المشهد الفلسطيني

قراءة في الأحداث المتصاعدة في الأراضي الفلسطينية

كريم قرط[1]

تشهد الأراضي الفلسطينية عددًا من الأحداث المتصاعدة في مناطق مختلفة، خاصًة في القدس وجنين، لعل أبرزها سلسلة العمليات النوعية التي نفذها فلسطينيون من الداخل وجنين بشكل منفصل، التي أدت إلى مقتل 15 “إسرائيليًا” خلال أسبوعين، في ظل ممارسة الاحتلال لعدد من السياسات المتسببة في التصعيد.

تولّد شعور بأننا نشهد جولة أو هبة جديدة مع توسع رقعة الأحداث إلى عدد من المناطق، وانخراط الفلسطينيين فيها من مختلف المناطق الجغرافية، برز خلالها عدد من الأسئلة التي تطرح نفسها، وهي لماذا تصاعدت الأوضاع في هذه الفترة؟ وهل يمكن أن تتحول إلى هبة على غرار هبة أيار 2021 ومعركتها؟ ولماذا بالغ الاحتلال في الترويج لاحتمالية حدوث تصعيد خلال شهر رمضان؟

حملة “عومير هتنوفاه” الاستباقية:

بدأ الاحتلال “الإسرائيلي” ومؤسساته الأمنية بالحديث عن احتمالية حدوث تصعيد خلال شهر رمضان والاستعداد له قبل حلول الشهر بعدة أشهر، بينما لم يكن هناك تحليل وتقدير فلسطيني لاحتمالية التصعيد بحجم وزخم التحليل والتقدير “الإسرائيلي”، حيث أعلن جيش الاحتلال قبل ثلاثة أشهر من شهر رمضان عن حملة “عومير هتنوفاه“؛ لاحتواء التصعيد المحتمل، وتحمل هذه التسمية دلالات مرتبطة بمسار الأحداث التي كان الاحتلال يخطط لها، فهذه التسمية التي تعني “ترديد الحزمة” أو هزها، مأخوذة من طقس تقديم القربان خلال عيد “البيسح” اليهودي، ويتمحور هذا الطقس حول أخذ اليهود حزمة من باكورة حصادهم من القمح أو الشعير، وإعطائها للكاهن ليقدمها للرب ويهزها أو يرددها أمامه، ويترافق مع هذا الطقس تقديم خروف قربان للرب.

من الواضح مدى ارتباط هذه التسمية بعيد “البيسح” “الفصح”، الذي يتزامن مع شهر رمضان خلال هذا العام، ولكن مع تصاعد الأحداث وتطور عمليات المقاومة قبيل شهر رمضان، قام الاحتلال بتغيير اسم العملية إلى “كاسر الأمواج”، حيث كان الاحتلال يتخوف من انطلاق التصعيد من القدس؛ نتيجة لسعي المنظمات الدينية الصهيونية إلى اقتحام المسجد الأقصى، وممارسة شعائرها فيه وخاصة تقديم القربان، التي تستهدف الاستيلاء على المسجد الأقصى وتحويله للهيكل، إذ إن إحياء طقس القربان يشكل إقامة معنوية للهيكل، باعتبار أن المكان قد أصبح هيكلا وإن كانت أبنيته ومعالمه إسلامية، وهو المسعى الذي تحاول المنظمات الصهيونية الوصول إليه منذ 2010 من خلال المحاكم “الإسرائيلية”، وتقديم القرابين في مناطق مجاورة للمسجد الأقصى.

إن تصاعد هذه الهجمات الصهيونية بحق المسجد الأقصى والقدس، مرتبط بطبيعة الحلبة السياسية “الإسرائيلية” الحالية، والحكومة “الإسرائيلية” الحالية التي يتزعمها “نفالتي بينت” رئيس حزب البيت اليهودي المكون من اليهود “الحردليم[2]، الذي يحمل ذات الأفكار التي تحملها الجماعات الدينية اليهودية، وعلاوة على إيمان “بينيت” بذات أفكار الجماعات الدينية، فالحكومة “الإسرائيلية” الحالية مضطرة لإثبات أنها حكومة تنتمي لليمين “الإسرائيلي” في مواجهة الاتهامات الموجهة لها بأنها حكومة يهيمن عليها اليسار والعرب، عدا عن محاولة “بينيت” إظهار قوته وحزمه إزاء رئيس المعارضة “بنيامين نتانياهو”، الذي يسوق نفسه على أنه ممثل اليمين، ويسعى لإسقاط الحكومة الحالية لتحقيق مآربه في العودة إلى الحكم.

من ناحية أخرى، فإن تزامن عيد الفصح اليهودي مع شهر رمضان، الذي يشهد تزايدًا في توافد المسلمين إلى الصلاة والاعتكاف فيه، ومع ذكرى معركة سيف القدس وهبتها، واقتراب ذكرى النكبة، أثار قلقا لدى الاحتلال من احتمال تجدد المواجهات، وخاصة في القدس والمسجد الأقصى، وتمددها إلى مناطق أخرى، أو تحولها لمواجهة عسكرية مع المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة في حال خرجت الأمور عن السيطرة، ما يعني أن الاحتلال “الإسرائيلي” أراد أن يتيح للجماعات الدينية أن تنفذ مخططاتها، ولكنه أراد أن لا تثير تلك المخططات أي تصعيد، فحاول أن يضع خططا ويتخذ جملة خطوات لمنع حدوث التصعيد.

عملية “كاسر الأمواج”:

لم يأتِ تصاعد الأحداث كما توقع الاحتلال، فقد فاجأت موجة عمليات الطعن التي حدثت قبيل شهر رمضان في القدس والنقب المؤسسات الأمنية للاحتلال؛ ومع أن الاحتلال كان يتحسب لاندلاع موجة تصعيد خلال شهر رمضان، إلا أن الأحداث بدأت تتصاعد قبيله وتتطور لتشهد عددا من عمليات إطلاق النار القاتلة؛ ما دعا جيش الاحتلال إلى تغيير اسم العملية التي كان يسعى لتطويق التصعيد من خلالها إلى اسم “شوبير هغاليم” أو كاسر الأمواج، في استعارة لكاسر الأمواج الذي يهدف لصد الموج من البحر.

يعبر هذا الاسم الجديد عن التصور “الإسرائيلي” المتحمور حول أن الأراضي الفلسطينية تشهد موجة تصعيد بين الفينة والأخرى؛ وعليه يجب أن يكون هناك إجراء وقائي يمنع وصول هذه الموجات إلى استهداف المجتمع “الإسرائيلي”، ما يعني تنفيذ سلسلة اعتقالات وتصفيات للعناصر التي من المحتمل أن تكون جزءًا من أيّ موجة قادمة، حيث تكون وظيفة هذه العملية مثل وظيفة كاسر الأمواج الذي ينمع وصولها إلى الشاطئ.

بدأ الاحتلال “الإسرائيلي” من جانب والفلسطينييون من جانب آخر يحللون أسباب التصعيد، تزامنًا مع تصاعد العمليات الفردية والمواجهات في الضفة الغربية، فبينما ينشغل الفلسطينيون في تحليل الأسباب والسياسات  “الإسرائيلية” المؤدية لتصعيد الأوضاع، مثل الاستيطان، والاغتيالات، وسياسات الضم والتهويد، انشغل الاحتلال “الإسرائيلي” في مناقشة وتحليل أسباب هامشية وثانوية ودورها في إحداث التصعيد، مثل تحليل  دور حماس ومعها الجهاد الإسلامي ومن خلفهم إيران في التصعيد، ومعظم التحليل “الإسرائيلي” قائم على كيفية عمل حماس على تصعيد الأوضاع وافتراض استراتيجيات معينة تنتهجها الحركة لتحقيق ذلك، حيث يقول أحد المحللين “الإسرائيليين”  إن ” هناك أهمية لدراسة الأحداث من منظور نظامي، أي نظام تديره حماس من خلف الكواليس بالتنسيق مع الجهاد الإسلامي، وبإيحاء ومساعدة إيرانية وهدفه هو الحفاظ على الإنجاز الرئيسي لحماس من عملية سيف القدس”.

من ناحية أخرى ، فإن التحليل “الإسرائيلي” يتناول أسباب التصعيد بمنطق جغرافي ضيق، يأخذ كل منطقة على حدة؛ ففي النقب مثلا يذهب المحللون “الإسرائيليون” إلى أن تصاعد الأحداث فيه ناتج عن التنافس بين القائمة العربية الموحدة وبين القائمة المشتركة والحركة الإسلامية الشمالية، دون أن يكون هناك نقاش للسياسات الاستعمارية التي تستهدف النقب، وبالإضافة إلى ذلك، يميل التحليل “الإسرائيلي” إلى التعاطي مع بعض الأسباب السطحية للتصعيد وترك القضايا الجوهرية، مثل انتشار السلاح الشخصي بين الفلسطينيين في الداخل، والصدامات التي تنتج عن محاولة الشرطة “الإسرائيلية” الحد من انتشاره.

يمكن القول بناء على ما سبق إن هناك قصورًا في الرؤية “الإسرائيلية” لأسباب التصعيد، لأنها تقوم على ربط كل تصعيد بدور حركة حماس أو غيرها في التحريض، إلا أن العمليات الفردية والاحتجاج غير المنظم هي أمور لا يمكن تحليلها بدراسة دور حماس وغيرها من الفصائل الفلسطينية، وينعكس هذا التحليل القاصر على السياسات “الإسرائيلية” الحالية الهادفة إلى احتواء التصعيد، فسياسة احتواء التصعيد “الإسرائيلية” قائمة على تقديم بعض التسهيلات للفلسطينيين، مثل منح تصاريح العمل والزيارة للفلسطينيين، ولكنها تستمر في سياسات الاستيطان والتهويد والحصار، التي تؤدي إلى إحداث التصعيد.

لماذا تصاعدت الأحداث ؟

من الملاحظ أن العمليات والاحتجاجات لم تكن محصورة في منطقة جغرافية واحدة، وذلك حتى قبل بداية الاعتداءات والاقتحامات اليهودية للمسجد الأقصى، وهذا ما يدعونا إلى البحث حول الأسباب التي تجعل الشارع الفلسطيني في كافة أماكنه مهيئًا للتصعيد؛ فهناك عوامل كامنة تدفع إلى تصعيد دائم، وتمثل الواقع الفلسطيني المعاش، وهي:

  1. الاستيطان الجارف الذي يحاصر ويفتت الضفة الغربية والقدس، ويستخدم الضفة الغربية مكبًا لنفاياته ومياهه العادمة.
  2. عنف المستوطنين اليومي المتزايد، الذي يستهدف الفلسطينيين وممتلكاتهم وأراضيهم ويصل حد العربدة، وتنويع أنماط الاستيطان مثل الاستيطان الرعوي والديني.
  3. بقاء أراضي 1967 تحت الاحتلال “الإسرائيلي” الذي يمارس عليها سياسات استعمارية ورقابية، مثل الحواجز العسكرية، والاعتقالات، وعودة سياسة الاغتيالات، وتزايد أعداد الشهداء.
  4. انعدام الأفق السياسي في ظل قضاء “إسرائيل” على إمكانية التوصل لسلام قائم على حل الدولتين بفعل الاستيطان والسيطرة “الإسرائيلية” الفعلية على الأرض.
  5. سياسة التهويد التي تتبعها “إسرائيل” في النقب، واستهداف الفلسطينيين فيه بشكل مباشر ودائم، بالإضافة إلى مخططات تهويد الجليل.
  6. استهداف القدس بمخططات التهويد والاستيطان، والاستهداف المتكرر للمسجد الأقصى.
  7. استمرار الحصار “الإسرائيلي” على قطاع غزة، وتزايد معاناة الغزيين من آثاره، وخاصة الاقتصادية.

يضاف إلى العوامل السابقة المتشعبة، الظروف الاقتصادية السيئة في الضفة الغربية بالتحديد، التي لها دور مهم في توتر الأجواء، ففي الفترة الحالية هناك عدد من الأزمات الاقتصادية التي قد لا تبدو العلاقة بينها وبين التصعيد الحالي واضحة، ولكنها عوامل مهمة في تراكم الضغط الشعبي، وهي:

  1. أزمة ارتفاع الأسعار التي يتأثر بها السوق الفلسطيني، التي فاقت السوق “الإسرائيلية” بالرغم من التبعية الاقتصادية لها.
  2. أزمة الرواتب لدى السلطة الفلسطينية؛ التي أدت إلى عدم مقدرتها على دفع كامل فاتورة الرواتب لعدة أشهر.
  3. ارتفاع الضرائب على عدد من السلع؛ ما أسهم في تعميق مشكلة ارتفاع الأسعار.

كانت هذه العوامل تتخمر منذ عدة أشهر، وتترافق مع مشاكل اقتصادية أعمق يعاني منها الشعب الفلسطيني، مثل نسبة البطالة المرتفعة (حوالي 26٪)، لا سيما في فئة الشباب (42.1%)، والأجور المتدنية التي يعبر عنها الحد الأدنى للأجور البالغ قرابة ( 582 دولارا) الذي لا يطبق فعليًا، بالإضافة إلى ارتفاع تكاليف المعيشة السابقة لموجة غلاء الأسعار الجديدة خاصة في مجال العقارات والسيارات.

إن للاحتلال دور مهم في تأزيم الوضع الاقتصادي في الضفة الغربية، فعلى عكس ما يدعي أنه يقدم تسهيلات اقتصادية، ضمن الخطط المتعددة لحل الصراع “إسرائيليًا”، والمتمحورة حول تحسين الأوضاع الاقتصادية، إلا أن “إسرائيل” تمارس سياسات واضحة في تأزيم الظروف الاقتصادية، فأزمة رواتب السلطة الفلسطينية، ناتجة عن اقتطاع أموال المقاصة، وتوقف الدعم الخارجي للسلطة الفلسطينية المرتبط بسياسات “إسرائيل” لتصفية القضية الفلسطينية ومحاولة تجاوزها، عدا عن سيطرة “إسرائيل” على الاقتصاد الفلسطيني والهيمنة عليه من خلال برتوكول باريس وتحكمها في المعابر والحدود والموارد، التي تشكل أهم عوامل تفاقم الأوضاع الاقتصادية في الضفة الغربية.

من ناحية أخرى، فالتصور العام بأن إتاحة “إسرائيل” للعمال الفلسطينيين العمل في اقتصادها يشكل عاملًا مهما في تحسين الظروف الاقتصادية، هو تصور مبالغ فيه، حيث إن نسبة العمال الفلسطينيين في الاقتصاد “الإسرائيلي” تشكل 17%  فقط من حجم القوى العاملة الفلسطينية، ولا شك أن هناك مردودًا اقتصاديًا جيدًا يعود على السوق الفلسطيني من ورائهم، إلا أن هذا المردود لا يشمل جميع الفئات الشعبية، وخاصة خريجي الجامعات الذين يعانون من البطالة والعاملين بأجور متدنية.

إن التصعيد في الأراضي الفلسطينية غير مرتبط فقط بالأوضاع الاقتصادية ولا يقصد به ذلك، وإنما المقصود هو أن سياسة التسهيلات الاقتصادية التي تعول عليها “إسرائيل” في تخفيف حدة الصراع أو إسكاته ليست حقيقية، فسياساتها على أرض الواقع تتناقض مع سياسة التسهيل الاقتصادي، بل حتى تسهم في تأزيم الوضع الاقتصادي، عدا عن افتعالها للأزمات السياسية؛ باستهداف القدس والنقب وغيرهما، وعليه، فليست هناك مساعٍ “إسرائيلية” حقيقية لمنع التصعيد سوى من خلال القوة العسكرية.

تعد عوامل التصعيد في المحصلة موجودة بشكل دائم، وفي ظل وجودها لا بد أن يكون التحليل منصبا لتفسير عدم وجود تصعيد وليس وجوده، لأن الحالة الطبيعية في ظل هكذا واقع، هي التصعيد الذي يحتاج إلى شرارات لإشعاله، حيث يمكن “لإسرائيل” إجراء تسهيل في بعض المناطق، أو التخفيف من حدة سياساتها في مناطق أخرى؛ لعدم إشعال العوامل الكامنة، وهذا ما سعت “إسرائيل” إلى تنفيذه في الفترة الحالية، من خلال عقد اللقاءات الدبلوماسية، وتقديم تسهيلات طفيفة، وتجنب الاحتكاك في القدس؛ لمنع تفجير العوامل الكامنة.

يمكن أن يكون التصعيد جزئيًا من الناحية الجغرافية؛ لأن كل جزء من الشعب الفلسطيني يعيش ضمن سياقات متباينة تندرج بشكل عام في السياق الاستعماري الأعم، حيث إن المناطق الفلسطينية المختلفة تشهد بين الفينة والأخرى تصاعدا في الأحداث دون أن يمتد ذلك لبقية المناطق، فالأحداث التي تصاعدت في جنين مؤخرًا لم يمتد أثرها إلى بقية الضفة الغربية، كما أن ساحة المواجهة الحالية في القدس لم ينتقل زخمها بشكل كبير لبقية المدن الفلسطينية في الداخل أو في الضفة الغربية، وهذا ما يعني أن تصاعد الأحداث الحالي غير مترابط وإنما متزامن،  فالأحداث الحالية تتمحور حول القدس وجنين، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هناك نوعًا من الهدوء الحذر يسود الأوضاع في جنين حاليًا، بينما انتقل ثقل الأحداث إلى القدس، كما أن شمال الضفة الغربية وخاصة جنين يشهد تصاعدًا في الأحداث منذ فترة، في ظل الاغتيالات التي تنفذها “إسرائيل” بحق المقاومين هناك، وتراخي قبضة السلطة الفلسطينية عليها.

 

الخاتمة :

يشكل السعي “الإسرائيلي” لاحتواء أي تصعيد ممكن ومحاولة منع حدوثه، وإجراء الحسابات التي تؤدي إلى منع  احتمالية التصعيد، تقدما وانتصارا معنويا للفلسطينيين، إذ تشير هذه الحسابات والاستعدادت إلى أن “إسرائيل” تخشى ردة فعل الشعب الفلسطيني؛ ما يعني أن القضية الفلسطينية ما زالت لها مكانتها، وأن الشعب الفلسطيني ومقاومته أصبح يحسب له حساب؛ ما يشكل انهيارا بطيئا للعقيدة الأمنية الصهيونية، ففي عام 1923 كتب “زئيف جابوتنسكي” الأب الروحي لليمين “الإسرائيلي” مقاله “الجدار الحديدي”، الذي يمكن أن نصفه بإنه أساس العقيدة الأمنية الصهيونية، في مقدمته اعترف “جابوتنسكي” بأن الشعب الفلسطيني لن يسلم بوجود الاستعمار، معتبرًا أنه حتى أكثر الشعوب بدائية لا تقبل بوجود الاستعمار، والشعب الفلسطيني لا يختلف عن هذه القاعدة، كما يعارض “جابوتنسكي” الزعم الصهيوني القائل بإنه يمكن تحقيق المشروع الصهيوني بالتفاهم مع الدول العربية، وتجاوز الشعب الفلسطيني، لأن المشكلة تظل هي معارضة الشعب الفلسطيني للمشروع الصهيوني، لذلك يرى أنه لا يمكن تنفيذ المشروع الصهيوني دون القضاء على معارضة الشعب الفلسطيني، ولن يكف الشعب الفلسطيني عن مقاومة المشروع الصهيوني إلا إذا اقتنع أنه لا يمكن مقاومة هذا المشروع.

إن الشعب الفلسطيني حسب ما قال “جابوتنسكي” لا يمكن أن يصل إلى هذه القناعة إلا بوجود قوة عسكرية فائقة، تكون بمثابة “الجدار الحديدي”، يعجز الفلسطينيون عن مقاومتها، والمهم في هذا الإطار هو الأثر النفسي للجدار الحديدي، فقناعة الفلسطينين بعدم قدرتهم على مواجهة “إسرائيل” ستشكل قوة ردع “إسرائيلية” تجاههم، تجعلهم يتوقفون ذاتيا عن مقاومة المشروع الصهيوني[3]، إذ تتمحور سياسة “إسرائيل” الأمنية حول هذا التصور، وهي سياسة قديمة جديدة، يعاد إنتاجها في كل مرة بمفاهيم جديدة، فمثلا أطلق عليها “بوجي يعلون” “صهر الوعي”، ووصفها “غادي آيزنكوت” في سياق مختلف “بعقيدة الضاحية”، وتقوم هذه السياسة بالأساس على القوة وجودًا واستخدامًا.

يمثل الاستخدام المفرط للقوة في مواجهة العمليات، مثل سياسات العقاب الجماعي وهدم البيوت وأحكام السجن العالية مقارنة بالأفعال، والقصف العشوائي لغزة، وانسيابية إطلاق النار؛ لمجرد الاشتباه بسيدة كبيرة العمر، وإظهار القوة ونشرها لتكون على مرأى الفلسطينيين أينما حلوا وتوجهوا، لبنات في الجدار الحديدي، وفي مقابل القوة المفرطة، يمكن أن تقدم “إسرائيل” بعض الفوائد الاقتصادية، ضمن تصور الحركة الصهيونية الذي رافقها منذ بداياتها بأن الاستعمار مفيد للسكان المحليين، فتارة يقدم لهم فرص العمل، وتارة يساهم في تنفيذ عملية التحديث والتطوير[4].

تهدف كل هذه السياسات إلى إنهاء مقاومة الشعب الفلسطيني للمشروع الصهيوني بشكل جذري، ولكن ذلك ما لم يحدث، وعلى العكس من ذلك، تظهر الفترة الحالية أن الشعب الفلسطيني بوجوده على الأرض، وبقدرته على المقاومة قد اخترق الجدار الحديدي.

من ناحية أخرى، من المتوقع استمرار الأحداث بالتصاعد؛ وذلك لأن عوامل التصعيد الكامنة موجودة بقوة، كما أن هناك العديد من المناسبات “الإسرائيلية” القادمة سيكون محورها القدس، مثل “عيد هشفوعوت”، وذكرى توحيد القدس، التي أدت إلى معركة سيف القدس في أيار 2021، وذكرى وخراب الهيكل؛ ما يعني  احتمالية أن تكون القدس مفجرة لشرارة التصعيد واردة جدا وحتى بعد شهر رمضان.

يلاحظ اطمئنان “إسرائيل” بشكل حذر من عدم انتقال المواجهة إلى قطاع غزة، وتعمل على ذلك من خلال التواصل والتفاهم مع المقاومة الفلسطينية، حيث يرى “يوحنان تسورف” أن هناك عدة اعتبارات تحول دون انتقال المواجهة إلى غزة :

  1. بدأ عمليات إعادة الإعمار بعد تأجيلها لفترة طويلة.
  2. إصدار “إسرائيل” لعدد من تصاريح العمل داخل “إسرائيل” لمواطنين من قطاع غزة، والبالغ عددها 10 آلاف تصريح، ومن المخطط مضاعفتها ل20 ألف.
  3. تراجع التنافس بين الفصائل الفلسطينية، إذ ما زال هناك تنافس بين فتح وحماس، ولكن ليس لديه ذات الزخم، حيث يرى”تسورف” أن حماس تستغل حالة الاستقطاب والتنافس للتحريض على التصعيد.
  4. الحرب الروسية الأوكرانية التي صرفت الاهتمام العالمي نحو أوكرانيا، ومن الصعب جذب اهتمام العالم للقضية الفلسطينية.

إلا أن هذه الاعتبارات لا تؤكد أن غزة ستكون خارج المعادلة، وذلك مرتبط بتطور الأوضاع وبتصاعد العدوان “الإسرائيلي” ضد الشعب الفلسطيني، وهذا ما يمنع “إسرائيل”، على سبيل المثال، من تنفيذ عملية عسكرية كبيرة؛ للقضاء على المقاومة في مخيم جنين.

 

 

 

 

[1] – باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، رام الله.

[2]  اختصار لكلمات حريدي ليؤمي، بمعنى متدين قومي.

[3] ينظر: نبيه بشير، قراءة جديدة لعقيدة الجدار الحديدي، قضايا إسرائيلية، قضايا إسرائيلية ع 69 (2018)، ص ص. 40-51.

[4] ينظر:  وليد دقة، صهر الوعي أو إعادة تعريف التعذيب، (الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات والدار العربية للعلوم، 2010).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى