عرض كتاب: فخّ أوسلو.. من حلم السلام إلى الشوارع الدامية
المؤلف: يوفال بلومبيرغ
عرض: د. عدنان أبو عامر
الناشر: دار سيلع مائير
سنة النشر: 2023
اللغة: العبرية
- المقدمة:
يأتي صدور هذا الكتاب في الوقت الذي يحيي فيه “الإسرائيليون” الذكرى الثلاثين لتوقيع اتفاق أوسلو، فهو يسلّط الضوء لأول مرة على كواليس الاتفاق، ويعيد إلقاء الضوء على التصدّعات السياسية التي رافقته، وما صاحبه من إشكاليات عاشها الاحتلال لمدة ثلاثين عامًا، مورداً العديد من المواقف “الإسرائيلية” المتباينة، بين من أيّد الاتفاق، ومن رأى فيه كارثة، ومن وجد فيه نقاشاً رصيناً حول إمكانية إحلال التسوية مع الفلسطينيين، وكذلك النقاش “الإسرائيلي” حول الثمن الذي دفعوه، ودوره في تحقيق أو تدمير المشروع الصهيوني.
- عقدة التمثيل:
توقف الكتاب مطولًا عند ما أسماها “بذور الكارثة” التي ستجنيها “إسرائيل” من الاتفاق، حين وُقِّع اتفاق أوسلو مع فريق فلسطيني ادعى تمثيل جميع الفلسطينيين، لكن اليوم، بعد سنوات عديدة من سيطرة حركة حماس على غزة، وبالنظر إلى الوضع غير المستقر للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، ورفضها إجراء انتخابات في الأراضي الخاضعة لسيطرتها بسبب خوفها المبرر من انتصار حماس فيها، فإن ذلك يجعل من اتفاق أوسلو منذ بدايته خطأً في أحسن الأحوال، وحماقة في أسوئها.
في الوقت ذاته، يزعم المؤلف أنّ ثلاثين عاما على توقيع اتفاق أوسلو تثبت أنّ منظمة التحرير وزعيمها لم يُعتبروا في يوم الممثلين “الوحيدين” للفلسطينيين، لأنّ باقي المنظمات مثل حماس والجبهة الشعبية والجهاد الإسلامي وغيرها اعتبرت نفسها ممثلين شرعيين للشعب الفلسطيني، رغم اعتقاد “إسحاق رابين” رئيس الحكومة -بعكس جيش الاحتلال- بأنّ السلطة الفلسطينية ستكون قادرة على التعامل مع المقاومة بكل “الصلابة اللازمة”، دون الحاجة لمراقبة منظمات حقوق الإنسان والمحكمة العليا.
يتفق الكتاب الذي جاء في 542 صفحة موزعة على عشرة فصول، مع الكثير من الآراء التي تصف الاتفاق بأنه جاء بصيغة مبهمة تهدف للتعتيم على الخلافات الجوهرية بين الفلسطينيين و”الإسرائيليين”، بجانب الخلافات الكبرى حول مستقبل القدس وحق العودة ومصير الاستيطان، التي لم يتمكنان من حلّها في وقت كان يحوم خطر “الانقلاب السياسي” “الإسرائيلي” طوال الوقت، مما جعل من إعلان المبادئ طريق الهروب الذي سلكه “شمعون بيريس”، رغم وصف “رابين” نفسه للاتفاق بأنه يشبه “الجبنة السويسرية” المليء بالثقوب.
يستشهد المؤلف بعدد من مستشاري “رابين” السابقين، لاسيما “إيتان هابر” رئيس ديوانه، الذي نقل عن “رابين” أنّ اتفاق أوسلو كان بمثابة تجربة قابلة للتطبيق، بحيث رأى في غزة-أريحا مشروعا تجريبيًا، وعلى نطاق صغير، أي أنّ غزة ستكون بمثابة اختبار صعب، لأنّ المشكلة من وجهة نظر “الإسرائيليين” تمثلت في المقام الأول في الجانب الأمني.
- صعود حماس:
يرى الكتاب أنّ توقيع اتفاق أوسلو في سبتمبر 1993 تزامن مع ازدياد قوة حماس، وشعور سائد بين “الإسرائيليين” بأنّ الوقت بدأ ينفد قبل أن يفقد ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية قوتهما وقبضتهما على الشارع الفلسطيني، مما دفعه للإسراع في التوقيع عليه، مستذكرا ما حصل عقب إلقاء خطاب عرفات في البيت الأبيض من انفجار الجمهور بالتصفيق المدوي، فيما ظلّ “رابين” متجمدًا في مكانه، ولم يصفّق بصورة لافتة، في إشارة لما شهده حزب العمل قبل أيام من لقاء القمة بين عرفات و”رابين” من انتقادات واجهها الأخير بسبب هذا اللقاء، مما كشف عن حجم المواقف الصعبة التي وجد نفسه فيها.
