هل تقايض “إسرائيل” تركيا في مساعدتها اللافتة في مواجهة الزلزال؟

د. عدنان أبو عامر1

تباينت القراءات “الإسرائيلية” إزاء ما يمكن أن تسفر عنه “دبلوماسية الكوارث” من نتائج طويلة الأمد بين دولة الاحتلال وتركيا، سواء باتجاه إحداث تغيير جذري في العلاقات بين الدولتين من عدمه، في خطوة أظهرت ترك الاعتبارات السياسية جانبًا، وذلك في الوقت الذي سارعت فيه دولة الاحتلال إلى تقديم مساعدتها لتركيا المنكوبة بالزلزال المدمر في الولايات الجنوبية.

  • دبلوماسية الكوارث:

تشهد تركيا حاليًا إحدى أسوأ الكوارث في تاريخها، فقد أظهرت إحصائيات الإعلام التركي أنّ الاحتلال هو ثاني أكبر جهة في العالم قدم مساعدات لها بعد أذربيجان، وهو معطى لافت، حيث تمثلت المساعدات في إرسال وفد طبي كبير ومنقذين، وسعى الاحتلال إلى أن تكون صور جنوده العاملين في الساحة رمزاً للعلاقات الحميمة بين الجانبين، كما حصل في زلزال 1999، حيث شهدت علاقاتهما آنذاك مرحلة الذروة، مع العلم أنّ “دبلوماسية الكوارث” بينهما لم تبدأ في التسعينيات فقط، بل منذ الخمسينيات، وبغض النظر عن مستوى العلاقات السياسية بين أنقرة و”تل أبيب”، فقد تواصلتا عندما واجهت تركيا كوارث طبيعية.

لم تكن هذه المساعدة من جانب واحد، ففي 2010 وبعد أشهر من حادثة سفينة “مرمرة” على شواطئ غزة، أرسلت تركيا طائرات إطفاء إلى دولة الاحتلال التي واجهت كارثة الكرمل، واليوم يبدو أنهما في وضع مماثل، حيث أدركت تركيا على الفور حجم الحادث ومدى الضرر، وطالبت المجتمع الدولي بتقديم المساعدة، ورغم المخاطر والتحديات الأمنية كون مسرح الكارثة في المنطقة الحدودية مع سوريا، فقد استجابت الحكومة “الإسرائيلية” للنداء التركي، وبدأ وزيرا الحرب والخارجية الاستعدادات لإرسال بعثة إغاثة إلى تركيا.

يكون خلط بين الاعتبارات الإنسانية والسياسية في كل مرة يقع حدث من هذا النوع، وحتى اليوم لا يسع المرء إلا أن يفكر في العواقب السياسية المحتملة لإرسال مساعدات “إسرائيلية” إلى تركيا، حيث تُظهر الدراسات المختلفة حول “دبلوماسية الكوارث” أنّ المساعدة في حالات الطوارئ لا تؤدي إلى تغيير جذري في العلاقات بين الطرفين، وفي الحالة الأكثر إيجابية، يمكن لمثل هذه المساعدات أن تسرع من عمليات التقارب الموجودة بالفعل، لكن لا تبدؤها.

على الرغم من أنّ علاقات تركيا والاحتلال تشهد تحسّناً منذ عامين، وأنّ المساعدة “الإسرائيلية” لتركيا قد تكون خطوة أخرى لتدفئتها، فإن تأثير مثل هذه الخطوة قد يكون محدودًا مع مرور الوقت، ولذلك لا ينبغي النظر إلى الوفد “الإسرائيلي” إلى تركيا على أنه فرصة سياسية ستؤثر على علاقاتهما طويلة الأمد.

  • أجندة سياسية:

تجدر الإشارة إلى أننا أمام كارثة إنسانية رهيبة أيقظت العالم كله، بما فيها دول المنطقة، بغض النظر عن علاقاتها مع تركيا، حتى اليونان التي لديها صراع تاريخي معها، ساهمت هي الأخرى في مهمة الإنقاذ، وعرضت أرمينيا التي سبق وأغلقت حدودها مع تركيا تقديم مساعدتها، ولذلك فإن الفريق “الإسرائيلي” الذي أُرسل قد لا يشكل خطوة سياسية في العلاقات، بل سيسعى إلى تعزيز العلاقات السياسية بينهما، لكنها عملية منفصلة، وقد لا تكون مضمونة النتائج سلفاً، رغم رغبة الاحتلال بذلك.

في الوقت ذاته، قام وزير خارجية الاحتلال “إيلي كوهين” بزيارة أنقرة، والتقى بالرئيس رجب طيب أردوغان، وتناولت مباحثاتهما -وفق المزاعم “الإسرائيلية”- البرنامج النووي الإيراني، والأسرى “الإسرائيليين” لدى حركة حماس في غزة، وزعم الوزير “الاسرائيلي” “كوهين” أنّ “العلاقات بين إسرائيل وتركيا مهمة لاستقرار المنطقة، وقد عملنا في الآونة الأخيرة على مواصلة تقويتها”.

ظهر توجه “إسرائيلي” مغاير في ذات السياق ألمح إلى محاولة إجراء “مقايضة” سياسية مع تركيا التي تتلقى المساعدات الدولية، بالرغم من أنّ للاحتلال الحق في مطالبة تركيا مقابل ما يقدمه من مساعدات في مواجهة الزلزال بأن لا تمنح حق اللجوء لمن يستهدفونه بعمليات المقاومة، بعد أن أنقذت طواقمه العديد من الأتراك تحت الأنقاض، والادعاء بأن الوفد “الإسرائيلي” لقي استقبالا حارًا في تركيا، سواء من قبل المسؤولين الحكوميين، أو من الناس على الأرض.

رغم أنّ الوقت لا يتسع للحديث عن “تسييس” المساعدات، فإنّ الاحتلال لم ينس التذكير بما يزعم أنه في السنوات العشرين الماضية أصبحت إسطنبول عاصمة قيادة كبرى حركات المقاومة الفلسطينية، ومركزًا دوليًا ضخما لتحويل الأموال، ومكان إقامة قادة المقاومة العسكريين المسؤولين عن النشاطات المسلحة في الضفة الغربية، في محاولة -لا تخطئها العين- إلى تحريض الأتراك المحتاجين إلى مساعدات من كل العالم، على اتخاذ المزيد من الخطوات القاسية باتجاه المقاومة الفلسطينية.

  • احترام التفاهمات:

طلب الاحتلال من أنقرة في ذروة خطوات المصالحة “الإسرائيلية” التركية في سبتمبر 2022، إبعاد قيادة حماس من أراضيها، لكن هذا لم يحدث، حتى أنّ وسائل الإعلام “الإسرائيلية” أبدت انزعاجها من تفاخر وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في نوفمبر بالعلاقات الطيبة مع حماس، وعدم استجابة تركيا إلى المطلب “الإسرائيلي”، وهذا يعني أنّ دولة الاحتلال كشفت عن أهدافها الحقيقية من مسارعتها إلى مساعدة تركيا في مواجهة آثار كارثة الزلزال، أي أنه لم يكن عملًا إنسانيًا بحتًا، بقدر ما يخفي أطماعًا سياسية تتمثل في أنها ستعاود مطالبة تركيا بالضغط على المرتبطين بالمقاومة الفلسطينية، ما قد يعني زيادة الضغوط “الإسرائيلية” والأمريكية على أنقرة للعمل على تقليص تواجد القوى المعادية للاحتلال من على الأراضي التركية.

الخلاصة:

من المبكر الحديث عن مدى استجابة تركيا للمطالب “الإسرائيلية” باستهداف التواجد الفلسطيني على أراضيها، في غمرة انشغالها بكارثة الزلزال، وتبعاته القاسية غير المسبوقة، لكن الاحتلال المرتبط بدوائر صنع القرار في المنطقة والعالم، قد يجدها فرصة مواتية لممارسة مزيد من الضغوط على أنقرة للحديث عن مقايضة سافرة من خلاله مباشرة أو من خلال أصدقائه، لتشديد القيود المفروضة على من يعتبرهم أعداءه في تركيا، التي أبدت في العديد من المرات أنّ تواجد الفلسطينيين على أراضيها قانوني، ولا يمسً بأمنها، وهم ملتزمون بأدب الضيافة، واحترام التفاهمات المقرّة بينهم.

(1) عدنان أبو عامر: باحث في الصراع العربي الإسرائيلي، ومتخصصا في الشئون الإسرائيلية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى