ماذا ستفعل “إسرائيل” بعد عملية “طوفان الأقصى” ؟
أ. كريم قرط[1]
ليس من السهل توقع مسارات الأحداث ومآلاتها على صوت المدافع والصواريخ، فالحرب الحالية التي شنتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني ردا على عملية “طوفان الأقصى” ما زالت في بدايتها، حسب ما تصرّح به كل قيادات الاحتلال السياسية والعسكرية، غير أن هول الضربة التي تعرضت لها إسرائيل خلال هذه المعركة وحجم القصف والدمار التي تستهدف به قطاع غزة في هذه الأيام، يمكن أن يعطي تصورات مبدئية إلى أين تسير الأمور، وخصوصا ماذا يسعى الاحتلال لتحقيقه من هذه الحرب.
يمكن القول أن إسرائيل حتى هذه اللحظة، لا تدري ماذا تريد، فهناك إجماع لديهم بأنهم تعرضوا لهزيمة استراتيجية نكراء، تتطلب تغييرا استراتيجيا في مجريات الأحداث، لا يتوقف عند حدود الرد الحالي على عملية طوفان الأقصى، ولكنها لم تعلن عن ماهية هذا التغيير الاستراتيجي ولا كيفية تحقيقه، هو مؤشر على أنها لم تبن تصواراتها الكاملة، وهذا الأمر مرتبط بتعقيدات الوضع السياسي الإقليمي والعالمي، ومدى قدرة إسرائيل على تنفيذ أهدافها في ظل هذه التعقيدات التي لن ينحصر تأثيرها عليها وحدها.
أهداف إسرائيل العاجلة
لدى إسرائيل حاليا هدفان أساسيان، يمكن أن نسميهما مجازا “رد الاعتبار” و”إزالة آثار المعركة”، وينصرف الأول إلى محاولة إسرائيل مدفوعة برغبة الانتقام، إلى تدفيع المقاومة الفلسطينية ثمنا باهظا على إقدامها على اقتحام الأراضي المحتلة وإثخانها في جنودها والمستوطنين قتلا وجرحا وأسرا، وبطبيعة الحال، فإن إسرائيل تهتم الآن بعدد الشهداء الفلسطينيين وحجم الدمار في قطاع غزة، دون تمييز بين أهداف مدنية أو غير مدنية، وهذا السلوك له علاقة بما يمكن أن تقدم عليه في قادم الأيام، كاجتياح قطاع غزة بريا، وأيضا هو جزء من عملية كيّ وعي مستمرة تهدف إلى إقناع المقاومة والشعب الفلسطيني بأن نتائج أفعالهم ضد إسرائيل ستكون أسوأ بأضعاف مضاعفة مما استطاعوا تحقيقه ضدها.
أما ثانيهما فهو تمشيط المناطق التي سيطرت عليها المقاومة وإخراج المقاومين منها وإعادة السيطرة عليها، أو بمعنى آخر العودة إلى حدود ما قبل 7 أكتوبر، وهذان الهدفان لا لبس فيهما لدى الاحتلال، غير أن هول الحدث ووقعه على الاحتلال وجمهوره يجعلانهلا يكتفي بتحقيق هذين الهدفين، فحسب تصريحات متواترة لعدد من قادة الاحتلال السياسيين والأمنيين والعسكريين، ستسعى إسرائيل بعد تحقيق هذين الهدفين إلى تغيير المنظور (البردايم) الذي تعاطت به خلال السنوات السابقة مع المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، ويمكن الاعتماد في إيضاح هذه الجزئية على سلسلة المنشورات التي يصدرها معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي حول الحرب.
كتب رئيس المعهد “تامير هايمان” في أول أيام الحرب أن الوضع الحالي الذي أنتجته عملية طوفان الأقصى، هو منعطف استراتيجي، ولذلك فإن وضع نهاية الحرب يجب أن يكون تغييرا جذريا للواقع في غزة، وهذا التغيير يقوم على ثلاث ركائز:
• لا يجب أن تظل حماس هي العنوان في تعامل إسرائيل مع قطاع غزة.
• لا يجب الإبقاء على قدرات حماس العسكرية على حالها.