يسعى المؤلف لترويج فرضية يعمد اليمين “الإسرائيلي” لتكرارها، ومفادها أنّ اتفاق أوسلو جاء حصيلة قيام “حفنة” من اليساريين المتطرفين بصياغته، حيث كانت في البداية من وراء ظهر “رابين”، وحتى بيريس، ولذلك استمرت المحادثات السرية في أوسلو تحت السطح، دون علمهما، وبعضها حصل تحت ستار ندوات أكاديمية حول موضوعات تنمية الموارد في الضفة الغربية وقطاع غزة، بمشاركة فلسطينيين و”إسرائيليين” ونرويجيين، وكان الضيوف الأكثر بروزا فيها هم “رون فونداك” و”دان هيرشفيلد” من الجانب “الإسرائيلي”، وأحمد قريع واثنين آخرين من الجانب الفلسطيني، لكن الشيء الأكيد أنّ أيّاً من هؤلاء لم يناقش مسألة تنمية الموارد البشرية بجدية، ولذلك جاء التستّر مثاليًا.
أكثر من ذلك، يورد الكتاب معلومات من داخل الفرق التفاوضية مفادها أنّ ليلة التوقيع على الاتفاق في العاصمة النرويجية تم بسرّية تامة، حتى دون علم أعضاء الوفد المرافقين ل”بيريس” في زيارته الرسمية، بل دون علم السفير “الإسرائيلي”، وعقب التوقيع خاطب “بيريس” أبو علاء بالقول “إنّ مصير غزة سيكون مثل سنغافورة، من الفقر إلى الرخاء”، وفي نهاية المراسم القصيرة عاد إلى غرفته، واستلقى على سريره، غير قادر على النوم، كتب لنفسه: “لقد استلقيت، وانتظرت فجر يوم جديد”.
- دوافع التوقيع:
قد لا يكشف الكتاب سرّا حين ينقل عن محاضر الحكومة “الإسرائيلية” آنذاك أنه قبل المصادقة على اتفاق أوسلو بعدّة أشهر، عمل “رابين” بقوة من أجل التوصّل لاتفاق آخر مع سوريا، وحاول حتى اللحظة الأخيرة تجنب قناة المحادثات التي كُشِفت في أوسلو، وقال بصراحة إنها ليست اتفاقية بسيطة لحلّ القضية الفلسطينية، ومن الواضح أنّ الاتفاق ترتيب مؤقت فقط، مع العلم أنّ المفاوضات لم تكن مع الوفد الفلسطيني، لأنه لم يكن سوى واجهة للفاكسات والهواتف القادمة من تونس حيث مقر منظمة التحرير، وبالتالي فليس له سلطة مستقلة.
يسرد المؤلف جملة من الدوافع الأساسية لإقدام “رابين” على توقيع الاتفاق، أولها تعهده في انتخابات 1992 بالتوصل إلى اتفاق سياسي خلال تسعة أشهر، وقد وضع رهانه على اتفاق مع سوريا رغم فشله، وعلى قناة واشنطن مع الفلسطينيين، وقد فشل أيضاً، ولم يبق أمامه سوى خيار واحد في أوسلو، وثانيها رؤية “رابين” الأمنية التي رافقته من عصابة “البالماخ”، والسنوات التي قضاها وزيرًا للحرب في الثمانينيات والتسعينيات، وخضوعه لتحول حقيقي خلال حرب الخليج، حين أكدت الصواريخ بعيدة المدى حجم الاعتماد على الولايات المتحدة بتوفيرها الإنذار المضاد للصواريخ.
الدافع الثالث عند “رابين” نبع من حقيقة أنه لم يقدّر أبدًا أهمية قطاع غزة، فقد رآها مكانًا من الأفضل التخلص منه، وبما أنّ المرحلة الأولى من إعلان المبادئ تناولت غزة بشكل رئيسي، فقد كانت مناسبة بوجه عام لوجهات نظره، أمّا الدافع الرابع فقد رأى “رابين” في الاتفاق تجربة تضمن عدم إهمال السيطرة الكاملة على الضفة الغربية، مقترحًا فصل بين ما هو مكتوب على الورق، وكيفية تنفيذه.
