يطلقون النار ولا يبكون- العسكرة “الإسرائيلية” الجديدة

المؤلفييغآل ليفي
عرض عدنان أبو عامر
الناشرالجامعة المفتوحة
سنة النشر2023
اللغةالعبرية
  • المقدمة:

رصد الباحثون “الإسرائيليون” منذ انتفاضة الأقصى ما قالوا أنها تطورات لظاهرة عسكرية جديدة، نشأت عن مفارقة مفادها أنّه كلما واجهت “إسرائيل” المزيد من القيود الدولية على استخدام القوة العسكرية، وظهرت بدائل سياسية لها، نما مجتمع السوق، مما يخفف من هالة ساحة المعركة، لأنه كلما بذلت مؤسسات الدولة والقوى التي تدعمها المزيد من الجهد من أجل تعزيز الشرعية العامة لاستخدام القوة العسكرية، فإن نوعًا جديدًا من العسكرة سيبدأ بالظهور، شعاره الأساسي “يطلقون النار، ولا يبكون”.

الكتاب الذي بين أيدينا هو للباحث في العلاقات العسكرية بالمجتمع “الإسرائيلي” البروفيسور “ييغآل ليفي”، حيث يقدم من خلاله خريطة واسعة ومبتكرة لخصائص هذه الظاهرة، التي لم تتلق حتى الآن بحثًا مركّزًا في الأدبيات “الإسرائيلية”، ويشكل هذا الكتاب تحديًا كونه يبحث في كيفية تطوير خطاب عنف جديد من قبل جيش الاحتلال، “من أعلى إلى أسفل”، حين يتفاخر باستخدام القوة، ويسعى إلى تحليل سمات المجموعات الاجتماعية التي تدير الجيش، وتقوم بتنمية خطاب العنف الديني القومي الذي يفتخر باستخدام العنف “من الأسفل إلى الأعلى”، كما يسعى الكتاب إلى شرح كيفية استخدام مؤسسات دولة الاحتلال بعض الظواهر الليبرالية مثل النسوية وخطاب حقوق الإنسان من أجل تقوية شرعية استخدامه للقوة العسكرية، ويسعى كذلك إلى التعرّف على عوامل تمكّن “إسرائيل” من الحفاظ على سيطرتها على الفلسطينيين لعقود زمنية طويلة، في مسعى واضح لتسليط الضوء ووضع اليد على التحركات المعقدة التي تقوم بها الدولة والجيش، وهي تحركات تخفي أحيانًا عن أعين الجمهور “الإسرائيلي” تحت عباءة الإجماع القومي.

تجدر الإشارة إلى أنّ مؤلف الكتاب هو البروفيسور “ييغآل ليفي” من جامعة “إسرائيل” المفتوحة ، ومؤلف ثمانية كتب في القضايا العسكرية والأمنية، وشغل سابقًا منصب رئيس الرابطة الأوروبية لدراسة العلاقات العسكرية والمجتمع، ومحررًا مشاركًا لمجلة Trends، ونائب رئيس الجمعية “الإسرائيلية” لعلم الاجتماع.

  • أحداث متلاحقة:

أمر وزير التعليم السابق ووزير الحرب الحالي “يوآف غالانت” في يناير 2021، بمنع إلقاء محاضرة لرئيس مركز حقوق الإنسان “الإسرائيلي” “بيتسيلم” “حاغاي إلعاد” لطلاب مدرسة في مدينة حيفا، كجزء من سياسة حظر استضافة منظمات حقوقية، بزعم أنها تحطّ من قدر جنود جيش الاحتلال، وتصف “إسرائيل” بأنها “دولة فصل عنصري”، حيث جاء حظر “غالانت” بعد أن قرر وزير الحرب الأسبق “موشيه يعلون” في 2015 منع نشاط مشترك لمنظمة “كسر الصمت”، وفي 2018 عُدِّل قانون التعليم الحكومي من أجل منع المنظمات الحقوقية من إلقاء المحاضرات في المدارس، بجانب المنظمات المدنية الأخرى، بالتزامن مع موجة اعتداءات نفذها أنصار اليمين “الإسرائيلي” على تلك المنظمات، واتهامها في أساليب عملها وطريقة تمويلها.

فضلًا عن ما سبق من الأحداث، فقد وقع في مارس 2016 في مدينة الخليل حدث الجندي “إيلور عزاريا” الذي أطلق النار على الفلسطيني عبد الفتاح الشريف وقتله، ولم يشكل خطرًا على حياته، وحينها قررت قيادة الجيش مقاضاته وإدانته بالقتل، مما أثار موجة احتجاج يمينية غير مسبوقة ضدها، بجانب تعبيرات الدعم للجندي، وليس بمعزل عن هذه الحادثة، فقد شهد شهر يوليو 2016 إلقاء الحاخام “ييغال ليفينشتاين” خطابًا علنيًا انتقد فيه بشدة محتويات تعليم الجيش، بزعم أنّه يضرّ بقيمه، وكذلك سياسة إطلاق النار التي تعرّض حياة الجنود للخطر في محاولتهم حماية أنفسهم من الفلسطينيين، وفي أغسطس 2021 قُتِل أحد جنود حرس الحدود بطلقات نارية على حدود غزة، مما دفع الدوائر اليمينية إلى اتهام السياسيين بتكبيل أيدي الجيش في قتال الفلسطينيين.

يرى المؤلف أنّ هناك قاسمًا مشتركًا بين هذه الظواهر التي تعبّر في مجموعها عن تغيرات على الخطاب السياسي “الإسرائيلي”، وباتت تمثل ثقافة عسكرية تركز في مجموعها على شرعية استخدام القوة، من خلال إعطاء خلفية موجزة لعمليات العسكرة، ومنح الشرعية لاستخدام السلاح، وتعزيز العسكرة في المجتمع “الإسرائيلي”، الذي دأب الكثير من الكتاب “الإسرائيليين” على وصفه بأنه “مجتمع عسكري”، لكن الجديد -كما يقول الكتاب- هو أنّ كلمة العسكرة لم تعد “قذرة” وفق الثقافة السائدة هذه الأيام.

يخلص الكاتب إلى نتيجة متوافق عليها بين غير “الإسرائيليين”، وهي أنّ الحرب على “الأعداء” هي العامل الرئيسي الذي يشكل شخصية المجتمع “الإسرائيلي”، لكنّ الجديد هو أنّ هذه الحرب لا يُنظر إليها على أنّها مفروضة من الخارج، وإنّ استمرارها ليس نتيجة سلوك أعدائها فحسب، بل هي ثمرة توق لاستخدام القوة من قِبَل جيش الاحتلال، وبالتالي فإنه كلما تمت إعادة تجذر ثقافة القوة في المجتمع “الإسرائيلي”، وسُمِحَ لها بالفعل بالتحدث عن العسكرة، تم تطبيعها أكثر، ولم يعد إنكارها كما في الماضي، عندما كان الانخراط فيها عملًا تخريبيًا.

  • الحرب بدل السلام:

يمتلك الكاتب جرأة في الحديث عن أنّ محاولات إدانة هذه الظاهرة العسكرية الجديدة في المجتمع “الإسرائيلي”، أو كبح جماحها، سوف تستدعي بالضرورة معارضة اليمين، أصحاب شعار “الحرب بدل السلام”، وأنّ المجتمع اليهودي تشكّل منذ البداية على ثقافة تفضيل استخدام القوة العسكرية، مما يفسر تفضيل “الإسرائيليين” للحلول القوية مع الفلسطينيين، حتى عندما كانت البدائل الأقل قوة متاحة لهم، مما أسفر في النهاية عن تضييع الفرص السياسية، وهو ما تعزز تدريجياً في أعقاب انتفاضتي الحجارة 1987-1993، والأقصى 2000-2005، اللتان شهدتا تغلّبًا في التوجه العسكري “الإسرائيلي” على النهج الليبرالي لتسوية الصراع، مع العلم بأنّ الكتاب يتوقف كثيرا عند الانتفاضة الثانية بوصفها نوعًا من “الحرب الجديدة” المختلفة عن الحروب السابقة، ومثلت نموذجًا للصراع داخل “إسرائيل” على ترسيم الحدود الثقافية والسياسية والجغرافية والاجتماعية، والزعم أنها شكلت حرباً ضد الشعب “الإسرائيلي”، وليس ضد دولته فقط، الأمر الذي أسفر عنه تكثيفاً للنزعة العسكرية الدينية لدى “الإسرائيليين”، وهي نزعة عسكرية تنمو خارج الجيش، ثم تتغلغل في صفوفه، بل إنهم بدأوا يطرحون أسئلة لم تكن مدرجة في السابق عليهم، من قبيل: من يتحكم في الجيش، والتفريق بين الإشراف عليه من ناحية السيطرة العسكرية، وطبيعة الثقافة السياسية السائدة بين جنوده وضباطه وجنرالاته، التي من شأنها أن تضفي الشرعية على استخدام مزيد من القوة ضد الفلسطينيين، مع المزيد من تخفيف الرقابة عليه.

تمثلت نتيجة هذا النقاش الذي يسود جيش الاحتلال بأن الجدل حول استخدام القوة أخذ يضيق، وهذه نقطة انطلاق لمناقشة الشرعية الجديدة لاستخدامها، وقد باتت أحد مكونات النزعة العسكرية الجديدة بين “الإسرائيليين” تصور استخدام مزيد من القوة ضد الفلسطينيين ليس على أنه طبيعي فقط، بل وحتى مرغوب، وفق بعض تعريفات علماء الاجتماع، لكننا أمام الحالة “الإسرائيلية” سنكتشف خريطة واسعة لخصائص عسكرتها الجديدة، واختلافاتها عن الخصائص التقليدية، لأنّ الكتاب لا يناقش العسكرة كظاهرة ثقافية دائمة، بل زيادة مستواها بين “الإسرائيليين”.

  • مثالية مزيفة:

يحذر الكتاب من أنّ إضفاء المثالية على ما يسمى “جيش الشعب” في “إسرائيل”، والنظر إليه على أنّه يؤدي أدوارًا في مجالات التعليم والمجتمع والاستيطان، يقوي الميل لإنكار مساعيه العنيفة، مع تراجع التيارات النقدية في المكتبة “الإسرائيلية” التي تتعامل بشكل نقدي مع سلوك الجيش وممارساته، وإهمال الحديث عن مناقشة تنامي الظواهر العنيفة لديه خلال محاولاته السيطرة على الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية وقطاع غزة وشرقي القدس، وخلال ذلك يتأكد الجيش أنّ استخدامه للعنف بصورة مبالغ فيها سيتم دون إثارة تحديات كبيرة ضده، سواء من خارجه، أو من بين صفوفه.

في الوقت ذاته، يعتبر المؤلف أنّ محاولات اليمين “الإسرائيلي” في السنوات السابقة إضفاء الشرعية على الوضع الراهن، والمتمثل في تأمين السيطرة على الضفة الغربية، أظهر أشكالًا جديدة من العسكرة، وزيادة في شرعية استخدام القوة، وتقوية الفكر العسكري، وإضعاف ارتباطه بالتفكير السياسي، بوصف ذلك نتيجة حتمية لدخول الجيش في الفراغ الذي تركته “إسرائيل” لتحديد الوضع السياسي الراهن مع الفلسطينيين، مع أنّ دوره الحصري يتمثل في تطوير قدراته لإزالة التهديدات العسكرية بطريقة تجعل الحل السياسي غير ضروري.

على الصعيد “الإسرائيلي” الداخلي، فقد انعكس التغيير الجاري في وضعية الجيش على تغيير خطاب شرعيته، الذي لم يبرز بالضرورة نتيجة للأهداف التي حققتها عملياته العسكرية، بل في ترويجه لنمط جديد من العسكرة “الصلبة” في علاقاته مع المجتمع “الإسرائيلي” ذاته، مما رفع مزيدًا من الجدران بينهما، مستبدلًا ما كان سائدًا في عقود سابقة من عسكرة “لينة” أزالت الفروقات بين الجيش والمجتمع، فضلًا عن نشوء خطاب عسكري ديني قومي داخل صفوف الجيش تحدى العسكرة العلمانية.

نرى من خلال استعراض تبعات هذه العسكرة الجديدة على العلاقة مع الآخر “الفلسطيني والعربي”، أنّ الجيش سعى إلى تطوير أنماط جديدة لنزع الصفة الإنسانية عن “العدو”،  من خلال تجريد المسلحين الفلسطينيين من إنسانيتهم​، كما كان سائداً حتى الانتفاضة الثانية، وصولًا لنزع الصفة الإنسانية عن المجتمع الفلسطيني الذي يقاتل الاحتلال “الإسرائيلي”، من خلال تضخيم التهديد الديموغرافي الذي يشكله على مستقبل الدولة وهويتها، مما كان له تأثير على عدم استقرار الصراع، بل توسيع أبعاده.

  • الخاتمة:

يصل الكتاب في استنتاجاته إلى أنّ النتيجة الطبيعية لهذا المسار المتطرف من العسكرة “الإسرائيلية” الجديدة تتمثل في عدم إخفاء العنف الذي يمارسه الجنود ضد الفلسطينيين كما كان في الماضي، بل تعمد إبرازه، لتصبح ممارسته مع مرور الوقت مصدر فخر، وبالتالي فقد حدثت تغييرات جوهرية في نظام التبريرات المباشرة للعنف العسكري “الإسرائيلي”، مع العلم أنّه على مرّ تاريخ نشأة دولة الاحتلال، نأت مجموعات الأشكناز العلمانية بنفسها عن الاعتراف الصريح بالعنف ضد الفلسطينيين.

يقول المؤلف مع مرور الوقت: ظهرت مجموعات سكّانية “إسرائيلية” ذات مكانة اجتماعية متدنية، يعملون بأعداد كبيرة في وحدات الشرطة والجيش في الضفة الغربية وعلى حدود غزة، يطالبون الجيش ومؤسسات الدولة بالحماية والدعم، وحتى بالتغيير الثقافي في الجيش؛ لتبرير عنفهم ضد الفلسطينيين، وفي الوقت نفسه يروجون “من الأسفل إلى الأعلى” لخطاب عنف جديد ذي طابع ديني قومي، يحاول تقديم العنف على أنه عمل جدير، وليس تبريره فقط، من خلال شيوع دوافع الانتقام، واضطهاد منظمات حقوق الإنسان.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى