جديدة في قطاع غزة، تتجاوز مجرد إنهاء القتال إلى إعادة هندسة الواقع الفلسطيني بأبعاده الأمنية والجغرافية والإنسانية.
اتفاق وقف إطلاق النار: بين النصوص والتطبيق
في الخامس عشر من يناير عام 2025، أعلنت كل من قطر ومصر والولايات المتحدة التوصل إلى اتفاق هدنة بين دولة الاحتلال والمقاومة الفلسطينية دخلت الهدنة حيّز التنفيذ في 19 يناير 2025 بعد أكثر من 400 يوم من حرب الإبادة الجماعية، إذ نص الاتفاق على تقسيم الهدنة إلى ثلاث مراحل متتابعة، تنفذ تدريجيًا تحت إشراف وسطاء إقليميين ودوليين. وبحسب ما ورد في البيان الرسمي الصادر عن وزارة الخارجية القطرية، نصّ الاتفاق على ما يلي:
- وقف متبادل وفوري لإطلاق النار
- تبادل متزامن للأسرى يشمل إطلاق سراح 33 محتجزًا إسرائيليًا مقابل ما يصل إلى 1900 أسير فلسطيني
- إدخال يومي لـ 600 شاحنة مساعدات إنسانية، منها 50 شاحنة وقود و10 بيوت متنقلة
- فتح المعابر، وتسهيل حركة المرضى والنازحين
- انسحاب تدريجي للقوات الإسرائيلية من القطاع
- إعادة الإعمار تحت إشراف دولي، تنطلق في المرحلة الثالثة من الاتفاق
غير أن تتبع تطورات الأحداث خلال مرحلة الهدنة يشير إلى أن الاحتلال لم يلتزم بما نص عليه الاتفاق وعدم إلى خرق الاتفاق بطرق مختلفة في مختلف جوانبه، بما يشمل الخروقات العسكرية وتعطيل تنفيذ بنود الاتفاق المتعلقة بالجانب الإنساني ووضع العراقيل فيما يتعلق بعملية تبادل الأسرى.
الخروق العسكرية:
رغم النص الصريح في اتفاق وقف إطلاق النار على “وقف فوري ومتبادل لإطلاق النار”، سُجلت خلال فترة الهدنة 192 خرقًا عسكريًا إسرائيليًا، وفق ما أوردته حركة حماس في بيان رسمي، شملت غارات جوية، وقصفًا مدفعيًا، وعمليات قنص، واعتداءات ميدانية على مناطق مأهولة، تحت ذرائع أمنية غير موثقة. وأسفرت هذه الانتهاكات عن استشهاد 431 مدنيًا، بينهم أطفال ونساء، وإصابة 1276 آخرين بجراح متفاوتة، منذ دخول الهدنة حيز التنفيذ وحتى استئناف العمليات العسكرية مجددًا.
لم تقف الخروقات الإسرائيلية عند حدود الغارات والقصف المدفعي، بل تجاوزتها إلى إعادة تموضع عسكري فعلي على الأرض، يتناقض كليًا مع نص الاتفاق القاضي بانسحاب تدريجي من القطاع. فقد واصلت قوات الاحتلال احتلال مناطق كان يفترض أن تُخلى، لا سيما في شرق خان يونس ورفح، حيث فرضت أطواقًا أمنية مشددة ومنعت عودة السكان، مما حول ما سُمي “الممرات الإنسانية” إلى مصائد أمنية مغلقة. وفي انتهاك صارخ لبروتوكول “العودة الآمنة”، سُجلت 14 حالة قنص مباشر استهدفت نازحين أثناء محاولتهم تفقد ممتلكاتهم في مدينة غزة.
كما كشفت صور أقمار صناعية التُقطت في 20 فبراير 2025 عبر منصة Planet Labs عن استهدافات إسرائيلية مباشرة لمناطق كانت مُدرجة ضمن أولويات الإعمار، أبرزها حي الزيتون وغرب خان يونس.
الخروق الإنسانية:
أما فيما يتعلق بالجانب الإنساني، فمع أن الاتفاق نصّ على إدخال المساعدات بواقع 600 شاحنة يوميًا، فإن تقارير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) تشير إلى أن أكثر من 60% من الشاحنات التي كان يفترض أن تصل يوميًا عبر معبر تم منعها أو تأخيرها. وإضافة إلى ذلك استمر الاحتلال في فرض قيود مشددة على حركة المرضى والمصابين من قطاع غزة إلى الخارج. وبحسب محمد أبو سلمية، مدير مستشفى الشفاء ومسؤول ملف إجلاء الجرحى في وزارة الصحة بغزة، فإن نحو 40% من المرضى والمصابين الذين تقدموا بطلبات للعلاج خارج القطاع توفوا أثناء انتظار الموافقة، بمعدل يومي يتراوح بين خمسة إلى عشرة حالات وفاة، نتيجة عدم توفر الرعاية الطبية اللازمة داخل القطاع المنهك، فيما كان من المقرر، وفق البروتوكول الملحق بالاتفاق، تسهيل سفر 500 مريض يوميًا للعلاج خارج غزة، خاصة ممن يعانون من السرطان أو إصابات حرجة نتيجة القصف. لكن وبحسب منظمة أطباء بلا حدود والمرصد الأورومتوسطي قلّصت إسرائيل هذا الرقم إلى 80 فقط في اليوم، وفرضت قيودًا أمنية على مرافقي المرضى، ما أدى إلى وفاة عشرات الحالات التي كانت قابلة للعلاج.
الخروق في تبادل الأسرى:
من جهة أخرى فمنذ انطلاق تنفيذ المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار، شكّلت صفقة تبادل الأسرى محورًا رئيسيًا من محاور التنصل والمماطلة الإسرائيلية، والتي نصّت على إطلاق سراح 33 محتجزًا إسرائيليًا، مقابل الإفراج عن مئات الأسرى الفلسطينيين، وفق معايير واضحة تشمل النساء والأطفال والمدنيين، وتتم وفق جدول زمني يمتد على ستة أسابيع، يسبقه التزام متبادل بوقف إطلاق النار، وفتح المعابر، وضمان عودة النازحين.
لكن، وعلى غرار بقية بنود الاتفاق، واجه هذا المسار سلسلة ممنهجة من الخروقات الإسرائيلية. في 22 كانون الثاني/يناير، ومع بدء الترتيبات اللوجستية لتبادل الدفعة الأولى، طالبت إسرائيل بإبعاد عدد من الأسرى الفلسطينيين المحكومين بالمؤبد عن الضفة الغربية المحتلة، كشرط للإفراج عنهم، بحجة أنهم “يشكلون خطرًا أمنيًا”، وذلك في مخالفة صريحة لنص الاتفاق الذي لم يحدّد أماكن الإفراج أو فئات المعتقلين. غير أن المقاومة قبلت مبدأ الإبعاد في حالات محدودة، حرصًا على إطلاق سراح الأسرى وإنقاذ وقف إطلاق النار.
وفي 27 كانون الثاني/يناير، أضافت إسرائيل مطلبًا جديدًا تمثّل بوقف “المظاهر الاحتفالية” لدى استقبال الأسرى في الضفة وغزة، بحجة أن هذه المشاهد “تُضعف هيبة الدولة” كما ورد في الإعلام العبري. وقد تعاملت المقاومة مع هذه المطالبة بمرونة سياسية، فأصدرت توجيهات ميدانية بتنظيم عمليات الاستقبال ضمن أطر رسمية محدودة.
وفي 30 كانون الثاني/يناير 2025، وخلال تنفيذ الدفعة الثالثة من صفقة تبادل الأسرى، أقدمت إسرائيل على تأخير الإفراج عن المعتقلين الفلسطينيين لمدة ست ساعات دون تقديم أي مبرر رسمي، وهو ما اعتُبر خرقًا واضحًا لجدول التبادل الزمني المنصوص عليه في الاتفاق. لم يتوقف الانتهاك عند حدود التأجيل، بل تعرض بعض الأسرى خلال الإفراج لاعتداءات جسدية وإهانات لفظية من قِبل القوات الإسرائيلية، وفق ما وثقته مصادر حقوقية وإعلامية.
كما عمدت سلطات الاحتلال، في حالات متكررة، إلى إبعاد الأسرى المفرج عنهم إلى غزة دون تنسيق أو التأكد من رغبتهم، في مخالفة للبند القاضي بعدم فرض التهجير أو إعادة الاعتقال. كما امتنعت إسرائيل عن تسليم قائمة كاملة بالأسرى المفترض الإفراج عنهم في المرحلة، وخاصة قائمة الـ400، ما شكل انتهاكًا مباشرًا لبروتوكولات الشفافية والالتزام الزمني.
في 23 شباط/فبراير، وقعت أخطر الانتهاكات، حين قررت إسرائيل تأجيل الدفعة السابعة من الأسرى الفلسطينيين قبل دقائق من تنفيذها، بعدما كان المعتقلون قد صعدوا بالفعل إلى الحافلات. وقد وُصف المشهد من قبل المراقبين بأنه “إذلال مقصود” يهدف إلى تحطيم الروح المعنوية، في حين أكدت هيئة الأسرى أن الاحتلال تلاعب بالقوائم وخرق الاتفاق بشكل متعمّد.
ورغم نص الاتفاق على السماح بعودة النازحين، منعت إسرائيل عودة مئات الآلاف من سكان شمال القطاع، مبررة قرارها بتأخير الإفراج عن الأسيرة الإسرائيلية “أربيل يهود”، التي أكدت حماس، عبر الوسيط القطري، أنها على قيد الحياة وستُسلّم في وقت لاحق. لكن إسرائيل استخدمت الملف ذريعة لتعليق بند العودة، لتتحوّل الهدنة إلى سلسلة عراقيل إسرائيلية لا تنتهي.
التراجع عن اتفاق وقف إطلاق النار:
في الوقت الذي كانت فيه المرحلة الأولى من اتفاق الهدنة تقترب من نهايتها، كانت الوساطة الدولية – وخصوصًا الأمريكية – تدخل طورًا جديدًا، كاشفة عن تحوّل واضح في الموقف من دعم تنفيذ الاتفاق إلى إعادة صياغته ضمن مقترحات منفصلة مجتزأة، تفقده مضمونه الأصلي، وتخدم المصلحة الإسرائيلية.
ففي مطلع شباط/فبراير 2025، تقدم المبعوث الأمريكي لشؤون الرهائن، آدم بولر، بمقترح لحركة حماس يتضمن إطلاق سراح أسير يحمل الجنسية الأمريكية وأربعة جثامين إسرائيليين، مقابل تعهد إسرائيل بالدخول في المرحلة الثانية من الاتفاق. حماس وافقت مبدئيًا على العرض، مشترطة التزامًا واضحًا بتنفيذ البنود التالية من الصفقة. لكن إسرائيل رفضت العرض كليًا، واعتبرته “غير متوازن”، ثم دفعت عبر اللوبي الإسرائيلي في واشنطن نحو إقالة آدم بولر من منصبه واستبعاده من ملف التفاوض، وهو ما تحقق بالفعل لاحقًا.
أُسند الملف بعدها إلى مبعوث أمريكي جديد هو ستيف ويتكوف، الذي قدّم طرحًا جديدًا تمثل في إطلاق نصف الأسرى الأحياء ونصف الجثامين مقابل تهدئة مؤقتة لمدة خمسين يومًا فقط، دون التزام بأي مرحلة ثانية أو حديث عن وقف نهائي للعدوان. وقد اعتُبر هذا المقترح من قبل المقاومة محاولة مكشوفة لسحب ورقة الأسرى – وهي الورقة الوحيدة التي بقيت في يد الفصائل – مقابل “هدوء بلا مقابل”، ينتهي بعودة الاحتلال إلى الإبادة الجماعية بعد عودة أسراه.
هذا الانقلاب في المقاربة التفاوضية لا يعد تفصيلًا عابرًا، بل نقطة تحول أساسية في مسار الهدنة، إذ كشفت المقترحات الأمريكية المعدّلة أن إسرائيل لم تكن تنوي أصلًا المضي في تنفيذ الاتفاق، بل كانت تسعى لإعادة هندسة شروطه بما يتوافق مع استراتيجيتها في غزة، لا سيما بعد أن استردت عددًا من أسراها الأحياء ورفات قتلاها. ومن هنا، بدأ مسار التفكيك العلني لبنود الاتفاق، عبر ربط استكمال التبادل بملفات أمنية غير منصوص عليها، مثل نزع السلاح المقاومة وضمانات أمنية دائمة لإسرائيل، واستبعاد كلي للمرحلتين الثانية والثالثة. إذ انتقل الاحتلال من تكتيك المماطلة داخل النصوص إلى استراتيجية إسقاط النص بالكامل عبر التفاوض البديل، وتحويله إلى “صفقة من طرف واحد”، لا تحفظ للفلسطينيين أي حقوق سياسية أو إنسانية.
إرهاصات التوجه الإسرائيلي للعودة للحرب
خلال الهدنة كانت هناك العديد من المؤشرات والإرهاصات والتصريحات الإسرائيلية التي تشي بوجود نية إسرائيلية لخرق الاتفاق والعودة للحرب. وقد تنوعت هذه الإرهاصات بين استعدادات عسكرية وتصريحات رسمية، علاوة على تعطيل المفاوضات. ففي بداية يناير/كانون الثاني 2025، جاء أول مؤشرات العودة للحرب من خلال تصريحات نتانياهو، إذ أعلن في 18 يناير في خطاب متلفز أن “إسرائيل تحتفظ بحق استئناف القتال في غزة بدعم أمريكي”، متعهداً بإعادة جميع الأسرى. وفي 23 من الشهر نفسه، صرّح نتنياهو بأن إسرائيل مستعدة لاستئناف الحرب في غزة “في أي لحظة”، مؤكداً أن “خططنا العملاتية جاهزة”. وفي 24 يناير، ألقى نتانياهو خطاباً أمام الكنيست أعلن فيه أن “الهدنة هي وسيلة مؤقتة لتحقيق النصر الكامل. لن تنتهي الحرب قبل أن نحقق أهدافنا: تدمير قدرات حماس، ونزع سلاحها، والسيطرة الأمنية الكاملة على غزة.”
من جانب آخر، أوضح وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش أنه مقتنع تمامًا بأن “إسرائيل ستعود إلى الحرب في غزة فور انتهاء المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار”. وقد وصف الصفقة التي أدت إلى الاتفاق وتبادل الأسرى والمحتجزين بأنها “كارثية وخطيرة على الأمن الإسرائيلي”، مؤكدًا أن عودة العمليات العسكرية ستحدث في بداية مارس/آذار المقبل. وأوضح سموتريتش في تصريحاته أنه قرر البقاء في الحكومة بعد اقتناعه بأن رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو والرئيس الأميركي دونالد ترامب ملتزمان بإزالة حماس كقوة حاكمة من غزة، مشيرًا إلى أن “المحور المعتدل في المنطقة يطالب من إسرائيل، في مناقشات مغلقة، بتدمير حماس بالكامل”. كما ضغط الوزير على نتانياهو لعدم بدء المرحلة الثانية من الاتفاق والعودة للحرب بعد انتهاء المرحلة الأولى، وقد هدد سابقًا بالانسحاب من الحكومة إذا لم يُستأنف القتال.
على خلال شريكه الائتلافي وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير وممثلو كتلة “عوتسما يهوديت” الذين قدموا استقالاتهم احتجاجًا على المصادقة على الصفقة.
بموازاة ذلك، أخذت الاستعدادات العسكرية الإسرائيلية تتصاعد؛ ففي 23 فبراير 2025، أعلن الجيش الإسرائيلي رفع “الاستعداد العملياتي” في المناطق المحيطة بقطاع غزة، وهو ما يعكس تحضير القوات الميدانية لاستئناف القتال. وفي ذات السياق، أشار تقرير نشره موقع “أكسيوس” الإخباري الأميركي إلى نقل إسرائيل لقنابل GBU-72 الخارقة للتحصينات، وهي أسلحة مصممة لاختراق الأنفاق والحصون تحت الأرض، مما أشعل المخاوف من تفاقم الوضع وتصعيد الحرب في غزة. ترافق ذلك مع تصريحات مباشرة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي كتب عبر منصة تروث سوشيال: “يجب إنهاء المهمة، الأسلحة أُرسلت لهذا الغرض. إن لم تُحرر الرهائن الأميركيين، فستفتح إسرائيل جهنم على غزة.”
وتزامناً مع هذه التحركات العسكرية، جاءت ضغوط سياسية مكثفة لتغيير مسار الهدنة؛ ففي 4 مارس 2025، صرح وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر بأن تل أبيب مستعدة للمضي في المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار شرط نزع سلاح حركة حماس بالكامل، مع تهديد صريح بأنه “إذا أردنا العودة فسنفعل.” تعكس هذه التصريحات تحولاً واضحاً من مجرد وقف إطلاق النار إلى سياسة تنطوي على إعداد كامل للعودة للحرب. يُذكر أن هذه التحركات جاءت في إطار سلسلة من الانقسامات الداخلية التي أشعلتها الاحتجاجات والضغوط الناجمة عن فشل العمليات العسكرية في استعادة الأسرى أحياء، مما دفع المؤسسة الأمنية، بتنسيق مع الولايات المتحدة، للضغط على نتانياهو لقبول هدنة مؤقتة رغم الانشقاقات بين المسؤولين.
خطط التهجير خلال الهدنة
كان التطور الأهم في تطورات الأحداث خلال مرحلة الهدنة، هو اللقاء الذي جمع نتانياهو بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 5 فبراير/شباط، الذي طرح خلاله ترامب فكرته لتهجير قطاع غزة، التي عاد وأكدها في مناسبات مختلفة، مروجا لتحويلها لمشروع استثمار عقاري.
تلقّت إسرائيل هذا الطرح كغطاء سياسي دولي، وسرعان ما بدأت بالتعامل معه كجزء من استراتيجيتها الرسمية خلال سريان الهدنة. لم يمر وقت طويل حتى باشرت بخطوات تنفيذية لترجمة هذه الفكرة على أرض الواقع؛ ففي 18 فبراير 2025، أعلن وزير الحرب الإسرائيلي يسرائيل كاتس عن إنشاء “دائرة الهجرة الطوعية” ضمن الوزارة، بهدف تسهيل هجرة سكان قطاع غزة إلى دول ثالثة، حيث تم عرض خطة أولية تشمل تقديم حزمة مساعدات للراغبين في الهجرة، تتضمن ترتيبات للمغادرة عبر البحر والجو والبر. وقد أشار كاتس إلى أن هذه الخطوة تأتي في إطار التزام إسرائيل بالمقترح الأمريكي للسيطرة على القطاع الفلسطيني وتهجير سكانه.
وفي آواخر شهر يناير 2025، أي خلال المرحلة الأولى من الهدنة، صدرت وثيقة عن وزارة الاستخبارات الاسرائيلية نُشرت عبر الإعلام العبري قبل أن يتم سحبها بشكل كامل، ناقشت فيها آليات تشجيع الهجرة من قطاع غزة وأشارت في آخر نقطة أنه “من غير الممكن تنفيذ الهجرة الطوعية من قطاع غزة إلا في ظروف حرب”، ما يعني أن خيار العودة إلى الحرب كان شرطاً ضرورياً من وجهة النظر الإسرائيلية لتنفيذ مخطط التهجير.
خاتمة:
لا تهدف الورقة إلى مناقشة إمكانيات نجاح المخطط الإسرائيلي المعلن، المدعوم أمريكيا، حول التهجير، أو أهداف إسرائيل من عودة الحرب، التي أخذت تُطرح على طاولة المفاوضات من قبيل نزع سلاح المقاومة وإبعاد قادتها وعناصرها وغير ذلك، وإنما هدفت هذه الورقة إلى محاولة فهم التطورات التي جرت خلال مرحلة الهدنة ووضعها في إطار تصور كامل في الجدل الدائر حول الأسباب التي جعلت إسرائيل تعود إلى حرب الإبادة الجماعية، خاصة أن هناك أراء باتت تحمل المقاومة تبعات العودة للحرب بسبب التعثر في المفاوضات وبعض المظاهر التي رافقت عمليات التبادل. غير أن المقصود من ذلك، ليس اتخاذ موقف تبريري دفاعي تجاه تلك الآراء، وإنما وضع النقاش في إطاره الصحيح في محاولة لمواجهة الخطر الوجودي المحدق بالشعب الفلسطيني في قطاع غزة على وجه الخصوص.
إذ لم تتعامل إسرائيل مع اتفاق وقف إطلاق النار كإطار مُلزم بحدوده الزمنية ومضامينه الإنسانية والسياسية، بل كمرحلة مؤقتة تستثمرها في استعادة زمام المبادرة، واستغلال المفاوضات والهدنة في إعادة أسراها وبما يخدم مشروعها الاستراتيجي الأشمل تجاه غزة. لذلك، لا تعد عودة الحرب مفاجِئة أو مرتبطة بفشل تفاوضي جزئي، بل هي نتيجة مباشرة لتوجه استراتيجي يعتبر أن أي تهدئة لا تفضي إلى تحقيق “أهداف الحرب” المعلنة وغير المعلنة، هي هدنة مؤقتة لتحقيق أهداف تكتيكية من بينها إعادة أسرى الاحتلال الذين عجز عن إعادتهم عن طريق الوسائل العسكرية خلال أكثر من عام ونصف من تاريخ الحرب، لتجريد المقاومة من آخر أوراق القوة التي تمتلكها وتعمل على استثمارها لوقف الحرب والانسحاب الإسرائيلي من القطاع ووقف مخطط التهجير.