- تسويق الاتفاق:
يورد المؤلف حالة الترحيب “الإسرائيلي” بالاتفاق وصلت إلى حدّ أن يعلن 36 لواء وجنرال احتياط، وعشرات العمداء والجنرالات، دعمهم لتحركات السلام التي تقوم بها الحكومة، وفي غضون أيام قليلة من الإعلان عن اتفاق أوسلو، غيّر العديد من كبار العسكريين “الإسرائيليين” نظرتهم الأمنية، بعد أن نظروا حتى وقت قريب لمنظمة التحرير بأنها “إرهابية”، وينظرون لتصريحات قياداتها بعين الريبة، أمام حالة الشراسة التي حارب فيها اليمين هذا الاتفاق، ولم يكن هذا مجرد خلاف نقطي حول بند أو آخر في الاتفاق، بل كان صراعاً بين أيديولوجيتين وطريقتين في التفكير.
في الوقت ذاته، حاولت الأوساط السياسية “الإسرائيلية” تسويق الاتفاق، حتى بشّرت عناوين الصحافة بمفردات عبرت عن حالة النشوة الإعلامية، مع تجاهل الفجوة الكبيرة بين الاتفاق وتصريحات “رابين” ضد المفاوضات مع منظمة التحرير، والاعتراف بها، لكن التحدي الصعب الذي واجه فريق أوسلو تلخّص في إقناع الجمهور “الإسرائيلي” بمدى إمكانية الحديث مع ياسر عرفات، الذي اعتبر الحديث معه حتى أشهر قليلة مضت جريمة يعاقب عليها القانون، وفجأة، وبقدرة قادر، أصبح الاتفاق معه مصلحة عليا ل”إسرائيل”.
لقد اتبعت “إسرائيل” آنذاك استراتيجية عنوانها تقديم منظمة التحرير بديلًا أقل خطراً من حماس، مما حمل معنى ضمنياً مفاده أنّ وجود عرفات هو في مصلحة “إسرائيل” مقارنة بالخيار الآخر، ويورد الكتاب كلاما جديدًا حول خلفيات وتبعات الاتفاق من بينه أنّ الروائي “عاموس عوز” اتصل بصديقه “بيريس”، وقال له: “شمعون، عرفات في ورطة، نحن بحاجة لإنقاذه”.
بنوع من الدعابة يتوقف المؤلف عند الثقة الكبيرة التي أظهرها “بيريس” في توقعاته من اتفاق أوسلو، وسلوك الازدراء الذي همس به تجاه من أثاروا المخاوف من الاتفاق، واصفًا إياهم بـ”الدجالين”، مع أنّ معظم انتقاداته مبنية على التشاؤم الذي أظهروه بسبب فهمهم لواقع الشرق الأوسط بأنه أكثر تعقيدًا مما صوره مؤيدو الاتفاق، واتهمهم بعدم فهم الواقع، واعتقد أنّ “إسرائيل” تحتاج لخبراء اقتصاديين، كما اجتاح سوق الأوراق المالية جوّ من النشوة.
- العمليات الفدائية:
قدّر البروفيسور ستانلي فيشر احتياجات المساعدات الدولية للاقتصاد الفلسطيني الجديد بسبعمائة مليون دولار سنويا، بينما خطة تنموية صاغها مائة اقتصادي فلسطيني، برئاسة البروفيسور يوسف سعيد من أكسفورد، قدّرت الاستثمارات المطلوبة بأحد عشر مليار دولار على مدى سبع سنوات، نصفها ستكون استثمارات في البنية التحتية، كالبناء والنقل والتعليم والصحة، ورغم استثمار مبالغ ضخمة في الاقتصاد الفلسطيني في العقود التي مرت على توقيع اتفاقيات أوسلو، لكن معظمها ذهب هباءً، واختفى في ظل نظام فاسد، وفراغ سلطوي.
يتهم الكاتب “بيريس” بأنه اعتبر اتفاق أوسلو حجر الزاوية في النظرة العالمية الطوباوية، الساعية لتغيير واقع الشرق الأوسط، حيث ظلّ ينشر اعتقاده بأن عصر الاستراتيجية العسكرية يقترب من نهايته، وأنّ عصر الاستراتيجية الاقتصادية يحلّ محلّه، على اعتبار أنّ الأسواق أكثر أهمية من الجيوش، وقد تم استقبال هذه الرؤية الخيالية الطوباوية بتفهم كامل في أوساط واسعة من “الإسرائيليين”، ناهيك عن إعجابهم بها، وسط تجاهل تام لما يمكن وصفه “الخطر الكامن” في محاولة تحقيقها.
يصل الكتاب إلى استخلاص مفاده أنّ اتفاق أوسلو الذي جاء هروبا “إسرائيليًا” من العمليات الفدائية الفلسطينية، لم ينجح بذلك، بدليل أنه يصطحب القارئ في رحلة دموية عبر مئات الأسماء والتقاطعات والمراكز التجارية والمقاهي وخطوط الحافلات، التي مجرد ذكرها يعيد “الإسرائيليين” إلى القلق والخوف من تلك السنوات الرهيبة، ومع تقدم الاتفاق تزايدت العمليات المسلحة أمام تزايد محاربة اليمين للاتفاق الذي اعتبر أنّ الثمن الباهظ الذي دفعه “الإسرائيليون” من الاتفاق بات لا يطاق.
لقد سعى الاتفاق للانفصال التدريجي عن الفلسطينيين، وتطلع “رابين” و”بيريس” منه لإقامة حكم ذاتي يتمتع بسلطات أوسع للفلسطينيين، مقارنة بالحكم الذاتي الضيق الذي سعى إليه “مناحيم بيغن” إبان اتفاق “كامب ديفيد” مع مصر، لكنّ المفارقة أنّ اتفاق أوسلو حقق رؤية الأخير، وتمت إدامة نظام الحكم الذاتي بشكل افتراضي، من خلال العديد من الشواهد الأساسية، أولها إعطاء الشرعية للاستمرار بالاحتلال لأجل غير مسمى حتى يتم التوصل لاتفاق دائم، وهو ما يبدو مستحيلًا اليوم.
- أطماع اليمين:
يتمثل الشاهد الثاني بإعطاء اتفاق أوسلو شرعية لمواصلة الاستيطان بالأراضي الفلسطينية، ما أحبط إمكانية إقامة دولة فلسطينية ذات تواصل جغرافي، وثالثها أنه سمح للاحتلال بالتخلص من غزة، التي لم يكن أحد يريد السيطرة عليها، ما سمح للاحتلال بمنحه توازنا ديمغرافيا أكثر ملاءمة للاحتلال باستمرار سيطرته على الضفة فقط، ورابعها أنه سمح باتهام السلطة الفلسطينية بوقف التقدم في عملية التسوية، وجعل منظمة التحرير مسؤولة عن الحفاظ على الأمن في الأراضي المنوطة بإدارتها، ونتيجة لذلك استولت حماس على السلطة في غزة، وهناك خطر من سقوط أجزاء من الضفة الغربية في أيديها.
الشاهد الخامس الذي تتطرق إليه الأوساط “الإسرائيلية” في الذكرى الثلاثين لاتفاق أوسلو أنه أتاح لدول عربية التطبيع مع الاحتلال، وهو ما لم يكن ممكنا بالنسبة لهم من قبل، فإذا كان الفلسطينيون قبل أوسلو قادرين على وضع الاحتلال في معضلة، فإن الاتفاق سمح للدول العربية بالقيام بذلك بشكل فردي، وتآكل حوافز قيام الاحتلال بتقديم المزيد من التنازلات للفلسطينيين، وسادسها السماح للاحتلال بالسيطرة على 60% من الضفة الغربية وهي (منطقة ج)، ومنح اليمين فرصة تحقيق حلمه بالتخلص من الفلسطينيين، وفي الوقت ذاته الاحتفاظ بمعظم الأراضي خالية منهم، واستخدامها لأغراض أمنية واستيطانية.
على صعيد تأثير اتفاق أوسلو على المشهد الحزبي “الإسرائيلي” الداخلي، فإنّ الشاهد السابع يتعلق بأنه سمح لليمين بمحو اليسار من الخارطة الحزبية، وإدامة حكمه من خلال إلقاء اللوم على الطرف الآخر، وتحميله المسؤولية عن كل نتائج الاتفاق السيئة، رغم أنّ هذا الاتفاق حقق بالفعل أحلام وأطماع اليمين.
اللافت أنّ هذا الكتاب الذي يُجري تقييماً منحازا لاتفاق أوسلو باتجاه الهجوم عليه، من خلال سرد ما اعتبرها شواهد ميدانية عن كارثيته، فإنه يتجاهل كيف منح الاحتلال السيطرة على معظم أراضي الضفة الغربية، وفي المقابل فشل بتحقيق الرؤية الأصلية ل”رابين” و”بيريس”، ولذلك فمن المتوقع أن يقود لدولة ثنائية القومية مع نظام بانتوستانات وأبارتهايد وفصل عنصري.
في الوقت ذاته، فإنّ القراءة “الإسرائيلية” لاتفاق أوسلو في ذكراه الثلاثين لابد أنّ تقود إلى استنتاجات موضوعية رأت أنه أسّس لإقامة كيان فلسطيني بصيغة دولة ناقصة، تعيش بجانب دولة الاحتلال بحدود دائمة يعاد رسمها على أساس احتياجاتها الأمنية، وفي الوقت ذاته إبقاء القدس المحتلة، والأمن الخارجي، والاستيطان في أيدي الاحتلال، دون أن يفرض أي حظر على توسعته.