عودة ترامب والعلاقة الملتبسة مع السلطة الفلسطينية
د. إياد أبو زنيط[1]
في الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر 2024، صوَّت الناخبون الأمريكيون لصالح المرشح الجمهوري دونالد ترامب رئيسًا جديدًا في الانتخابات الرئاسية الستين للولايات المتحدة. وبذلك يعود ترامب للرئاسة مرة ثانية بعد ولايته الأولى في سنوات (2016-2020). وجاء فوز ترامب في أعقاب حملة رئاسية مضطربة لمنافسته الديمقراطية كاميلا هاريس بحسب كثير من المراقبين. وقد انطوت فترة رئاسة ترامب الأولى على تأثيرات سلبية مباشرة على القضية الفلسطينية بشكل عام، وشهدت انقطاعًا في العلاقة مع السلطة الفلسطينية، نتيجة مسارات اتخذتها الإدارة أمريكية وقتها، مثل طرحها صفقة القرن التي رفضتها السلطة الفلسطينية، وإغلاق مكتب منظمة التحرير في الولايات المتحدة الأمريكية.
تُشكل عودة ترامب للرئاسة مرة أخرى، تحديًا جديًا للسلطة الفلسطينية في كيفية إدارة العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتُحاول هذ الورقة مناقشة التحديات التي تفرضها ولايته الجديدة على السلطة الفلسطينية، وردود الأفعال المتوقعة، في حال تجدد الضغوط الأمريكية على السلطة وتحديدًا في مواضيع الضم وصفقة القرن.
الاستعلاء والتوازن في العلاقة مع السلطة الفلسطينية
يمكن أن تكون نقطة الانطلاق في فهم السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية في عهد إدارة الرئيس دونالد ترامب السابقة بالوقوف على ذلك التوازن المعقد في صنع هذه السياسة بين القواعد الدستورية والاعتبارات السياسية، والخلط بين ما يُمكن اعتباره تفضيلات وأولويات الرئيس في النظام السياسي الأميركي، وبين ما تمليه المؤسسة؛ أي الدولة ومصالحها العليا. وهنا نجد رأيين: الأول، هو اعتبار الإدارة -أي الرئيس وطاقمه بما في ذلك وزارة الخارجية والهيئات ذات العلاقة- المسؤول الأول والأخير عن صنع السياسة الخارجية، وتحديد مصالح الولايات المتحدة الأميركية وتحالفاتها الدولية، والثاني يرى في الإدارة والرئيس مجرد أدوات تنفذ ما تراه المؤسسة الرسمية؛ أي الدولة، ملائمًا لمصالحها.
وللوقوف على فهم العلاقة مع السلطة الفلسطينية، لا بُد من فهم وتحليل أبرز القرارات التي أدت إلى قطع العلاقة مع السلطة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، في فترة ترامب السابقة، ومعرفة إن كانت ضمن ما قرره الرئيس الأمريكي وفريقه بشكل خاص أم ملائمةً لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية حسب ما تراه أجهزة الدولة بشكل عام، وأبرز هذه القرارات تمثلت في نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، باعتبار ذلك إعلانًا واضحًا للشرعية الإسرائيلية، والعزم على تنفيذ صفقة القرن التي قضمت الحقوق الفلسطينية وقوضتها إلى حد صار معها إقامة دولة فلسطينية أمرًا غير ممكنٍ إلّا ضمن الرؤية الأمريكية الإسرائيلية، وكذلك العمل على وقف التمويل للسلطة الفلسطينية، ما أدخلها بأزمة ماليةٍ حادة، ومعاداة الأونروا وتقليص الدعم لها، في خطوة واضحة داعمة للسياسة الإسرائيلية الهادفة إلى تصفية قضية اللاجئين.
تُعد القرارات السابقة، من قبل الإدارة الأمريكية، مساسًا واضحًا بثوابت فلسطينية أساسية، وتُشكل معضلة أمام السلطة الفلسطينية في التعامل معها، ولذا كان من الصعب التعاطي معها من قبل أي طرف فلسطيني كان، سواءً تمثل بمنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة أو أي تيار آخر، ولذا كانت ردود السلطة الفلسطينية رافضة لتلك الأطروحات الأمريكية، وهو ما أكدته التيارات الفلسطينية كافة وقتها.
وفي استعراض للقرارات الأمريكية السابقة، يُلاحظ أنّها، جاءت امتدادًا لفكرة حسم الصراع مع الفلسطينيين، وتنفيذًا للمشروع الصهيوني على الأرض الفلسطينية، ولم يكن ترامب سوى المنفذ لتلك الخطط الموضوعة منذ سنواتٍ طوال، انطلاقًا من حرصه في فترته الرئاسية الأولى على الفوز بأصوات الناخبين للفترة الرئاسية الثانية، وإيجاد حلولٍ بذلك لمشاكله الداخلية، بالتوازي مع وجود رئيس وزراءٍ إسرائيلي (بنيامين نتنياهو) يسعى هو الآخر لتأجيج الصراع هربًا من مشاكله الداخلية، وتنفيذًا للمشروع الصهيوني بمراحله الأخيرة، ومن هنا يُمكن الملاحظة أن خلفية القرارات كانت نابعة من مصالح شخصية، وفي ذات السياق تأخذ بالحسبان مصلحة المشروع الصهيوني، وتتلاءم ورؤية الولايات الأمريكية لحل الصراع لصالح “إسرائيل” في انعكاس واضح لالتزاماتها التي تؤكد عليها طوال الوقت، ومن هنا كانت العلاقة مع السلطة الفلسطينية من قبل أمريكا تُمارس باستعلاء واضح، وتفقد التوازن حتى لو كان مزيفًا كما مارسته الإدارات الأمريكية السابقة.
ولتوقع شكل العلاقة الأمريكية القادمة مع السلطة الفلسطينية، لا بُدّ من طرح تساؤلٍ مهم، يتمثل في كيف ستكون العلاقة مع “إسرائيل” أولّا؟ وتأتي إجابة السؤال من متابعة الحملات الانتخابية الأخيرة للديمقراطيين والجمهوريين، التي تنافس فيها الطرفان للحصول على لقب “أفضل صديق لإسرائيل”، حيث سعى كل طرف للتفوق على الآخر في نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين والتباهي بدعمه غير المشروط لـ “إسرائيل”. ووعد كل طرف بالارتقاء في العلاقة “الخاصة” بين الولايات المتحدة و”إسرائيل” إلى مستويات جديدة غير مسبوقة.
وبالنظر إلى التعيينات في إدارة ترامب الحالية، كتعيين مايك هاكابي سفيرًا للولايات المتحدة في “إسرائيل”، وستيفن ويتكوف كمبعوث خاص إلى الشرق الأوسط. وكلاهما يعرف بتوجهاته الداعمة بشدة لـ “إسرائيل”، حيث يعد هاكابي من أبرز الأصوات الداعمة للاحتلال الاستيطاني تجاه الأراضي الفلسطينية. كما أن تعيين إليز ستيفانيك، التي رشحها ترامب كمندوبة أمريكية لدى الأمم المتحدة، تثير القلق؛ نظرًا لمواقفها المناهضة للنقد الموجه لـ “إسرائيل”؛ ومن المنطقي أن تتزايد مسببات القلق لدى السلطة الفلسطينية، ويُمكن اعتبار تلك التعيينات مؤشرات على حقبة قادمةٍ من الصدام ما بين السلطة الفلسطينية وإدارة ترامب.
احتضان جديد لـ “إسرائيل” وتضييق على السلطة
تعد النزعات التعاقدية النفعية لترامب وابتعاده عن الأيديولوجيا أهم السمات التي تميّزه عن سلفه الرئيس جو بايدن. ففي حين أنّ تفاني بايدن الشخصي للصهيونية دفعه إلى دعم “إسرائيل” دون قيد أو شرط، فإن ترامب سيتصرّف إمّا وفقًا لمصالحه الخاصة، أو وفقًا لمطالب قاعدته المتمثلة في “أمريكا أولًا”. ولربما يغدو ترامب بسبب نهجه هذا غيرَ متحمسٍ لنشر أصول الولايات المتحدة وعساكرها لتحمل كلفة الدفاع عن “إسرائيل” في حروب أبدية لا تعود بالنفع على المصالح الأمريكية.
أمست الإبادة الجماعية التي ترتكبها “إسرائيل” في غزة، وغزوها لبنان، وتهديدها المستمر بحرب أوسع مع إيران، عقباتٍ رئيسةً أمام تحقيق الأهداف المشتركة لترامب وبايدن، والمتمثلة في توسيع اتفاقات أبراهام، وبذلك تُسهم في تقليص النفوذ الأمريكي في المنطقة. بل إن التزام بايدن المتزمت بالدفاع عن “إسرائيل” بأي ثمن قد طغى على أي رغبة في الضغط على نتنياهو لإبرام اتفاقٍ لوقف إطلاق النار، وخفض التصعيد على نطاق أوسع. وفي الوقت نفسه، أشار ترامب مرارًا وتكرارًا إلى أنه يتوقع من “إسرائيل” “إنهاء الحرب” حتى يتمكن من مواصلة سعيه لتحقيق أهدافه الإقليمية الأوسع، بما فيها الجائزة الكبرى المتمثلة في إبرام اتفاق تطبيع بين “إسرائيل” والمملكة العربية السعودية.
ومن الأهمية بمكان إدراك أن إدارتي بايدن وترامب تشتركان في رؤيتهما للشرق الأوسط، وتتخذان من استدامة هيمنة “إسرائيل” أولويةً كُبرى. أمّا الاختلاف بينهما فيكمن في أساليبهما: فبينما سعى بايدن إلى ترسيخ الهيمنة الإسرائيلية تحت ستار الليبرالية والتعددية، فإن ترامب لن يتوانى عن نبذ الدبلوماسية التقليدية لواشنطن وتحقيق الأهداف ذاتها دونما حرصٍ على إخفاء حقيقة تواطؤ الولايات المتحدة مع “إسرائيل”. وعليه، يمكننا أن نتوقع من إدارة ترامب أن تتخذَ تدابير مثل إنهاء العقوبات الرمزية التي فرضها بايدن على المستوطنين الإسرائيليين العنيفين، وزيادة الجهود المبذولة لتحصين “إسرائيل” من المساءلة أمام المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، وتمكينها من تدمير الأونروا. وهذا ما سيضيّق الخناق على السلطة الفلسطينية.
بالرغم من أن الكثير لن يتغير على صعيد أُسس العلاقة “الخاصة” بين الولايات المتحدة و”إسرائيل” التي تتميز بإفلات الأخيرة الدائم من العقاب، إلا أنه من المرجح أن نشهدَ تعزيزًا للسياسات المؤيدة لـ “إسرائيل” التي استمرت خلال إدارتي بايدن وترامب. فما بدأه ترامب أثناء ولايته الأولى – من نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وقطع التمويل عن الأونروا – بنى عليه بايدن في ولايته الرئاسية. والآن، سيستأنف ترامب من حيث انتهى بايدن.
وهكذا، وبينما يأمل الإسرائيليون بأن يساعدهم ترامب على “إتمام المهمة” بخطى أسرع، فإن هذه العملية قد بدأت بالفعل، وستستمر بغض النظر عمَّن يجلس في المكتب البيضاوي. وكثيرون يتجاهلون أن جهود بايدن الدؤوبة للحيلولة دون عزلة “إسرائيل” وإخفاء تواطؤ الولايات المتحدة لربما تكون السبب الحقيقي في تمكين “إسرائيل” إلى الآن من الإفلات من العقاب على الإبادة الجماعية التي ترتكبها، وهذا بحد ذاته يتعارض مع نهج السلطة الفلسطينية التي رأت في فكرة الذهاب للمحاكم الدولية أمرًا مهمًا لمحاسبة “إسرائيل”، وحقق نتائج جيدة كان آخرها إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو ووزيره الاحتلال السابق يؤاف غالانت.
سيناريوهات متوقعة للعلاقة مع السلطة الفلسطينية
بناءً على ما سبق، هنالك ثلاثة سيناريوهات متوقعة لأشكل العلاقة بين السلطة الفلسطينية والإدارة الأمريكية في المرحلة المقبلة، يتمثل الأول في السعي إلى تحقيق استقرار إقليمي في المنطقة إذا ما أُخِذَ بالحسبان أن ترامب سيعمل بفكرة “أمريكا أولًا”، وهذا السيناريو ستتوسط فيه أمريكا لتحقيق استقرار إقليمي، مرتبط بإنهاء الحرب على غزة، ويصب في مصلحة “إسرائيل”، وقد يكون دون تحقيق تقدم سياسي، لكنه على الأقل يجنب السلطة الفلسطينية فكرة قطع الدعم عن الأونروا، وقطع أموال المساعدات، مما قد يفتح المجال لإعادة إعمار قطاع غزة.
أما السيناريو الثاني، فيمكن أن يتم بتوسط الولايات المتحدة لإنجاز استقرار إقليمي في المنطقة، مع تنفيذ اتفاقيات أبراهام، وإنجاز فكرة التطبيع مع السعودية، وهذا السيناريو سيضع السلطة الفلسطينية في موقف يتطلب ردود فعل حذرة في التعامل مع دولة عربية على علاقة جيدة بإدارة ترامب، وذات ثقل إقليمي في المنطقة، فالسلطة من جهة ترفض فكرة العودة إلى صفقة القرن، ومن جهة أخرى قد تتزايد الضغوط لتنفيذ اتفاق إقليمي، وفي ظل العدوان على غزة، ومحاولة التوصل إلى اتفاق بشان وقف العدوان عليها قد يغيّر ذلك من موقف السلطة الفلسطينية باتجاه الموافقة، إذا ما استطاعت تغيير الشروط المفروضة لتحقيق الاستقرار الإقليمي، كربط الاستقرار بتغييرات وإصلاحات قد تُقدم عليها السلطة الفلسطينية.
أما السيناريو الثالث، فيتمحور في إعطاء “إسرائيل” ضوءًا أخضر من قبل إدارة ترامب لتنفيذ مخططاتها وتفويضها لإنجاز فكرة الضم، وتقويض المؤسسات الفلسطينية، والتخلي عن فكرة السلام، أو الاستقرار الإقليمي، وهذا يعني إصرارًا على تدمير السلطة الفلسطينية، ومن الطبيعي أن تكون ردود الفعل الفلسطينية رافضةً بالمجمل لهذا السيناريو.
الخاتمة
في كل الأحوال، سيتعين على الفلسطينيين أن يستعدوا لفترة رئاسية متقلبة وغير متوقعة. فبعد مرور عام على المشاركة النشطة لإدارة بايدن في الإبادة الجماعية في غزة، والتي تجاوزت النظام الدولي الذي تقف على رأسه الولايات المتحدة منذ قرابة قرنٍ من الزمان، قد تتغير المعايير الأمريكية المتبعة في التعامل مع العالم مع قدوم ترامب، ولن يكون التعامل مع القيادة الفلسطينية استثناءً، وستفرض شروط وقيود إضافية على السلطة قد تدفعها عمليًا لإنجاز إصلاحات حقيقية في البنى والهياكل التنظيمية، وسياسات المؤسسات الفلسطينية، للتوصل إلى فترة من الاستقرار، خاصة بعد العدوان الأخير على قطاع غزة، وما يفرضه ذلك من تحديات وقيود جديدة وتكبيل لحرية الحركة في التعامل مع الإدارة الأمريكية.
[1] – باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الإستراتيجية، وأستاذ الدراسات المستقبلية في جامعة الاستقلال.