• يجب إعادة كل المعتقلين في قطاع غزة.
في منشور آخر، قال الباحث في ذات المعهد “كوبي ميخائيل”، إن الفشل الاستراتيجي الذي منيت به إسرائيل هو ثمن المنظور الفاشل الذي تعاملت به مع قطاع غزة منذ عام 2009، القائم على ضبط النفس، والاحتواء، والإدمان على الهدوء، وأن على إسرائيل أن تسعى لتحقيق أهداف استراتيجية خلال هذه الحرب تتمثل في تحقيق تغيير جذري في مكانة حماس وتأثيرها على الساحة الفلسطينية، ووضح أن مصدر قوة حماس ينبع من قدراتها العسكرية، ولذلك يجب على إسرائيل أن توجه ضربة لحماس تفقدها قدراتها العسكرية وقيادتها أيضا.
من يتابع التصريحات والتحليلات الإسرائيلية في المرحلة الحالية، سيجد أن فكرة “تغيير البردايم” مهيمنة على الخطاب الإسرائيلي، غير أنه ليس لدى إسرائيل تصور واضح حتى اللحظة حول كيفية إحداث هذا التغيير، ويعود السبب في ذلك إلى أن إسرائيل تشهد هذه الأيام معركة سياسية، يغطيها صوت الصواريخ وصفارات الإنذار، فهناك تشكيل حكومة وحدة وطنية أو حكومة حرب أو طوارئ ضيقة لإدارة الحرب التي أعلنتها، وتحظى هذه المساعي بإجماع من الائتلاف والمعارضة، بحيث ينضم لها زعيم المعارضة يائير لابيد، وبني غانتس ومعه غادي آيزنكوت وبوغي يعلون كونهم خبراء حرب، هذه الحكومة المعني الأبرز بها نتنياهو كي لا يتحمل وحده عواقب نتائج الحرب، فإنها ستبدأ برسم خطتها لما سيلي تحقيق الهدفين الحاليين، اللذين أشرنا لهما آنفا.
لماذا لن تكتفي إسرائيل بهذا الرد؟
وردت أنباء بأن نتنياهو أبلغ الرئيس الأمريكي جو بادين عزم إسرائيل على شن عملية برية ضد قطاع غزة، وهذا هو السيناريو الذي قد تكون إسرائيل عازمة على تنفيذه في المرحلة القادمة، وهو ما يمكن أن نطلق عليه “الهجوم المضاد”؛ ففي حرب عام 1973، تمكنت قوات الاحتلال من صد الهجوم السوري على جبهة الجولان، وتمكنت من شن هجوم مضاد على القوات السورية وإخراجها من كل الأراضي التي سيطرت عليها، ولكن إسرائيل لم تتوقف عند هذه المرحلة، وإنما طورت الهجوم المضاد على الجيش السوري ودخلت الأراضي السورية حتى أصبحت المعارك تدور على أبواب العاصمة دمشق، مع أنه كان باستطاعة إسرائيل أن تقف عند حدود الجولان ولا تتقدم داخل الأراضي السورية، إلا أنها كانت مصممة على محو صورتي النصر العربية والهزيمة الإسرائيلية بتحقيق انتصار حاسم على الخصم.
في هذه المعركة لا تختلف رغبة إسرائيل عن هدفها في حرب عام 1973، فقد أدت الضربة المفاجأة للمقاومة الفلسطينية إلى تدمير كثير من القيم المعنوية الإسرائيلية التي ترسخت منذ نشأتها؛ فالعقيدة الأمنية الإسرائيلية في جوهرها تقوم على مبدأ “الجدار الحديدي” الذي صاغه زعيم التيار الصهيوني التصحيحي زئيف جابوتنسكي، قبل أعوام طويل على إقامة دولة الاحتلال، وفكرته ببساطة أن الفلسطينيين، ومن خلفهم العرب، لن يتصالحوا مع المشروع الصهيوني وسيظلون يقاومونه طالما بقي لديهم أمل بإمكانية القضاء عليه، ولذلك فإن على الحركة الصهيونية في حينها، أن تراكم قوة عسكرية تفوق كل قوى العرب والفلسطينيين، بحيث تكون بمنزلة جدار حديدي أمامهم لا يستطيعون تجاوزه، فيسلمون بحقيقة وجود المشروع الصهيوني ويكفون عن مقاومته لقناعتهم أنه لا أمل في إمكانية القضاء عليه.
نتجت عن هذا الجوهر الأمني عدة تجليات صاغت العقيدة الأمنية الإسرائيلية طوال العقود الماضية، ومن أهمهما:[2]
- الحسم، أي أن على إسرائيل أن تخرج من معاركها منتصرة نصرا لا جدال فيه وموقعة هزيمة نكراء بالعدو.
- الردع، الذي ستشعر به الدول العربية وغيرها فتمتنع عن مهاجمة إسرائيل لأنها تعمل أن لا جدوى من ذلك وتعلم عواقب عملها.
- والإنذار المبكر، القائم على قدرة إسرائيل على التنبؤ ومعرفة أي تحرك للعدو قبل وقوعه لتبادر بشن ضربة استباقية عليه تحفظ لها عنصر المفاجأة.
- أضافت إسرائيل، نتيجة حروبها المتكررة مع حركات المقاومة، ركيزة أساسية أخرى وهي الدفاع، في ظل تعرضها لهجمات في عمقها.
تتفرع عن هذه الركائز عدة مبادئ أساسية، منها مبدأ نقل المعركة إلى أرض “العدو” حتى لا تتحمل الجبهة الداخلية للاحتلال خسائر فادحة في أثرها المادي والنفسي. في عملية طوفان الأقصى انهارت كل عقيدة الأمن الصهيونية بجوهرها وتجلياتها وركائزها ومبادئها، وهذا الانهيار هو انهيار ممتد منذ سنوات طويلة، فإسرائيل تخلت منذ حرب عام 2006 مع حزب الله عن مبدأ حسم المعركة، واكتفت بالخروج من المعركة وقد ألحقت خسائر فادحة في صفوف المدنيين والبنية التحتية المدنية دون أن تقضي على “العدو” قضاء تاما. وأما الردع ففي السنوات الأخيرة بدا واضحا أنه لم يعد فعالا، ففي واقع تندلع فيه مواجهة كل بضع سنين أو أشهر، وتتجنب فيه إسرائيل الدخول في مواجهات خشية تبعاتها، لم يعد مفهوم الردع الإسرائيلي يعمل عمله في ردع أحد عن مواجهتها.
وأما الكارثة الكبرى، فقد كانت في نسف مبدأ الإنذار المبكر من أساسه، فقد تمكنت المقاومة، وتحديدا حركة حماس، من إجراء عملية خداع استراتيجي متعدد الطبقات وممتد زمنيا، جعلت إسرائيل عاجزة عن تصور حدوث حدث مماثل، مع أن الاحتلال كان قبيل أشهر، وحتى أيام معدودة من عملية طوفان الأقصى يضع خطة عسكرية متعددة السنوات لمواجهة سيناريو الحرب الشاملة أو الحرب متعددة الجبهات، وكان قد أجرى مناورات عدة في الأشهر الأخيرة للتعامل مع سيناريو إمكانية اقتحام قوات حزب الله للجليل وسيطرتها على مستوطنات، دون أن يتصور أن هذا السيناريو قد يحدث من قطاع غزة.
أدت عملية طوفان الأقصى إلى تدمير مبدأ الدفاع أيضا، فقد تمكنت المقاومة من عبور كل خطوط الدفاع التي أقامها الاحتلال حول قطاع غزة فوق الأرض وتحتها وفي البحر أيضا، ومن ضمنها منظومة المراقبة المتقدمة جدا أيضا، وتمكنت المقاومة من نقل المعركة إلى أرض العدو الذي فشل في الدفاع عنها وصد الهجوم لساعات طويلة.
ما نتج عن هذه الصورة هو تدمير سمعة إسرائيل العسكرية والاستخباراتية والأمنية والتكنولوجية؛ فإسرائيل نجحت في بناء صورة حول نفسها بأن لها الجيش الأقوى الذي لا يقهر في الشرق الأوسط، وأن استخباراتها من أقوى الاستخبارات في العالم، لدرجة أن المخيال الشعبي يذهب إلى أنها تستطيع أن تعرف متى ينام المرؤ مع زوجه، وأنها متفوقة تكنولوجيا، وتحديدا في الصناعات الأمنية والعسكرية، لدرجة تعجز عنها دول كبرى.
هذه الصورة الخارقة عن إسرائيل الناتجة عن الجدار الحديدي، أمّنت لإسرائيل وجودها في المنطقة وارتداع الدول العربية عن حربها، حتى وهي تحتل الأراضي العربية، وأجبرت الدول العربية على الاعتراف بهزيمتها أمام إسرائيل وموافقتها جمعاء على مبادرة السلام العربية عام 2002 التي تقول ضمنا أن العرب انهزموا ويريدون أرضهم مقابل السلام مع إسرائيل. وقد مكّنت هذه الصورة وما نتج عنها إسرائيل من رفض المبادرة العربية، وأجبرت دولا عربية عدة على التنازل عن تلك المبادرة والذهاب للتطبيع مع إسرائيل، من ضمنها صاحبة المبادرة المملكة العربية السعودية التي كانت في خضم مفاوضات لتحقيق هذه الخطوة.
مست عملية طوفان الأقصى جوهر الأسطورة الإسرائيلية، الجدار الحديدي الذي بني في عقول العرب ونفوسهم، وأتت أيضا على مظاهرها حينما تفوقت على التكنولوجيا والصناعات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية. وهذا الوضع يمثل خطرا وجوديا على إسرائيل، ليس في القريب العاجل بالضرورة، ولكن مفعوله بدأ من الآن؛ فأسطورة التفوق الإسرائيلي قد انهارت، وانهار معها مبدئي الردع والإنذار المبكر اللذين سحقا سحقا، ما سيفقدها قيمتها في المنطقة والعالم، ويؤثر على مسار التطبيع، ويجعلها عرضة لهجمات أخرى. ولذلك، فخروج إسرائيل من المعركة دون إحداث تغيير استراتيجي لمصلحتها، سيفقدها جدارة وجودها، سواء في نظر العرب أم الغرب، وعليه فإنه من الممكن التوقع أن إسرائيل ستشن هجوما مضادا ضد المقاومة الفلسطينية، حتى تستعيد جدارة وجودها وتثبت للعرب والعالم أنها هي إسرائيل 1967 ذاتها التي هزمت عدة دول واحتلت مساحات تفوق حجمها بأضعاف في 6 ساعات فقط.
ما تريده إسرائيل الآن هو أن تعود إلى مبدأ الحسم والردع، بحيث تقضي على “عدوها” مرة واحدة وإلى الأبد، وتردع غيره حتى لا يفكر بمهاجمتها أو مناوئتها، وفي ضوء ذلك، لا يبدو أن إسرائيل تريد أن تتوقف الآن عند حدود قصفها الوحشي على قطاع غزة ومحاولة السيطرة الكاملة “غلاف غزة”، وإنما تطوير الهجوم المضاد لتحقيق إهداف استراتيجية تتمثل في إعادة إثبات إسرائيل لجدارة وجودها.
ضمن معطيات هذ المسعى، فإن إسرائيل وإن كانت تعمل حاليا ضد المقاومة في قطاع غزة فقط، إلا أنها ستسعى إلى تصفية حساباتها وإغلاق عدد من الملفات على ساحات أخرى، ومن ضمنها ساحة الضفة الغربية، التي عادت حالة المقاومة للبروز فيها، والساحة اللبنانية بما يمثله فيها حزب الله من جبهة مواجهة محتملة في أي وقت. فحسب كوبي ميخائيل، ستحقق الضربة القاضية التي ستوجهها إسرائيل لحماس في قطاع غزة ثلاثة أهداف استراتيجية:
- إضعاف تأثير حماس في حالة المقاومة في الضفة الغربية، لأن حماس هي أكبر المؤثرين والداعمين للمقاومة فيها.
- إضعاف تأثير إيران على الساحة الفلسطينية، لأن المعادلة الحالية هي أن حماس أقوى يساوي تأثير أكبر لإيران في الساحة الفلسطينية.
- تعزيز صورة القوة الإسرائيلية وردع حزب الله وإيران وغيرهم من القوى التي قد ترى أن هجوم حماس تأكيدا على نضوج الوقت لمهاجمة إسرائيل من عدة جبهات للإطاحة بها.
جاء تصريح نتنياهو في ثالث أيام الحرب خلال حديث موجه إلى الجمهور الإسرائيلي حول تطورات المعركة، الذي قال فيه: “سنغيّر الشرق الأوسط“، ليظهر أن لدى إسرائيل أهدافا أعمق بكثير من مجرد الرد على عملية طوفان الأقصى. وفي هذا السياق، وفي خضم عملية التبرير لما قد تقدم عليه إسرائيل، تسري دعاية في إسرائيل بأن ما حدث لها في 7 أكتوبر هو بمنزلة أحداث 11 سبتمبر بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية التي بررت لها غزو دول واحتلالها، ما يعني أن إسرائيل ستعمل على إسقاط نظام المقاومة في قطاع غزة وإعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة، كما فعلت أمريكا عقب هجمات 11 سبتمبر.
ولكن كيف؟
هذا هو السؤال الكبير الذي لا إجابة له بعد لدى إسرائيل. كيف يمكن تحقيق هذا النصر الحاسم، ضد المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة بداية؟ فالاحتلال الإسرائيلي ما زال بعد مرور أيام على اندلاع الحرب يعتمد ذات أساليبه التي كان يستخدمها في عدواناته السابقة، ويمكن اختصار هذه الأساليب بفكرة “نهج الضاحية” التي صاغها غادي آيزنكوت، عندما كان قائد المنطقة الشمالية في جيش الاحتلال، ويقوم هذا النهج على استخدام قوة غير متكافئة، في مواجهة قوة المقاومة، تفوقها بأضعاف، لإيقاع دمار وضرر بالغين تجاه أي منطقة تُهاجَم منها إسرائيل. وقد أطلق عليه “نهج الضاحية” نسبة إلى الدمار الذي أحدثه الاحتلال في الضاحية الجنوبية لبيروت خلال حرب عام 2006.
استخدمت إسرائيل هذا النهج دائما في حروبها وعدواناتها ضد قطاع غزة وغيرها، حتى قبل الإعلان عليه رسميا، وهذا ما يبدو أنها ما زالت تستخدمه حتى اللحظة في هذه المعركة، ومع أن إسرائيل تريد شن عملية برية ضد المقاومة في قطاع غزة، إلا أن الطريق غير ممهدة أمام هذه العملية، فالظروف الموضوعية في قطاع غزة تجعل تنفيذ مثل هذه العملية شبه مستحيلة.
على أية حال، إذا قررت إسرائيل وصممت على تنفيذ هذه العملية لاستئصال شأفة المقاومة، فإنها ستعمل على محاولة تهجير سكان القطاع حتى تمهد الأرض أمام تقدم قواتها البرية، ولمآرب أخرى. وبطبيعة الحال فإن هذه التهجير المفترض من غير الممكن أن تكون وجهته أراضي 1948، وإنما باتجاه مصر، وليس من الوراد أن توافق مصر على الاشتراك في هذه الكارثة الإنسانية بحق الغزيين لأسباب كثيرة ومعقدة، فلن تقبل مصر أن تتخلص إسرائيل من “مشكلتها” على حسابها.
من ناحية أخرى، يمكن القول أن الإقليم الآن كله يراقب ما ستفعله إسرائيل في قطاع غزة، فالمعركة حتى اللحظة ما زالت في نطاق قطاع غزة ولم تنتقل رسميا إلى جبهات أخرى، ولكن تطوراتها قد تدفع جبهات أخرى إلى الانخراط في المعركة، ولا سيما جبهة الشمال، التي تضم جنوب لبنان الذي يشهد تصاعدا في الأحداث منذ بداية المعركة، شارك فيها حزب الله وحركتي حماس والجهاد الإسلامي ، بالإضافة إلى الجولان السوري الذي انطلقت منه عدة صواريخ.
من جهتها أعلنت الولايات المتحدة دعمها الكامل لإسرائيل في هذه المعركة عسكريا وسياسيا وماليا، ووجهت رسائل تحذير لحزب الله من تدخله في المعركة، وتأكيدا لذلك أرسلت حاملة الطائرات جيرال فورد إلى سواحل فلسطين، وأعلنت أنها تعتزم إرسال حاملة طائرات أخرى، لإظهار الدعم ومنع أي جهة أخرى من استغلال الوضع، وفي تصريح للرئيس الأمريكي جو بايدن قال أنه طلب من نتانياهو “أن يكون حاسما” في رده على المقاومة الفلسطينية.
خاتمة
في ظل الانحياز الأمريكي الكامل لإسرائيل وإعطائها الضوء الأخضر لتنفذ ما تريد، فإن التوتر في المنطقة يتصاعد، وعلى عكس ما تحاول أمريكا إيصاله من رسائل، أعلن عدد من قوى محور المقاومة، خاصة في اليمن والعراق، صراحة أن تدخل أمريكا في المعركة سيدفعها لتتدخل وتستهدف كل المصالح الأمريكية في المنطقة وتشارك بكل ما أوتيت من قوة إلى جانب المقاومة الفلسطينية، وبحسب صحيفة الأخبار اللبنانية فإن قوى محور المقاومة تنسق فيما بينها ووضعت سقفا لمسار العدوان يجعلها مستعدة لاحتمال الانخراط في المعركة، وأنه إذا كان المقصود من الدعم الأمريكي لإسرائيل هو الحصول على كثافة نارية لقتل المدنيين، فإن على أمريكا وإسرائيل تحمل النتائج عما سيحصل، وتكون بذلك قد فتحت على نفسها “أبواب الجحيم”.
إن احتمالية توسع الحرب وانضمام جبهات أخرى لها عالية جدا، فإسرائيل الآن تريد أن تنهي وجود المقاومة في فلسطين وتعيد بناء قدرات ردعها تجاه مختلف القوى في الإقليم، ما يعني أنها ستعمل على تغيير قواعد الاشتباك التي ترسخت مع حزب الله طوال السنوات الماضية، بحيث لا تتريث قبل الإقدام على عمل عدائي ضد الحزب في حال استعدى الأمر، فالواقع الحالي يشير إلى أنها تريثت وامتنعت عن الرد على كثير مما وصفته بـ”استفزازات” من قبل حزب الله، منها مسألة نصب حزب الله لخيام داخل الأراضي التي تحتلها إسرائيل، غير أن خروج إسرائيل منتصرة نصرا حاسما من هذه المعركة، وتمكنها من القضاء على المقاومة الفلسطينية، سيجعلها أكثر جرأة على استهداف حزب الله وتغيير كل قواعد الاشتباك معه، وذلك سيؤدي إلى حسمهالعدد من النقاط الخلافية حول الحدود بين لبنان والأراضي المحتلة، التي امتنعت عن حسمها حتى اللحظة لتجنب تصعيد مع حزب الله.
من ناحية أخرى، فإن صمت قوى محور المقاومة عن مسعى إسرائيل للقضاء على المقاومة الفلسطينية، سيجعل هذه القوى في موقع ضعف في قادم الأيام، فكما تمكنت الولايات المتحدة وإسرائيل من الاستفراد بالمقاومة الفلسطينية والقضاء عليها، فإن الدور سيأتي على باقي هذه القوى، ولو على صعيد تحييدها وتهديدها وردعها، لذلك، فإن انفتاح جبهات أخرى خلال هذه المعركة، سيغدو ضرورة ملحة لدى قوى المحور، فسقوط ضلع منه هو مقدمة لسقوط غيره من الأضلاع، ما ينذر بتوسع رقعة الحرب وانخراط جبهات أخرى فيها، وهو ما سيكون له تبعات إقليمية كبيرة في المستقبل القريب، وليس بالضرورة مثل ما تريده إسرائيل وأمريكا، وإنما قد يكون معاكسا تماما له.
[1] – باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، رام الله
[2] ينظر: أحمد خليفة، محرر، العقيدة الأمنية الإسرائيلية وحروب إسرائيل في العقد الأخير دراسات لجنرالات وباحثين إسرائيليين كبار(بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2015).