المشهد الفلسطيني

رياح المقاومة في الضفة الغربية والمأزق “الإسرائيلي”

أ. كريم قرط

تحتل الضفة الغربية الآن، المساحة الأكبر في النقاشات والتحليلات “الإسرائيلية”، في ظل تصاعد المقاومة وتطورها كمًا ونوعًا، فبعد أن ظلت الضفة ساحة آمنة الجانب نسبيًا لأكثر من 10 سنوات، تعود إليها اليوم أجواء تذكّر بالانتفاضة الثانية؛ فهناك عمليات إطلاق نار يومية، ومواجهات، واحتجاجات تمتد من شمال الضفة إلى جنوبها بنسب متفاوتة.

لم يكن الاحتلال يتوقع أن تتحول الضفة الغربية إلى ساحة مقاومة نشطة على هذه الصورة، غير أن ذلك لا يعني أنه لم يتحسب لاحتمالية تصعيد من نوع ما في الضفة الغربية، وقد بدأت مخاوف الاحتلال تتصاعد منذ مطلع العام الجاري عن احتمالية التصعيد في ظل الخشية من توتر الأوضاع خلال شهر رمضان الماضي؛ حيث سارع الاحتلال إلى التجهيز لعملية استباقية لاحتواء التصعيد تحت اسم “عومير هتنوفاه“، ولكنه سرعان ما غيّر اسم الحملة ليطلق عليها “كاسر الأمواج” منذ شهر نيسان/ أبريل الماضي، وقد جاء هذا التغيير نتيجة وقوع عدد من العمليات الفدائية القاتلة في الداخل قبل شهر رمضان، الأمر الذي لم يكن في حسبان الاحتلال.

بعد مضي قرابة خمسة أشهر، ما زالت عملية “كاسر الأمواج” مستمرة وتتوسع وتتطور، في ظل أن موجة العمليات الفردية التي بدأت مطلع العام تحولت إلى ممارسة شبه منظمة في حالتي جنين ونابلس، وهي قابلة للتمدد بأشكال مختلفة إلى باقي مناطق الضفة الغربية بما فيها القدس، وربما تكون هذه الأحداث مجرّد هبة مثل الهبات المتتالية التي شهدتها الضفة الغربية سابقا، خاصة هبة القدس عام 2015، إلا أنها أثارت العديد من التساؤلات المهمة أبرزها: ما هي أهم الأسباب وراء الهبة الشعبية؟ وما هي سيناريوهات الاحتلال “الإسرائيلي” في التعامل معها؟ وكذلك ما هي مآلات هذه الهبة على الصعيد السياسي ومستقبل القضية الفلسطينية بشكل عام؟  

أسباب الهبة الثورية الحالية

مع تصاعد الأحداث وازدياد خطورتها بدأ الاحتلال برمي الاتهامات وتحميل المسؤوليات في كل جانب، وقد توزعت هذه الاتهامات بشكل أساس على السلطة الفلسطينية التي يتهمها الاحتلال وأجهزتها الأمنية بالضعف والتقاعس عن الاضطلاع بدورها في التعامل مع ظاهرة المقاومين في جنين ونابلس، وانخراط عناصر من حركة فتح والأجهزة الأمنية في عمليات المقاومة، وكذلك يوجه الاتهام لحركتي حماس و الجهاد الإسلامي بالتحريض ودعم المقاومين ماليًا وعسكريًا والانخراط في المقاومة، وبعيدًا عن هذه الاتهامات يحاول الاحتلال وضع تفسيرات لهذا التحول المتسارع في الأحداث، ومن هذه التفسيرات:

  1. ضعف السلطة الفلسطينية: إذ بدأ الحديث “الإسرائيلي” عن ضعف السلطة الفلسطينية بشكل أساس عقب معركة سيف القدس، حيث جاء ذلك في خطاب رئيس الشاباك السابق “نداف أرغمان” خلال مراسم تسليم منصبه لرئيس الشاباك الجديد، إذ قال “أرغمان”: “إن غياب التواصل بين دولة “إسرائيل” وبين السلطة الفلسطينية، والخطوات التي اتخذها أبو مازن، قد تسبب في ضعف السلطة اقتصاديًا وتراجع صورتها لدى الجمهور الفلسطيني”، وقد حذّر حينها من استمرار إضعاف السلطة الفلسطينية، حيث اعتبر أن الهدوء النسبي الذي تشهده الضفة الغربية مضلل؛ فعدم وجود عمليات مقاومة لا يعني أن الأمور على ما يرام، فهناك محاولات يومية لتنفيذ عمليات، ولكن قدرة الاحتلال على إحباطها هو الذي يمنع حدوثها، لذلك دعا إلى تعميق التعاون مع السلطة الفلسطينية ودعمها بمشاريع اقتصادية.
  2. انسداد الأفق السياسي: هذا العامل أسهم في إضعاف السلطة الفلسطينية، وأنتج جيلًا فلسطينيًا محبطًا، والجيل الجديد هو لم يعاصر الانتفاضة الثانية، وما لحق بها من دمار وقتل ومآس على الشعب الفلسطيني، لذا فهذا عامل مهم يفسر عدم خشية الجيل الشاب من المواجهة مع الاحتلال؛ فالانتفاضة شكّلت صدمة للشعب الفلسطيني، حسب مفهوم صهر الوعي، إذ جعلته يخرج منها منهارًا قابلًا لعملية إعادة تشكيل وعيه وإبعاده عن فكرة المقاومة، إلا أن الجيل الحالي لم يخض هذه التجربة التي يمكن أن تساهم في إحداث صدمة له يعاد تشكيل وعيه بعدها، حسب نظرية الصدمة ل”نعومي كلاين”.
  3. انتهاكات جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية في الضفة الغربية: إذ إن الاقتحامات والاغتيالات والاعتقالات المتكررة لمواجهة حالة المقاومة المتصاعدة؛ تخلق احتكاكًا دائمًا مع الفلسطينيين، فقد أصبحت الاقتحامات تواجه بإطلاق النار من قبل المقاومين؛ ما سيتدعي اقتحام قوات الاحتلال لمناطق المواجهات مجددًا لجمع المعلومات ومحاولة اعتقال مطلقي النار، ولكن قوات الاحتلال تُواجه مرة أخرى بإطلاق النار، ما يحفّز استمرار عمليات المقاومة.

سيناريوهات الاحتلال للتعامل مع الأحداث

تحتّم هذه التفسيرات وغيرها، مجتمعة ومنفردة، على الاحتلال إيجاد حلول لمنابع التصعيد على المدى القصير والبعيد وعلى مختلف المستويات؛ فعلى المستوى الأمني، يجد الاحتلال نفسه مضطرًا للعمل في أسرع وقت حتى لا تنتشر العمليات والأحداث إلى بقية الضفة الغربية، ولكنه يجد نفسه أيضًا أمام خيارات محدودة، لا يخلو أحدها من مخاطر جانبية، وهي:

  1. عملية عسكرية واسعة على غرارالسور الواقي“: برز هذا الخيار على خلفية مطالبة مستوطني الضفة الغربية لحكومة الاحتلال وجيشه بتنفيذ هذه العملية الواسعة، إلا أن إقدام الاحتلال على عملية كهذه يتضمن مخاطر وسلبيات كبيرة؛ فالأحداث الأمنية الحالية لم تتوسع بصورة كبيرة في كل الضفة الغربية، ما ينفي الحاجة إلى عملية شاملة في كل الضفة، ومن ناحية أخرى فعملية كهذه ستؤدي إلى تزايد الانتقادات الدولية ضد “إسرائيل”، ووقد تؤدي إلى انهيار السلطة الفلسطينية أو ازدياد ضعفها، وهو ما لا يريده الاحتلال، لأن ذلك قد يضطره إلى العودة لحكم الضفة الغربية مباشرة كسلطة احتلال مسؤولة عن ملايين السكان،  كما أن تزايد الاحتكاك مع الفلسطينيين قد يؤدي إلى انفجار الأوضاع في كل الضفة وليس تهدئتها، وحتى لو اقتصرت العملية الموسعة على شمال الضفة الغربية، وبشكل أساس في جنين ونابلس، فإن هناك مخاطر أمنية لا سيما احتمالية انضمام المقاومة في غزة للأحداث.
  2. ضبط النفس: يقوم هذا الخيار على تجاهل الأحداث لبرهة ما حتى تهدأ من تلقاء نفسها، وإعطاء الأجهزة الأمنية الفلسطينية الفرصة للتعامل معها، غير أن هذا الخيار قد يؤدي إلى تصاعد الأحداث وتزايد جرأة المقاومة في ظل صمت الاحتلال، بالإضافة إلى عدم ثقة الاحتلال بقدرة الأجهزة الأمنية الفلسطينية على التعامل مع الأحداث.
  3. الاستمرار في الأسلوب الحالي “كاسر الأمواج”: يقوم الأسلوب الحالي على عمليات اغتيالات واعتقالات ومطاردة وجمع معلومات ومحاولة تجفيف منابع الدعم للمقاومين، وتعميق التعاون مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية وإفساح المجال لها للاضطلاع بدورها، لكن هناك تحديثات سيدخلها الاحتلال على هذا الأسلوب من الناحية الأمنية كمًا ونوعًا، فضلا عن اعتماده سياسات العقاب الجماعي والتضييق على سكان المناطق التي يتواجد فيها مقاومون، ومازال يعتمد الاحتلال حتى اللحظة هذا الأسلوب، غير أنه أسلوب لا يخلو من المخاطر أيضاً؛ فعمليات الاغتيالات والاقتحامات تؤدي إلى تزايد الاحتكاك مع الفلسطينيين وتزايد المواجهات الضارية، فبعد كل عملية إطلاق نار يضطر جيش الاحتلال إلى الدخول إلى المناطق الفلسطينية لجمع المعلومات أو للاعتقال، يتورط في مواجهة جديدة يعود بعدها لاقتحام المناطق مجددًا وهكذا دواليك، وهو ما أطلق عليه رئيس جهاز الشاباك “رونن بار” “الدائرة المغلقة“، أو “الدائرة المفرغة“، كما يصفها مدير معهد دراسات الأمن القومي جنرال احتياط “تامير هايمن”، ومن ناحية أخرى، فإن انخراط الأجهزة الأمنية بشكل مباشر في مواجهة المقاومة سيجعلها تبدو بمظهر “الخائنة” أمام الشعب الفلسطيني ما سيفقدها شرعيتها، ومن ورائها السلطة الفلسطينية، وسيضعفها أكثر، وإلى ذلك فإن سياسة العقاب الجماعي تأتي بنتائج معاكسة، وهو ما بدا بشكل واضح في حالة مخيم شعفاط.

المآلات السياسية للهبة الثورية

بغض النظر عن مآلات الحالة الأمنية الراهنة ومدى قدرة الاحتلال على التعامل معها، إلا أنها أعادت النقاش حول مستقبل السلطة الفلسطينية والقضية الفلسطينية بشكل عام؛ فالحالة الأمنية الحالية ليست سوى حلقة من سلسلة هبات، كانت وتيرتها أقل في الحالات السابقة، ولا تمثل سوى قمة جبل الجليد، خاصة أنها لم تصل إلى ذروتها بعد، ولذلك هناك نقاشات ووجهات نظر “إسرائيلية” متعددة ومتباينة المآلات السياسية لما ستتمخض عنه الأحداث.

  1. الاستمرار في مقاربة “إدارة الصراع”

اعتمد الاحتلال طوال السنوات التي تلت الانتفاضة الثانية على مقاربة “إدارة الصراع”، فيما يتعلق بمستقبل أراضي 1967، والملاحظة المهمة أن القضية الفلسطينية لا تقتصر على الضفة الغربية وقطاع غزة، وإنما تشمل الشعب الفلسطيني في الشتات والداخل أيضاً، لكنها اختُزلت مع صعود عملية السلام منذ اتفاقية أوسلو بأراضي 1967 فقط. وكان المدخل للتعامل مع أراضي 1967 قائمًا على “حل الدولتين لشعبين”، لكن هذا الحل تلاشى في ظل حكومات رئيس الوزراء “الإسرائيلي” السابق “بنيامين نتانياهو” الذي اعتمد مقاربة “إدارة الصراع” تحت مسمى “السلام الاقتصادي”.

لم يسهم رحيل “نتانياهو” عن الحكم في تغيير مقاربة إدارة الصراع، حيث جاءت حكومة “بينت – لابيد” بمفهوم قريب من مفهوم السلام الاقتصادي وهو “تقليص الصراع” الذي يندرج ضمن مقاربة “إدارة الصراع” أيضًا، وحسب التصور “الإسرائيلي”، فإن “إدارة الصراع” تستهدف الحفاظ على “الستاتسكو” أو الوضع القائم، بمعنى أن يظل الصراع مجمدًا بحيث لا يتحول إلى صراع عنيف، وذلك بدعوى أنه “ليس هناك شريك للسلام” في المرحلة الحالية، وأن إدارة الصراع ستساهم في كسب مزيد من الوقت لحين وجود شريك، وهو ما يمكن أن يستمر لأجل غير معلوم، لكن على الجهة المقابلة، كانت كل السياسات “الإسرائيلية” تهدف إلى إعادة تشكيل الوضع القائم لمصلحة الاحتلال، ما قوّض حل الدولتين من أساسه.

