المشهد “الإسرائيلي” أيلول/سبتمبر 2022

د. عدنان أبو عامر

المقدمة:

شهدت دولة الاحتلال خلال شهر سبتمبر العديد من التفاعلات السياسية، لعل أهمها: استمرار الهجمات الفدائية الفلسطينية، وصدور دعوات “إسرائيلية” لتنفيذ نسخة جديدة من عملية “السور الواقي” لوقف تلك الهجمات، والجدل “الإسرائيلي” حول إنجاز اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع لبنان، واستنفار “إسرائيلي” لاستقبال أفواج جديدة من مهاجري يهود روسيا وأوكرانيا، وترقب لافت لفوز اليمين الأوروبي في السويد وإيطاليا، وأثره على مستقبل العلاقات مع دولة الاحتلال.

  • تباين “إسرائيلي” تجاه سور واقي جديد:

في الوقت الذي يتحضر فيه جيش الاحتلال لتوسيع عملياته العدوانية في الضفة الغربية؛ بزعم التصدي للهجمات الفدائية، صدرت أصوات عسكرية أخرى ترى أنه ليست هناك حاجة لعملية واسعة النطاق للقضاء على هذه الهجمات، بزعم أن الموجة الحالية من العمليات ليست هي ذاتها التي دفعت إلى شنّ عملية السور الواقي في 2002، ولأن عملية واسعة كهذه بهذه المرحلة ستكلف الاحتلال ثمنًا استراتيجيًا باهظًا، وبالرغم من أن العدوان الأخير على جنين، والذي أسفر عن استشهاد أربعة مقاومين، يعتبر النموذج المفضل لدى الاحتلال، لكنه لا يعفيه مما يسميها ورطة “الحلقة المفرغة” التي تشهدها عملياته في الضفة الغربية، فدائرة التصعيد مستمرة، وليست في طريقها للتوقف، مما قد يستدعي من الجيش الانخراط فيما يصفها عمليات اعتقال استباقية لإحباط هجمات مستقبلية، كما أن ما شهدته الأيام القليلة الماضية من خطاب “إسرائيلي” متزايد حول الحاجة إلى تنفيذ عملية “السور الواقي 2” في الضفة الغربية، يتجاهل كلفتها الاستراتيجية، وذلك بسبب زيادة النقد الخارجي والداخلي الذي قد يقوض شرعيتها، ويعيد إغراق الخطاب السياسي الدولي بالحديث عن القضية الفلسطينية، وهو ما لا تريده “إسرائيل”.

في الوقت ذاته، يمكن تفسير تزايد الأصوات “الإسرائيلية” بالحاجة إلى تنفيذ عملية “سور واقي” جديدة، مع تزايد الهجمات الفلسطينية ضد الجنود والمستوطنين، رغم أن الاحتلال يتمتع اليوم بحرية عملياتية كاملة للعمل في الضفة الغربية.

لا يخفي الاحتلال سياسيًا ترحيبه بأن القضية الفلسطينية لم تعد جزءًا من الخطاب السياسي الدولي، ما يجعل من تنفيذ عملية كهذه مناسبة لعودتها، كما أن عمل ووجود قوات الأمن الفلسطينية يمكِّن من بقاء حكم السلطة الفلسطينية، وهذا في مصلحة “إسرائيل”، لأن تحطيمها في أي عملية عسكرية واسعة يعني خطرًا على استقرارها.

تظهر الخلاصة “الإسرائيلية” أنه ليس هناك حاجة لعملية عسكرية واسعة النطاق على جميع أراضي الضفة الغربية، لأنها قد تضر أكثر مما تنفع، وفي المقابل يذهب الجيش لتنفيذ هجمات متقطعة عالية الكثافة، لكنها مقتصرة على منطقة معينة، مدينة أو مخيم للاجئين، وفي الوقت ذاته بذل مزيد من الجهود للحفاظ على نسيج الحياة الاقتصادية المدنية، وزيادة التنسيق الأمني مع قوى الأمن الفلسطينية، وحماية المحاور والمستوطنات وخط الجدار الأمني، دون أن يضمن كل ذلك توقف الهجمات.

  • ترقب “إسرائيلي” لفوز اليمين الأوروبي:

تراقب الأوساط “الإسرائيلية” التطورات التي تشهدها القارة الأوروبية، خاصة في السويد وإيطاليا، وسط مخاوف من وضع الجاليات اليهودية فيها أمام معضلة صعبة، لأن “الإسرائيليين” يعتبرون أن هذه الأحزاب اليمينية الفائزة في أوروبا ذات طبيعة إشكالية؛ بسبب صلاتها السابقة باليمين المتطرف والفاشيين والنازيين الجدد، وضمت قوائمها مرشحين عبروا علانية عن مواقف معادية للسامية ول”إسرائيل”، وإنكار المحرقة، وتشجيع حركة المقاطعة.

تخشى المحافل “الإسرائيلية” من اليوم التالي تشكيل هذه الأحزاب للحكومات الأوروبية الجديدة، في حال السعي لاتخاذها مواقف معادية ل”إسرائيل” في الأمم المتحدة، والتصدي لقانون وتشريع ضد حركة المقاطعة العالمية BDS، وإمكانية زيادة عدد أعضاء البرلمانات الذين قد يعبرون عن مواقف متطرفة ضد “إسرائيل”.

يتخوف “الإسرائيليون” في إيطاليا مثلا، من فوز اليمين، لأنها لم تصوت أبدًا ل”إسرائيل” في الأمم المتحدة، ولذلك اتسم رد فعلها الأولي تجاهها بالبرود والفتور، فيما لا تخفي قلقها من اتساع رقعة التضامن الإيطالية الشعبية مع القضية الفلسطينية، حيث غالبا ما تشهد عدة مدن فيها مظاهرات رافضة للخطط الاستيطانية، ويتجمع عشرات الفلسطينيين والمتضامنين الإيطاليين.

أمّا السويد التي فاز فيها اليمين بأغلبية ساحقة؛ فلا تعتبر صديقة ل”إسرائيل”، وشكلت السنوات الثماني الأخيرة من حكم الاشتراكيين الديمقراطيين سجلاً سلبياً من موقفهم تجاه “إسرائيل”، ويوجد بينهم لوبي مؤثر مؤيد للفلسطينيين، وعندما فاز اليمينيون دعت تل أبيب لمقاطعتهم، بدعوى أن “إسرائيل” “الرسمية” لا تعطي شرعية لأحزاب ذات تراث نازي جديد.

اتخذت “إسرائيل” هذه السياسة وهي تعلم أنها لن تخدم علاقاتها مع السويد في السنوات الأربع المقبلة، حيث سيكون “السويديون الديمقراطيون” الحزب الأكثر أهمية في السياسة المحلية، مع أن العلاقات بينهما غالبا ما شهدت أزمات متواصلة، في ظل اتهامات دولة الاحتلال للحكومة اليسارية في ستوكهولم؛ بأنها تعدّ من أكثر الحكومات عداء لها في الاتحاد الأوروبي، وتقف خلف العديد من المبادرات السياسية للاتحاد لإدانتها في أي فرصة تسنح لها، حتى أن وزيرة الخارجية السويدية السابقة مارغوت وولستروم دأبت دائما على إشهار “البطاقة الحمراء” لتل أبيب، مما حدا بزعمائها لرفض مقابلتها.

  • ترسيم الحدود البحرية مع لبنان:

مع بدء العد التنازلي لإقرار اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والاحتلال، فقد استعرض الأخير مكاسبه وخسائره من الاتفاق الذي اقترحه الوسيط الأمريكي عاموس هوكشتين، وتقديره بأنهما سيحصلان على استقرار أمني وردع متبادل.

مع العلم أن أوساطًا عامة في الحلبة السياسية والحزبية “الإسرائيلية” اعتبرت مسودة الاتفاق جزءَ من الحملة الانتخابية الجارية، ففي حين رآه رئيس الحكومة “يائير لابيد” مناسبة للتباهي به، فإن زعيم المعارضة “بنيامين نتنياهو” اتهمه بتضليل الجمهور، بزعمه أن المياه الاقتصادية منطقة ذات سيادة.

“الإسرائيليون” المروجون للاتفاق يعترفون بأن الدولة ستخسر بعض المال في هذه التسوية مع لبنان، لكنها في المقابل ستكسب الاستقرار الأمني، لأنها في النهاية أمام مخطط تسوية فنية، وهي مكسب للطرفين، ومن الواضح أن المفاوضات غير المباشرة التي جرت بوساطة أمريكية جاءت نتيجة “كوكتيل” جمع الاعتبارات الاقتصادية والتجارية والاستراتيجية، وفي حين أن حزب الله يمكنه الادعاء أن “إسرائيل” استسلمت له، لأنها خائفة من تهديداته، فيما تنفي هي ذلك، بدليل منحها الإذن لشركة الطاقة اليونانية لإنتاج الغاز، ونقله إليها من منصة حفر “كاريش”، مع العلم أن جيش الاحتلال قام بجميع الاستعدادات اللازمة لضمان تشغيل الحفارة بمجرد أن تسمح بذلك الاعتبارات الفنية والتجارية، دون أن يتمكن الحزب من إلحاق الضرر بها، أو تعطيل تدفق الغاز.

بعيدًا عن تفاصيل الاتفاق من النواحي الفنية والتفصيلية التي ما زالت قيد الردود المتبادلة، فإن الاتفاق ربما منح الحزب و”إسرائيل” فرصة للنزول من الشجرة العالية التي صعداها، حين هددا بعضهما، مما قد يعني الدخول في مواجهة عسكرية واسعة، لكن اليوم قد يكون بإمكانهما تنفس الصعداء، وبغض النظر عن المؤيد والمعارض في دولة الاحتلال بشأن مسودة الاتفاق مع لبنان، لكن الأمر تجاوز الأبعاد التجارية والاقتصادية لما هو أبعد من ذلك، حيث الاعتبارات الأمنية والعسكرية، حين هدد الحزب، وأطلق مسيّراته تجاه حقل كاريش، مؤكدًا أن بدء استخراج الغاز منه دون التوصل لاتفاق مع لبنان، سيدفعه إلى مهاجمته، وأياً كانت جدية تهديد الحزب، لكن من الواضح أن أحد اعتبارات الاحتلال في إنجاز الاتفاق، بجانب المصالح الحزبية الانتخابية الداخلية؛ هو تلافي الدخول في توتر عسكري معه، رغم أنه يرسل رسائل “إسرائيلية” سلبية مفادها أن دولة الاحتلال قابلة للابتزاز، والاستجابة له.

رغم كل ما تقدم من اعتراضات “إسرائيلية” يمكن الاتفاق أو الاختلاف بشأنها، لكن أي اتفاق مع أي دولة عربية، لترسيم الحدود، أو استخراج الغاز، أو أي سبب كان، يعدُّ مصلحة “إسرائيلية” لأنه يعني بالدرجة الأولى الاعتراف بها، والتفاوض معها، والتعامل مع مواردها الطبيعية التي سرقتها من الفلسطينيين، أصحاب الأرض الأصليين، على أنها موارد “إسرائيلية”.

  • استنفار “إسرائيلي” أمام هجرات يهود روسيا وأوكرانيا:

فيما تزداد الحرب الأوكرانية حدّة واشتعالا، تسعى دولة الاحتلال لاستغلال هذه التطورات الدامية لجلب أكبر عدد ممكن من يهود روسيا وأوكرانيا، حيث استنفرت وزاراتها وهيئاتها الرسمية، وبدأت بإعداد خطط طوارئ لتنفيذ هذا المخطط.

تتوقع تقديرات الاحتلال حدوث موجة كبيرة من هجرة اليهود هناك، وزيادة بنسبة عشرات في المئة ممن يسعون للقدوم إلى فلسطين المحتلة؛ ما دفع الحكومة لإصدار قرار بميزانية عالية، بزعم أن هذه الهجرات تشكل رصيدا إستراتيجيا، تستدعي المصادقة بالإجماع على برنامج لاستيعابهم بقيمة تسعين مليون شيكل،

كما صدرت دعوات “إسرائيلية” لتمديد وتوسيع الهوامش الممنوحة لما يسمى قانون العودة العنصري، الذي يسمح بعودة كل يهودي في العالم إلى فلسطين المحتلة، فقط لمجرد أنه يهودي، وهو الحق المحروم منه أصحاب الأرض الأصليين من الفلسطينيين، وفي هذه الحالة يتجه صانع القرار “الإسرائيلي” إلى إدراج الجيل الرابع من اليهود ضمن من يشملهم القانون، وهم أبناء أحفاد اليهود، وليس الأحفاد فقط، مع العلم أن أكثر من 40 ألف مهاجر يهودي جديد وصلوا فلسطين المحتلة منذ بداية الحرب الجارية أواخر فبراير، منهم 24 ألفاً من روسيا وحدها، مقارنة بقرابة ثمانية آلاف في عام 2021 بأكمله؛ ما يجعلها أهم وأخطر موجة هجرة من روسيا منذ عقدين من الزمن، مع توقع عشرات آلاف المهاجرين في الأشهر المقبلة.

على الرغم من استمرار الحرب الروسية الأوكرانية وأنها ما زالت تتفاقم، ولا يبدو أن هناك أفقًا قريبًا لتوقفها، بل هناك إمكانية تصاعدها، إلا إنها ستنعكس على أعداد المهاجرين اليهود من روسيا لدولة الاحتلال، بحيث ستسجل قفزة في معدلاتها، من بضع مئات إلى آلاف إلى عشرات الآلاف، وفيما كان العدد قبل حرب أوكرانيا 743 مهاجرًا جديدًا شهرياً، فإن العدد قفز بعد اندلاع الحرب مباشرة إلى 3,361 مهاجرًا، والعدد مرشح للتصاعد مع ازدياد حدة الحرب والقتال.

لعل مبرر الخطة “الإسرائيلية” التي تكشف لأول مرة يتعلق باحتمال تدهور الوضع في روسيا، وتم إعدادها قبل إعلان الأخيرة عن التجنيد الجزئي في الجيش، لكن الآن بات تنفيذها ملحاً، حيث ستزيد عدد الرحلات الجوية من روسيا والدول المجاورة، وصولًا إلى تل أبيب، وهناك استعدادات لسيناريو متطرف يٌغلق بموجبه الخط الجوي بين موسكو وتل أبيب، وإنشاء معبر بري عبر ليتوانيا وفنلندا.

يأتي هذا الاستنفار لتوظيف الحرب الأوكرانية في مجاراة التحول العميق فيما يسمى الكابوس الديموغرافي، والمخاوف “الإسرائيلية”، الحقيقية أو المبالغ فيها، من تراجع الأغلبية اليهودية في السنوات القادمة لمصلحة الفلسطينيين، رغم السياسات الاحتلالية التي لا تتوقف لإبقاء الكفة الديموغرافية راجحة لمصلحة اليهود.

الخاتمة:

من الواضح أن المشهد “الإسرائيلي” خلال سبتمبر حفل بالعديد من التطورات الداخلية والخارجية، ويتوقع أن تترك تأثيراتها على ذات المشهد خلال الأيام والأسابيع القادمة، لاسيما وأن جميعا أحداث متفاعلة، ولم تطوى صفحتها بعد، فأحداث الضفة الغربية والهجمات الفدائية ما زالت تتصدر عناوين الأخبار “الإسرائيلية”، ونقاشات المستويات الأمنية والعسكرية، وغير بعيد عن ذلك فإن الاتفاق البحري اللبناني “الإسرائيلي” الذي لم يعلن بعد؛ سيبقى طاغيًا على المشهد الانتخابي “الإسرائيلي”، في ظل اتهامات متبادلة بين الائتلاف والمعارضة بتجيير الاتفاق لمصالح حزبية آنية.

أمّا التطورات الدولية الخاصة بنتائج الانتخابات الأوروبية المتلاحقة، فقد تترك آثارها على صعيد استعادة العلاقة مع “إسرائيل” التي شهدت فتورًا لا تخطئه العين خلال الأعوام العشرة الماضية إبان حقبة نتنياهو، فيما بات تصاعد الهجرات اليهودية القادمة من روسيا وأوكرانيا مسألة عابرة للحكومات والأحزاب “الإسرائيلية”، حتى أصبحت تحوز على الإجماع اليهودي ككل، وتشكل مصدر توافق بين مختلف المكونات السياسية، ومن المتوقع أن تشهد المزيد من الحراك في الأسابيع القادمة، كلما اشتدّ أوار المعارك هناك.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى