التصعيد المستمر للاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربيّة، ومشروعه الإستراتيجيّ فيها
![](https://vision-pd.org/wp-content/uploads/2025/02/تصعيد-الاحتلال-في-الضفة-موقع-2.png)
حمدي حسين
صعّدت إسرائيل من هجمتها على مدن ومناطق الضفة الغربية بعد التوصّل لاتفاق تهدئة في غزة، وأعلنت عن حملة عسكريّة جديدة في شمال الضفة الغربية أطلقت عليها اسم “السور الحديدي“، وقالت إنّها تسعى من خلالها للقضاء على المقاومة المسلحة. وبالتزامن مع ذلك، قطّع جيش الاحتلال أوصال الضفة الغربية، وأمعن في عقاب الفلسطينيين جماعياً بعرقلة حركتهم واحتجازهم لساعات طويلة، والتنكيل بهم على الحواجز الرئيسة ونقاط التفتيش التي أقامها الجيش، عمدت سلطات الاحتلال إلى وضع بوابات جديدة على مداخل القرى والتجمعات الفلسطينية، كما شنّت سلطات الاحتلال حملات اعتقال ومداهمات في مدن الضفة وقراها، وعملت على منع مظاهر الاحتفال بالأسرى المحررين في صفقة التبادل.
وجاء التصعيد الأخير في الضفة الغربية في إطار مساعي نتنياهو لإرضاء اليمين المتطرف في حكومته الرافض للهدنة وصفقة التبادل في غزة، في حين وصفها البعض بأنها تأتي في إطار محاولات لترسيخ واقع جديد في الضفة الغربية، يصب في سياق مشروع إستراتيجي للاحتلال قائم على ضرورة التغيير الديمغرافي بالضفة ومخططات الضم وتهجير الفلسطينيين منها.
يتناول هذا التقرير تدحرج التصعيد الإسرائيلي بحق الضفة الغربية منذ تولي الحكومة اليمينية مهامها نهاية عام 2022، وتسارعه في ظل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وصولاً إلى التصعيد الأخير فيها بعد التوصل إلى اتفاق الهدنة وتبادل الأسرى بين المقاومة وإسرائيل. كما يتناول التقرير مآلات هذا التصعيد، وعلاقته بأهداف الحكومة اليمينية، وخصوصاً فيما يتعلق بمخطط تهجير الفلسطينيين، ومخطط الضم الاستيطاني.
تدحرج الهجمة الإسرائيلية في الضفة الغربية
شهدت فترة ما بعد تولي الحكومة اليمينية مهامها في كانون أول/ ديسمبر 2022، تصعيداً ميدانيّاً للجيش والمستوطنين بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية، حيث أظهرت الإحصاءات الواردة في تقارير هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، ارتفاعاً في وتيرة انتهاكات الاحتلال عام 2023 وسياساته العدوانية، بالمقارنة مع ذات الفترة من عام 2022، وسجلت ارتفاعاً آخر خلال عام 2024 بالمقارنة مع العامين السابقين، ومن هذه المؤشّرات يمكن ملاحظة ارتفاع وتيرة الاستيطان ومصادرة الأراضي وإقامة البؤر الاستيطانية، والانتهاكات التي يقوم بها الجيش والمستوطنون، والتي تتمثّل بالاعتداءات والاقتحامات وإطلاق النار، وما ينتج عنها من سقوط الشهداء والجرحى، وعمليات الهدم للمنشآت وتجريف الأراضي وقطع الأشجار، وازدياد عدد الحواجز والبوابات.
أبرز انتهاكات الاحتلال في الضفة الغربيّة خلال الأعوام 2022 و2023 و2024
اعتداءات الجيش والمستوطنين | الأشجار التي قطعها الجيش والمستوطنون | عدد الحواجز الدائمة والمؤقتة والبوابات | عدد الشهداء | إخطارات الهدم | عدد المنشآت المهدمة | مساحات جديدة مصادرة (دونم) | بؤر استيطانية جديدة | الانتهاك |
8724 | 10291 | 593 | 230 | 1220 | 715 | 26,424 | 12 | عام 2022 |
12161 | 21731 | 694 | 545 | 1333 | 659 | 50,524 | 18 | عام 2023 |
16612 | 14212 | 890 | 532 | 939 | 903 | 46,597 | 51 | عام 2024 |
وشهدت الضفة تصعيداً أكبر خلال الحرب على غزة، بدأ بقمع التظاهرات المساندة لغزة، وزيادة حملات الاعتقال والاقتحامات، وإقامة الحواجز العسكرية، وفرض القبضة الأمنية عبر عمليات اقتحام ممنهج للقرى والبلدات والمخيمات الفلسطينية، والتنكيل بالمواطنين، وقد وصل عدد الشهداء في الضفة الغربية منذ السابع من أكتوبر 2023 حتى نهاية يناير 2025، إلى 897 شهيداً، وعدد الجرحى إلى أكثر من 6700 جريح، وتم تسجيل أكثر من 13,572 حالة اعتقال، فيما هدم الاحتلال الإسرائيلي حوالي 2168 منشأة، وهجّر حوالي 6729 فلسطينياً.
وفي ذات الوقت، سجلت البيانات الاقتصادية في الضفة الغربية مؤشرات غير مسبوقة نتيجة الحصار الاقتصادي المفروض عليها، لا سيما بعد وقف تصاريح العمال الفلسطينيين في الداخل، وتعمّد إسرائيل حجز عائدات الضرائب (المقاصّة)، التي تجنيها نيابة عن السلطة الفلسطينية بموجب بروتوكول باريس الاقتصادي، وتسعى باستمرار إلى التضييق على الفلسطينيين وخنقهم اقتصادياً، والضغط عليهم من خلال ملفي العمال والمقاصة، فارتفعت نسبة البطالة من حوالي 13% قبل الحرب، إلى 35% نهاية 2024، وانخفض الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد الفلسطيني من نحو 15,635 مليار دولار عام 2022، إلى 10,539 مليار دولار عام 2024، وأشارت تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، إلى توقّع استمرار تراجع الاقتصاد الفلسطيني عام 2025 عبر مجموعة من المؤشّرات.
وبالتزامن مع عمليات الهدم التي ينفّذها الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية، يقوم المستوطنون بمهاجمة التجمعات والقرى الفلسطينية، والاعتداء على السكان بإطلاق النار وحرق الممتلكات وتدميرها، ومنها بعض الهجمات التي استهدفت التجمعات البدوية بهدف تهجير سكانها. كما تعمل سلطات الاحتلال على تهجير الفلسطينيين عبر مجموعة من السياسات، منها تقييد ومنع البناء في المناطق المصنفة (ج) في الضفة الغربية للحد من التوسع العمراني فيها، وتقوم آلياته بتجريف البنى التحتية والمرافق العامة وشبكات الكهرباء والماء والاتصالات، وتخريب المنازل خلال عمليات الاقتحام اليومية، خصوصاً في شمال الضفة الغربية، والتهديد المستمر لأمن الفلسطينيين بهدف تهجيرهم، والتضييق على حركة المسافرين عبر معبر الكرامة، واحتجازهم لساعات طويلة.
وقد سجل مخيم جنين نزوح ما يقارب 20 ألفا من سكانه خلال العمليات الأخيرة التي استهدفته، وأدى الهجوم العسكري الجديد الذي يشنّه الاحتلال الإسرائيلي على المدينة ومخيّمها تحديدًا حتى وقت إعداد هذا التقرير، إلى سقوط أكثر من 33 شهيداً، منهم 19 شهيداً بعد اتفاق الهدنة في غزة، وإصابة أكثر من 50 مواطناً، فيما هدمت سلطات الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 100 منزل في مخيم جنين، ممّا فاقم من تدهور الوضع الإنساني في المخيم. أمّا طولكرم، فقد شن جيش الاحتلال الإسرائيلي عملية عسكرية تستهدف المدينة ومخيماتها، أدت إلى استشهاد خمسة شبان منذ التوصل إلى هدنة في غزة، فيما سجلت طوباس استشهاد 16 فلسطينياً خلال شهر كانون الثاني/ يناير 2025، منهم 11 شهيداً بعد التوصل إلى هدنة في غزة.
مواقف الأطراف من التصعيد الإسرائيلي في الضفة الغربية
ادّعى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، بأن العملية في جنين تأتي لهدف ملاحقة أذرع إيران في “يهودا والسامرة” أي الضفة الغربية، فيما قال وزير المالية وزعيم الصهيونية الدينية “بتسلئيل سموتريتش”، بأن هذه العملية تأتي في إطار حماية المستوطنين في الضفة الغربية، والبالغ عددهم نحو 700 ألف، في حين قال “وزير الدفاع” الإسرائيلي يسرائيل كاتس، بأن العملية في جنين تأتي تطبيقاً لما تعلّمه الجيش من غزة، ولضمان عدم عودة المقاومة إلى مخيم جنين.
أمّا الخارجية الفلسطينية فقد استنكرت العملية الإسرائيلية في مدينة جنين، وقالت إنها تأتي في سياق التهجير المتعمّد للمخيم، وأعلنت السلطة الفلسطينية عن سحب أجهزتها الأمنية من المخيم لتجنّب الصدام مع جيش الاحتلال، وذلك بعد تنفيذ حملة عسكرية على المخيم أدّت إلى مقتل أكثر من 14 فلسطينياً، منهم 6 من عناصر السلطة. وكانت حركتا حماس والجهاد الإسلامي قد أدانتا مهاجمة السلطة الفلسطينية للمخيم، التي مهدت، حسب بيانات الفصائل، لهجوم إسرائيل لاحقاً، وأكدت الفصائل بأن هذا الهجوم الإسرائيلي لن يكسر إرادة الشعب الفلسطيني ومقاومته. ودعت حركة حماس إلى النفير العام في الضفة الغربية، لمواجهة الهجمة الإسرائيلية ضد جنين وطولكرم. وأجمعت الأجنحة المسلحة للفصائل في الضفة الغربية على ضرورة التصدي لعدوان الجيش الإسرائيلي، ومخطط ضم الضفة الغربية. وشدّد بيان مشترك صدر عن القوى الوطنية والإسلامية، على أن المقاومة الشاملة وحشد الطاقات، هو الخيار الأفضل لمواجهة العدوان، داعية إلى التكاتف لمواجهة الاحتلال ومخططاته.
آثار ومآلات التصعيد في الضفة الغربية
يساهم التصعيد الذي تقوم به إسرائيل في الضفة الغربية بشكل عام، وعمليتها العسكرية في شمالها على وجه الخصوص، في خلق العديد من الآثار والمآلات التي تهدّد الوجود الفلسطيني فيها، وتنعكس سلباً على قدرة المواطنين على الصمود، ويمكن حصر هذه الآثار في نقاط عدة أهمها:
أولاً: زيادة معدّلات النزوح الداخلي للفلسطينيين، وما يترتّب عليه من خلق أزمات معيشية واقتصادية: حيث تسعى إسرائيل إلى جعل المخيمات المستهدفة مكاناً لا يصلح للعيش من خلال تدمير البنى التحتية والمباني والمربعات السكنية، وقد ورد هذا الهدف في دعوات سياسيين وقادة إسرائيليين، منهم وزير الحرب “يسرائيل كاتس”، الذي دعا إلى تدمير البنى التحتية في الضفة الغربية كما غزة؛ لزيادة النزوح الداخلي من مناطق المواجهة تجاه مناطق أخرى كما يحدث في جنين. كما تهدف “إسرائيل” عبر سياسة الحواجز وتقطيع أوصال الضفة، إلى دفع الفلسطينيين للنزوح من القرى المصنفة مناطق “ج” وهي التي تشكل ما نسبته 62% من مجمل مساحة الضفة، إلى مراكز المدن، سعيًا نحو وظائفهم أو الدراسة أو غيرها، وفي ذلك تحقيق لهدف إستراتيجي يتوافق مع مشاريع ضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية إلى “إسرائيل” بعد تفريغها من سكانها.
ثانياً: زيادة معدلات التهجير القسري والطوعي للفلسطينيين إلى الخارج، وذلك من خلال سياسة طويلة الأمد بدأت منذ سنوات عدة، عبر زيادة الضغط على الفلسطينيين ميدانياً واقتصادياً، حيث سيؤدي تفاقم الأوضاع الاقتصادية وتراجع مقومات الصمود، إلى سعي جزء من الفلسطينيين للبحث عن فرص للحياة في الخارج، وذلك في ظل توسع الفجوة بين تكاليف المعيشة ونسب الدخل المتدني أو المنعدم للفلسطينيين. وهو الحل الوحيد لعلاج مشكلة الديمغرافيا -من وجهة نظر إسرائيلية- في حدود فلسطين التاريخية، إذ تعاني دولة الاحتلال من زيادة عدد الفلسطينيين على عدد اليهود في مجمل مساحة فلسطين التاريخية منذ عام 2022 بحسب إحصائيات حديثة.
ثالثاً: زيادة الضغط على الحاضنة الشعبية للمقاومة في شمال الضفة الغربية، وذلك عبر التدمير الممنهج للبنى التحتية والخدمات، والحصار العسكري والاقتصادي، وضرب القطاعات الإنتاجية، وعلى رأسها التجارة، وتدمير الورش الصناعية في جنين وطولكرم وطوباس، في محاولة لخلق ضغط شعبي داخلي، وتوجيهه ضد المقاومة ونهجها.
رابعاً: السعي لحسم المواجهة عبر إعلان ضم الضفة الغربية، وذلك في ظل تصريحات اليمين المتطرف في حكومة نتنياهو، الذي ينسجم مع إدارة ترامب، ويقف خلف الإجراءات التي نفذتها إسرائيل على الأرض في الضفة الغربية، والتي من شأنها أن تصب في صالح هذا المخطط، ومنها السياسات الجديدة المتعلقة بالتعامل مع المستوطنات، وتسريع الاستيطان، وتثبيت تسمية الضفة الغربية بـ “يهودا والسامرة”.
خاتمة:
تسعى إسرائيل إلى تركيز هجومها على الضفة الغربية في هذا التوقيت؛ للتأكيد على مركزية الضفة ورمزيتها بالنسبة للمشروع الصهيوني، وادعاءاته الدينية والتاريخية، التي يصب جوهرها في الضفة الغربية، وتهدف حكومة اليمين إلى حسم الصراع ومستقبله على المدى البعيد، فالضفة الغربية تملك بعدًا جيوسياسياً؛ نظراً لمساحتها وثرواتها، والمشاريع الاستيطانية القائمة فيها، والأطماع المستقبلية المنشودة. وتعمل الحكومة الإسرائيلية عبر مخطّط إستراتيجي لضرب مقوّمات صمود الفلسطينيين في الضفة الغربية عبر سياسة طويلة النفس بدأت منذ سنوات عدة، في سياق مشروع يهدف إلى تغيير ديمغرافي كبير في الضفة، يبدأ من ضم المناطق المعروفة بـ “ج” في الضفة بعد إجبار أكبر عدد ممكن من سكانها على تركها والنزوح داخليًا أو الهجرة خارجيًا. كما تسعى الحكومة الإسرائيلية لاستغلال الوقت في ظل توقف الحرب على غزة خلال المرحلة الأولى من مراحل وقف إطلاق النار، والتي تمتدّ إلى 42 يوماً. وإلى جانب سعيها لإرضاء اليمين المعارض للصفقة في غزة، فإنها تهدف أيضاً إلى ضمان عدم توسع تجربة العمل العسكري في الضفة الغربية كما غزة، ساعية لقتل فرص إمكانية استنساخ التجربة، وكسر الروح المعنوية لمجموعات المقاومة في شمال الضفة الغربية، التي تتلقى الدعم المعنوي والتنظيمي من فصائل المقاومة في غزة. تشكل هذه العملية امتداداً لهجمات شنتها إسرائيل على مخيمات الضفة الغربية في الفترة السابقة، وفشلت في القضاء على المقاومة، خصوصاً في جنين وطولكرم.