  • الدولة الواحدة ثنائية القطبية

أسهمت الأحداث الحالية في إعادة النقاش “الإسرائيلي” حول المقاربة التي يجب أن تمثل المدخل للتعامل مع القضية الفلسطينية، فالأحداث ليست سوى مقدمات للتخوف الأكبر لدى الاحتلال “الإسرائيلي”، والمعطيات التي تجري على الأرض من ضم زاحف لأراضي الضفة الغربية، وتزايد التداخل عبر الخط الأخضر من الناحية الاقتصادية بشكل أساسي، وتغلغل “الإدارة المدنية” للاحتلال في شؤون المجتمع الفلسطيني بتجاوز للسلطة الفلسطينية، كلها مؤشرات على أن الواقع يتجه نحو خيار “الدولة الواحدة ثنائية القومية”، وما يزيد من خطورة الوضع هو ارتفاع نسبة مؤيدي الدولة الواحدة في الشعب الفلسطيني، حتى إن بعض مؤيدي هذا الخيار من الجيل الشاب يقبلون بوضعية لا يتمتعون فيها بحقوق متساوية مع اليهود.

إن خيار الدول الواحدة يهدد “إسرائيل” بوصفها دولة “ديمقراطية يهودية” في آن واحد، ولو تدحرجت الأمور إلى الدولة الواحدة، فإن الفلسطينيين سيشكلون الأغلبية العددية فيها، أو سيكونون أقلية كبيرة لا تقل نسبتها عن 40% في أسوأ الأحوال، وهنا ستكون “إسرائيل” أمام خيارين؛ إما أن تحرم الفلسطينيين من حقوقهم السياسية والاجتماعية حتى لا تفقد هويتها اليهودية، وهنا تصبح  دولة “أبارتهايد” بامتياز، كما يرى السفير “الإسرائيلي” السابق “ميخال هراري“، وهو ما سيواجه رفضًا وضغوطًا عالمية، والخيار الثاني أن تمنح “إسرائيل” للفلسطينيين كامل حقوقهم ليكونوا مواطنين متساوين، ما يعني فعليًا التنازل عن هوية “إسرائيل” كدولة يهودية، وكوطن للشعب اليهودي، وانتهاء المشروع الصهيوني.

 يبدو أن هناك انقسامًا كبيرًا في الرؤية حول مستقبل القضية الفلسطينية على المستوى السياسي، وحتى على المستوى الشعبي، عدا عن الخطر الذي يراه بعض المحللين والخبراء الأمنيين والسياسيين في مسألة الدولة الواحدة، ف”إسرائيل” تعاني من أزمة سياسية منذ خمس سنوات شهدت خلالها خمس جولات انتخابية، وهذه الأزمة ضربت في جذور المجتمع الصهيوني؛ فمنذ مطلع السبعينيات بدأ المجتمع الصهيوني بالانزياح إلى “اليمين القومي الديني الإسرائيلي” الذي يرى أنه لا يمكن أن “توجد دولة يهودية بدون يهودا”، في الإشارة إلى الضفة الغربية، واليوم يحتل هذا الجمهور “اليميني” مكانة كبيرة في المجتمع الصهيوني وهو محط تنافس لدى السياسيين “الإسرائيليين” الذين يحاولون جاهدين استقطاب أصوات اليمين في سياساتهم وحملاتهم ودعاياتهم الانتخابية، وهو فعليًا ما يجعل خيار “حل الدولتين” صعب المنال في ظل هيمنة هذه التوجهات على المستوى الشعبي والسياسي.

  • حل الصراع على أساس على الدولتين

تعالت أصوات عدد من الباحثين والسياسيين الإسرائيليين للمطالبة بالتخلي عن مقاربة “إدارة الصراع” والتوجه إلى “حل الصراع” على أساس “حل الدولتين”، حتى أن هذه المطالبة لا تقتصر على كونها أبحاثًا ودراسات أكاديمية، وإنما تتعداها لتكون أقرب إلى المناشدات؛ فهذا رئيس معهد أبحاث الأمن القومي “الإسرائيلي” “تامير هايمن” يخرج في مقاطع فيديو ليحذر من الخطر القادم، إذا لم يتوصل إلى حل يضمن عدم الانجرار للدولة الواحدة، ولا تهدف هذه الدعوات والمناشدات إلا للانفكاك عن الشعب الفلسطيني حفاظًا على المشروع الصهيوني، حيث يرى “هايمن” أن خيار حل الدولتين سيؤدي إلى الحفاظ على “إسرائيل” كدولة يهودية، وديموقراطية، وآمنة، وأخلاقية”.

أزمة الخيار السياسي في المجتمع “الإسرائيلي”:

المجتمع الصهيوني منقسم على نفسه حول التصور الذي يجب أن يحكم الواقع في العلاقة مع السلطة الفلسطينية والقضية الفلسطينية، ومع أن هناك تراجعًا في تأييد خيار حل الدولتين لدى الجمهور “الإسرائيلي”، حيث أظهر استطلاع للرأي لدى المركز “الإسرائيلي” للسياسة الخارجية الإقليمية “متفييم” أن هناك 36% فقط من المجتمع “الإسرائيلي” يؤيدون خيار حل الدولتين، ولكن حقيقة ظلت هذه النسبة متذبذبة طوال العشر سنوات الماضية، ففي فترات الهدوء النسبي ترتفع نسبة تأييد حل الدولتين، التي كانت تصل أحيانا إلى قرابة 70%، وفي فترات التصعيد تتراجع هذه النسبة كما هو الحال اليوم، ولكن ما يجعل هذه النسبة تزداد فعليًا هو صيغة طرح السؤال في الاستبيان، فالاستطلاع التي يصاغ في السؤال على النحو التالي “هل تؤيد حل الدولتين حتى لا يتم الانجرار إلى خيار الدولة الواحدة الخطيرة على “إسرائيل”؟” تكون هناك نسبة تأييد عالية لخيار حل الدولتين، ولكن إذا صيغ السؤال على النحو التالي “هل تؤيد قيام دولة فلسطينية؟” تكون نسبة التأييد متدنية.

في المحصلة المجتمع “الإسرائيلي” منقسم حول هذه المسألة، وليس هناك تصور واضح لما يريده بخصوصها، وهذا الانقسام انتقل إلى النخبة الفكرية والسياسية أيضًا، فرئيس معهد القدس للإستراتيجية والأمن “أفرايم عنفار” يخلص في مقال له بعنوان “الوهم الفلسطيني“، نشره بعد خطاب “لابيد” في الأمم المتحدة، إلى أن الطريقة الاستراتيجية للتعامل مع القضية الفلسطينية في الوقت الحالي هي “إدارة الصراع”، داعمًا كلامه بأنه فعليًا لا يوجد شريك في السلام، فالفلسطينيون فشلوا في إقامة دولة، ولديهم مشاكل كبيرة في الحكم والاقتصاد، والمجتمع الفلسطيني مليء بالصراعات والمشكلات، إضافة إلى أن الطرفين (الفلسطيني و”الإسرائيلي”) لم يصلوا بعد إلى القناعة أو القبول بتقديم تنازلات لتحقيق حل الدولتين، ولذلك ليست هناك إمكانية لإنشاء دولة فلسطينية في الوقت الحالي، حسب رأيه، وفي الناحية المقابلة نجد العديد من المراكز البحثية، وعلى رأسها معهد أبحاث الأمن القومي “الإسرائيلي”، تدعم خيار حل الدولتين وتقدم تصورات “إسرائيلية” متكاملة حول آلية تطبيق هذا الحل.

يمتد هذا الانقسام إلى المستوى السياسي المفكك حول عدد من القضايا، وهذا الانقسام يتغلغل حتى في الحزب الواحد، فبعد أن أعلن “لابيد” تأييده حل الدولتين في خطابه في الأمم المتحدة، أعلن العديد من شركائه السياسيين، الذين ينحدرون من أحزاب “اليمين” في الحكومة الائتلافية معارضتهم لطرح “لابيد”، كما أصدر مئات “الحاخامات” رسالة عارضوا فيها خطاب “لابيد” ووصفوا حل الدولتين بأنه خطير، وحتى ضمن حزب “المعسكر الدولتي” (همحنيه همملختي) الذي يضم وزير “بيني غانتس” ورئيس حزب اليمين الجديد سابقًا “جدعون ساعر” ورئيس الأركان السابق “غادي آيزنكوت”، كان هناك انقسام واضح حول خطاب “لابيد”، حيث أيّده آيزنكوت وأعلن دعمه لحل الدولتين. ولكن في المقابل عارضه كل من “ساعر” و”غانتس”، فالأخير عبّر عن رأيه بمستقبل القضية الفلسطينية أنه لا يريد أن تكون هناك دولة واحدة ثنائية القومية، ولا يريد أن تكون هناك دولة “إرهاب” الضفة الغربية، وأن الحل الحالي من وجهة نظره هو وجود السلطة الفلسطينية ككيان أقل من دولة وأكثر من سلطة أكثر من حكم ذاتي، وعلى أي حال، فمجمل الخطاب “الإسرائيلي” المؤيد لحل الدولتين، يرى أن الوقت الحالي لا يتيح التقدم في هذا الحل، ومعظم ما يطرح من تصورات حول حل الدولتين “إسرائيليًا” يتضمن الحفاظ على القدس والحدود تحت السيطرة “الإسرائيلية” والإبقاء على الكتل الاستيطانية الكبيرة في الضفة الغربية، وغير ذلك من القضايا الإشكالية التي لا يمكن التوصل إلى حل في إطارها.

الختام:

لم تبلغ المقاومة في الضفة الغربية ذروتها بعد، ولكنها حتى اللحظة تشكل مأزقا ل”إسرائيل” التي تواجه صعوبات أمنية في التعامل معها، دون إنكار أن هناك نجاحات لجيش الاحتلال في اغتيال واعتقال بعض المقاومين، غير أن الإشكالية الأهم لا تكمن في عدد المقاومين ومدى اتساع رقعة الأحداث في الفترة الحالية، وإنما في وصول الشعب الفلسطيني، خاصة الجيل الجديد، إلى طريق مسدود وانعدام أفق سياسي، ما يعني أن استمرار المقاومة والهبات الشعبية أمر لا مناص منه، فلو هدأت هبة لا يُعلم كم هو الوقت الذي ستندلع فيه هبة أخرى بشكل أكثر عنفًا، وعليه، فإن الحل الأمني “الإسرائيلي” لحالة التصعيد الحالية، قد يكون فعّالا على المدى القصير، ولكنه غير فعّال على المدى البعيد، وهنا تبرز ضرورة إيجاد حل أو مسار سياسي يضمن فتح أفق جديد للشعب الفلسطيني، ولكن في ظل الانقسامات والأزمات السياسية الحادة التي تشهدها “إسرائيل” لا يبدو أن هناك أي تقدم سيلوح في الأفق فيما يتعلق بحل الدولتين، وإلى ذلك، فإن أقصى ما يطمح له قادة الاحتلال هو محاولة الاستمرار في “إدارة الصراع” للحفاظ على “الستاتسكو” القائم في الأراضي الفلسطينية، وهذا المسعى مقترن بتعزيز السلطة الفلسطينية ودعمها كونها تشكل صمّام الأمان أمام احتمالي “الدولة الفلسطينية” و”الدولة الواحدة”.

في المحصلة، بعد الانتفاضة الأولى جاءت اتفاقية أوسلو ومسار المفاوضات، وبعد الانتفاضة الثانية جاء الرئيس محمود عباس بخيار المفاوضات عبر مسار “أنابوليس” وتوابعه وهو ما ترافق مع سياسة رئيس الوزراء السابق سلام فياض، التي هدفت إلى بناء مؤسسات الدولة وتحسين الأوضاع الاقتصادية، والسؤال هو ما الذي يمكن أن يأتي بعد التصعيد الحالي فيما لو تحول إلى انتفاضة جديدة؟

يرتبط هذا الأمر بشكل كبير بشخصية الرئيس القادم للسلطة الفلسطينية، ومن الواضح أن “إسرائيل” ستكون معنية بإنتاج “أبو مازن جديد”، أي رئيس جديد للسلطة يستمر بنهج الرئيس عباس حتى تستطيع المضي بمقاربة “إدارة الصراع” إلى أبعد مدى، ولكن ما الذي ستقدّمه “إسرائيل” هذه المرّة للشعب الفلسطيني، بعد أن تبيّن أن كل وسائل إدارة الصراع قد استنفدت ذاتها، ولم تعد قادرة على إقناع الشعب الفلسطيني بأن هناك أفقًا قريبًا، كما يرى محللون “إسرائيليون“، وهو ما يعني أن إعادة إنتاج الماضي لن يكون فعّالا على أغلب الظن، كما أن الواقع على الأرض يسير على غير ما تتمناه “إسرائيل”، فالخطر الديمغرافي الفلسطيني الزاحف، الذي يحذّر منه العديد من المحللين وقيادات المستوى الأمني والعسكري، ربما سيغدو حقيقة لا مفر منها على المدى المتوسط.


[1] – باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، رام الله

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى