فتيات انتفاضة القدس: أدوار ريادية ومعايير خاصة

يُمكن القول إن مشاركة الفتاة الفلسطينية سمة أساسية من سمات النضال الفلسطيني، وإن اختلفت أشكال هذه المشاركة باختلاف أشكال وظروف النضال التي تقتضيها طبيعة المرحلة التاريخية، فنموذج الفتاة الملثمة بالكوفية على الهيئة المُتعارف عليها شعبيًا ووطنيًا للفدائي والمقاوم؛ نموذج خالد في الذاكرة الثورية للشعب الفلسطيني، فقد شاركت فتيات الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة) في صناعة المشهد الثوري العام، فقمن برشق الحجارة وتنظيم الاحتجاجات الشعبية وخياطة الأعلام وصناعة اللثام، كما لم يمنع الطابع العسكري الذي تميزت به الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) من المشاركة النسبية للفتيات فيها أيضًا، فقمن بتنفيذ عمليات فدائية، والشارع الفلسطيني يحتفظ في ذاكرته برموز نسائية للمقاومة الفلسطينية كدلال المغربي وليلى خالد وسميحة خليل وأحلام التميمي وآيات الأخرس وريم الرياشي.

عاد هذا النموذج التاريخي بالفتاة الفلسطينية المناضلة إلى الواجهة بعد الهبة الجماهيرية التي شهدتها الأراضي الفلسطينية في مطلع أكتوبر (تشرين أول) الماضي، بسبب الحضور المكثف للفتيات الذي سجله الميدان والإعلام وتناقلته وسائل التواصل الاجتماعي، فقد شهدت محاور الاشتباك وخطوط المواجهة المباشرة بين الشباب المنتفض وقوات الاحتلال حضورًا لافتًا للفتيات اللاتي تصدّرن الاحتجاجات وسابقن الشبّان في إلقاء الحجارة والزجاجات الحارقة، أصيبت على إثرها عشرات الفتيات إصابات متفاوتة كانت أبرزهن داليا نصّار التي وصفت حالتها آنذاك بالخطيرة. (أبو الخير، 2015)

المُتتبع لتسلسل الأحداث التي أفضت إلى انطلاق شرارة الانتفاضة وتحريك عجلتها؛ يرصد الدور الهام الذي لعبته الفتاة المقدسية في التصدي لانتهاكات الاحتلال للمسجد الأقصى والإجراءات الفعلية وغير المسبوقة التي قام بها في إطار تفعيل مشروع التقسيم الزماني والمكاني في ظل غياب الموقف الرسمي الفلسطيني والعربي.

فللفتاة في المجتمع الفلسطيني رمزية خاصة وثقل مُقدّس تلتف حوله معاني "الشرف والكرامة"، وإن المساس بهذا الثقل المركزي سيشعل الحميّة وروح الانتقام، فالفتاة المقدسية كانت حاضرة في التصدي لمشروع التقسيم منذ مراحله المُبكرة منذ العام 2010 من خلال المشاركة في مشروع "مصاطب العلم" الذي بدأ كمشروع علمي بحت، يهدف لإعادة مركزية المسجد الأقصى في تثبيت معالم الهوية العربية لمدينة القدس والتصدي لمحاولات تهويدها، والذي يعني الحضور المُنظّم في المسجد الأقصى، وإحياء الطابع الإسلامي للمكان من خلال حلقات تحفيظ القرآن ودروس العلم الشرعي.

لاحقًا فَرض على الفتاة الفلسطينية التصاعدُ التدريجي في الانتهاكات والاقتحامات استحداث أشكال احتجاجية جديدة، تمثلت في التصدي المباشر للمستوطنين ومحاولة منعهم من دخول المسجد الأقصى، وعرقلة الاقتحامات بطرق سلمية لا تتعدى في غالبها التلويح بإصبع السبابة ورفع الصوت عاليًا بالتكبير والتهليل في وجه المقتحمين، وفي المقابل تصاعدت قسوة وعنجهية الاحتلال في محاولاته التصدي لهذا النموذج الجديد من منتفضات القدس، فبدأ بحظر "مصاطب العلم"، ومارس كل أشكال القمع والإرهاب والتنكيل من ضرب وشتم وسحل للمرابطات عند بوابات المسجد الأقصى، وضيّق الخناق عليهن بسلسلة من الإجراءات العقابية شملت الاعتقال وإسقاط الحقوق الأساسية كحرمانهن من التأمين الصحي (عبدربه، 2016)، وإبعاد بعضهن المؤقت عن المسجد الأقصى والبلدة القديمة كانت منهن سمية طه (22 عامًا) (الربيدي، 2015)، ولطيفة عبد اللطيف (24 عامًا) (عبداللطيف، 2015)، وآية أبو ناب (17 عامًا) (الجزيرة.نت، 2016)، وأصدر الاحتلال "القائمة السوداء" في 1082015، وهي لائحة تضم أسماء أكثر من 60 فتاة وسيدة مقدسية يمنع الاحتلال دخولهن المسجد الأقصى دون وجود قرار من المحكمة الإسرائيلية (معا، 2015)، تضمنت هذه القائمة كلاً من غدير ورشا الرجبي وكوثر وإسراء غزاوي وهن فتيات تقل أعمارهن عن 16 عامًا (الحلواني، 2016).

هذا النموذج الفريد للفتاة الثورية وما قُوبلت به من قمع إسرائيلي عنيف خلق حالة من الاحتقان والغليان في الشارع الفلسطيني كانت الفتاة أيقونتها الأولى وعنوانها العريض الذي ألهب مشاعر الجماهير، ما لبثت هذه الحالة أن تُرجمت بتنفيذ أول عملية طعن فردية قام بها الشهيد مهند الحلبي في القدس مساء يوم السبت 3/ 10/2015 (سمري، 2015)، تلت هذه العملية سلسلة من عمليات الثأر الفردية التي أراد بها منفذوها أن يثأروا للمسجد الأقصى وللمرأة الفلسطينية من الانتهاكات والاعتداءات الإسرائيلية، كما عبّر بعضهم على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، كالشهيد رائد جرادات (22عامًا) الذي نفذّ عملية طعن ثأرًا لدماء دانيا ارشيد كان قد وثق أسبابها على صفحته في موقع "فيس بوك" قبل ثلاث ساعات من تنفيذه للعملية بوضعه صورة الشهيدة متبعًا إياها بعبارة "تخيلها أختك". (مراد، 2015)

شكّل هذا الطابع الفردي غير المُنظّم لعمليات الطعن والدهس العمود الفقري لانتفاضة القدس، الذي كشف عن عدم جهوزية المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية للتصدي لمثل هذه الهجمات، الأمر الذي أربك الاحتلال وأعجز أجهزته الأمنية، فقد عبرت هذه الفردانية والبساطة في التنفيذ والتخطيط عن عدم استكانة الجيل الجديد للاحتلال وانتهاكاته، كما وتدلل على فشل المحاولات التي قامت بها منظومة التنسيق الأمني في خلق الفلسطيني الجديد وتدجينه وهندسة وعيه، حيث أشار المحاضر في جامعة بيرزيت الدكتور علاء العزة "أن هذه الهبة هي كسر لرمزية السلطة بكل مؤسساتها الاحتلالية والمحلية" (العزة، 2016).

من جانب آخر تعري الهبة الحالية ممارسات السلطة الفلسطينية في سعيها الحثيث لتقويض مشروع المقاومة وتثبيت مسار التسوية السلمية، وما ترتب عن هذه الممارسات من عمليات ممنهجة لاستئصال فصائل المقاومة في الضفة الغربية بالتحديد، ومحاصرة كل أشكال نشاطاتها الخاصة والعامة، إلى الحد الذي استنزف هذه الفصائل وأنهك مشروعها، مما أنتج حالة من الضعف العام في الصف الوطني وعدم القدرة على احتضان هذه الموجة الثورية بالشكل الذي رأيناه في الانتفاضة الثانية.

الطابع الفردي استفاد من حالة السيولة والسهولة في شروط الإعداد والتنفيذ، فهو من الجانب التقني لا يتطلب إتقان مهارات حربية وقتالية، كما لا يواجه صعوبة في توفير أدواته، وهو أيضًا من الجانب التنظيمي لا يحتاج إلا لإرادة وتصميم المُنفذ. هذا دفع شريحة واسعة من الشباب والشابات إلى الانخراط في الهبة الحالية، فقد أورد التقرير الذي أعدته "يديعوت أحرونوت" في 16/ 2/ 2016 حول الوثيقة التي أعدها جيش الاحتلال الإسرائيلي و"الشاباك" والتي عُرضت أمام القيادة العامة للجيش الإسرائيلي عن انتفاضة القدس الحالية، أن 11% من "المهاجمين" هن فتيات، وأن الفتاة تحتل مكانها في جولة التصعيد بشكل متزايد، وقد أصبحت المهاجمات من أمثال أشرقت قطناني وهديل الهشلمون رموزًا في الشارع الفلسطيني  (Yehoshua, 2016)، كما أفادت مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان أن عدد النساء اللواتي اعتقلن منذ بداية أحداث هذه الموجة الثورية 63 معتقلة، 18 منهن اعتقلن بدعوى تنفيذ عمليات طعن (مؤسسة الضمير، 2016)، الأمر الذي يُشير إلى المشاركة الكثيفة (من حيث العدد) للفتيات اللواتي أقدمن على تنفيذ عمليات طعن ودهس لجنود ومستوطنين في مناطق مختلفة من الضفة الغربية والداخل المحتل.

في سياق متصل حملت فتيات انتفاضة القدس على عاتقهّن أيضًا مهمات الحشد والتعبئة والتأطير، وأعدن استخدام أدوات الإعلام الجديد في تعزيز الجبهة الداخلية وتأجيج الشارع الفلسطيني ضد انتهاكات الاحتلال، من أبرز هذه الأدوار ما قامت به الإعلاميات المقدسيات من أمثال لواء أبو رميلة ويناد الشرباتي وسماح دويك في توثيق اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى واعتداءاتهم على المرابطات (الحلواني، 2016)، كما وشاركن في العديد من المحافل المحلية والدولية بهدف تكوين رأي عام عالمي يرفض انتهاكات الاحتلال ويضغط على صناع القرار لاتخاذ المواقف اللازمة، كان أبرزها مؤتمر نصرة الأقصى في اسطنبول التابع لمركز العلاقات العربية التركية، وفعاليات دعم القدس التابعة لنقابة المهندسين الأردنيين (خويص، 2016).

الانتفاضة الحالية ساهمت إلى حد ما في مساعدة الفتاة الفلسطينية على تجاوز العديد من العقبات الاجتماعية والثقافية، التي تقيد دورها في النضال والكفاح الفلسطيني، فقد لعب الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي دورًا في تخفيف القيود الاجتماعية من خلال انتشار مجموعة واسعة من صور ومقاطع فيديو لمشاركة الفتيات في الهبة بأشكال مختلفة، بالإضافة إلى انتشار الأغاني الفلسطينية التي تشيد بدورها، وكما ترى الأسيرة المحررة والمحاضرة في جامعة بيرزيت رولا أبو دحو فإن فتيات انتفاضة القدس كُن أكثر حظًا في الحضور في وسائل الإعلام الجديد وتوثيق مشاركتهن، الأمر الذي يضيف حلقة جديدة من الحلقات المتراكمة في التاريخ النضالي للفتاة الفلسطينية. (أبودحو، 2016)

على أهمية العدد الكمي لمساهمات الفتاة في الهبة الحالية إلا أن المساهمات النوعية أكثر أهمية، فالالتفاف الشعبي والقيمة الرمزية التي حظيت بها "الفتاة الثورية"، ودور الإعلام الجديد في توثيق هذه المشاركة والإشادة بها، يُمكن قراءته في سياق الدراسات المجتمعية بتطور وعي فلسطيني قادر على تكوين رأي عام أكثر قبولاً لمشاركة الفتاة في العمل النضالي، وتقليل الضغوطات التقليدية التي تحد من ذلك.

فحالات المد الثوري هي دائمًا في صالح المرأة، فالتجارب التاريخية تثبت أن الثورات ضد العدوان الخارجي يصاحبها في الغالب ثورات ضد المعيقات والموروثات المُكبلة للمرأة، كما أن أجواء الخنوع والاستسلام يصحبها خضوع أكثر للموروثات (أبودحو، 2016)، ويرى علاء العزة أن للمقاومة رمزية وطنية لا تعلوها أي قيمة أخرى، والميدان أكثر قدرة على تفكيك تلك القيود، فالمجتمع يتقبل أشكال التعاون بين الرجل والمرأة في الميدان بينما قد لا يتقبلها في أي مكان آخر، وأضاف أن هذا الجيل الفلسطيني الجديد هو جيل متعلم يخضع لواقعه ويتأثر به، ويبتعد نسبيًا عن كل أسباب الصراع الأيديولوجي والمجتمعي، فالعنف الاستعماري المباشر الذي طال الفتاة نفسها كما حدث مع هديل الهشلمون وعائلة دوابشة فرض عليها إرادة المقاومة للدفاع عن نفسها كما فرض على المجتمع احترام تلك الإرادة (العزة، 2016).

قائمة المراجع باللغة العربية:
الجزيرة.نت. (15 2, 2016). المنتفضون الجدد. تم الاسترداد من الجزيرة.نت:
http://www.aljazeera.net/programs/al-jazeeraspecialprograms/2016/2/12/المنتفضون-الجدد
أمينة أبو الخير. (19 تشرين أول, 2015). أول فتاة خرجت في "هبة القدس". تم الاسترداد من دنيا الوطن:
http://www.alwatanvoice.com/arabic/news/2015/10/19/795616.html
خديجة خويص. (19 شباط, 2016). دور المرابطات في انتفاضة القدس. (الباحثة، المحاور)
رولا أبودحو. (20 شباط, 2016). دور الفتيات في انتفاضة القدس. (الباحثة، المحاور)
زينب الربيدي. (16 أيلول, 2015). مرابطات عن الأقصى حولن القائمة السوداء إلى "ذهبية". تم الاسترداد من العربي الجديد:
http://www.alaraby.co.uk/politics/2015/9/16/%D9%85%D8%B1%D8%A7%D8%A8%D8%B7%D8%A7%D8%AA-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%82%D8%B5%D9%89-%D8%AD%D9%88%D9%84%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A7%D8%A6%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D8%A1-%D8%A5%
عبير مراد. (26 تشرين أول, 2015). (آخر ما كتبه الشهيد على الفيسبوك).."رائد جرادات" .. الثائر الأول لدماء دانيا التي قتلتها اسرائيل بعشر رصاصات. تم الاسترداد من دنيا الوطن:
http://www.alwatanvoice.com/arabic/news/2015/10/26/800509.html
علاء العزة. (20 شباط, 2016). دور الفتيات في انتفاضة القدس. (الباحثة، المحاور)
لطيفة عبداللطيف. (4 أذار, 2015). الإبعاد المؤقت عن المسجد الأقصى. (المركز الفلسطيني للإعلام
https://www.palinfo.com/news/2015/3/4/بعد-انتهاء-مدة-الإبعاد-عن-الأقصى—مرابطات-يعُدن-بهمة-عالية
محمد عبدربه. (17 كانون ثاني, 2016). المرابطات والمرابطون يتحدون العقوبات الإسرائيلية. تم الاسترداد من العربي الجديد:
http://www.alaraby.co.uk/politics/2016/1/16/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%A7%D8%A8%D8%B7%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%A7%D8%A8%D8%B7%D9%88%D9%86-%D9%8A%D8%AA%D8%AD%D8%AF%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%82%D9%88%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9
مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق مؤسسة الضمير. (17 2, 2016). احصاءات حول عدد الأسيرات في انتفاضة القدس. (الباحثة، المحاور)
نجوان سمري. (2015). الشهيد مهند الحلبي منفذ عملية القدس. رام الله:
http://www.aljazeera.net/programs/newsreports/2015/10/5/الشهيد-مهند-حلبي-منفذ-عملية-القدسالجزيرة.نت.
هنادي الحلواني. (24 شباط, 2016). دور المرابطات في انتفاضة القدس. (الباحثة، المحاور)
وكالة معا. (3 أيلول, 2015). الإحتلال يصدر "قائمة سوداء" بحق 40 مقدسية. تم الاسترداد من وكالة معا الاخبارية:
https://www.maannews.net/Content.aspx?id=796266

• المراجع باللغة الإنجليزية:
Yehoshua, Y. (2016, February 17). 11% of terrorists in current wave of violence were women. Retrieved from يديعوت: 
http://www.ynetnews.com/articles/0,7340,L-4766959,00.html
 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى