مسار محاكمة إسرائيل دوليًا في أعقاب السابع من أكتوبر

محمد يوسف/ تنزيل التقرير

شهد تعاطي الهيئات القضائية الدولية مع الانتهاكات الإسرائيلية تحولًا كبيرًا في أعقاب السابع من أكتوبر، ولأول مرة منذ قيام “إسرائيل” عام 1948 وحتى يومنا هذا، يتم وضع كيان الاحتلال في قفص الاتهام لدى محكمة العدل الدولية كمُدعى عليه. وقد أخذت دولة جنوب إفريقيا زمام المبادرة، وامتلكت من الشجاعة والخبرة القانونية ما يمكنها من تحضير ملف قانوني متكامل، مستندة في ذلك إلى تجربتها الطويلة في النضال ضد نظام الفصل العنصري، ووضعت إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية كمتهم بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. واستطاعت الدفوع الجنوب إفريقية تحقيق الأساس الموضوعي الكافي ليتم قبول الدعوى والنظر فيها أمام محكمة العدل الدولية. ولا تزال القضية قيد النظر أمام المحكمة، وحسب خبراء قانونيين وسياسيين، منهم المنسق العام للمرصد الحقوقي لجرائم الحرب في غزة فيصل فولاذ، وكذلك السياسية الأيرلندية والعضو في البرلمان الأوروبي كيلر دالي، فإنّ لدى المحكمة من الأدلة الكافية والأساس الموضوعي المعقول، الذي سيجعلها تصدر حكمًا بإدانة إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة. ومن المهم الإشارة إلى أن محكمة العدل الدولية هي أعلى هيئة قضائية دولية مستقلة في العالم، وأي قرارات بالإدانة قد تصدر عنها ضد “إسرائيل”، سيكون لها تأثير وتبعات على المدى البعيد، كما أن قراراتها ملزمة وواجبة التنفيذ.

شهدت المرحلة التالية لدعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل، تسارعًا غير مسبوق في إطار ملاحقة “إسرائيل” على الساحة الدولية، حيث أصدرت محكمة العدل الدولية في 19 تموز/ يوليو هذا العام رأيها الاستشاري (Advisory opinion)، الذي اعتبر الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية غير شرعي، وأعلنت المحكمة الجنائية الدولية أنها بصدد إصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه، وعدد من المسؤولين المتورطين بجرائم الحرب والإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، هذا التسارع لم يكن ليحصل لولا المبادرة الجنوب إفريقية.

يدرك خبراء القانون الدولي والمطلعون على سير التقاضي في محكمة العدل الدولية، أن أي حكم قضائي قد يصدر عن المحكمة، قد يحتاج لسنوات من جمع الأدلة والتحقيق، والمداولات الشفهية والكتابية، والردود والردود المضادة، قبل أن يصدر الحكم النهائي، فكيف لو كانت القضية ترتبط بجريمة الإبادة الجماعية، والتي يسميها البعض بأم الجرائم؟ يُذكر أن المحكمة قد أشارت في قرارها الصادر في 26 يناير بخصوص التدابير المؤقتة ( الفقرة 31-32)، التي عقدت بعد الاستماع لدفوع الطرفين، بأنها تمتلك الاختصاص القضائي الأولي prima facie jurisdiction للنظر باتهامات جنوب إفريقيا “لإسرائيل” بارتكاب جرائم إبادة جماعية في قطاع غزة تحت المادة التاسعة من اتفاقية منع الإبادة الجماعية، ورفضت طلب إسرائيل بإلغاء الدعوى لعدم الاختصاص.

وفي حين أن المسار القانوني يحتاج بطبيعة الحال بعض الوقت، فإن قيام دول أخرى بالانضمام لهذا المسار القضائي، يعزز من فاعليته وفرص نجاحه، حيث سيسمح انضمام تركيا مؤخرًا بتقديم أدلة ودفوع قانونية، في إطار إثبات ارتكاب إسرائيل لجريمة الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني. وقد قدمت تركيا طلبًا رسميًا للانضمام إلى الدعوى في آب/ أغسطس 2024، مستندة إلى المادة 63 من نظام محكمة العدل الدولية، والتي تمنح الدول حقًا غير مشروط للانضمام إلى القضايا التي تتعلق بتفسير اتفاقيات دولية معينة، بناء على  إخطار مسبق من الدول التي رفعت القضية.

  يناقش هذا التقرير النشأة التاريخية للمحاكم الدولية، ودورها في حل النزاعات والصراعات الدولية، ويكشف سياسة إسرائيل التاريخية في الإفلات من العقاب، وسبل التصدي لها، كما يسلط الضوء على تعاطي السلطة الفلسطينية مع مسار ملاحقة إسرائيل على الصعيد الدولي كبديل عن المفاوضات، وموقف الفصائل الأخرى منه، وختامًا يناقش التقرير مآلات ومستقبل مسار محاكمة إسرائيل دوليًا، ومدى تأثيره على مستقبل العملية التحررية، واستعادة حقوق الشعب الفلسطيني المسلوبة.

نشأة المحاكم الدولية ومساراتها

تعود نشأة المحاكم الدولية إلى بدايات القرن العشرين، حيث ظهرت الحاجة إلى وجود هيئات قضائية دولية لحل النزاعات بين الدول بطرق سلمية. وفي وقتنا الحالي توجد ثلاثة مسارات أساسية للتقاضي وحل النزاعات على الصعيد الدولي، مسار محكمة العدل الدولية (كانت تسمى سابقًا المحكمة الدائمة للعدل)، ومسار المحكمة الجنائية الدولية، ومسار التحاكم للقضاء الوطني والمحاكم المحلية.

أولًا محكمة العدل الدولية:

أولى هذه المحاكم كانت المحكمة الدائمة للعدل الدولي(Permanent Court of International Justice)، التي تأسست عام 1922 في لاهاي واستمرت بالعمل حتى عام 1946. كانت المحكمة الدولية الدائمة للعدل ملحقة بعصبة الأمم (تأسست عصبة الأمم في أعقاب مؤتمر باريس 1919 الذي أعلن نهاية الحرب العالمية الأولى، وتحل الأمم المتحدة اليوم مكان عصبة الأمم)، وكان الهدف من إنشاء المحكمة الدائمة للعدل الدولي هو تسوية النزاعات بين الدول بناءً على القانون الدولي، لكنها توقفت عن العمل خلال الحرب العالمية الثانية لتحل محلها محكمة العدل الدولية (ICJ) عام 1945 كجزء من ميثاق الأمم المتحدة. وتتألف المحكمة من 15 قاضيًا تنتخبهم الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن، وتعمل المحكمة كهيئة قضائية دولية للفصل في النزاعات بين الدول من جهة، وتعمل من جهة أخرى كهيئة استشارية تقدم الفتوى القانونية في القضايا التي تحيلها إليها الجمعية العامة للأمم المتحدة، بناءً على طلب أحد الدول الأعضاء في الجمعية. وبينما يتمتع الحكم القضائي الصادر عن المحكمة الدولية بالصفة الملزمة (Binding)، فإن الرأي الاستشاري (Advisory opinion) يفتقر لذلك ويُعتبر غير ملزم (Non-Binding)، حيث إنه يشكل أداة ضغط سياسية، وأساسًا قانونيًا قويًا يمكن الاستناد إليه والبناء عليه مستقبلًا في إطار أي دعاوى أو محاكمة قد تخص نفس الموضوع.

وتعتبر محكمة العدل الدولية محكمة دول وكيانات سياسية، وجميع الدعاوى التي تطرح أمامها هي خلافات بين الدول، وتُصدر أحكامها ضد الدول ككيانات سياسية، ولا تُصدر أحكامها ضد الأشخاص بغض النظر عن صفتهم الرسمية كأصحاب قرار. ووفق المادة 36 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، فإن التحاكم أمام المحكمة هو تحاكم اختياري، أو مبني على تفويض مسبق للمحكمة، حيث تنص المادة 36 على ما يلي: “يشمل اختصاص المحكمة جميع القضايا التي تحيلها الأطراف إليها، وجميع المسائل المنصوص عليها بشكل خاص في ميثاق الأمم المتحدة، أو في المعاهدات والاتفاقيات النافذة”. لذلك لا تستطيع دولة أن تحيل خلافًا ناجمًا عن انتهاك لقواعد القانون الدولي أمام محكمة العدل الدولية، دون موافقة الطرف الآخر في النزاع.

ويمكن أن يكون التحاكم مبنيًا على السلطة التي مُنحت لمحكمة العدل الدولية مسبقًا، بناءً على مادة معينة في اتفاقية دولية، للنظر في أي خلاف محتمل قد ينشأ بين الدول الأعضاء حول تفسير إحدى مواد هذه المعاهدة، وهذا هو المسار الذي سلكته جنوب إفريقيا في دعوتها أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل بارتكابها الإبادة الجماعية، وبما أن كلا من “إسرائيل” وجنوب إفريقيا أعضاء في اتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948، وبناء على المادة التاسعة التي تنص على أنه “يمكن لأي من الأطراف المتعاقدة أن يعرض على محكمة العدل الدولية النزاعات التي تنشأ بين الأطراف بشأن تفسير أو تطبيق أو تنفيذ هذه الاتفاقية، بما في ذلك النزاعات المتصلة بمسؤولية دولة ما عن الإبادة الجماعية، أو عن أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة.” وهي المادة نفسها التي استخدمتها أوكرانيا ضد روسيا في قضيتها التي أحالتها لمحكمة العدل الدولية، واتهمت روسيا بارتكاب إبادة جماعية.

وقد أصدرت محكمة العدل الدولية منذ تأسيسها إلى اليوم، رأيين استشاريين يرتبطان بالقضية الفلسطينية، الأول هو الرأي الاستشاري بخصوص شرعية جدار الفصل العنصري، والذي صدر في عام 2004، وأفاد بعدم شرعية الجدار، واعتبره مخالفا للقانون الدولي. والرأي الاستشاري  الآخر هو ما صدر مؤخرًا في 19 تموز/ يوليو من هذا العام،  فيما يتعلق بشرعية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، حيث اعتبرته محكمة العدل الدولية غير شرعي، وجاء في نص القرار: “أن على الأمم المتحدة، وبشكل خاص الجمعية العامة، ومجلس الأمن، النظر في الطرق المحددة والإجراءات الإضافية اللازمة لوضع حد في أسرع وقت ممكن للوجود غير القانوني لدولة إسرائيل في الأرض الفلسطينية المحتلة.” هناك أيضًا قضية الإبادة الجماعية التي تقدمت بها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل، والتي اتُهمت فيها الأخيرة بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، ولا تزال هذه الدعوى قيد البحث، ويتوقع أن تصدر المحكمة قرارًا يدين إسرائيل في نهاية المطاف.

ثانيًا المحكمة الجنائية الدولية:

المسار الثاني في التحاكم إلى القضاء الدولي هو مسار المحكمة الجنائية الدولية، وهي محكمة تختص بمحاكمة الأشخاص لا الدول، وتعتبر محكمة ناشئة مقارنة بمحكمة العدل الدولية، حيث تأسست الجنائية الدولية في عام 2002 بموجب ميثاق روما الأساسي لعام 1998. وتختص المحكمة وفقًا للمادة الخامسة من نظام روما الاساسي1998، بمحاكمة المتهمين بارتكاب أربعة أنواع من الجرائم: جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجريمة الإبادة الجماعية، وجريمة العدوان. ولا تتمتع المحكمة الجنائية الدولية بالاستقلالية القضائية والفاعلية التي تتمتع بها محكمة العدل الدولية، حيث تخضع دائمًا لضغوطات سياسية من قبل الدول الكبرى، ولا سيما التي توفر لها الدعم والمساهمة المالية، وقد أطلق عليها العديد من المفكرين والقانونيين اسم محكمة إفريقيا، نظرًا لأن معظم القضايا التي تنظر بها، ولوائح الاتهام التي أصدرتها، تتعلق بأشخاص ومسؤولين اتهموا بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في القارة الإفريقية، بينما يتم صرف النظر عن اتهامات قد تدين القادة الغربيين، والأمريكيين، والإسرائيليين.

 من الواجب ذكره هنا أن السياسة التي انتهجتها المحكمة الجنائية الدولية فيما يتعلق بالجرائم التي ارتكبتها إسرائيل بحق الفلسطينيين، قد تغيرت، وشكّل القرار الذي أعلنته المحكمة الجنائية الدولية في شباط/ فبراير2021 بإعلان اختصاصها القضائي للنظر بالجرائم التي ترتكب في الأراضي الفلسطينية المحتلة، نقطة تحول بارزة في هذ السياق، كما أن قضية الإبادة الجماعية التي تقدمت بها جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل، شجعت المحكمة الجنائية الدولية على اتخاذ إجراءات مماثلة، بنيتها الإعلان عن إصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس وزراء إسرائيل الحالي بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه يواف غالانت، وآخرين ممن قد يثبت تورطهم بارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وجريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة. ولكن نقطة الضعف التي تحكم قرارات المحكمة الجنائية الدولية، هي الضغط السياسي الذي قد تتعرض له، ومثال ذلك الضغط الذي تعرض له المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان (البريطاني) من قبل حكومة بلده وساسة غربيين، لإلغاء أو تأجيل إصدار مذكرات الاعتقال بحق قادة الاحتلال وجيشه، ولكن ما لبث هذا الموقف أن تغير بعد الضغط الشعبي من قبل البريطانيين أنفسهم على حكومة بلادهم، واشتداد حدة المجازر الصهيونية بحق الأبرياء قي قطاع غزة.

ثالثًا التحاكم للقضاء الوطني:

المسار الثالث هو مسار التحاكم للقضاء الوطني، حيث تسمح بعض الدول الغربية بمقاضاة الأشخاص المتورطين بانتهاكات لحقوق الإنسان، كقانون ماغنيتسكي في الولايات المتحدة الأمريكية، الذي يسمح للقضاء الأمريكي بمحاكمة الأجانب المتورطين بانتهاكات لحقوق الإنسان، وكذلك بعض المحاولات في كل من بلجيكا وبريطانيا لمقاضاة قادة الاحتلال من الذين تورطوا في ارتكاب جرائم حرب خلال معركة الفرقان في عام 2008، إلى أن وصل الأمر بضباط الاحتلال من المتورطين والمشتبه بارتكابهم جرائم حرب، إلى تأجيل رحلاتهم الرسمية إلى بريطانيا خوفًا من الاعتقال.

“إسرائيل” وتجاهل القرارات الدولية

تاريخيًا، ومنذ تأسيس الكيان الصهيوني في عام النكبة 1948، لم يلتزم الأخير بأي من القرارات الدولية، واستفاد دومًا من غطاء الفيتو الأمريكي، الذي جعل من سياسة الإفلات من العقاب حجر الزاوية في سياسة “إسرائيل” في مواجهة القرارات الدولية التي تصدر ضدها. حتى 18 كانون الأول/ ديسمبر 2023، استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية حق الفيتو 45 مرة لحماية “إسرائيل” من أي قرار قد يدينها، منها مرتان بعد السابع من أكتوبر 2023، مرة لرفض وقف إطلاق النار الذي قدمت مقترحه الجزائر في مجلس الأمن في شباط/ فبراير 2024،  ومرة  ثانية لإجهاض حصول فلسطين على العضوية الدائمة في الأمم المتحدة، وذلك في التصويت ضد القرار في مجلس الأمن في 18 نيسان/ إبريل من هذا العام أيضًا، على الرغم من أن 12 عضوًا من أعضاء مجلس الأمن صوتوا لصالح القرار، وامتنعت دولتان هما سويسرا وبريطانيا.

تجاوز عدد القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، التي أدانت “إسرائيل” ولم تلتزم بها الأخيرة المائة قرار، بداية بقرار التقسيم رقم 181 لعام 1947، وليس انتهاءً بقرار مجلس الأمن رقم 2334، الذي صدر في عام 2016 وطالب إسرائيل بإنهاء الاستيطان والانسحاب من الأراضي التي احتلتها عام 1967.

هناك قائمة طويلة من الأمثلة على التعنت الإسرائيلي وتجاهل القرارات الدولية، حيث أدانت الجمعية العامة للأمم المتحدة “إسرائيل” 14 مرة خلال عام 2023 فقط. وفي كل مرة كان يصدر قرار، سواء من مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة يدين “إسرائيل”، كانت الأخيرة تعمد إلى زيادة نشاطها غير القانوني، عبر زيادة المستوطنات وهدم منازل الفلسطينيين، وتشديد القصف والتدمير وعمليات الإبادة الجماعية، كما حدث ولا يزال يحدث في العدوان الحالي على قطاع غزة.  ووصل الحد بـ “إسرائيل” على لسان رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، إلى وصف طلب جنوب  إفريقيا من محكمة العدل الدولية بالنظر في قضية الإبادة الجماعية ضد إسرائيل بـ “بالمنافق والكاذب“، وفي مناسبة أخرى طالب ممثل “إسرائيل” السابق في الأمم المتحدة غلعاد اردان بمسح بناء الأمم المتحدة عن وجه الأرض، كما قدم الكنيست في مايو المنصرم مشروع قرار يدعو فيه لتصنيف الأونروا منظمة إرهابية. وانتقد نتنياهو نية المحكمة الجنائية الدولية لإصدار مذكرة اعتقال بحقه، بأنه يوم أسود في تاريخ العدالة. كما اعتبر نتنياهو قرار محكمة العدل الدولية الاستشاري بعدم شرعية الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، بأنه سخيف. جميع هذه المعطيات وردّات الفعل تجاه القرارات الدولية، تؤكد على طبيعة العقلية الإسرائيلية المتعالية في تعاطيها مع القانون الدولي، حيث تعتبر نفسها فوق القانون، مستفيدة من الحصانة الأمريكية والغربية اللامتناهية. لماذا إسرائيل نظام فوق القانون؟.

الرد المطلوب على التعنت “الإسرائيلي”

 أحد الأسباب الرئيسة التي جعلت “إسرائيل” تتمادى في سياسة الإفلات من العقاب، وتجاهل القانون الدولي والقرارات الدولية، هو غياب الإجراءات العقابية من قبل المجتمع الدولي خارج نطاق مجلس الأمن، لانعدامها في إطار مجلس الأمن بسبب الفيتو الأمريكي. ويمكن الإشارة إلى بعض هذه الإجراءات من قبيل قطع العلاقات الدبلوماسية، والتجارية، والتبادل العلمي والثقافي، والتعاملات البنكية والمصرفية، وحتى التمثيل على الصعيد الفني والرياضي. ويمكن لهذه الأدوات لو طبقّت، مجتمعة أو منفردة، أن تردع “إسرائيل” عن التمادي في غطرستها في إطار تعاملها مع القانون الدولي.

 إن القرار بمقاطعة “إسرائيل” يستند لأساس قانوني قوي جاء في المادة 41 من طرح المسؤولية الدولية للدول الناشئ عن الفعل غير المشروع دوليًا 2001، حيث تنص هذه المادة على ما يلي: “تتعاون الدول في سبيل وضع حد، بالوسائل المشروعة، لأي إخلال خطير بالمعنى المقصود في المادة، ولا تعترف أي دولة بشرعية وضع ناجم عـن إخلال خطير بالمعنى المقصود في المادة 40، ولا تقدم أي عـون أو مساعدة للحفاظ على ذلك الوضع”. وبذلك يترتب على الدول في سياق هذه المادة التزامان: إيجابي وسلبي، يتمثل الالتزام السلبي بعدم الاعتراف بشرعية أي وضع ناجم عن إخلال خطير لقاعدة من قواعد القانون الدولي، كاستمرار إسرائيل باحتلال الأراضي الفلسطينية، وتهجير الفلسطينيين، وارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، وغيرها. فجميع الإجراءات التي تقوم بها إسرائيل في هذا السياق، يجب ألا يتم تبريرها أو الاعتراف بها، بينما يتمثل الالتزام الإيجابي، وهو الأهم في هذا السياق، بعدم تقديم أي عون قد يساعد في الحفاظ على الوضع الموجود، وبالفعل هذا هو المقصود بالمقاطعة، إذ إن قطع جميع أشكال التمثيل الدبلوماسي، والاقتصادي، والعلمي والثقافي يسهم في عدم تقديم يد العون للاحتلال للاستمرار بارتكاب جرائمه وتجاهله للقانون الدولي. وتعتبر المادة 41 من طرح المسؤولية الدولية للدول الناشئ عن الفعل غير المشروع، حجر الزاوية لإعطاء حملات المقاطعة اليوم شرعية قانونية، وتقديمها كمسؤولية قانونية دولية يجب على الدول أن تلتزم بها في إطار تطبيق القانون الدولي، وردع الدول المتورطة بالانتهاكات.

إن مسؤولية وضع حد لسياسة إسرائيل في الإفلات من العقاب، لا تقع على عاتق المجتمع الدولي فحسب، بل يجب على الجانب الرسمي الفلسطيني الممثل بمنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية، أن يتخذ خطوات عملية في إطار ملاحقة الاحتلال وقادته قضائيًا، ومحاسبتهم على الجرائم التي ارتكبوها على مدار 76 عامًا بحق الشعب الفلسطيني. ورغم أن السلطة الفلسطينية سلكت هذا المسار متأخرة، إلا أن أولى الخطوات العملية التي اتخذتها السلطة في هذا الإطار، كانت في المرحلة التي تلت معركة الفرقان عام 2008، وصدور تقرير ريتشارد غولدستون الذي اتهم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع عزة، والذي قرر مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة تأجيل التصويت عليه بطلب من السلطة الفلسطينية، ووقعت بذلك في شرك المفاوضات مرة أخرى، حيث تلقت وعودًا من الإدارة الامريكية بالضغط على المسؤولين الإسرائيليين لإحياء العملية التفاوضية في حال تم تأجيل التصويت على التقرير. وقد أدركت السلطة الفلسطينية بعد ذلك خطأها، وإن لم تعترف بشكل رسمي بعدم جدوى المسار التفاوضي مع “إسرائيل”، وأصبحت تسعى إلى ملاحقة الاحتلال في المحافل والمحاكم الدولية، كجزء من استراتيجيتها لإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية.

ومن الأمثلة البارزة على هذا التوجه، هو طلب فلسطين الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية في عام 2009، وقبول عضويتها في عام 2015. وما رافق ذلك من خطوات مهمة تتمثل بحصول فلسطين على صفة مراقب في الأمم المتحدة في عام 2012، وانضمامها للعديد من المنظمات الدولية كاليونيسكو والإنتربول الدولي، جميع هذه الخطوات عززت من حضور فلسطين في الساحة الدولية، وزادت من فرص ملاحقة إسرائيل على الصعيد الدولي. وبعد انضمام فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية، قدمت السلطة الفلسطينية شكاوى ضد إسرائيل تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك الاستيطان والهجمات العسكرية على غزة. وفي عام 2021، قررت المحكمة الجنائية الدولية أن لها اختصاصًا قضائيًا على الأراضي الفلسطينية المحتلة، مما يفتح الباب أمام تحقيقات محتملة في هذه الجرائم.

تختلف نظرة الأطراف الفلسطينية الأخرى لهذا المسار. حيث تدعم حركة حماس بشكل عام، الجهود القانونية الدولية ضد إسرائيل، لكنها تنتقد السلطة الفلسطينية أحيانًا لعدم اتخاذها خطوات أكثر حزمًا على الأرض. من ناحية أخرى، رحبت عدد من الفصائل والقوى الوطنية الفلسطينية بالقرارت الصادرة عن محكمة العدل الدولية ولكنها في الوقت ذاته حذرت من الالتفاف عليها، ورأت بعض الفصائل، كحركة الجهاد الإسلامي بأن هذه القرارت غير كافية ولكنها ضرورية لتعرية الكيان الصهيوني على المستوى القانوني. في السياق ذاته وفي إطار الجهود الوطنية الفلسطينية لإيقاف الإبادة الجماعية التي ترتكبها “إسرائيل” بحق أبناء الشعب الفلسطيني، صدرت دعوات لإصلاح السلطة الفلسطينية ومنها دعوة القيادي في حركة فتح وعضو المجلس الثوري للحركة وأستاذ العلاقات الدولية بالجامعة العربية الأمريكية جمال حويل الذي أكد بأن إصلاح السلطة لفلسطينية مطلب ضروري وشدد على أن الدعوة إلى الوحدة، والعمل على مشروع سياسي يجب أن يكون جزءًا من استراتيجية شاملة، تشمل المقاومة الشعبية والسياسية.

وفي حين أن الدعم الدولي هو عامل آخر يؤثر على هذا المسار، إلا أن الولايات المتحدة، التي تعتبر حليفًا قويًا لإسرائيل، وتعارض بشدة أي جهود لملاحقة إسرائيل في المحافل الدولية، وتستخدم نفوذها في مجلس الأمن لمنع تمرير قرارات تدين إسرائيل. هذا الدعم الأمريكي يعقّد جهود السلطة الفلسطينية، لكنه لا يمنعها من مواصلة السعي لتحقيق العدالة الدولية.

وإذ يمكن اعتبار الملاحقة القانونية لإسرائيل على الجرائم المرتكبة في غزة بشكل خاص، وفلسطين بشكل عام، من أهم الوسائل لتعزيز عزلة دولة الاحتلال الدولية وتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني، لكن يُعاب على هذا المسار، على أهميته، بأنه قد يستغرق وقتًا طويلًا، وقد يصطدم بالعديد من العقبات على شكل ضغوط سياسية وعقوبات من قبل الداعم الأمريكي والغربي؛ لضمان إفلات دولة الاحتلال من العقاب. ورغم أن هذا المسار القانوني يواجه تحديات كبيرة، إلا أن استمرار الضغط القانوني والدبلوماسي يمكن أن يؤدي على المدى البعيد إلى نتائج ملموسة.

وأخيرًا..

تتمثل التحديات التي قد تواجه مسار المحكمة الجنائية الدولية، بعدم تعاون إسرائيل مع المحكمة والمحققين؛ لكونها دولة غير عضو في المحكمة، ولجوء “إسرائيل” لفتح تحقيق بالجرائم المحتملة في محاكمها الوطنية؛ وذلك لتلافي طرحها أمام المحكمة الجنائية الدولية، إذ إن سلطة المحكمة الجنائية الدولية هي سلطة قضائية تكميلية، أي أنها لا تستطيع النظر في الاتهامات بارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، في حال كانت المحاكم المحلية تنظر في نفس الاتهامات أو الجرائم، وهذا ما فعلته إسرائيل عندما فتحت تحقيقًا ضد عدد من الجنود المتهمين بإساءة معاملة معتقلين فلسطينيين في معسكر سدي تيمان. هذه الادعاءات كانت عبارة عن محاولات لتضليل الرأي العام، ولتعطيل أي مسار تحقيق محتمل في هذه الجرائم أمام الجنائية الدولية.

 ومن هذه التحديات أيضًا، أن المحكمة الجنائية الدولية، ممثلة بمدعيها العام، قد تتعرض لضغوط سياسية من قبل الدول التي تمول المحكمة وتدعمها، لتأخير صدور أي مذكرات اتهام بحق قادة الاحتلال. كما أن المحكمة الجنائية الدولية لا تتمتع بالاستقلالية القضائية التي تتمتع بها محكمة العدل، وهي محكمة ناشئة ولا تتبع للأمم المتحدة، على عكس محكمة العدل الدولية التي تتمتع باستقلالية قضائية واسعة، وتتبع بشكل مباشر للأمم المتحدة، حيث اقترن تأسيسها بظهور الأمم المتحدة باعتبارها جهازها القضائي. لهذه الأسباب، فإن المسار القانوني المتمثل بملاحقة إسرائيل في محكمة العدل الدولية، يشكل حجر الزاوية، سواء على صعيد الدعاوى القضائية كما في حالة دعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل، أو على صعيد الرأي الاستشاري كرأي المحكمة بخصوص الجدار العازل، وعدم شرعية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.

وتتمتع قرارات محكمة العدل الدولية بالصفة الإلزامية وإن افتقرت لأدوات التنفيذ، كما أن الرأي الاستشاري يمثل أداة ضغط سياسي كبير، وقيمة قانونية عالية يمكن البناء عليها في المستقبل، والاستناد إليها في أي دعاوى قضائية مستقبلية قد تدين كيان الاحتلال. لكل ذلك، فإن الدفع فلسطينيًا للمسار القضائي الدولي، والمضي به قدمًا، يشجع دولًا أكثر للانضمام إلى هذا المسار في إطار تحقيق أقسى مراحل الضغط القانوني على الاحتلال، ومحاصرته في كل الميادين القضائية وأروقة المحاكم الدولية.

إضافة إلى ذلك، يجب أن يرتبط المسار القانوني برؤية تحررية واضحة، ضمن خطة عمل منهجية يتم الاستفادة من خلالها من جميع الأوراق القانونية والقضائية المتاحة لمحاصرة الاحتلال وداعميه، وعدم تقديم أي مساومات، أو الانسياق وراء أي دعوات للتفاوض مقابل التنازل عن المسار القضائي، ودعوة جميع دول العالم، انطلاقًا من مسؤوليتهم الأخلاقية والقانونية، إلى الانضمام لهذا المسار القانوني، في إطار إرساء الأمن والسلم الدوليين، وتحقيق العدالة والاستقرار لجميع شعوب المنطقة والعالم، عبر إنهاء الاحتلال، وعودة الحقوق المسلوبة، وتمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره بيده، في إطار القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى