واقع استقلال القضاء في فلسطين على أبواب الانتخابات التشريعية والرئاسية 2021
دراسة قانونية لمشهد القضاء الفلسطيني منذ تأسيس السلطة وحتى الدعوة للانتخابات التشريعية والرئاسية الثالثة
لقراءة وتحميل الملف اضغط هنا
هيئة التحرير – مركز رؤية للتنمية السياسية
مثّل القضاء الفلسطيني منذ تأسيسه السلطة الثالثة التي بقيت بعيدة إلى حد ما عمّا عصف بالقضية الفلسطينية على مدار السنوات الماضية، ولا سيما مع سنوات الانقسام، من تشرذم واضح. وحافظت المؤسسة على نفسها كمؤسسة مستقلة ونزيهة وتحظى بثقة وسمعة إيجابية لدى الجمهور الفلسطيني، رغم ما كان يعتريها من ضعف في بعض الأحيان، ولا سيما في فترة 2004 – 2005، إبان انتفاضة الأقصى.
لكن هذه السمة الاستقلالية التي ميزت القضاء الفلسطيني، بدا أنها غدت محل سؤال كبير، وثارت العديد من الانتقادات لطبيعة العلاقة بين السلطة التنفيذية والقضائية في السنوات الأخيرة، ولا سيما مع تشكيل محكمة دستورية بقرار بقانون من الرئيس الفلسطيني في العام 2016، ثم إنشاء مجلس قضائي انتقالي مؤقت في العام 2019، وانتهاؤه أخيرا في يناير 2021 مع صدور 3 قرارات بقانون عن الرئيس الفلسطيني محمود عباس، تزامنت كذلك مع دعوة طال انتظارها لانتخابات تشريعية ثم رئاسية فلسطينية.
فكيف يبدو مشهد القضاء الفلسطيني اليوم من الناحية القانونية، ولا سيما من حيث استقلاله عن السلطة التنفيذية؟ وإلى أي مدى يمكن القول إن القرارات بقانون الأخيرة، والإجراءات التي سبقتها، تؤثر على الثقة بالسلطة القضائية ومدى استقلالها، وبالتالي على مشهدية الانتخابات الفلسطينية المرتقبة، والتي يقوم القضاء فيها بدور رئيس؟ هذا ما تحاول هذه الورقة الإجابة عنه.
أولاً: مشهد القضاء الفلسطيني منذ تأسيس السلطة وحتى بداية ولاية الرئيس عباس
بدأت تجربة استقلالية القضاء كسلطة ثالثة في فلسطين الواقعة تحت الاحتلال وليس لديها السيادة الكافية كركن من اركان قيام الدول كتجربة وليدة. ويمكن إجمال المراحل التي مر بها القضاء الفلسطيني منذ تأسيسه بما يلي:
- عند تأسيس السلطة الفلسطينية كانت القوانين السارية في الأراضي الفلسطينية قوانين اجنبية تتبع للدول التي كانت فلسطين خاضعة لها، كالأحكام العدلية التابعة للحكم العثماني، وقوانين الانتداب البريطاني، مروراً بالحكم الأردني للضفة الغربية والمصري لقطاع غزة، واللذان لا زالت العديد من قوانينهما معمولا بها في الأراضي الفلسطينية، وليس انتهاء بالحكم العسكري الإسرائيلي وما يعرف بالأوامر العسكرية الإسرائيلية منذ بدء احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967.
- أما الإطار البنيوي للقضاء الفلسطيني فبدأ من خلال إقرار المجلس التشريعي الفلسطيني ل القانون رقم 5 لسنة 2001 (قانون تشكيل المحاكم النظامية)، القاضي بإنشاء محاكم في المحافظات الفلسطينية، وهي محاكم الصلح والبداية والاستئناف، إضافة إلى تأسيس محكمة عليا تتكون من: محكمة النقض (التمييز)؛ وهي المحكمة التي تختص بالطعون بقرارات المحاكم الأدنى درجة (البداية والاستئناف)، ومحكمة العدل العليا، والتي تنظر في الطعون الإدارية، أي تلك الطعون التي تنصبّ على قرارات حكومية أو إدارية، بما في ذلك الطعون الخاصة بالانتخابات (المادة 33).
- تلا ذلك إقرار المجلس التشريعي ل قانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة 2002 والذي نص القانون على استقلال السلطة القضائية وحظر التدخل في القضاء أو في شؤون العدالة. ونصت المادة (18) من القانون على أن شغل الوظائف القضائية يكون “بقرار من رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية بناء على تنسيب من مجلس القضاء الأعلى”. كما نصت المادة (23) على عدم جواز نقل القضاة أو ندبهم لغير الجلوس للقضاء إلا برضائهم، وأجازت استثناء ذلك بقرار من وزير العدل بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى، على أن يكون الندب مؤقتا واقتضته مصلحة وطنية. كما نص القانون على صلاحيات مجلس القضاء الأعلى وطريقة تشكيله، حيث يشكل من رئيس المحكمة العليا رئيسا، إضافة إلى أقدم نواب رئيس المحكمة نائبا، واثنين من أقدم قضاة المحكمة العليا تختارهما هيئة المحكمة، ورؤساء محاكم استئناف القدس وغزة ورام الله، فضلا عن النائب العام ووكيل وزارة العدل.
- تم تثبيت المبادئ والقواعد الأساسية للقضاء الفلسطيني في القانون الأساسي (دستور فلسطين) لعام 2002، والقانون الأساسي المعدل (2003)، حيث أكد في ديباجته على “تحقيق التوازن بين السلطات، مع توضيح الحدود الفاصلة بين اختصاصات كل منها، بحيث تكفل لها الاستقلالية من ناحية، والتكامل في الأداء من ناحية أخرى”. وتضمنت المواد 97 – 109 من القانون الأساسي المعدل تنظيم السلطة القضائية، ونصت، ضمن نصت عليه، على استقلالها، وعلى أن “القضاة مستقلون، لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأية سلطة التدخل في القضاء أو في شؤون العدالة”.
ثانياً: محمود عباس رئيساً، بين السعي للإصلاح والنوازع للسيطرة
مع بدء ولاية الرئيس محمود عباس كرئيس لفلسطين في يناير 2005، كان القضاء الفلسطيني الوليد يعاني من اختلالات بنيوية وواقعية خطيرة. كانت انتفاضة الأقصى في أواخرها، والتي عصفت بمنظومة السلطة الفلسطينية ككل، والتي عانت من اختلالات كبرى لها صلة بمشهد ما بعد اجتياح الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية في عملية السور الواقي عام 2002، وعدم السيطرة على عمل الأجهزة الأمنية الفلسطينية.
وكانت الهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق المواطن ذكرت في تقرير لها عام 2005 حول حالة الانفلات الأمني وضعف سيادة القانون في أراضي السلطة أن “عدم استقلال السلطة القضائية في مواجهة السلطة التنفيذية وأجهزتها الأمنية، وانعدام الحدود والفواصل بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية، منعت الجهاز القضائي من القيام بالمهام الموكلة له”. وأوصت الهيئة بضرورة العمل على “معالجة ظاهرة استخدام سلاح السلطة الوطنية الفلسطينية من قبل بعض عناصر الأجهزة الأمنية في غير المهام المحددة قانوناً”، وذلك كمدخل لوضع حد لظاهرة غياب سيادة القانون في أراضي السلطة الوطنية الفلسطينية (ص 43 و53).
وعلى ضوء ذلك، بدأت علاقة الرئيس محمود عباس مع القضاء الفلسطيني مبكراً، فقام في السنة الأولى من ولايته بإصدار قانون جديد للسلطة القضائية، وهو قانون السلطة القضائية رقم (15) لسنة 2005، وذلك بعد اعتماده في المجلس التشريعي، والذي تضمن تعديلات على قانون السلطة القضائية لعام 2002.
شملت هذه التعديلات أنها جعلت التنسيب للرئيس بتعيين القضاة يتم بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس القضاء الأعلى، ولغت الجزئية المتعلقة بالأقدمية فيما يخص قضاة المحكمة العليا الاثنين الذين يتم تعيينهما في مجلس القضاء الأعلى، وأضافت إلى المجلس شخصية يعيّنها الرئيس بإرادته المنفردة ممن يثق بخبرته وكفاءته.
تم اعتبار هذا القانون وما شمله من تعديلات في حينها مهما من بعض النواحي لتحسين وتطوير بنية القضاء وتجاوز بعض الإشكالات التي واجهها في السنوات السابقة، ولكن أُخذ عليه أيضاً أنه شمل على ما مثّل أولى محاولات التغول على السلطة القضائية من قبل السلطة التنفيذية. وفي الواقع، تم إلغاء هذا القانون في حكم أصدرته المحكمة العليا يوم الأحد 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2005، وذلك بصفتها الدستورية، لأن إقرار القانون في ذلك الوقت، قد تم دون استشارة مجلس القضاء الأعلى، خلافًا لما ينص عليه القانون الأساسي.
تجمدت الأمور بعد ذلك بخصوص هذا القانون، لا سيما مع وجود شبه إجماع فلسطيني على مستوى مؤسسات القضاء والمجتمع المدني على تقدمية قانون السلطة القضائية لعام 2002 كما أن انتخاب مجلس تشريعي جديد في العام 2006، ثم تعطل عمله إثر الانقسام عام 2007، كل ذلك منع إصدار قانون جديد يتعلق بالسلطة القضائية في السنوات التي تلت ذلك.
ثالثاً: صراع السيطرة على مجلس القضاء الأعلى – رأس السلطة القضائية
بانغلاق الباب -ولو مؤقتا- أمام تعديل قانون السلطة القضائية بما يوسع من صلاحيات الرئيس عباس فيما يتعلق بالمجال القضائي، انتقل الصراع من رأس السلطة التنفيذية إلى السيطرة على مجلس القضاء الأعلى، الذي يمثل المرجعية العليا للسلطة القضائية. ويمكن قراءة هذا الصراع بشكل واضح عبر الخطوات التالية:
- تعيين القاضي مهنّا رئيسا لمجلس القضاء الأعلى بالمخالفة للقانون: واجه الرئيس عباس بعد ذلك صراعاً مع مجلس القضاء الأعلى، والذي يعد الجهة العليا التي تشرف على كافة الأمور المتعلقة بالقضاء. حيث قام بتاريخ 1/6/2014، وفي خطوة فردية، بتعيين علي مهنا رئيسا لمجلس القضاء الأعلى، ورئيساً كذلك للمحكمة العليا (بصفتيها الإدارية والنقض). وفي الواقع، يمثل هذا المنصب أخطر وأعلى المناصب القضائية في فلسطين، ويتم التعيين فيه، بموجب المادة (18/1) من قانون السلطة القضائية لعام 2002، بقرار من رئيس السلطة “بناء على تنسيب من مجلس القضاء الأعلى“، وهو ما لم يتم، كما هو واضح من قرار التعيين.
وعليه، قام محامون بالطعن في هذا القرار أمام محكمة العدل العليا الفلسطينية، والتي قررت، في قرارها رقم 130/2015 الصادر بتاريخ 7/12/2015، إلغاء قرار تعيين مهنّا، لعدم وجود التنسيب من مجلس القضاء الأعلى. وقالت المحكمة في قرارها: “أوجب المشرع على الإدارة عند إصدار بعض القرارات الإدارية قواعد إجرائية شديدة يهدف منها حماية المصلحة العامة والمصلحة الخاصة للإدارة وللأفراد على حد سواء“. وأكدت على أن الهدف من التنسيب هو “إيجاد سلطة بجانب رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية ليستعين برأيها ومشرتها في الوصول إلى قرار يحقق الصالح العام“.
- تعيين القاضي صرصور رئيسا لمجلس القضاء الأعلى بموجب القانون ثم الإطاحة به: إثر قرار العدل العليا إلغاء تعيين القاضي مهنّا لعدم وجود تنسيب، اضطر الرئيس عباس هذه المرة إلى الالتزام بالتنسيب المقدم من مجلس القضاء الأعلى، والذي نسّب بتعيين سامي طه صرصور رئيساً للمحكمة العليا رئيساً لمجلس القضاء الأعلى، وبالفعل، في 20/1/2016، أصدر الرئيس عباس قرار تعيينه.
غير أن هذا التعيين، كما بدا بشكل واضح، كان على خلاف هوى الرئيس عباس. سواء من خلال تجاوز تعيينه سابقا عبر تعيين مهنّا، أو عبر الإطاحة به من قبل الرئيس عباس بعد 10 أشهر من تعيينه، وبصورة مخالفة للقانون، حيث لا يمنح الرئيس هذه الصلاحية. وكان القاضي صرصور قال في مقابلة صحفية إثر هذا القرار “إن المخوّل الوحيد بالإقالة او قبول الاستقالة هو مجلس القضاء فقط”. وبين صرصور أنه كان قد “أُملي عليه” التوقيع على ورقة تتضمن حديثا عن الاستقالة “من أحد كبار رجال الأمن لا داعي لذكر اسمه”. وبيّن أن “هذه الورقة جاءت في وقت كان مجلس القضاء الأعلى معطلاً وكان هناك خلافات تدّخل فيها بعض المتنفذين من كبار الحكومة لا داعي لذكر اسمه، وكان لا بد أن يتم تعيين رئيس للمجلس، لأن القضاء كان يمر في مرحلة لا يحسد عليها مع الأخذ بعين الاعتبار أن مثل هذه الورقة لم تكن تشكل استقالة على الإطلاق”.
- القاضي غزلان، عضو في المجلس القضائي الأعلى لا يُدعى إلى اجتماعاته: القاضي عبد الله غزلان هو أقدم قضاة المحكمة العليا، وبرغم انتخابه من قبل الهيئة العامة للمحكمة العليا عضواً في مجلس القضاء الأعلى، وفق ما ينص عليه القانون؛ إلاّ أن المجلس، بحسب ما قال غزلان في لقاء إعلامي مسجل، لم توجه له دعوات لحضور اجتماعات المجلس خلافاً للقانون. وأكد غزلان أن مجلس القضاء الأعلى طلب من الهيئة العامة للمحكمة العليا اختيار عضو آخر للمجلس، فأودعت الهيئة العامة ردها بتاريخ 24/1/2018 بتجديد الثقة بالقاضي غزلان، ورغم ذلك، امتنع المجلس عن دعوته لحضور جلساته خلافاً للقانون.
ولفت القاضي غزلان إلى أن “مجلس القضاء الأعلى كان وما زال يشكل العنوان الأبرز لتدخلات السلطة التنفيذية في القضاء وبأشكال مختلفة؛ من قبيل أن مجلس القضاء الأعلى الحالي، كما المجلسين اللذين سبقاه، شكلتهما السلطة التنفيذية خلافاً للقانون، وأن رئيس المحكمة العليا رئيس مجلس القضاء الأعلى الحالي ونائبه جرى تعيينهما خلافاً للقانون، وأن رؤساء المحكمة العليا منذ نشأتها جرى تعيينهم خلافاً للقانون، وأشكال أخرى عديدة تدلل على تآزر مجلس القضاء الأعلى مع السلطة التنفيذية لإجهاض جهود الإصلاح القضائي”.
وكان الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة – أمان إلى جانب عشرات المنظمات الفلسطينية أصدرت بيانا مشتركاً لفتت فيه إلى خطورة المشهد القضائي في ظل تصريحات القاضي غزلان. وفي بيان آخر، حذرت المنظمات نفسها من أن طبيعة العلاقة القائمة بين مجلس القضاء الأعلى والسلطة التنفيذية وأجهزتها “قد أدت إلى المزيد من التدهور في حالة حقوق الإنسان وثقة المواطنين بالقضاء وسبل الانتصاف”.
رابعاً: تشكيل المحكمة الدستورية، ومزيد من السيطرة على السلطة القضائية ووأد التشريعية
على ذات الخطى المتصاعدة التي بدا أن الرئيس عباس يقوم عبرها بإحكام سلطته الذاتية على السلطات، تم في العام 2016 تشكيل المحكمة الدستورية عبر قرار رقم 57 لسنة 2016، وذلك استناداً إلى قانون المحكمة الدستورية رقم (3) لسنة 2006، والذي قام الرئيس عباس فيما بعد بتعديله عبر قرار بقانون في أكتوبر 2017. وبتشكيل المحكمة الدستورية ثم تعديل قانون إنشائها عبر “قرار بقانون”، بدت علامات هيمنة رأس السلطة التنفيذية على القضاء تزداد، كما لم يؤد قضاة المحكمة، والذي تم اختيارهم من الرئيس عباس، اليمين القانونية بحضور رئيس المجلس التشريعي، خلافاً لما تنص عليه المادة 7 من قانون المحكمة الدستورية (2006).
وقد تم تتويج هذا التفرد والتغول على السلطتين التشريعية والتنفيذية، عبر استخدام المحكمة كأداة لإنهاء دور المجلس التشريعي، وذلك عبر قرار تفسيري أصدرته المحكمة الدستورية في 12 كانون الأول/ديسمبر 2018 بحل المجلس التشريعي، تبعه قرار رسمي عن الرئيس عباس بإعلان حل المجلس. وهو ما لاقى في حينه انتقاداً واسعاً من عشرات المنظمات الحقوقية والهيئة المستقلة لحقوق الإنسان وأساتذة القانون، واعتبر بمثابة انقضاض من قبل الرئيس الفلسطيني، عبر تحكمه بالجهاز القضائي، على السلطة التشريعية، لا سيما أن القانون الأساسي الفلسطيني لعام 2003 لا يمنح لأية جهة صلاحية حل المجلس التشريعي.
وقال المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان إن “قيام الرئيس بتمرير قراراته السياسية من خلال المحكمة الدستورية تقويض كامل لحق الشعب الفلسطيني في وجود قضاء مستقل، ونظام سياسي يخضع لسيادة القانون”، كما أعلنت كل من حماس والجهاد الإسلامي والجبهتين الشعبية والديمقراطية مواقف رافضة له، ووصف الخبير القانوني المعروف أنيس القاسم قرار المحكمة بالقول إن ما يجري في فلسطين هو “الحكم بالقانون بدلا من حكم القانون”.
ولعل مما تجدر الإشارة إليه هنا، أن حل المجلس التشريعي (البرلمان) في معظم دساتير الدول إما غير مسموح به بأي حال من الأحوال، وهذا هو الحال في القانون الأساسي الفلسطيني. وحتى في الدول التي تسمح به، يكون ذلك في حالات محددة وضيقة جدا، وبضمانة ألّا تبقى الدولة دون سلطة تشريعية لمدة مفتوحة، كالذي جرى في فلسطين. فعلى سبيل المثال، يجيز الدستور الأردني للملك، باعتباره رأس السلطات الثلاثة، أن يحل البرلمان، شرط إجراء انتخابات عامة بعدها مباشرة، بحيث يجتمع المجلس الجديد خلال أربعة أشهر من تاريخ الحل على أقصى حد. وبموجب المادة 73/2 من الدستور المذكور، يستعيد المجلس المنحل كامل سلطته الدستورية ويجتمع فورا كأن لم يحل في حال لم تجرِ الانتخابات خلال مدة الشهور الأربعة المذكورة.
مزيد من التغول للأجهزة الأمنية والتنفيذية التي تتبع الرئيس على السلطة القضائية، وتأثير على النزاهة
وإلى جانب ذلك، كان واقع القضاء الفلسطيني على الأرض يزداد تعقيدا، وتغول السلطة التنفيذية يصل إلى درجات غير مسبوقة من التحكم بالمشهد القضائي. ففي التقرير السنوي لمنظمة أمان (العام 2017)، لفتت المنظمة إلى “تراجع دور القضاء وثقة المواطنين به، وزيادة تأثير دور الأجهزة الأمنية وبعض المتنفذين في السلطة على القرارات المتعلقة بالشأن العام”. ولفت التقرير إلى أن السلطة القضائية أصبحت عرضة “للابتزاز وفقدان استقلاليتها ما سمح للحكومة ومسؤولي الأجهزة الأمنية وكبار المسؤولين في مكتب الرئيس بالتدخل في شؤونها”. وقال التقرير إن وضع القضاء في غزة “ليس أفضل حالا”، خاصة بعد أن أوكلت كتلة حماس البرلمانية في المجلس التشريعي للحكومة تعيين قضاة ونقلهم وانتدابهم وترقيتهم ومساءلتهم، بشكل يمنح هيمنة للسلطة التنفيذية على القضائية.
وفي تقرير العام 2019، لفت الائتلاف مــن أجــل النزاهـة والمسـاءلة – أمـان إلى اسـتمرار تراجـع واقـع النزاهـة واسـتقلال القضـاء، بما في ذلك تدخـل بعـض أفراد السـلطة التنفيذيـة فـي أعمـال السـلطة القضائيـة، والتدخل في تعييـن رؤسـاء المحكمة العليـا دون تنسـيب قضائـي وعلـى نحو مخالف للقانون، إضافة إلى “رفض بعض الجهات الخضوع للرقابة الرسمية، تحت مبرر الاستقلالية”.
خامساً: إحكام سلطة الفرد: القضاء على مجلس القضاء الأعلى وتشكيل المجلس الانتقالي
قام الرئيس عباس، بموجب قرار رئاسي بتاريخ 6 سبتمبر 2017، بتشكيل “لجنة تطوير قطاع العدالة”، لدراسة السبل لتطوير قطاع العدالة في فلسطين وتجاوز الإشكالات. وقد خرجت اللجنة بعدد من التوصيات لتحسين واقع العدالة في فلسطين.
إثر ذلك، قام الرئيس عباس، وعبر قرار بقانون رقم 17 لعام 2019، بحل مجلس القضاء الأعلى وكافة هيئات المحكمة العليا ومحاكم الاستئناف (المادة 1)، وشكّل مجلس قضاء أعلى انتقالي، برئاسة رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق عيسى أبو شرار -رغم أن عمره وقت التعيين يفوق السن الأعلى المسموح للقضاة بموجب قانون السلطة القضائية 2002-، وعلى أن تستمر مدة المجلس لانتقالي سنة واحدة، قابلة للتمديد مدة ستة أشهر، بحيث يتولى خلالها كافة صلاحيات مجلس القضاء الأعلى وترتيب أوضاع القضاة، ومن ثم ينتهي دوره بانتهاء مدته عبر إعادة تشكيل مجلس القضاء الأعلى وفقا لما ينص عليه قانون السلطة القضائية لعام 2002.
وقالت منظمة الحق، تعقيبا على القرار بقانون المذكور، إنه يشكل “اعتداءً على القانون الأساسي المعدل وقانون السلطة القضائية والمبادئ والقيم الدستورية وأحكام القضاء، وتغولاً من السلطة التنفيذية على السلطة القضائية”. ولفتت الحق إلى أن القرار بقانون المذكور أدى إلى “إحالة ربع عدد القضاة إلى التقاعد على نحو مُباغت وبخاصة قضاة المحكمة العليا (35 قاضياً) لم يتبقَ منهم أحد، وإحالة قضاة في محاكم الاستئناف ومحاكم البداية للتقاعد”. وحذرت الحق من أن تلك القرارات بقانون أتت بعد قيام المحكمة الدستورية العليا بحل المجلس التشريعي الفلسطيني، وعليه، “وفي حال أقدمت السلطة التنفيذية، على استهداف المجتمع المدني، بقرار بقانون، فلن يتبقى من النظام السياسي الفلسطيني سوى السلطة التنفيذية”.
وشدد القاضي عبد الله غزلان، في أن الصلاحيات التي تم منحها لمجلس القضاء الأعلى الانتقالي بموجب القرار بقانون، جاءت بخلاف أحكام القانون الأساسي وقانون السلطة القضائية والمبادئ والأعراف القانونية والاتفاقيات التي وقعت عليها السلطة الفلسطينية، سواء من حيث إنشاء هذا المجلس، أو تشكيله وشخوصه وصلاحياته.
أزمات غير مسبوقة أثناء مدة عمل المجلس الانتقالي تهزّ الثقة بالمنظومة القضائية
على أرض الواقع، شهدت مدة عمل المجلس الانتقالي عدة أزمات عصفت بالقضاء الفلسطيني ظهرت على العلن بشكل غير مسبوق كليا، ومن ذلك منع رئيس المجلس القضاة من النشر والتعليق على المنصات الاجتماعية، وانتداب عدد من القضاة إلى وظائف غير قضائية في الوزارات الحكومية، كما حصل مع القضاة فاتح حمارشة، وأحمد الأشقر، ومحمد حسين، بالمخالفة للمادة 23 من قانون السلطة القضائية (2002)، التي تحصر الانتداب بأن يكون في مهمات قضائية، فضلا عن إحالة عدد من القضاة، كالقاضي عبد الله غزلان والقاضي أحمد الأشقر للمجالس التأديبية أو المحاكمات على خلفيات تتصل بالتعبير عن الرأي، وما تلا ذلك من محاكمات ومقاضاة وشكاوى متبادلة بين القضاة ورئيس المجلس الانتقالي.
وكان الحدث الأبرز في مرحلة عمل مجلس القضاء الأعلى الانتقالي، منع الأمن الفلسطيني يوم 7\9\2020 للعديد من القضاة والمحامين ومؤسسات حقوق الإنسان من الدخول إلى مقر المحكمة العليا ومبنى مجلس القضاء الأعلى لحضور جلسة للمحكمة العليا للنظر في طعن تقدم به القضاة الذين انتدبهم مجلس القضاء الأعلى الانتقالي لوظائف غير قضائية. ما جعل جمعية نادي القضاة في فلسطين، تنادي باعتماد ذلك اليوم ك “يوم أسود في تاريخ القضاء الفلسطيني”
وقال عيسى أبو شرار، رئيس مجلس القضاء الأعلى الانتقالي، إن “الذي أصدر أوامر بحظر اعتصام القضاة المنتدبين أمام مجمع محاكم رام الله هو الرئيس”. واتهم القضاة بأنهم موجَّهون من أحد المسؤولين في بعض الفصائل، “وهذا المسؤول كان يرسم لهم الخطط فيما يتعلق بالتحرك”، ولفت أبو شرار إلى إن المستوى السياسي كان لديه تفسير بأن هذه التظاهرة موجهة “ضد بعض المستويات السياسية أو ضد السيد الرئيس بشكل خاص، بالتالي لا يجوز أن يكون هناك مظاهرة”.
وتظهر هذه التصريحات لرأس العدالة الفلسطينية، والمعيَّن من قبل الرئيس عباس، تماهياً حاداً بين منظومة القضاء والمنظومة التنفيذية، بدل أن تكون الأولى مراقبة على عمل الأخيرة، وفق ما اقتضته نصوص القانون الأساسي الفلسطيني، الذي أكد في ديباجته على تحقيق التوازن بين السلطات “في سبيل المصلحة الوطنية العليا”.
وإلى جانب ما سبق، يمكننا قراءة مدى تغول التركيز على القوى التنفيذية، ولا سيما قوى الأمن، عن القطاعات الأخرى، بما فيها القضاء، من خلال الاطلاع على نصيب كل منها في الموازنة العامة. فبينما بلغ نصيب قطاع الأمن من الموازنة العامة لعام 2018 ما نسبته 22.7%، قالت السلطة القضائية في تقرير لها حول عمل المجلس الانتقالي في الفترة الممتدة من تاريخ 15/7/2019 وحتى انتهائه بتاريخ 12/1/2021 (مدة عام ونصف)، إن إجمالي ما أنفقته الدولة على القضاء في العام 2019 بلغ ما نسبته 0.65% فقط من إجمالي النفقات العامة.
تراجع الثقة بالقضاء إلى أدنى مستوى
ويغدو من الطبيعي إثر كل ما سبق، أن تتراجع ثقة المواطنين الفلسطينيين بالجهاز القضائي الفلسطيني، فقد اشارت نتائج استطلاعات الباروميتر العربي إلى تراجع الثقة في الجهاز القضائي من قبل الجمهور الفلسطيني من 60% في الأعوام 2007 و2010، إلى 42% في الأعوام 2016، و2019.
وتتطابق هذه النتائج بشكل كبير مع نتائج استطلاع للرأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في أيلول/ سبتمبر 2019، حيث قالت نسبة من 65% في الضفة الغربية إنها لن تحصل على محاكمة عادلة لو وجدت نفسها أمام محكمة فلسطينية، وقالت أغلبية من 72% في الضفة الغربية أن عمل القضاء والمحاكم في فلسطين يشوبه الفساد أو عدم الاستقلال أو يحكم بحسب الأهواء.
سادسا: انتهاء مرحلة المجلس الانتقالي وقوننة وضعية السلطة القضائية تحت السلطة التنفيذية
كما بينّا سابقا، فقد حدد القرار بقانون الذي أسس للمجلس الانتقالي مدة عام قابلة للتمديد ستة أشهر، وبما أن عمل المجلس بدأ في 15/7/2019، فإن هذه المدة، مع التمديد التابع لها، تنتهي يوم 15/1/2021. وهكذا، كان الأصل مع انتهاء هذه المدة أن ينتهي عمل المجلس الانتقالي، وأن يتم تشكيل مجلس القضاء الأعلى على أساس قانون السلطة القضائية 2002، وفق ما نص عليه القرار بقانون المنشئ للمجلس الانتقالي ذاته.
غير أن الرئيس عباس، وفي يوم 11/1/2021، فاجأ المشهد القضائي والحقوقي بإصدار ثلاثة قرارات بقانون في الجريدة الرسمية (عدد ممتاز 22)، وهي:
- قرار بقانون رقم 39 لسنة 2020 بشأن تشكيل المحاكم النظامية، ملغياً بذلك القانون رقم 5 لسنة 2001 بشأن تشكيل المحاكم النظامية.
- قرار بقانون رقم 40 لسنة 2020 بشأن تعديل قانون السلطة القضائية رقم 1 لسنة 2002.
- القرار بقانون رقم (41) لسنة 2020، بشأن المحاكم الإدارية.
كما قرّر الرئيس عباس تعيين عيسى ابو شرار -والذي ترأس المجلس الانتقالي- رئيسا لمجلس القضاء الأعلى، مع تعديل القانون بحيث يستثني رئيس مجلس القضاء الأعلى من السن الأعلى المسموح به للقضاة للتقاعد الوجوبي، وهو 70 عاما، فيما جاوز عمر “أبو شرار” الثمانين. كما أحال 6 قضاة إلى التقاعد.
وفي نفس توقيت إصدار هذه القرارات بقوانين بخصوص السلطة القضائية، أصدر الرئيس عباس قرارا بقانون رقم 1 لسنة 2021 بتعديل قانون الانتخابات العامة (2007)، ثم تبعه بالدعوة لانتخابات تشريعية ثم رئاسية منتصف العام 2021. وهو ما أثار العديد من التخوفات عن سر التزامن بين هذه القرارات بقوانين، التي تمس السلطة القضائية، وبين الدعوة للانتخابات، التي تعد السلطة القضائية أهم الجهات الضامنة لنزاهتها والفاصلة في الطعون التي يمكن أن تُقدَّم فيها.
وفيما يلي من السطور، سوف نتناول أهم المآخذ على القرارات بقوانين المذكورة، وكيف أنها تقونن تحكم الرئيس عباس بالمشهد القضائي الفلسطيني، في صورة يبدو معها الدخول في الانتخابات يحتاج إلى ضمانات استثنائية لضمان نزاهتها، لا سيما مع وجود المحكمة الدستورية العليا في الخلفية، والتي حلت المجلس التشريعي، والتخوف من أن تقوم بذلك مستقبلا، حال تشكل مجلس تشريعي على غير رغبة الرئيس عباس.
الإشكالية الأساسية: إشكالية القرارات بقانون، لماذا؟
إن الإشكالية الأولى والتأسيسية فيما يتعلق بهذه القرارات بقانون هو أن الأصل ألا يصدر الرئيس قرارات بقانون أصلا، باعتبار ذلك سلطة أساسية وأصيلة من سلطات وصلاحيات المجلس التشريعي، وقد مُنحت هذه الصلاحية للرئيس، بموجب المادة 43 من القانون الأساسي الفلسطيني، استثناء “في حالات الضرورة التي لا تحتمل التأخير في غير أدوار انعقاد المجلس التشريعي”، بموجب نص المادة نفسها.
لكن الرئيس عباس استغل هذه المادة بصورة ضخمة وغير دستورية، حيث أصدر أكثر من 200 قرار بقانون منذ تعطل المجلس التشريعي عام 2007.
وقالت نقابة المحامين الفلسطينيين إنها ترفض رزمة قرارات الرئيس عباس وتعتبرها مسّا باستقلال السلطة القضائية، “انطلاقا من رفض إصدار القرارات بقوانين”، وأكدت النقابة على أن “صاحب الاختصاص الدستوري الأصيل بإصدار القوانين الناظمة للشأن القضائي هو المجلس التشريعي بعد أخذ رأي مجلس القضاء الطبيعي”، ورأت النقابة أن ما يُتلمس من ظاهر هذه القرارات هو “إحكام قبضة السلطة التنفيذية على الشأن القضائي خارج إطار مبدأ الفصل بين السلطات ومبدأ سيادة القانون”.
وقال المركز الفلسطيني لاستقلال المحاماة والقضاء “مساواة” في بيان له تعقيبا على القرارات بقانون المذكورة إنها “تستبق إرادة الناخبين/ات، وتستبق ممارسة السلطة التشريعية المنتخبة لسلطاتها وصلاحياتها، وتضرب في الصميم أحد أبرز مكونات النظام الدستوري”. وأكد بيان صادر عن الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان والائتلاف الأهلي لإصلاح القضاء وحمايته على “الموقف الرافض للمساس بقانون السلطة القضائية أو إصدار تشريعات جديدة بمسمى قرارات بقانون أو غيرها لتنظيم شؤون القضاء”. كما أصدرت عشرات المنظمات الفلسطينية الحقوقية بيانا مشتركا أدانت فيه ما تمثله القرارات بقانون المذكورة “من اعتداء خطير على مبدأ سيادة القانون والفصل بين السلطات واستقلال السلطة القضائية، وأثارها السلبية على النظام السياسي الفلسطيني وعلى واقع الحقوق والحريات العامة”.
المآخذ الموضوعية على القرار بقانون بشأن تعديل قانون السلطة القضائية
وفيما يلي، نبرز أهم المآخذ الموضوعية على القرار بقانون رقم 40 لسنة 2020 بشأن تعديل قانون السلطة القضائية رقم 1 لسنة 2002 (من الآن فصاعدا، سنسميه القانون الأصلي)، والتي تؤسس لمزيد من الهيمنة على القضاء من جانب السلطة التنفيذية والرئيس الفلسطيني:
- الهيمنة على السلطة القضائية عبر جعل التعيينات بيد الرئيس بصورة واسعة:
فعلى الرغم من القرار بقانون المذكور نص في المادة 4 على أن السلطة القضائية مستقلة، إلا إنه في المقابل جعل لرأس السلطة التنفيذية صلاحيات جوهرية عبر انفراده بتعيين رئيس مجلس القضاء الأعلى/رئيس المحكمة العليا ونائبه، إذ يختارهما، بموجب المادة 8 من القانون، من عدد غير محدود من القضاة ينسبهم له مجلس القضاء الأعلى، فيما كان نص القانون السابق يجعل من صلاحية مجلس القضاء الأعلى اختيار رئيسه، والتنسيب به للرئيس ليقوم بتعيينه. وهكذا، رأى القاضي عبد الله غزلان، بأن هذا التنسيب بهذه الصورة “لا يعدو أن يكون صورياً”. وأخذ غزلان على القانون أنه أعفى رئيس السلطة القضائية من نطاق القيد المتعلق بالسن، ناهيك عن تمييزه عن غيره من القضاة فيما يتعلق بحساب الراتب التقاعدي.
كما أعطى القرار بقانون للسلطة التنفيذية هيمنة على تعيين جزء أساسي من أعضاء مجلس القضاء الأعلى، وعددهم 11 عضوا حسبما حددته المادة 16 من القانون، من بينهم ما يزيد عن الثلث تختاره السلطة التنفيذية، وهم: رئيس المحكمة العليا ونائبه والنائب العام ووكيل وزارة العدل.
ووصفت كل الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان والائتلاف الأهلي لإصلاح القضاء وحمايته هذه النصوص بأن “من شأنها المساس بشكل جوهري باستقلال القاضي الفرد، وجردت القضاة من أهم ضمانات استقلالهم”، وأكدت بأن ذلك “ينسف أي جهد لإصلاح القضاء ويجعله تابعا للسلطة التنفيذية”.
ماذا تقول المعايير الدولية عن التشكيل السليم لمجالس القضاء الأعلى وكيف ترى علاقتها بالسلطة التنفيذية؟
ونود أن نلفت هنا إلى أن مسألة تشكيل مجالس القضاء الأعلى وعلاقتها بالسلطة التنفيذية كانت دوماً محل نظر على مستوى دولي وأممي. وبموجب “دليل حول معايير استقلالية القضاء“، فإن استقلال القضاء يتصل بمنعة القضاء كمؤسسة تجاه السلطات الأخرى. يقول الدليل: “على القضاء أن يكون محصَناً كمؤسسة ضدّ تدخَل السلطات الأخرى: أي التشريعية والتنفيذية”. ويحذر الدليل من أن تتحول هذه المجالس “إلى ما يشبه الذراع الخفية للسلطة السياسية للتدخَل في أعماله”.
وتشير الفقرة 3 من إعلان Singhvi[1]إلى استقلالية القضاة عند اتخاذ أحكامهم حتى من زملائهم ورؤسائهم من القضاة، ويؤكد الإعلان على واجب التحري “ليس فقط عن كيفية تشكيل مجلس القضاء الأعلى وصلاحياته، انما أيضاً وربما بالدرجة الأولى، عن الضمانات الملازمة للقاضي والمرتبطة عضوياً ومباشرةً بالوظيفة القضائية، كمبدأ عدم جواز نقل القاضي أو حقه بالدفاع والتعبير والتجمَع والحصانة المتمتع بها، أو الحماية القانونية إزاء التدخَل في أعماله”.
وفي التعليقات العامة رقم 32 (2007) للجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان (الفقرات 15 – 20)، والمنبثقة عن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (والذي انضمت له فلسطين عام 2014)، قالت إن المحاكم ينبغي أن تكون مستقلة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، وأن لا تدين بولائها أو تتعرض للتلاعب والتخويف أو تضارب المصالح، وأن لا تكون في وضع تتمكن فيه السلطة التنفيذية من السيطرة على السلطة القضائية أو توجيهها. وفي تقرير للمقرر الخاص المعني باستقلال القضاة والمحامين، انتقد البلدان التي يكون للسلطة التنفيذية قول فصل في اختيار القضاة وتعيينهم فيها.
ومن الجدير بالالتفات أن المبادئ الأساسية لسلوك الجهاز القضائي، الصادرة عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة قالت بأن على القاضي “ألا يكون متحررا من العلاقات غير الملائمة مع السلطتين التنفيذية والتشريعية في الحكومة ومن نفوذهما فحسب، ولكن يجب أيضاً أن يبدو متحررا من كل ذلك من وجهة نظر المراقب المسؤول”.
وحول السبل المثلى لتعيين رئيس وأعضاء المجالس القضائية بما يضمن حيادهم، تطرح ورقة مركز العمليات الانتقالية الدستورية في كلية الحقوق في جامعة نيويورك، بشأن المعايير الدولية بشأن استقلال القضاء، أن التعيينات القضائية لا يجوز أن تقع في يد جهة سياسية واحدة، لا سيما السلطة التنفيذية. وتضيف: “من المفضل أن تحصل التعيينات القضائية عبر عملية تضمن مشاركة الأطراف الأخرى في الحكومة والمجتمع: مثل القضاة وأصحاب المهن القانونية والأحزاب السياسية المعارضة والمجتمع المدني“.
ويؤكد على هذه المسألة مقرر الأمم المتحدة الخاص باستقلال القضاة والمحامين، دييغو غارسيا– سايان، في تقريره الذي قدمه لمجلس حقوق الإنسان، حيث يلفت إلى وجود ميل على المستوى العالمي إلى أن يكون المجلس القضائي ذو تكوين مختلط، بحيث تكون أغلبية أعضائه قضاة منتخبين من أقرانهم، ويشمل ذلك بحسب المقرر الخاص قضاة منتخبين من الهيئات القضائية، وغير قضاة، كالمحامين وأساتذة القانون وأعضاء نقابة المحامين.
وقد أتت توصيات كل من الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان “ديوان المظالم” والائتلاف الأهلي لاستقلال القضاء وحمايته، بشأن “إصلاح منظومة العدالة في فلسطين” متوافقة تماماً مع هذه الرؤية، حيث اقترحت توسيع عضوية مجلس القضاء الأعلى، ليشمل أعضاءً من القضاة ومن خارج القضاء والسلطة التنفيذية، يحدد القانون بشكل واضح معايير اختيارهم، بما يضمن الشفافية والنزاهة، مع إعادة النظر في طريقة تنسيب رئيس المحكمة العليا -رئيس مجلس القضاء الأعلى، باتجاه تبني الانتخاب من الهيئة العامة للمحكمة العليا.
وعليه، فإن الحديث عن إلغاء مراجعة السلطة التنفيذية لتعيينات القضاة، واعتماد منهج مختلط في مجلس القضاء الأعلى يقوم على وجود هيئات منتخبة من القضاة مضافاً إليها عدد من الأساتذة والممثلين لمؤسسات القانون الأخرى ومنظمات المجتمع المدني وضمن معايير واضحة وثابتة، هو ما يضمن وجود قضاء مستقل ونزيه، والأهم: قضاء متوافق مع الاتفاقيات الدولية التي انضمت لها فلسطين، خصوصا ونحن على أبواب انتخابات جاءت بعد أزمة ثقة وانقسام عميقة بين الأطياف السياسية الفلسطينية المختلفة، ما يتطلّب فعليا وجود قضاء متوافق على نزاهته واستقلاله.
- عزل القضاة واستيداعهم:
رغم أن كلا القانونين، قانون السلطة القضائية لعام 2002 والقرار بقانون الذي أصدره الرئيس عباس ينصان كلاهما على أن القضاة غير قابلين للعزل إلا في الأحوال التي يجيزها القانون. إلا أن القرار بقانون توسع في تلك الحالات التي يسمح فيها بعزل القضاة، كما أجاز، على خلاف القانون السابق، استيداع القضاة، والذي يعني الوقف المؤقت لخدمة القاضي لمدة لا تزيد على 5 سنوات قبل إحالته على التقاعد، والذي يستهدف بشكل أساسي القضاة الأصغر سناً الذين لم يبلغوا سن التقاعد.
وبينما حدد القانون الأصلي سبل عزل القضاة في نطاق ضيق وبحيث لا تؤثر على حقوقهم المالية، استخدم القرار بقانون عبارات فضفاضة، بما في ذلك العزل “لعدم الكفاءة”، بما يفتح الباب ليكون القاضي مهددا بالعزل من الوظيفة القضائية أو الاستيداع في أي وقت، مع التأثير في حقوقه المالية، وهو ما جاء في المادة 11 من التعديل. ومما يؤخذ على هذه المادة أنها لم تحدد معايير واضحة لمن يمكن عزلهم أو استيداعهم، سوى أنها منحت تلك الصلاحية لمجلس القضاء الأعلى، وهو ما يهدد فكرة الموجبات الموضوعية التي تقتضي العزل، ويجعل الأمر يبدو في نطاق التحكم بالقضاة ممن لا تعجب قراراتهم الجهات العليا في الدولة.
وقد حذّر الائتلاف الأهلي لإصلاح القضاء وحمايته والهيئة المستقلة لحقوق الإنسان في بيانهما المشترك إلى أن القرار بقانون “سمح بعزل القضاة وإحالتهم للتقاعد أو الاستيداع، بموجب إجراءات لا توفر ضمانات كافية ضد التعسف في استخدام السلطة من قبل المجالس القضائية”. وقالت الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني حشد إن ذلك “يجعل رقاب القضاة تحت سيف العقوبات المقنَّعة بالإحالة للتقاعد والعزل والندب والاستيداع”.
ومما يجدر لفت النظر إليه، أن المبادئ الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية (اعتمدتها الأمم المتحدة عام 1985)، نصت على أن يتمتع القضاة “بضمان بقائهم في منصبهم إلى حين بلوغهم سن التقاعد الإلزامية أو انتهاء الفترة المقررة لتوليهم المنصب”، وجعلت العزل غير مسموح به “إلا لدواعي عدم القدرة أو دواعي السلوك التي تجعلهم غير لائقين لأداء مهامهم”.
وفي قرار لمجلس حقوق الإنسان عام 2013، أكد المجلس على ضرورة “أن تعلـن أسـباب عزل القضاة صراحة في نص قانوني يحدد بوضوح تام الظروف التي تستدعي ذلك، مع ذكر أسباب العجز أو السلوك الذي يجعلهم غير مؤهلين لأداء مهامهم”. وشدّد المقرر الخاص المعني باستقلال القضاة والمحامين على أن العزل “يجب أن يكون في ظروف استثنائية”. كما قال مركز العمليات الانتقالية الدستورية في كلية الحقوق في جامعة نيويورك، بأن عزل وتأديب القضاة ينبغي أن يكون بالاستناد إلى معايير موضوعية ومقاييس يتم تحديدها مسبقا وعبر إجراءات تضمن مراجعة قضائية صحيحة.
وهكذا، يبدو واضحا أن القرار بقانون المذكور قد نحا بعيدا عن المعايير الدولية في هذا الصدد. وكان الأولى عدم ترك معايير إقالة القضاة لمجلس القضاء الأعلى، بل تحديدها بشكل واضح وموضوعي، وأن تتم عبر لجنة/لجان مستقلة، وإعطاء القضاة المعنيين حق الدفاع عن النفس.
ويمكن ملاحظة الآثار السلبية لهذا التوسع عبر قرار الرئيس بإحالة ستة قضاة إلى التقاعد المبكر بناءً على تنسيب من مجلس القضاء الأعلى الانتقالي، والذي جاء فور إقرار القرار بقانون المذكور. ومن المعروف عن هؤلاء القضاة أن لهم مواقف سابقة رفضتها السلطة التنفيذية أو المجلس القضائي، كالقاضي أحمد الأشقر الذي كان له قرار باعتبار اتفاقية أوسلو بحكم المنتهية حكما.
- التوسع في الإجراءات التأديبية للقضاة:
في حين جعل القانون الأصلي صلاحيات دائرة التفتيش القضائي ومعايير تقييم أداء القضاة محددة، بما لا يجعل دائرة التفتيش القضائي أداة بيد أحد للضغط على القضاة عبر تقييمات منخفضة بدون أسس موضوعية، جاء القرار بقانون موسعاً لصلاحيات التفتيش القضائي، وجعل مسألة تعيين القضاة وانتدابهم للدائرة سلطة حصرية وكاملة بيد مجلس القضاء الأعلى دون تقيد بمسميات وظيفية محددة (المادة 23)، فيما كان القانون الأصلي (المادة 48) يقضي بتشكيل مجلس تأديب القضاة بقوة القانون وبالصفات والمسميات الوظيفية المحددة (أقدم اثنين من قضاة المحكمة العليا وأقدم قاض من قضاة محاكم الاستئناف)، كما وسّع القرار بقانون من إمكانيات تقديم القضاة للمجالس التأديبية، بما في ذلك القيام بعمل “يمس باللياقة” (المادة 26)، وهو أمر غير واضح وفضفاض.
كما أضعفت المادة (25) من القرار بقانون المذكور، من مسألة التأكيد على الحق في الدفاع، حيث حذفت شرط إصدار مجلس التأديب لقراره في الدعوى التأديبية بعد سماع طلبات الادعاء ودفاع القاضي محل المساءلة التأديبية، والتي كانت من الحقوق المنصوص عليها في المادة 53 من القانون الأصلي.
- 4. وضع فترة تجريبية للقضاة لمدة 3 سنوات
ومن النقاط المستحدثة في هذا القرار بقانون، والتي يمكن أن تكون إيجابية، هو ما نصت عليه المادة 5 من أن القاضي الذي يعين حديثا يخضع لفترة تجريبية لمدة ثلاث سنوات، على أن تسري بأثرٍ رجعي بحق القضاة الذين تم تعيينهم قبل نفاذ القرار بقانون.
وبقدر ما يمكن أن توصف هذه الخطوة بأنها إيجابية لصالح قطاع العدالة، عبر عدم إرهاقه بشخص غير كفؤ للقضاء عبر تثبيته من البداية، إلا أن ترك القرار للمجلس القضائي بخصوص إنهاء عمل القاضي في فترة التجربة، دون النص على أية إجراءات يمكن الاعتماد عليها في تقدير عدم كفاءة القاضي، يثير المخاوف من أن يستخدم ذلك لأجل عزل القضاة الذين لا تعجب قراراتهم السلطة التنفيذية أو الجهات الأمنية.
وكان المقرر الخاص المعني باستقلال القضاة والمحامين أعرب عن قلقه من هذه المسألة، مشيرا إلى أن مسألة الفترة التجريبية تسير غالبا في اتجاه معاكس لمبدأ استقلال القضاة. وأوصى في هذه الحالات بوجود هيئة مستقلة وبعد إجراء متخصص يثبت أن فردا بعينه ليس أهلا.
- 5. الإشارة إلى النظام الأساس لمنظمة التحرير الفلسطينية
كان لافتا أن القرار بقانون المذكور، وما تلاه من قرارات بقانون، استندت في ديباجتها إلى النظام الأساس لمنظمة التحرير الفلسطينية، فضلا عن القانون الأساسي الفلسطيني، وهذه الصيغة غير مسبوقة في سياق القوانين الفلسطينية، ولا سيما أن المنظومة التشريعية الفلسطينية تخضع للقانون الأساسي كأعلى مرتبة في التشريع، والذي أقره المجلس التشريعي في العام 2002 وتعديلاته في العام 2003. ولا تخضع للنظام الأساس لمنظمة التحرير الفلسطينية، ما أثار العديد من التكهنات حول سبب استخدام هذا المصطلح.
وقال مجلس منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية في بيان صدر عنه إن ذلك “يُثير إشكالات تتعلق بالطبيعة القانونية للقرارات بقانون محل الورقة، وطبيعة الشرعية التي استمدت منها القرارات بقانون الجديدة صلاحياتها، أهي الشرعية الثورية أم الدستورية، وفي ذلك تباين وازدواج إجرائي وموضوعي”. ولفتت المنظمات إلى أن ذلك “يطرح تساؤلاً جوهرياً يتعلق بماهية النظام الدستوري الذي يحكم الأراضي الفلسطينية، إضافة إلى كون النظام الأساسي للمنظمة لا يمنح رئيس لجنتها التنفيذية إصدار قرارات بقانون وفق مفهوم المادة سالفة البيان”.
وفي الواقع، تستدعي هذه الصيغة الجديدة توضيحا معلناً من ديوان الرئاسة حول المغزى من استخدامها، والذي يبدو ملتبساً. ويمكن لنا أن نخمن بأن ذلك يمثل توجها جديداً يتعلق بالتحول من “السلطة الفلسطينية” إلى “الدولة”، والذي أعلنت عدة قيادات فلسطينية رسمية عن توجه السلطة له خلال المدة الماضية، وبالتالي الخروج من نطاق “حصرية الاعتماد على أوسلو وما انبنى عليه من تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية وما تولد علنا”، إلى “سعة الدولة ومشروع منظمة التحرير الفلسطينية”. لا سيما أن المادة 2 من القرار بقانون قالت إن كل عبارات “السلطة الوطنية الفلسطينية” الواردة في نص القانون الأصلي تستبدل ب “دولة فلسطين”، وأن الرئيس استخدم هذا النص “النظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية” في قرارات أخرى أيضاً خلال العامين السابقين.
كما نسجل هنا بأن القرار بقانون بشأن الانتخابات العامة (2021)، نص في المادة 3 منه على أن يصدر “رئيس دولة فلسطين، رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية” مرسوما رئاسيا يدعو في لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية، وهو ما يثير اللبس أيضاً. فوفق المنظور القانوني، لكل من دولة فلسطين، واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، نظامين قانونيين مختلفين، وقد لا يكون رئيس فلسطين هو ذاته رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، والأصل في القاعدة القانونية أنها قاعدة عامة مجردة، فلا يمكن أن نتخيل هذا النص القانوني المذكور في القرار بقانون في سياق الرئيس عباس فقط، والذي يجمع الرئاستين حاليا. فماذا لو توفي الرئيس مثلا؟ من الذي يحق له الدعوة للانتخابات؟ وهل إن التطبيق السليم لهذه المادة يشترط إذن أن يصبح منصب الرئيس، هو لكلا المنصبين، بحيث أن رئيس دولة فلسطين، هو رئيس المنظمة؟
الحقيقة أنه لا بد من توضيح رسمي لهذه الصياغات الملتبسة، والتي تثير مخاوف من أن يتم استدعاؤها لاحقا بصورة غير قانونية، أي بعد انتخاب المجلس التشريعي، على أساس أن المرجعية هي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وبالتالي الادعاء بأن لها صلاحية فوق صلاحية المجلس التشريعي، على اعتبار أن الانتخابات قد تمت على هذا الأساس.
المآخذ الموضوعية على القرار بقانون بشأن المحاكم الإدارية
أما فيما يخص المآخذ الموضوعية على القرار بقانون رقم 41 لسنة 2020، فإن أهم ما يؤخذ عليه أنه منح السلطة التنفيذية الحق في تشكيل المحكمة الإدارية، والتي تقوم مهمتها الرئيسية على مراقبة قانونية قرارات الرئيس والحكومة، وأن هذه المحكمة، بموجب القرار بقانون المذكور، هي التي تنظر في الطعون الانتخابية.
فبموجب المادة 7 من القرار بقانون المذكور، يعيَّن رئيس المحكمة الإدارية العليا بقرار من الرئيس، منفردا ودون حاجة إلى تنسيب حتى. كما يعيَّن رئيس المحكمة الإدارية ونائبه وقضاة المحكمة، ونائب رئيس المحكمة الإدارية العليا وقضاتها بقرار من الرئيس بناء على تنسيب من الجمعية العامة للمحاكم الإدارية.
وتنص الفقرة 2 من المادة ذاتها، على أن أول تعيين لكافة رؤساء ونواب وقضاة المحكمة الإدارية والإدارية العليا يتم بقرار من الرئيس، منفردا ودون تنسيب أي جهة، شرط التشاور مع رئيس مجلس القضاء الأعلى ووزير العدل.
وقد علّقت الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان والائتلاف الأهلي لإصلاح القضاء وحمايته على هذه المادة بأنها “تؤسس لقضاء إداري غير مستقل، وتابع للسلطة التنفيذية، على نحو يهدد حقوق الأفراد وحرياتهم… وعلى نحو يذكرنا بتشكيل المحكمة الدستورية العليا قبل أربع سنوات والتي أثار أداؤها شكوكا كبيرة حول استقلالها”.
وفي الواقع، كانت المحكمة العليا الفلسطينية من أهم وأرفع المؤسسات القضائية التي حافظت على استقلال إلى حد بعيد خلال السنوات الماضية، وكان لها أحكام مشهودة مخالفة لتوجه السلطة التنفيذية ومناصرة للحقوق والحريات، ومن أبرزها قرارها بإلغاء قرار الرئيس الفلسطيني بمنح “المسكوبية” للبعثة الروسية في يونيو 2020، وقرارها بإلغاء قرارات فصل المعلمين على خلفيات سياسية وإلغاء شرط السلامة الأمنية.
والأمر بهذه الصورة، فإن القرار بقانون الأخير يمثل سيطرة من قبل الرئيس على هذه المحكمة، ولا سيما في هذه المرحلة التي يناط فيها بالمحكمة الإدارية النظر في الطعون التي يمكن أن تقدم في نتائج الانتخابات (المادة 20). وبذلك يتم التأثير بشكل كبير على القضاء الإداري الذي تغدو فيه السلطة التنفيذية هي الخصم والحكم في نفس الوقت. أما الطعون الأخرى ذات الصلة بالانتخابات، كالطعون المتعلقة بقبول أو رفض طلبات الترشيح، أو إعادة أو عدم إعادة الانتخاب في مراكز الاقتراع، فتكون – بموجب المادة 14 من قانون الانتخابات العامة لعام 2007– من اختصاص “محكمة قضايا الانتخابات”، التي لم تشكل بعد، ويتم تشكيلها بمرسوم رئاسي بناء على تنسيب من مجلس القضاء الأعلى (المادة 20 من القانون المذكور)، والذي يبدو أنه بات مهيمنا عليه بشكل كبير من قبل رئيس السلطة، كما أوضحنا سابقاً.
وبهذا، تصبح المخاوف كبيرة من التبعية الكاملة للسلطة التنفيذية، بموجب تلك القرارات بقانون، بحيث أن القرارات التي تصدر عن السلطة التنفيذية، في مسار العملية الانتخابية، وفي النتائج، باتت من اختصاص القضاء الإداري بحلته الجديدة، ومن اختصاص محكمة قضايا الانتخابات التي لم تشكل بعد. أما الجرائم الانتخابية (كالتزوير) فتبقى من اختصاص القضاء العادي، والذي يتبع لمجلس القضاء الأعلى.
ثم أما بعد: خاتمة وتوصيات
إن تتبع الخط الزمني والأحداث، القانونية والواقعية، منذ قدوم الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى السلطة في يناير 2005، يظهر أن هناك توجهاً واضحا ومعززاً للهيمنة على السلطة القضائية، سواء على توسيع الصلاحيات الممنوحة له فيما يتعلق بالقضاء، أو عبر إيجاد آليات تفضي إلى تبعية السلطة القضائية للرئيس بشكل غير مباشر. ويظهر أن هذا النهج للرئيس عباس قد تصاعد بشكل واضح منذ العام 2014 وما تلاه، ويبدو ذلك ليس بعيداً عن استنساخ تجارب بلدان عربية فيما بعد ما عرف بثورات الربيع العربي، التي عززت إثرها السلطات التنفيذية من نفوذها داخل الأجسام القضائية، بما يسهّل عليها الانقضاض على أي أجسام ديمقراطية جديدة يفرزها الشعب.
كما إن إصدار القرارات بقانون بهذا الكم المهول، وفي قضايا ومسائل حساسة تؤثر على التوازن والتوازي الذي نشَدَه القانون الأساسي الفلسطيني بين السلطات الثلاث، ثم استخدام تلك القرارات بقانون أداة للانقضاض على السلطتين الأخريين، التشريعية والقضائية، كما حصل في السنوات الماضية، هو نذير شؤم ويخالف الأسس الديمقراطية لبلد يخوض معركة تحرر وكرامة ويسعى إلى تقديم نفسه للعالم كبلد يريد الانعتاق من الانحلال والالتزام بمبادئ حقوق الإنسان وما نصت عليه الاتفاقيات والمواثيق الدولية.
وفي مشهد الانتخابات القادمة، تبدو الصورة مثيرة للقلق في ظل كل ما جرى للقضاء على مدار السنوات الماضية، حيث تجري هذه الانتخابات في ظل مجلسٍ أعلى للقضاء مهيمن عليه من الرئيس، ومحكمة عليا يعين الرئيس كافة قضاتها منفردا، ومحكمة انتخابات يعين الرئيس قضاتها بعد تنسيبهم له من قبل المجلس الأعلى للقضاء، ومحكمة دستورية كان من أكبر إنجازاتها أنها حلت المجلس التشريعي المنتخب. وعليه، يبقى التخوف الأساسي حول مدى نزاهة القضاة المعينين من قبل الرئيس عباس في التعامل مع الطعون الانتخابية وإقرار النتائج.
وقد كان الأولى من كل ذلك، العودة إلى الوضع الطبيعي: مجلس قضائي أعلى يتشكل على أساس قانون السلطة القضائية لعام 2002، أو على الأساس المختلط، الذي تشارك فيه فئات حقوقية لها وزنها وكفاءتها القانونية من المجتمع، والمضي في الانتخابات التشريعية بضمانات عالية من النزاهة والحياد، ومحكمة إدارية عليا ومحكمة دستورية عليا مستقلتان تماماً، لا هيمنة لأحد عليهما إلا للقانون.
وإنه لصحيح أن هذه القرارات بقانون، بموجب المادة 43 من النظام الأساسي، سوف يتم عرضها جميعها على المجلس التشريعي الجديد في أول جلسة يعقدها، وللمجلس حينها أن يقرها، وإلا اعتبرت ملغاة حكما، إلا أن التعامل مع هذا الكم من القرارات بقوانين في أول جلسة لن يكون بالأمر الهين، وإلغاءها جميعاً لن يكون دون تبعات، لما رتّبته من مراكز قانونية على مدار السنوات الماضية، كما أن كثيرا من القرارات بقانون التي تم إقرارها تحتاج إلى حوار وطني جاد، يفضي إلى مخرجات يمكن البناء عليها وصياغتها في قواعد دقيقة وغير متعارضة، وهو ما يحتاج بطبيعة الحال إلى وقت كاف، وقراءة متأنية، فلا يغدو القانون “قوة تفرض من الخارج على المجتمع”، كما هو حاصل، بل يكون هو الحياة لهذا المجتمع.
إن الرئيس عباس مطالب اليوم، ولإثبات حسن النية تجاه الانتخابات القادمة، أن يقوم بإلغاء هذه القرارات بقانون وعودة الأمور إلى قانون 2002 إلى حين انتخاب مجلس تشريعي جديد. وإن كان لا بد، فعلى الأقل أن يكون هناك شراكة وتشاور مع الجهات الحقوقية والتشريعي في مسألة اختيار القضاة مع الرئيس، لضمان النزاهة، ووجود توافق فصائلي ومع منظمات المجتمع المدني حول ذلك.
[1] أوصت لجنة حقوق الانسان الدول رسمياً باعتماد مبادئ Singhvi بشأن استقلال السلطة القضائية. انظر التوصية رقم 1989/32. UNDoc. E/CN.4/RES/1989/32))