مراجعة كتاب: ”الحركة الأسيرة الفلسطينية: المقاومة والعصيان“
كريم قرط
المؤلفة
جولي نورمان: حاصلة على درجة الدكتوراه من الجامعة الأمريكية في واشنطن، تعمل محاضرة وزميلة بحث في جامعة لندن العالمية، وعملت سابقًا في معهد متشل للسلام العالمي والأمن والعدالة في جامعة الملكة في بلفاوست، بالإضافة إلى تدريسها في جامعات أخرى.
تركِّز المؤلفة في أبحاثها على تقاطع حقوق الإنسان والأمن والمقاومة في النزاعات طويلة الأمد، مع التركيز على الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بالإضافة إلى المقاومة واللاعنف والحركات الاجتماعية، ولها مؤلفات متعدِّدة، منها: “الانتفاضة الفلسطينية الثانية: المقاومة الشعبية”.
الناشر
نُشِرَ الكتاب من قِبَل دار روتليدج العريقة، المملوكة لمجموعة تايلور أند فرنسيس منذ عام 1998، التي تُعَدُّ أكبر دار نشر في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، ويأتي كتابها ضمن سلسلة روتليدج لدراسات الصراع العربي/ الإسرائيلي التي بدأت منذ عام 2010، الأمر الذي يشير إلى مكانة الكتاب، والمحتوى الأكاديمي والمعرفي الذي من المفترض أن يحتويه.
أهداف الكتاب
تناقش نورمان جانبًا مهمًّا من تاريخ النضال الفلسطيني والحركة الأسيرة الفلسطينية، طالما تمَّ تجاهله في الدراسات التي تناولت الحركة الأسيرة الفلسطينية، وهو مقاومة الحركة الأسيرة داخل السجون الإسرائيلية. تهدف الكاتبة إلى موضعة الحركة الأسيرة الفلسطينية ضمن نضال الحركة الوطنية الأوسع، وفهم آليات المعارضة السياسية التي يستخدمها الأسرى في الفضاءات الاعتقالية، حيث فرص المقاومة التقليدية محدودة بشكل حاد. وبالإضافة إلى ذلك، تضع الكاتبة أهدافًا أخرى لبحثها، من ضمنها محاولة ملء الفراغ المعرفي الذي يتمثَّل في عدم دراسة العلاقة بين الحركة الأسيرة والحركة الوطنية الفلسطينية؛ إذ ترى أن الكتاب يمثِّل إسهامًا في أدبيات المقاومة التي تجاهلت مركزية الحركة الأسيرة في النضال الوطني الفلسطيني، بالمقارنة مع الأدبيات التي درست العلاقة بين الحركة الوطنية والحركة الأسيرة في جنوب إفريقيا وإيرلندا.
كرَّرت الكاتبة أهدافها في المقدمة بشكل يُظهر تشتُّتها، مما جعل المقدمة تأخذ حيزًا مهمًّا من الكتاب، الأمر الذي يثير تساؤلًا حول قدرة الكاتبة على معالجة الأهداف ضمن الكتاب الصغير نسبيًّا مقارنةً بحجم التجربة التي تدرسها.
الإطار النظري
تدرس الباحثة الحركة الأسيرة الفلسطينية ضمن إطار الحركات الاجتماعية التي تنتهج المقاومة السلمية لتحقيق مطالبها؛ إذ تركِّز بشكل أقل على ظروف السجون ومشاكلها، وبشكل أكثر على مقاومة الأسرى الفلسطينيين، وذلك لاستكشاف السمات المشتركة بين الحركة الأسيرة والحركات الاجتماعية والسياسية، وعملها كشكلٍ من أشكال النضال غير المسلَّح. فالباحثة ترى أن سمات الحركات الاجتماعية، والمتمثِّلة في التحدي الجماعي، والأهداف المشتركة، والتضامن، والهوية الجامعة، والتفاعل المستمر مع السلطة، كلها تنطبق على الحركة الأسيرة الفلسطينية.
إن دراسة الحركة الأسيرة من هذا المنظور تساعد على فهمها كفاعل واعٍ بذاته، وممارس للعمل الجماعي، وليس مجرَّد ذوات خاضعة، وكذلك فهم نجاح الحركة الأسيرة أحيانًا، وعدم نجاحها أحيانًا أخرى، وفهم كيف ظلَّت الحركة الأسيرة تحظى بمكانة بارزة في الصراع، وكيف يمكن الاستفادة من هذه المكانة.
وتدرس الباحثة فعاليات الحركة الأسيرة من منظور مقاومة اللاعنف؛ نظرًا لقدرتها على التأثير في مجرى الأحداث التي تجري حولها، بحيث تحوَّلت الحركة الأسيرة من أفراد تُمارَس عليهم القوة والسلطة، إلى فاعلين يؤثرون في هذه السلطة، ويتحدونها من خلال التنظيم الجماعي لمقاومة اللاعنف. فالقدرة على ممارسة السلطة تعتمد على موافقة المحكومين، الذين إذا لم يمنحوا هذه الموافقة، فيمكن لهم أن يتحكَّموا بتلك السلطة، أو أن يدمروها.
لم يكن بمقدور الحركة الأسيرة مقاومة سياسات إدارة السجون إلَّا ببناء النظام المضاد counterorder، أي التنظيم الخاص بالأسرى في السجون، المعنيّ بتنظيم أوضاعهم الداخلية، وتمثيلهم أمام الإدارة.
أدى تنظيم الحركة الأسيرة واعتمادها المقاومة إلى إنتاج الأفعال المعضلة dilemma action، بمعنى أن استخدام الإدارة للقوة ضد الأسرى سيؤدي إلى تحفيز المقاومة وردات الفعل لديهم؛ ولذلك سترتدُّ تلك الأفعال على الإدارة، حيث تمثِّل هذه المعضلة دبلوماسية الجوجيستو political jiu-jitsu، التي تعني ارتداد العنف إلى الإدارة مثل ما يحصل في الرياضة، حيث إن القمع يعلِّم المقموعين مجموعةً من أساليب المقاومة والعصيان، مثل: التنظيم والتواصل السري، وتهريب الأموال، وتزوير الوثائق، واختراق المنظومة الأمنية.
المنهجية
يُعَدُّ هذا البحث بحثًا أنثروبولوجيًّا بشكل أساسي؛ إذ تعتمد الباحثة أسلوب التأريخ الشفوي الذي يعطي الصوت المركزي للأسرى السابقين، حيث سعت إلى تطوير سردية جماعية لتاريخ الحركة الأسيرة، فأجرت مقابلاتٍ مع أسرى ومحامين، ومقابلاتٍ أخرى مع مسؤولين في المؤسسات الأمنية الإسرائلية. كما اعتمدت الباحثة على مجموعة من الوثائق التي وفَّرها مركز أبو جهاد لدراسات الأسرى في جامعة القدس، ومكتبة الأسير في مكتبة بلدية نابلس، وبيانات المنظمات الحقوقية.
إلَّا أن الإشكالية في منهجية الكاتبة هي أنها تعتمد على شهادة أو ذاكرة أسيرٍ واحدٍ أو اثنَيْن لتصف واقع الحركة الأسيرة، وهذا الاستخدام لمنهجية التأريخ الشفوي غير منطقي؛ لأن هناك سياقاتٍ متعدِّدة داخل السجون الإسرائيلية، وبين التنظيمات داخل السجون، فشهادة الأسير تعبِّر عن الواقع الذي عايشه، لكنها لا تعبِّر عن بقية السياقات، وخاصةً أن نظام السجن يتباين من فترة إلى أخرى، ومن سجن إلى آخر، ومن تنظيم إلى تنظيم، وهذا ما أدى إلى وجود الكثير من المعلومات المغلوطة عن واقع الحركة الأسيرة؛ لأن الكاتبة قد أسقطت شهاداتٍ لأسرى من فترات معيَّنة على مجمل تجربة الحركة الأسيرة، كما اعتمدت على شهاداتٍ لأسرى من تنظيمات معيَّنة دون غيرها، مع تهميش واضح لتجربة الحركات الإسلامية داخل السجون، أو التطرق لها فقط من زاوية ارتباط ظهورها مع ضعف الحركة الوطنية عمومًا، والحركة الأسيرة خصوصًا، وتفكُّكهما.
فصول الكتاب
يتكوَّن الكتاب -بالإضافة إلى المقدمة والخاتمة- من سبعة فصول:
الأَسْر، والاعتقال، والنظام القانوني
تنشغل الكاتبة في هذا الفصل بمناقشة السياق القانوني الذي أنتجه الحكم العسكري الإسرائيلي، واستغلال “إسرائيل” لجوانب في القانون الدولي لممارسة سلطاتها في الضفة وغزة، بينما تجاهلت الهدف من القانون ومواده، التي تحدِّد وظائفها كسلطة احتلال وتقيِّدها.
وفي هذا السياق، تناقش الكاتبة سياسة “إسرائيل” الاعتقالية -لا سيما الاعتقال الإداري- من ناحية قانونية، والإجراءات القانونية في المحاكم الإسرائيلية، ونظام السجون الإسرائيلية وإدارتها وتوزيعها.
كما تناقش الكاتبة التوصيف القانوني الذي ينطبق على الأسرى الفلسطينيين، حيث تسميهم “إسرائيل” “أسرى أمنيين”، علمًا بأن هذا التوصيف غير معرف. ومن ناحية أخرى، لا يُسهِم القانون الدولي في توصيف الأسرى الفلسطينيين كأسرى سياسيين أو أسرى حرب؛ لأن هناك معاييرَ تضمَّنتها الاتفاقيات الدولية، لا تنطبق -في عددٍ من السياقات- على الأسرى الفلسطينيين؛ ولذلك قد ينطبق تعريف الأسير السياسي على الأسير الفلسطيني، وقد لا ينطبق عليه، وذلك حسب الحالة، وهو ما يشكِّل قيودًا على تعريف الأسرى الفلسطينيين كأسرى سياسيين أو أسرى حرب، إلَّا أن الكاتبة تصف الأسرى الفلسطينيين بالأسرى السياسيين بناءً على سردية الأسرى أنفسهم حول ذاتهم، وليس بناءً على تصنيف قانوني أو معياري.
ومن الإشكاليات التي تقع فيها الكاتبة ضمن هذا الفصل، وفي غيره من الفصول، تطرُّقها لمواضيع وإسهابها في شرحها، في حين أنها لا تُسهم في تدعيم أو توضيح الأهداف التي تسعى إلى معالجتها. ففي نهاية هذا الفصل مثلًا، تتطرق لسياسة الاعتقال السياسي في الضفة الغربية وقطاع غزة، دون أن تضع أيَّ رابط بين هذا المحور وموضوع الكتاب. ومن ناحية أخرى، تكثر في هذا الفصل المعلومات غير الدقيقة، التي تنمُّ عن إشكاليةٍ في استخدام منهجية التأريخ الشفوي، وقصورٍ في فهم طبيعة الأحداث، فعلى سبيل المثال: تُرجع الكاتبة سبب ارتفاع نسبة الإدانة في المحاكم الإسرائيلية، والبالغة 99%، إلى وجود الملفات السرية التي يُحاكم عليها الأسرى دون أن يطلع عليها المحامي أو الأسير، مما يضطرهم إلى عقد صفقة مع النيابة، ولكن هذا غير صحيح؛ لأن الملف السري يُقدَّم ضد الأسرى الإداريين فقط، وهو يعتمد على تقارير عملاء ومعلومات استخبارية وغيرها، ولا يعتمد على اعترافات الأسير؛ لأن اعترافات الأسير تكون متاحةً أمام المحامي، وأمام غيره من المعنيين، ناهيك عن أن اعترافاته تُستخدم لإدانة أسرى آخرين؛ ولذلك تكون متاحةً. كما أن توجُّه الأسرى للصفقات مع النيابة ناتجٌ عن أن المرافعات لا تأتي دائمًا في مصلحة الأسير، بل قد تؤدي إلى أحكام عالية.
المقاومة من عملية التنظيم: النظام المضاد
تناقش الباحثة في هذا الفصل تطوُّر النظام المضاد الذي أنتجه الأسرى بشكل تدريجي خلال تجربة الحركة الأسيرة التي بدأت منذ عام 1967. ففي البداية، لم يكن لدى الأسرى أية برامج أو تنظيم للوقت، وكانت الحياة روتينيةً لدرجة كبيرة، ولكن مع بداية السبعينيات بدأ الأسرى ينظمون وقتهم، ويعدُّون البرامج والجداول لتنظيم حياتهم، تحت إطار “أخذ الحياة على محمل الجد”.
شكَّل الأسرى نظامًا مضادًّا لنظام السجن يقوم على إدارة أنفسهم ذاتيًّا، وكانت ظروف السجن الصعبة هي الدافع لتشكيل هذا التنظيم، وقد أدى ذلك إلى تطوير نموذجٍ مستمرٍّ من النضال. تعيد الكاتبة المقاومة إلى شكلها الأول، فقد أجبرت ظروف السجن الأسرى على “المقاومة من أجل البقاء”، وهي مقاومة نفسية يومية غير رسمية، حيث يمارس الأسرى بعض النشاطات والفعاليات؛ للتغلُّب على ظروف السجن، أو تحسينها، أو جعلها محتملةً، وذلك من خلال خطوات متواضعة مثل: المؤازرة لبعضهم، وبثّ الروح الجماعية والوطنية، من خلال الغناء الوطني الجماعي.
وقد شكَّلت هذه الخطوات البسيطة أساسًا لتطوُّر المقاومة والتنظيم، وهذا التنظيم كان هو الأساس لتطور المقاومة، فالنظام الذي وضعه الأسرى كان بمثابة الجدار الأمني بينهم وبين السجَّان الذي أراد تدميرهم.
وتشير الكاتبة إلى أن محاولة الاحتلال مقاومة تشكيل هذا النظام كانت له نتائج عكسية؛ إذ إن قيام إدارة السجون في البداية بنقل قيادات الأسرى من سجن عسقلان لتفكيك التنظيم، قد أدى إلى انتشار التنظيم في بقية السجون، من خلال نقل الأسرى لتجاربهم التنظيمية إلى السجون التي نُقلوا إليها.
وتستعرض الكاتبة عدَّة جوانب من هذا التنظيم المضاد الذي شكَّله الأسرى، مثل الجانب الاقتصادي الذي كان بمثابة نظام اشتراكي في البداية، ونظام التواصل، وبرامج التعليم، وغيرها.
قدَّمت الكاتبة في هذا الفصل معلوماتٍ تفصيليةً عن النظام الذي شكَّله الأسرى، وعن واقع الحركة الأسيرة في بداياتها، إلَّا أنها لم تستعرض الحركة الأسيرة بمختلف سياقاتها وتفرعاتها، فالكاتبة تناقش في هذا الفصل الفترة التي سبقت اتفاق أوسلو، إلَّا أنها تعطي تصورًا واحدًا عن هذه الفترة، دون الأخذ بعينِ الاعتبار السياقات المختلفة التي تشكَّلت خلالها. فعلى سبيل المثال: عندما تتحدَّث الكاتبة عن نظام الانتخابات داخل السجون، يبدو أنها تتحدَّث عن فترة قديمة، وعن التجربة الانتخابية لدى حركة فتح فقط؛ إذ يبدو أن الكاتبة لا تدرك حجم الفروق والتمايزات الموجودة بين التنظيمات الفلسطينية، فتقول الكاتبة مثلًا إن الانتخابات تجري كل ستة أشهر لاختيار المجلس الثوري، ومن الواضح أن المجلس الثوري هو تسمية تخصُّ حركة فتح، بينما يُسمَّى لدى حركة حماس مجلس الشورى.
كان ينبغي أن تتطرق الكاتبة بشيء من التفصيل للتطورات التي طرأت على واقع الحركة الأسيرة في الفصول اللاحقة، وخاصةً الإشكاليات والصراعات بين الأسرى التي جرت قبل اتفاق أوسلو، وخاصةً مع بداية ظهور الفصائل الإسلامية ودخولها للسجون، فهذه الفترة مهمَّة في فهم التطورات التي طرأت على الحركة الأسيرة، ولكن ذلك لم تتناوله الكاتبة إلَّا لمامًا.
المقاومة من خلال الأفعال: الإضراب عن الطعام، والعصيان المدني
تناقش الكاتبة في هذا الفصل تطوُّر آليات المقاومة لدى الأسرى وأنماطها المختلفة، فقد بُنيت هذه المقاومة على مواقف بسيطة يومية، مثل الاعتراض على أوامر معيَّنة، كما أن المقاومة في السجون قد استفادت من النظام المضاد، والانضباط الداخلي، ونظام التعليم الذين أنتجه الأسرى، ما يعني أن المقاومة كانت تراكميةً.
تولي الكاتبة الإضراب عن الطعام أهميةً بالغةً في الكتاب، فتناقش عوامل نجاح الإضرابات وعوامل فشلها، وتشير إلى أن خطوة الإضراب الجماعي عن الطعام كانت تسبقها خطواتٌ كثيرة، من ضمنها إرجاع الوجبات، أو الإضراب ليوم أو أكثر. وتقول الكاتبة إن هذه الخطوة كانت مهمَّة في إعداد الأسرى -نفسيًّا وجسديًّا- للإضراب الجماعي. وتعيدنا هذه النقطة إلى إشكالية الكاتبة التي تتجاهل السياقات المختلفة للحركة الأسيرة، فإرجاع الوجبات، أو الإضراب لثلاثة أيام، لا يرتبط دائمًا بالتحضير للإضراب الشامل، وإنما قد يرتبط بالاحتجاج على قرار معيَّن لإدارة السجون، وقد يتم ذلك في سجن معيَّن دون غيره، وليس بالضرورة للتحضير لإضراب شامل.
وعلاوة على ذلك، فالكاتبة تغفل عن أشكال متعدِّدة من المقاومة التي ابتدعها الأسرى، مثل: عمليات ومحاولات الهروب، وتهريب النُّطَف، وتهريب الهواتف النقَّالة، وحل التنظيم، والاستنفار، وغيرها.
السياسة الفلسطينية والتحولات بعد اتفاق أوسلو
ترى الكاتبة أن هناك علاقة تبادلية بين الحركة الأسيرة والحركة والوطنية، فضعف الحركة الوطنية يؤدي إلى ضعف الحركة الأسيرة، كما أن قوة الحركة الأسيرة تُسهِم في تعزيز الحركة الوطنية، وتدلِّل على ذلك بأن الأسرى الذين تحرَّروا خلال صفقة أحمد جبريل عام 1985 كان لهم دورهم في قيادة الانتفاضة الأولى عام 1987، وفي المقابل أدت حملة الاعتقالات الكبيرة خلال تلك الفترة إلى رفد الحركة الأسيرة بمناضلين جدد.
إلَّا أن اتفاق أوسلو عام 1993 قد أدى إلى تراجع النضال الفلسطيني، وانعكس هذا الأمر على الحركة الأسيرة، فالتعليم داخل السجون أصبح أقلَّ أهميةً، والنظام الاقتصادي الاشتراكي تراجع لصالح الفردانية بين الأسرى. وبشكل عام، أصبح النظام المضاد داخل السجون أضعفَ بعد أوسلو، وذلك بسبب ضعف الحركة الوطنية، فالأسرى الجدد ليست لديهم خبراتٌ تنظيمية؛ ولذلك فوجودهم في السجون لم يخدم الحركة الأسيرة كثيرًا.
ومع أن الكاتبة تناقش التغيُّر في النظام المالي والاقتصادي بين الأسرى، إلَّا أنها لا توضِّح التطورات التي حصلت على النظام المالي وآليات تغييره، مثل اعتماد السلطة الفلسطينية سياسة تقديم الرواتب والمُخصَّصات للأسرى داخل السجون، هذا فضلًا عن أن لكلِّ تنظيم سياساته المالية المختلفة، خاصةً لدى الحركات الإسلامية، وهذا ما لم تأخذه الكاتبة بالحسبان.
تتطرق الكاتبة للأسباب التي أدت إلى تراجع الحركة الأسيرة بعد أوسلو، مثل: تغيُّر نظام السجون، والتفاوت الطبقي الذي نتج بعد أوسلو، وتراجع دور الحركات الوطنية، الذي خلق فراغًا في المقاومة ملأته الحركات الإسلامية؛ ولكن الكاتبة لا تحلِّل ذلك بعمقٍ، ولا تفسِّر أسباب تراجع النظام المضاد بعد أوسلو. ويعود ذلك إلى أن الكاتبة تعتمد في معلوماتها على التأريخ الشفوي بشكل غير دقيق، وتبني مُسلَّماتٍ على أقوال منفردة. لقد كان بإمكان الكاتبة -مثلًا- الاطلاع على دراسة وليد دقة حول تراجع الحركة الأسيرة، التي فيها تحليلٌ عميقٌ يتجاوز الظواهر السطحية، فلا يكفي مثلًا أن تقول الكاتبة إن تغيُّر نظام السجن وطريقة إدارته هما أحد أسباب تراجع الحركة الأسيرة، كما أن الملاحظ أن الكاتبة لا تنظر إلى ظهور الحركات الإسلامية -خاصةً حركة حماس- إلَّا من ناحية أثرها في الانقسام وتفكُّك الحركة الوطنية، دون أن تكون هناك دراسة موضوعية لدور الحركات الإسلامية في المقاومة والنضال الفلسطيني، داخل السجون وخارجها.
انتشار النشاط
تناقش الكاتبة في هذا الفصل الدورَ المحوري للحركة الأسيرة في تنشيط النضال الوطني، وإعادة الاهتمام للصراع العربي الإسرائيلي، من حيثُ إن قضية الأسرى تشكِّل بؤرةً محوريةً في الصراع. وفي هذا الإطار تناقش دور عائلات الأسرى في تفعيل قضية أبنائهم، من خلال مشاركتها في حملات دعمهم، وقيادة الاحتجاجات المساندة لهم، بالإضافة إلى تفعيل دور الأحزاب، واللجان المحلية في دعم الأسرى.
وتناقش الكاتبة أيضًا دور حركات المجتمع المدني في تفعيل قضية الأسرى، ولكن من الواضح أن هناك إسهابًا لا طائل منه في هذه الجزئية، فالكاتبة قد تحدَّثت بتفصيلٍ عن بعض المؤسسات التي تُعنى بقضية الأسرى، مثل نادي الأسير ومؤسسة الضمير. ولكن هذا السرد والإسهاب لا يُسهم كثيرًا في النقاش الدائر حول أهداف الكتاب، وتكرَّر هذا الأمر عند الحديث عن قضية الأسرى لدى الرأي العام الإسرائيلي، ودور الأسرى في المفاوضات.
الأمن والدولة
تناقش الكاتبة في هذا الفصل مواجهة إدارة السجون لتنطيم الأسرى، وتستعرض أساليب الإدارة، مثل: زرع الجواسيس بين الأسرى، والعنف المادي تجاههم، وإجراء التنقلات داخل السجون، والعزل الانفرادي، والغذاء القسري للأسرى المُضرِبين.
يعكس هذا الفصل انحدارًا في عرض موضوع الحركة الأسيرة الفلسطينية؛ إذ تفسح الكاتبة المجالَ لمسؤولي مصلحة السجون الإسرائيليين للحديث عن واقع الحركة الأسيرة دون تدخُّل في النص، أو إفساح المجال للأسرى الفلسطينيين ليبدو رأيهم. ففي كثيرٍ من المواضع، تظهر إدارة السجون أنها أخلاقيةٌ في تعاملها مع الأسرى، أو أنها في موقف دفاعٍ فقط ولا تعتدي على الأسرى، حيث يقول أحد مسؤوليها إنها غير معنيَّة بانتزاع الامتيازات والحقوق الإنسانية من الأسرى، وأنها لا تسعى إلى الإساءة لهم، ولكن تصرفات الأسرى هي التي تجبرها على ذلك. فمنعُ التلامس بين الأسير وأهله خلال الزيارة -مثلًا- نابعٌ من محاولة الأسرى تهريب الهواتف. فعلاوة على أن الكاتبة لم تتح المجال للأسرى للردِّ على هذه الافتراءات، فهي ترسخ واقعًا مزيفًا ينطلق من التسليم بأن الهاتف ممنوع على الأسرى، علمًا بأنه من أبسط حقوقهم.
في هذا الفصل، يختفي صوتُ الأسرى كليةً ليظهر صوت الإدارة، والخلل هنا أن منهج التأريخ الشفوي الذي اتبعته الكاتبة يُعنى بشكل أساسي بإعلاء صوت المُهمَّشين، لكن لماذا تُعطى هذه المساحة الكبيرة للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية، التي لديها منابرها لتعبِّر عن صوتها، والتي لديها روايتها المهيمنة أيضًا حول الحركة الأسيرة، دون أن يُعطى الأسرى حق التوضيح والرد على هذه الادعاءات؟!
خاتمة
يُعَدُّ هذا الكتاب محاولةً جيدةً لتسليط الضوء على قضية مُهمَّشة، فالحركة الأسيرة الفلسطينية بشكل عام لا يوجد أيُّ توثيق أكاديمي لتجربتها ونضالها وتطوراتها. فهذا الكتاب يهدف إلى تسليط الضوء على جوانب معيَّنة من هذه التجربة، ويقدِّم تصورات مهمَّة حول واقع الحركة الأسيرة ودورها في النضال الوطني العام، ويفتح المجال لفهم جوانب نجاح الحركة الأسيرة وقصورها، وكيفية الاستفادة من هذه التجربة، ومحوريتها في إحياء القضية الفلسطينية.
وفي المقابل، هناك الكثير من الإشكاليات التي وقعت فيها الكاتبة، وأدت إلى تقليل جودة الكتاب، من معلوماتٍ خاطئة، واستخدامٍ خاطئ للمنهجية، وتشتُّت الكاتبة في مناقشة تفاصيل بعيدة عن هدف الكتاب، فضلًا عن سردها للكثير من المعلومات المعروفة وإسهابها فيها بطريقة لا تقدِّم ولا تؤخر في توضيح أفكار الكتاب، بالإضافة إلى تجاهلها للعديد من القضايا والسياقات المهمَّة في فهم هذه التجربة، واعتمادها على روايةٍ واحدةٍ لتاريخ الحركة الأسيرة، تمثِّل رواية حركة فتح بالتحديد. وهذه الإشكاليات تقلِّل من قيمة الكتاب بشكل عام، على الرغم من أنه منشورٌ في سلسلة علمية عالمية عريقة.