فصائل اليسار ومنظمة التحرير.. العلاقة الشائكة
د. إياد أبو زنيط
مقدمة
شهد الاجتماع الأخير لمنظمة التحرير الفلسطينية يوم الإثنين 18 أكتوبر2021، توتراً في العلاقة بين الفصائل المنضوية تحت لواء المنظمة، إذ أعلنت الجبهتان الشعبية والديمقراطية وحزب الشعب، مقاطعة اجتماعات المنظمة والعودة المشروطة للمشاركة، إذ كان السبب الأبرز للمقاطعة وقف صرف مخصصات هذه الفصائل من الصندوق القومي لمنظمة التحرير، على خلفية تصاعد الخلافات حول مواضيع متعددة، تمثلت في اعتراض الفصائل الثلاث على الوضع العام للحريات، وضرورة تطبيق قرارات المجلسين الوطني والمركزي لمنظمة التحرير، وأهمية الفصل بين السلطة والمنظمة. علماً أن قرارات المقاطعة اختلفت بين الفصائل الثلاث، فالجبهة الشعبية قاطعت الاجتماعات لأكثر من مرة، بسبب اختلاف الرؤى والأدوار مع المنظمة منذ أوسلو، وكذلك الاعتراض على الخلافات الحاصلة بين التيارات الوطنية والإسلامية.
إلاّ أن كلًا من الجبهة الديمقراطية وحزب الشعب تراجعا عن قرارهما بالمقاطعة، وانخرطا في الاجتماع الأخير للمنظمة بناءً على اتفاقات بشأن ترتيباتٍ أكثر وضوحًا، وحلولٍ أكثر نجاعة لأسباب الخلاف المذكورة أعلاه.
يستعرض هذا التقرير، جانبًا مشهديًا من العلاقة بين حركات وأحزاب اليسار ومنظمة التحرير، عبر محطات عدة وصولا للحالة التي هي عليها اليوم.
سياسة الاعتراض
لم تكن هذه المرة الأولى التي تعترض فيها قوى اليسار على السلوك الحاصل في منظمة التحرير مهددةً بالمقاطعة والانسحاب، ولكن عجلة العملية بدأت مبكرًا لا سيما بعد العام 1974في الدورة الثانية عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني، عندما تم إطلاق البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير، وكانت الخلافات تنشأ وتتلاشى، وتتنامى وتتعاظم، وتكبر وتصغر، لكن ضمن المحافظة على خطوطٍ عريضة للقوى الموجودة وتأثيراتها، غير أنَّ السنوات الأخيرة، شهدت تعاظمًا ملحوظًا في التهديد بالمقاطعة. ففي العام 2018، اتفقت مكونات اليسار الفلسطيني على مقاطعة الاجتماع، غير أنَّ اختلاف الرؤى بين تلك المكونات جعل المقاطعة مقتصرا علىالجبهة الشعبية دون غيرها.
وفي الاجتماع الأخير لتنفيذية المنظمة، والذي عُقد في أواخر تشرين أول/ أكتوبر الماضي، بدا واضحًا أن الموقف المتخذ من المقاطعة يستند لعدة أسباب، تمثل أبرزها، في قطع مخصصات المعترضين من قبل الرئيس محمود عباس، والمطالبة بالإصلاح الداخلي للمنظمة، والاعتراض على آلية التعامل مع الحريات والحقوق في الشارع الفلسطيني، فضلًا عن المطالب باتخاذ موقفٍ واضحٍ بشأن تنفيذ القرارات الصادرة عن المجلسين الوطني والمركزي لمنظمة التحرير، لكنَّ سياسة المقاطعة والانسحاب من المشاركة، تبدو وكأنّها لا تتبنى موقفًا مبدئيًا بقدر ما يتم استخدامها كوسيلة ضغط، وهذا ما كشفته دعوة المقاطعة الأخيرة، والتي استنكف عنها كلٌ من الجبهة الديمقراطية وحزب الشعب، بعد تطميناتٍ بصرف المخصصات، ومعالجة أسباب الخلاف المذكورة، قدمها الفصيل الأكبر في المنظمة والمتمثل في حركة فتح، في الوقت الذي أكدَّ فيه مسؤولون من الديمقراطية وحزب الشعب، أن الأمر لا يتعلق بالمخصصات فقط، وإنما تم التوصل لاتفاق ثلاثي بين حركة فتح والفصيلينتضمن عدة نقاط، أهمها أن الحقوق المالية للفصائل جميعًا محفوظة ولا تمس نتيجة الخلافات السياسية، وأن يتم الالتزام بهذا المبدأ، وإعادة صرف مخصصات الفصائل.
وأكد الاتفاق ضرورة تصويب وضع اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وضرورة انتظام اجتماعاتها برئاسة الرئيس، واضطلاعها بدورها كاملاً في ما يتعلق بمسؤوليتها، من حيث الاطلاع والمشاركة في القرارات التي تتعلق بالشأن السياسي والقيادي للشعب الفلسطيني، وضمان انتظام حصولها على التقارير المتعلقة بالاتصالات السياسية في هذا الإطار.
وتضمن الاتفاق أيضًا التأكيد على أن منظمة التحرير هي مرجعية السلطة الفلسطينية، والفصل بوضوح بين المنظمة والسلطة، وكذلك توضيح العلاقة المترتبة على ذلك بين المنظمة وبين مؤسسات السلطة المختلفة، بما فيها الحكومة. كما تضمن الاتفاق المباشرة بالحوارات الثنائية والجماعية، من أجل معالجة القضايا العالقة بين قوى منظمة التحرير، بما يعزز دور المنظمة، والتحضير الفوري لعقد لقاء رباعي يضم حركة فتح والجبهتين الشعبية والديمقراطية وحزب الشعب، إضافة لكل اللقاءات الجماعية مع القوى الأخرى، بما يحافظ أيضًا على الجهد الجماعي، من أجل إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة.
ترتيبات لمرحلة مقبلة
بناءً على مقاطعة الجبهة الشعبية، واعتراضات كل من الجبهة الديمقراطية وحزب الشعب، عقد اجتماع مشترك بين حركة فتح والجبهة الديمقراطية، وقد جرى استعراض الأوضاع الفلسطينية الراهنة في ظل التحديات والمخاطر التي تواجه القضية الفلسطينية وأخطرها استمرار التوسع الاستيطاني الاستعماري، والاستيلاء على الأراضي الفلسطينية وهدم منازل المواطنين، ومحاولة تهجيرهم من بيوتهم خاصة في القدس عاصمة الدولة الفلسطينية، وأكد الجانبان ضرورة تطوير المقاومة الشعبية في التصدي لهذه الأعمال، والعمل على تعميمها وتوسيع المشاركة الوطنية فيها، وتفعيل القيادة الوطنية الموحدة للمقاومة الشعبية وصولا للعصيان الوطني الشامل. كما ناقش الاجتماع التحضيرات التي بدأت من أجل انعقاد المجلس المركزي وفق قرار اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وتنسيق مواقفهم المشتركة لتعزيز وحدة منظمة التحرير باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني على طريق الحوار الوطني الشامل لإنهاء الانقسام في الساحة الفلسطينية، ويجري حاليا التحضير لعقد اجتماع آخر مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في إطار تحرك فتح لإذابة الخلافات، وإزالة أي عوائق تعترض طريق عقد المجلس المركزي بمشاركة كل فصائل منظمة التحرير.
ثلاث ركائز أساسية
يتضح أن جملةً من الأسباب ولدت الخلافات المتعلقة بمشكلة اليسار الحالية مع منظمة التحرير، وتختلف أسباب الخلاف تلك، بين تعارض في الطرح والرؤى، مع فصائل كبرى في المنظمة كحركة فتح، حسب مبررات الجبهة الشعبية، وأخرى تتعلق بالمخصصات المالية حسب الجبهة الديمقراطية، ولكن يُمكن القول أنَّ تقليص البون والفجوة بين فصائل منظمة التحرير ينعكس على الحالة الفلسطينية برمتها، والخلاص يكمن في معرفة أنَّ أسباب الخلاف الجاري بين فصائل اليسار، وحتى الفصائل الفلسطينية الأخرى، سببها غياب التالي:
- الوضوح المؤسّساتيّ: والمتمثل في فصْل السلطة الوطنية الفلسطينية عن منظّمة التحرير الفلسطينية، وتوضيح أدوار السلطة الفلسطينية ومنظّمة التحرير الفلسطينية ووضعهما، واستعادة منظّمة التحرير الفلسطينية الأسبقية في مجال السياسة الوطنية وصنع القرارات.
- الوضوح التمثيليّ: المصالحة بين الفصائل الفلسطينية على مستوى منظّمة التحرير الفلسطينية من خلال إصلاح النظام الانتخابي وإجراء انتخابات في أقرب وقت ممكن؛ إعادة هيكلة منظّمة التحرير الفلسطينية لتكون أكثر تمثيلاً؛ إنشاء مساحة عامة لتبادل الأفكار والبرامج السياسية.
- الوضوح العلائقيّ: من خلال منظّمة التحرير الفلسطينية، وإجراء إعادة تقييم وموضعة للعلاقة الفلسطينية مع إسرائيل خارج إطار عمل أوسلو، والتفكير في إعادة تحديد طبيعة النظام الإسرائيلي والموقف الفلسطيني ضمنه.
العلاقة الشائكة ومخارجها
في ظل العلاقة الشائكة داخل منظمة التحرير والفصائل المنضوية تحتها، ومحاولات استخدام المالي السياسي كجزء من العقاب تارة أو الضغط تارة أخرى، يبقى المخرج الأهم هو محاولة إعادة تفعيل حقيقي لمنظمة التحرير تقوم على أسس متعددة مقوماتها هي:
- ضرورة البدء بمجموعة من الحوارات البناءة والجادة من حركة فتح، هدفها التشاور مع الجميع، ضمن ما يخدم المصلحة الوطنية الفلسطينية، لإحداث حالةٍ من الاستنهاض في بنى وهياكل منظمة التحرير ومؤسساتها، مما يُمكنها من استعادة دورها وتأثيرها الفعلي، ومكانتها الحقيقية.
- أن تبدي فصائل اليساراستعدادا حقيقيا يقوم على الموازنة المسؤولة بين التزامات مفترضة واستحقاقات موجبة؛ أي كما أنها تطالب بحقوقها الكاملة عليها أن تكون ذات فاعلية في الدور الذي يمكن أن تلعبه ضمن إطار منظمة التحرير.
- فتح مطالبة بإعادة النظر إلى المعادلة الوطنية الداخلية ضمن مكون ائتلافي وطني عريض على قواعد سياسية وتنظيمية، وليس قاعدة الموالاة أو المعارضة فقط؛ وهو ما يعني الحد الأدنى من مفاهيم المشاركة السياسية حتى في إطار منظمة التحرير الفلسطينية في واقعها الحالي.
الخلاصة:
هنالك اختلاف في مواقف فصائل اليسار في الفترة الأخيرة من منظمة التحرير، فالجبهة الشعبية تتخذ مواقف مختلفة عن الجبهة الديمقراطية وحزب الشعب، حيث ترتكز مواقفها، حسب تصريحاتِ مسؤوليها على رفض التفرد والتحكم لمنظمة التحرير الفلسطينية ورفض إصلاح النظام السياسي، فيما تزداد مواقف فصائل اليسار الأخرى، ظهوراً عند قطع المخصصات، وعلى الرغم من أهمية وأحقية المستحقات المالية لفصائل اليسار، إلاّ أنّه بات مطلوباً من تلك الفصائل، مراجعةً تامةً لمفهوم الدور والتوجه لديها تجاه الحالة الوطنية الشاملة، وعدم الارتباط بمواقفها فقط من منطلقات استحقاقات مالية، بل يتعدى الأمر إلى ضرورة أن تعيد ترتيب أوراقها بمراجعة شاملة تُجيب على تساؤلاتٍ عدة، في مقدمتها، ما المطلوب منها في هذا الوقت؟ وما هي الأدوار التي يمكن أن تلعبها في ظل حالة الاستقطاب السياسية الداخلية واستمرار حالة الانقسام السياسي، لتستعيد دورها المؤثر والحقيقي، على مستوى الساحة الفلسطينية برمتها.