أزمة المشاريع الحضارية في المنطقة العربية.. هل من حل في الأفق؟
شهد القرن الماضي تحولات كبرى على مستوى العالم، ليس فقط في موازين القوى الدولية وإنما في المشاريع الحضارية والفكرية بمكوناتها المختلفة، وكان من أبرز هذه التحولات غياب الدولة العثمانية ونشوء الدول القطرية إذ أفضى ذلك إلى ظهور مجموعة من المشاريع الفكرية والسياسية والاجتماعية في العالم الإسلامي كانت تعيش في ظل مشروعين كبيرين متصارعين على مستوى العالم؛ المشروع الغربي الرأسمالي والمشروع السوفياتي الاشتراكي. وقد شهد العالمان العربي والإسلامي حالة تجاذب وصراع دام عقودا بين مشاريع وأفكار مختلفة، وساد المشهد السياسي العربي والإسلامي صراع مستمر بمستويات وآليات تتفاوت من مرحلة إلى أخرى ومن دولة الى أخرى استنادا إلى عوامل عدة، سياسية واقتصادية وأمنية… إلخ.
وبلغ هذا الصراع ذروته في مطلع العقد الثاني من القرن الـ21 في ما عرف بالربيع العربي، فقد أصبح الصراع بالأساس بين الحكومات والأنظمة التي اتّسمت في معظمها بالشمولية واستندت في حكمها، ولو شكلا في بعض الأحيان، إلى أفكار قومية وطنية واشتراكية وليبرالية، وبين القوى الداعية للتغيير وفي مركزها الحركات الإسلامية التي كانت تمثل ما عرف بالمشروع الإسلامي أو الإسلام السياسي، حيث ظهرت الحركات الإسلامية ومشروعها الإسلامي على امتداد عقود طويلة من القرن الـ20 بديلا ممكنا عن الأنظمة الشمولية في المنطقة؛ تؤيد ذلك نتائج الربيع العربي في البلدان التي حدث فيها، حيث وصلت الحركات الإسلامية إلى الحكم بشكل منفرد أو مع غيرها من حركات التغيير.
لقد تراجعت الأيديولوجيا والأنظمة الاشتراكية بسقوط الاتحاد السوفياتي وفقدان الثقة بالفلسفة والفكرة التي استندت إليها كما فشلت الدول والأحزاب القومية وأخفقت في بناء دول وأنظمة ديمقراطية مدنية حديثة، بل غرقت في بناء أنظمة شمولية ضعيفة على كل الصعد “الاقتصادية والعلمية والصناعية والاجتماعية… إلخ”. وفي الوقت ذاته، كشف الربيع العربي وما تلاه من ثورات مضادة وانقلابات عن ضعف كبير في مشروع الحركات الإسلامية أو ما عرف بـ”الإسلام السياسي”، وعجز عن استثمار لحظة التغيير لمصلحة بناء نظم مدنية ديمقراطية وتعددية، ولم تتمكن هذه الحركات من الدفاع عن طموحات وأحلام الشعوب التوّاقة إلى التغيير والعيش في ظلال دول ديمقراطية وتعددية تحترم المواطن وتستند إلى الإرادة الشعبية. وقد تعرض هذا المشروع لضربة كبيرة أفقدته القدرة على المبادرة وربما تكون أفقدته الأهلية للتبنّي أو التعويل عليه من قبل الشعوب.
وعليه؛ فإن فراغا كبيرا نشأ في العالم الإسلامي وبالذات في الجزء العربي منه إذ لا يوجد مشروع حضاري أو سياسي مطروح الآن ليلتف حوله الناس وتتبنّاه الشعوب، ولا يمكن لأي من الأحزاب أو الجماعات أن تعود لطرح الأفكار والمشاريع ذاتها بالمنهجيات والآليات ذاتها على شعوب عانت كثيرا في ظل هذه الأفكار والمشاريع، فقد فقدت الثقة بها بشكل أو بآخر، وأضحت المنطقة العربية بالذات تعيش حالة فراغ فلا مشروع واضح ومؤهل للاعتناق من قبل الشعوب والحركات السياسية ولا أحزاب قوية وقادرة على القيادة.
لقد أدركت بعض القوى الإقليمية هذا الواقع ولمحت هذا الفراغ القائم وبدأت تتحرك لملئه، ومن أبرز القوى والمشاريع التي تتنافس على المنطقة: المشروع الصهيوني الذي لا ينتمي بأي شكل من الأشكال للمنطقة ولا يمتلك من عوامل القوة شيئا سوى الدعم الغربي، والمشروع الإيراني الذي يستند إلى رؤية مذهبية طائفية ضيقة تجعله دائما مشروع أقلية، والمشروع التركي الذي يعدّ الأقرب إلى المنطقة وطبيعتها إلا أنه ما زال يعاني من أزمة هوية تؤثر بوجه فعال في أدائه وتطوره. لكل واحد من هذه المشاريع الثلاثة أهدافه وبرامجه ومزاياه التي يمكن الاستفاضة في الحديث عنها في مقالات أخرى، لكن اللافت هو غياب مشروع منبثق من العالم العربي رغم أن الصراع كله يدور على الأرض العربية وفيها.
هذا الواقع يلحّ في طرح جملة من الأسئلة، فمن يملأ هذا الفراغ؟ وما المشروع المؤهل لذلك؟ وما طبيعته؟ وهل من فرصة لوجوده؟ ومن المسؤول عن بلورته وإخراجه إلى حيز الوجود؟ هذه الأسئلة وغيرها لا يمكن الادّعاء بأن الإجابة عليها ممكنة في مقال أو من قبل شخص بعينه، بل هي أسئلة تحتاج إلى بحث عميق ووقفات مسؤولة وجهات وهيئات صادقة مؤمنة بذاتها وبشعوبها وبمستقبلها. لكن الهدف هنا هو تسليط الضوء على هذا الفراغ الإستراتيجي وخطورة استمراره وضرورة التصدي لمعالجته لأن الحياة لا تعرف الفراغ، وإن لم يبادر أبناء المنطقة ومكوناتها الفكرية والسياسية لملء هذا الفراغ فإن قوى خارجية قد تفرض مشاريعها وإرادتها على شعوب المنطقة ودولها، وبعضها بدأ بالفعل.
يمكننا القول إن المشروع المؤهل لملء هذا الفراغ لا بد من أن يكون منتميا لتاريخ المنطقة العربية وجغرافيتها ودينها وثقافتها، وينبثق عن مكوناتها السياسية والثقافية والاجتماعية والفكرية، ولا يوجد ما تنطبق عليه هذه الصفات سوى مشروع مدني ديمقراطي سنّي وسطي ينتمي إلى تاريخ وحضارة وثقافة وجغرافية هذه المنطقة، ينبغي أن تعكف على بلورته وإنجازه القوى والتجمعات والشخصيات المؤمنة بضرورة بل بحتمية التغيير والنهوض بهذه الأمة العظيمة التي لديها من التاريخ والمشتركات والإمكانات ما يؤهلها لتبوّء مكانة رائدة، بمعزل عن الخلفيات الأيديولوجية أو الفكرية المتبنّاة، فالمهم هو الإيمان بهذا المشروع وبأهمية وضرورة التغيير وبمستقبل هذه الأمة وما لديها من قدرات. وإن الحركات الإسلامية، التي ما زالت تشكل المكون الأكبر والأكثر حيوية وتنظيما بين المكونات الحزبية، ومعها القوى الوطنية والديمقراطية مطالبة بإعادة النظر في جملة مما تعدّه مسلّمات أو تابوهات في الفكر والأيديولوجيا والتصورات والآليات، كي تتمكن من ممارسة دور رائد في هذه المرحلة الحساسة والمنعطف التاريخي الذي تشهده المنطقة، وتسهم بوجه إيجابي وفاعل في الخروج من حالة التيه القائمة.