معركة طوفان الأقصى.. سيناريوهات الحرب ومآلاتها
مع فجر السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أعلنت المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة عن انطلاق معركة طوفان الأقصى؛ ردًا على انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي، مما شكل حالة من الإرباك والمفاجأة، من حيث التوقيت، وآلية التنفيذ، وحجم الخسائر التي مني بها الاحتلال بشكل مباشر، وباعتبارها تجري لأول مرة على الأرض المحتلة بعد سيطرة المقاومين على مستوطنات غلاف غزة.
استطلع مركز رؤية للتنمية السياسية في اسطنبول، وفي خضم المعركة، آراء نخبة من الإعلاميين والمحللين، للتعرف على سيناريوهات الحرب ومآلاتها، وذلك من خلال طرح التساؤلات التالية: ما هي الخيارات الإسرائيلية المحتملة في هذه الحرب؟ وهل يمكن أن تفضي هذه الحرب إلى أطروحات سياسية، وما شكلها؟ وما الجوانب التي يتوجب التركيز عليها في التغطيات الإعلامية الفلسطينية والعربية، لإظهار حجم ما يتعرض له أهالي قطاع غزة؟ وما الخيارات المطروحة أمام المقاومة في ظل التطورات الميدانية؟ وما الدور المطلوب من السلطة الفلسطينية؟ وما هي تأثيرات الحرب على علاقات الإقليم؟ وهل يمكن أن ينجم عنها أي تحولات، وكيف سيكون شكلها؟ وكيف يمكن للفلسطينيين استثمارها لصالح قضيتهم؟ وما هو تأثير الحرب على العلاقات الداخلية الفلسطينية؟
يمكن تلخيص آراء الخبراء في حال لم يحقق الاحتلال الإسرائيلي أهدافه بما يلي:
- لن يبقى أسلوب التعامل مع قطاع غزة كما كان، من خلال العودة لاتفاقات التهدئة مقابل بعض المساعدات.
- يمكن لهذه الحرب أن تغير معادلات الصراع، نتيجة تدهور مكانة إسرائيل الدولية والإقليمية في البعدين الأمني والعسكري.
- ستنهي هذه الحرب حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرف، وستطيح بالعديد من قيادات الاحتلال السياسيين والعسكريين.
- قد تؤسس هذه الحرب لعودة أطروحات لإنشاء كيان فلسطيني أكبر من حكم ذاتي وأقل من دولة.
- في حال تطور المواجهة إقليميا، قد تكون هناك بداية تحولات أشمل تسهم في تغيير النظام الدولي.
- ستكون حماس الرابح الأكثر سياسيًا، ولا يُمكن تجاهلها في أي ترتيب مستقبلي للقضية الفلسطينية.
وما سيعيق أن تكون نتائج الحرب لصالح الفلسطينيين ما يلي:
- الانقسام الفلسطيني، وصعوبة تقبل المجتمع الدولي لحركة حماس والتعامل معها كطرف سياسي، وغياب موقف عربي موحد تجاه حل سياسي حقيقي للصراع.
- إبقاء معادلة التعامل الدولي مع الأطراف الفلسطينية كما هي، طرف مع المقاومة وطرف مع السلطة الفلسطينية.
- ضعف الأداء الإعلامي الفلسطيني، وتشتت الرواية الفلسطينية.
- بنية السلطة الفلسطينية والتي قد تمنعها من دور حقيقي دوليا، وكذلك استمرار دورها في ضبط أي تصعيد في الضفة الغربية.
- نجاح الاحتلال في سياسة التهجير، وتحييدها لساحات مواجهة أخرى.
د. صالح عبد الجواد، باحث ومؤرخ وأكاديمي
تعرض الكيان الإسرائيلي لأقسى ضربة في تاريخه منذ عام 1948، حتّى مقارنة بحرب 1973. ولهذا فهو يقوم بتحطيم كل ما حوله، في محاولة لاستعادة الردع الذي تهشَّم. وهناك قراران معلنان إسرائيليًا، الأول القضاء على حركة حماس بصورة كاملة ونهائية، وإبادة ذراعها العسكريّ “كتائب القسّام”، والثاني تدمير مجتمع غزّة كبيئة حاضنة للفعل المقاوم. والخيار الأول في هذا البند هو التهجير إلى سيناء إن أمكن، أي خلق نكبة جديدة. وأي شخص يقرأ الغارات الإسرائيلية على غزّة، يدرك أنّ هذا هو الهدف.
ولهذا، ليس لديّ شكّ، أنّ هناك قرارًا اتُخذ بالشروع في عملية برّية واسعة، في أجزاء واسعة من قطاع غزة إن لم يكن كلّه. وهذه الخيارات والسيناريوهات مرتبطة بمتغيّرات أخرى، مثل إمكانية فتح جبهة في الشمال، أو انحسار جذري في الرأي العام العالمي تجاه إسرائيل. علما أنّ اشتعال الضفة الغربية لا يُغيّر من هذا القرار، فهو أمر مزعج، لكنّه، برأيي، محدود التأثير.
أمّا بشأن ما ستفضي إليه الحرب سياسيًا، فهذا يعتمد على نتائج الحرب، حيث لا يمكن الحديث عن الأفق السياسي قبل وضوح آثار الحرب ونتائجها النهائية. لكن إن نجحت إسرائيل في تحقيق الهدف الأول، أو الثاني، أو كليهما، فإنّ تداعيات الحرب ستكون سلبية جدًّا، وخاصّةً باتجاه وضع القضية الفلسطينية على الرّف لفترة طويلة، والتطبيع مع باقي الدول العربية، وفي مقدمتها السعودية.
الإشكال الأكبر هو أنه طوال الصراع، فشل الفلسطينيون في إدارة الجانب الإعلامي، ولم يفهموا أنّ العدسة والقلم هما بنفس أهمية البندقية، أي ضرورة المزاوجة، وبشكل خلاّق، بين العمل العسكري وبين العمل الإعلامي والحرب النفسية. وهذا كان واضحًا في أحداث السابع من أكتوبر، والتي كانت قمّة في التخطيط العسكري، باستثناء دخول سكّان القطاع من المدنيين على الخطّ، والذي خلق نوعًا من الفوضى والتجاوزات الخطيرة، حيث لم تأخذ بعين الاعتبار موضوع الصورة الإعلامية للفلسطينيين. وهذا الأمر لا يُحلّ بقرارات فجائية، إنّما يحتاج إلى بنية تحتية فلسطينية غير متوفرة، وهذا واضح من متابعتي لقناة الأقصى، وواضح من خلال تصريح أبو عبيدة حول خيار قتل الرهائن المدنيين.
وهنا يجب أن تنفتح المقاومة على خطاب تحرّري جديد، وأن تقيم شبكة علاقات مع المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي. وكذلك التركيز على أنّ سكّان القطاع هم في غالبيتهم من اللاجئين الذين اغتُصبت أراضيهم وديارهم، وعلى إنسانية الفلسطيني، وذلك لمقاومة محاولات نزع الأنسنة عن الفلسطيني التي تروج لها إسرائيل والغرب.
أما الخيارات المطروحة أمام المقاومة الآن؛ فأولها منع التهجير مهما كان الثمن. وثانيها الاشتغال على الصورة الإعلامية في مقاومة البروباغندا الراهنة قدر الإمكان (خطاب العاروري على الجزيرة جيد لكنه يحتاج إلى تطوير).
أما المطلوب من السلطة الفلسطينية، فالأمر ليس موضوع تمنيات، وهناك شيء بنيوي يمنع السلطة من اتخاذ أي موقف وطني حازم. لكن على الأقل، يجب عليها معارضة المطلوب منها أمريكيًا وإسرائيليًا.
وباعتقادي من السابق لأوانه الحديث عن نتائج الحرب وآثارها، ليس فقط على علاقات الإقليم، وإنما على أي جانب، فهذا مرهون بمدى مشاركة قوى من خارج قطاع غزّة (الحديث عن حزب الله بشكل أساسي). وكذلك مرهون بتعثر أو نجاح العملية البرية، وتطورات الموقف المصري والأردني، والقوى الإقليمية الأخرى، وخاصة إيران وتركيا والسعودية.
أما تأثيرات الحرب على العلاقات الفلسطينية الداخلية، فللأسف، هناك عائق بنيوي يمنع إجراء أية “مصالحة” حقيقية وفعلية، وما حدث قد يعمّق الشرخ بين الجانبين، لأنّ البرامج السياسية للطرفين متناقضة، وعلاقاتهم وتحالفاتهم الإقليمية مختلفة. وهناك الفيتو الإسرائيلي والأمريكي والغربي الذي سيمنع أية محاولة لإدماج حماس في السلطة الفلسطينية.
جهاد رمضان، القيادي بحركة فتح وعضو مجلسها الثوري
أعتقد أن إسرائيل ستحاول الدخول البري باستخدام مفهوم “طنجرة الضغط”، إلى جانب تكثيف جهودها الدبلوماسية لتحقيق إنجازات على هذا الصعيد. أما ما يتعلق بإمكانية الحصول على أطروحات سياسية، فلا أعتقد ذلك، لأن ما يمكن أن تقوم به إسرائيل لا يتعدى الوعود الشكلية، وهذا هو جوهر الاستعمار الاستيطاني والحركة الصهيونية، وهي باتت واضحة بعد ما يقدم لها من دعم غربي، وموقف أمريكي وأوربي سيء بأنها مشروع استعمار غربي. وإسرائيل حتى اللحظة لا تتجرأ الدخول لغزة، لسبب يتعلق بجيشها وانهزامه، فهو جبان، ومنهار معنويًا رغم الإمكانيات التي يمتلكها.
نضالنا نحن الفلسطينيين هو نضال تراكمي، ويتطلب منا الإسهام بقدر ما نستطيع إعلاميًا، وأن نغادر مربع السلبية والانهزام، ونركز على اللغات العالمية في مخاطبة الناس والمجتمع الدولي. والصمود هو الخيار،
الدور المطلوب من السلطة يختلف عن الدور المطلوب من الفصائل، فالسلطة تقوم بدورها، والوزرات تقوم بكل ما يُطلب منها تجاه غزة، وتقدم كل إمكانيات الدعم، وتؤدي أداءً سياسيًا ممتازًا، مع ملاحظة أن المجتمع يجب أن يُدرك الفرق بين الخطاب السياسي القيادي والخطاب الشعبي.
بطبيعة الحال هذه الحرب ستؤدي إلى تداعيات إقليمية، وما يجري من تحرك أمريكي وعالمي يؤكد ذلك. أما فيما يتعلق بالانعكاسات على الحالة الفلسطينية، فالمطلوب الآن الذهاب لمسار وحدة وطنية، وأتمنى أن تدرك حركة حماس أن دخول منظمة التحرير، والسير نحو الوحدة الوطنية هو الحل، وفتح عليها أن تندفع نحو الوحدة الوطنية أيضًا.
إبراهيم ربايعة، مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية
باعتقادي أن الخيارات مفتوحة أمام المقاومة، أولها الفعل الميداني المقاوم على الأرض، وقد سمعنا من أكثر من متحدث باسم المقاومة بأن هناك استعدادات لكل السيناريوهات. كما أن عملية اقتحام قطاع غزة ليست سهلة، ولن تتم بين يوم وليلة، وعليه فإنه من المحتمل إن تحقق سيناريو العملية البرية، فسنكون أمام مفاجآت عسكرية وسياسية كثيرة. وثانيها احتمال تدخل الجبهات الأخرى، وتحديدًا الجبهة الشمالية في لبنان، ومن الواضح أن حزب الله يتحرك بتنظيم دقيق. وثالثها الفعل السياسي الدولي المتعلق بالانحياز الغربي للاحتلال، الذي بدأ في الأيام الأخيرة بالتراجع، وإن بشكل محدود، وذلك أمام ضغط الفظائع والجرائم التي يرتكبها الاحتلال في قطاع غزة.
أما بالنسبة للخيارات الميدانية، فهي متصلة بالمقاومة نفسها، بمعنى أنها هي التي تضع تقديراتها، وهي تعرف كيف تتعامل مع المعركة. ومن الواضح أن خطط المقاومة غير مكشوفة لإسرائيل، فكل يوم تظهر مجموعة من المفاجآت في الميدان، سواء على مستوى الصواريخ، أو على ما يتكشف من نتائج جرت في اليوم الأول للمعركة، والفعل الميداني الحاضر على الأرض أيضًا. ما يعني أن إسرائيل قد تواجه مفاجآت جديدة، أكبر مما واجهته حتى الآن إذا توغلت بريًّا، وهذا ما تشير له تصريحات قادة المقاومة في هذه الأيام.
وبكل تأكيد، في نهاية هذا العدوان ستجلس العديد من الأطراف على طاولة المفاوضات؛ لوضع قواعد اشتباك جديدة، وشكل جديد للعلاقات في المنطقة. فلن يبقى أسلوب التعامل مع قطاع غزة كما هو، أي أنها موضوع إنساني يُبتز الفلسطينيون من خلاله، عبر المنحة القطرية، وموضوع العمال في إسرائيل، والتحكم بالمعابر. وهذا يعتمد على كيفية خروج حماس من هذه المعركة، ومن سيحكم قطاع غزة ومستقبله، وأيضًا مستقبل التسوية، والموقف العربي تجاه القضية الفلسطينية.
الأمر الخطير الذي يجب التوقف عنده، هو محاولة إظهار المقاومة الفلسطينية بأنها “داعشية”، وهذا الأمر يجب التصدي له بقوة، سواء بالخطاب السياسي، أو الحضور الإعلامي خاصة باللغة الإنجليزية، وقد ظهر عدد من السياسيين الفلسطينيين الفاعلين في الإعلام الغربي، الذين ظهروا بخطاب إعلامي قوي يرفض المساواة بين الضحية والجلاد.
ومن المهم هنا، ألا يقتصر الخطاب الإعلامي الفلسطيني والعربي على المساحة الدفاعية، وإنما يجب أن يبادر إلى توضيح الحق الفلسطيني المكفول بالقانون الدولي.
وأعتقد أن مقدار خسارة أو استفادة الفلسطينيين من الحرب، يعتمد على نتائجها، وسير المعارك، وانخراط الأطراف فيها. فهل ستقتصر على كونها مجرد حرب وعدوان؟ أم أنها ستتسع؟ هل سيكون هناك ضغط دولي على إسرائيل؟ أم أن الضوء الأخضر مفتوح؟ هذا كله سيحدد ميدانيًا. ولكن من الواضح أننا أمام شكل من أشكال التحولات الإقليمية، ملخصها أن ما بعد 7 أكتوبر ليس كما قبله.
وبكل تأكيد سيكون هناك تأثير جدي وحقيقي وعميق على العلاقات الفلسطينية الداخلية، من حيث بنية وتركيب الحقل السياسي الفلسطيني بشكل عام.
لا يمكن العودة إلى السياسة الفلسطينية كما كانت قبل هذا العدوان. وهناك مجموعة من المفاهيم التي يجب الوقوف عندها، ومنها علاقتنا مع المجتمع الدولي الذي عرّف القضية الفلسطينية بمنطق القوة حصرًا، وعلاقتنا مع أمريكا تحديدًا، التي وقفت مع إسرائيل كشريك وليست كحليف فقط، وكأن المعركة معركتها، وسيتضرر حلفاء بعض الأطراف الفلسطينية بعد هذه الحرب.
نهاد أبو غوش، مدير مركز مسار للدراسات، إعلامي وناشط سياسي
منذ بداية الحرب، حظيت إسرائيل بدعم أمريكي وأوروبي غربي مفتوح، لفعل ما تريد دون قيود أو ضوابط حتى باستهداف المدنيين. لاحقًا، حاول الخطاب الأمريكي والغربي التطرق لموضوع المدنيين، لكن تم حصر ذلك بما سمي بالممرات الإنسانية، التي تهدف بالأساس إلى تسهيل عملية التهجير، وخروج حملة الجنسيات الأجنبية، وليس لدخول مواد الإغاثة، والمستلزمات الطبية، والمساعدات الإنسانية. كل ذلك في ظل حرب الإبادة والتهجير ضمن ثلاثة مسارات متلازمة: جريمة التهجير الجماعي تحت نار القصف والتهديدات، وجريمة استهداف المنازل والبنايات الآهلة، وجريمة الإغلاق المطبق للقطاع، وحرمان مليونين وربع مليون فلسطيني من الماء والكهرباء، والغذاء والدواء. أهداف إسرائيل المعلنة هي القضاء على بنية حماس العسكرية، وفي روايات أخرى القضاء على حماس. ولكن ثمة حملات محمومة لإيقاع نكبة ثانية وتهجير سكان القطاع، وهو ما يشجع من يفكرون في العودة إلى احتلال قطاع غزة، وعودة الاستيطان فيه، وخاصة بعد إلغاء البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) قرارات فك الارتباط، واتخاذ قرار العودة لمستوطنة حومش شمال الضفة الغربية.
الآن يُطرح خيار الاجتياح البري بكل ما يمكن أن يترتب عليه من فظائع وجرائم إبادة، هذا الخيار في نهاية المطاف سلاح ذو حدين، إذ يمكن أن ينقلب على رؤوس المحتلين في ضوء استعدادات المقاومة، وما تحضره من مفاجآت.
هذه الحرب سوف تغير كل معادلات الصراع، فالعملية الفدائية التاريخية في 7 أكتوبر حطمت أسطورة التفوق، وكشفت هشاشة المنظومة العسكرية والأمنية والجهوزية القتالية، وتدهورت سمعة الصناعات العسكرية الإسرائيلية، وتدهورت معها مكانة إسرائيل الدولية والإقليمية. فإسرائيل، التي كانت تقدم نفسها كقوة مهيأة للدفاع عن أصدقائها وحلفائها الجدد ضد المخاطر الإيرانية، باتت عاجزة عن حماية نفسها أمام فصيل فدائي طوّر إمكانياته في ظل حصار مطبق، وهذا ما دفع أمريكا لتحريك حاملتي طائرات إلى البحر المتوسط؛ لتخويف القوى الإقليمية من التدخل. كما أن هذه الحرب ستنهي حكومة اليمين المتطرف، ورئيسها الذي تدهورت شعبيته إلى الحضيض.
في التغطيات الإعلامية الفلسطينية، يجب التركيز على أن الحرب في غزة هي حرب على الشعب الفلسطيني كله، وعلى حقوقه الوطنية، وليس على فصيل بعينه، أو على المجموعات المسلحة. وأن الحرب وما يتخللها من فظائع، هي محاولة لانتشال الروح المعنوية الإسرائيلية المتهاوية، واستعادة صورة قوة الردع. وأن المسألة الأساسية في كل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، هي الاحتلال الطويل الذي فشلت كل الجهود الدولية في إنهائه، وإيجاد أمل للفلسطينيين في أن يعيشوا بحرية وكرامة على أرض وطنهم. وكذلك التركيز على أنها حرب تنكيل بالشعب الفلسطيني وارتكاب الجرائم المروعة، وأن الشعب الفلسطيني استخدم سابقًا المقاومة الشعبية، من خلال مسيرات العودة التي كانت سلمية، إلا أن الاحتلال في ذلك الوقت قتل ما يزيد عن 300 فلسطيني.
أما خيارات المقاومة الميدانية، فمن المهم عدم حصر المقاومة في قطاع غزة، إذ إن أي جهد نضالي في أي مكان يخفف الضغوط عن المقاومة، وإن من عناصر قوة المقاومة حفاظها على تفوقها الأخلاقي والقيمي، وهو ما عبر عنه القائد محمد الضيف بوصيته للمقاتلين المستمدة من التراث العربي الإسلامي، كما أن قوة المقاومة تنبع من ثقة شعبها بها، والتفاف الناس حول هذا الخيار. أما الخيارات العملية والتكتيكية، فالقيادات الميدانية هي الأدرى بما يجدر القيام به، وفي جميع الأحوال يجب الحفاظ على أعلى درجات الوحدة الوطنية، والتصرف باعتبار أن المقاومة هي تعبير عن إرادة الشعب الفلسطيني كله، وليس عن فصيل بعينه.
أما السلطة الفلسطينية، فعليها مسؤوليات قانونية وسياسية وأخلاقية تجاه كل أبناء الشعب الفلسطيني، وخاصة شعبنا المستهدف بحرب الإبادة والتهجير في غزة، لذلك على السلطة تسخير كل إمكانياتها لحماية شعبها، ووقف الحرب، وإيصال المساعدات الطبية والغذائية والإنسانية، والتدخل لدى الأمم المتحدة والهيئات الدولية، لإرسال طواقم طبية وسيارات إسعاف، وكل ما يلزم لاستقبال الجرحى في مستشفيات الضفة والقدس والخارج، إلى جانب الجهود السياسية والدبلوماسية المطلوبة لفضح الرواية الإسرائيلية، واستنهاض قوى التضامن مع شعبنا في كل بلاد العالم.
وهذه الحرب تستفز مصر، وتتعدى على سيادتها على أرضها، وتوحي بأن الدول العربية معنية بتحمل نتائج الجرائم الإسرائيلية، واستيعاب اللاجئين. كما أن الحرب تهدد الأردن من خلال قيام الاحتلال بخلق بيئة طاردة للسكان. ولا شك أن الحرب فضحت الطبيعة العنصرية والإجرامية لدولة إسرائيل، وهو ما يمكن أن يعصف بكل جهودها للتطبيع، وتكريس مكانتها واندماجها في الإقليم.
أما على المستوى الفلسطيني الداخلي، فنحن مطالبون أولا بالتوحد، والاتفاق على برنامج طوارئ لإغاثة غزة، وحماية شعبنا في الضفة. ولا شك أن الحرب ستترك آثارًا كبيرة على الخيارات الداخلية، من بينها تعزيز خيار المقاومة، وتبديد الأوهام حول إمكانية صنع السلام مع إسرائيل، وبالتالي فإن القوى التي كانت تراهن على فرص السلام، يتوجب عليها العودة إلى رحاب الوحدة الوطنية، وبذل الجهود للوصول إلى برنامج وطني يقوم على القواسم المشتركة.
سعيد أبو معلا، باحث وصحفي، وأستاذ الإعلام في الجامعة العربية الأمريكية
الخيارات أمام إسرائيل واضحة، لكن ما يمنعها هو الميدان وأداء المقاومة الفلسطينية، ومدى ظهور أو اشتراك ساحات مواجهة جديدة مع الاحتلال، ونقصد هنا الساحة اللبنانية والسورية، وكذلك دخول الضفة الغربية بقوة على المشهد.
إسرائيل تعلن هدفها وهو القضاء على حركة حماس، وهذا لن يتم إلا بالسيطرة على غزة واحتلالها من جديد. وفي حال تم ذلك، رغم تكلفته الكبيرة جدًا، فإنها يمكن أن تخرج من القطاع تحت غطاء الأمم المتحدة، التي يمكنها أن تستلم زمام الأمور ضمن تفاهمات معينة، يمكن من خلالها أن تستلم السلطة الفلسطينية، كجزء من تسوية سياسية، ووفق مشاريع إسرائيلية معلنة منذ فترة.
هناك سيناريو أن تدخل إسرائيل غزة، وتغرق في وحل المكان، دون أي أمل في التخلص من حركة حماس، والقضاء على المقاومة. والسيناريو الآخر قدرتها على تحقيق إنجازات في اغتيال قادة المقاومة، وتحقيق خسائر فادحة في صفوف المواطنين، وهذا يعني إعادة حصار قطاع غزة بمزيد من التحكم والسيطرة، وعودة محاولات استيعاب حركة حماس ضمن إدارة الصراع لا حسمه.
في نهاية المطاف، قد تقود هذه الحرب إلى أطروحات سياسية، تتضمن إقامة كيان فلسطيني أكبر من حكم ذاتي وأقل من دولة، ضمن علاقة خاصة مع الأردن ومصر، وهو أمر منوط بالقضاء على المقاومة الفلسطينية في القطاع.
السلطة الفلسطينية هي القيادة الغائبة عن المشهد، يمكن للسلطة أن تؤسس لخطاب فلسطيني جامع، لكن لا نرى هذا في الأفق، حيث هناك غياب لهذا الدور، ولأي دور سياسي تعبوي على مستوى الساحة الفلسطينية الداخلية. السلطة يمكنها أن تعود إلى شعبها المستهدف بالتهجير، لكنها تختار الانزواء والتعامل على أن المواجهة مع حركة حماس.
وبسبب المشاركة الأمريكية الفعالة في الحرب على غزة، يفترض أن يكون هناك دور لروسيا والصين في وقف العدوان، فهناك من يرى أن ما جرى في غزة، هو بمثابة تعبير عن فشل المقاربة الأمريكية وسياستها في المنطقة، وهذا صحيح.
من المفترض أن الحرب على الفلسطينيين يجب أن تشكل فرصة لإعادة بناء العلاقات الفلسطينية الداخلية، ولكن يخبرنا الميدان اليوم أن هناك تقاربا بين حماس والجهاد والجبهة الشعبية، بمعنى فصائل المقاومة، مقابل غياب لدور تقوم به حركة فتح، وهو أمر، في حال تعزز، فإنه سيعزز الانقسام الفلسطيني.
رائد الدبعي، أستاذ العلوم السياسية، جامعة النجاح الوطنية
أمام الخسارة الكبيرة والمفاجئة، يبحث نتنياهو عن انتصار في غزة، حتى ولو إعلاميًا. السيناريو المرجح هو اجتياح قطاع غزة، لكن طبيعة الاجتياح وشكله تبقى غير واضحة. دخول حزب الله يمكن أن يقلل من الخسائر، ويخفف الضغط على غزة، كما أن طبيعة الاجتياح يمكن أن يحدده صمود حماس، وتحرك الضفة.
إسرائيل تتجاوز القوانين الدولية كافة، وهذا يُمكن أن يعرضها لضغوط دولية، خاصةً وأنها باتت لا تمتلك رفاهية الوقت، ولذا فإن نتنياهو أمام أكثر من سيناريو، إما عملية برية محدودة في المناطق التي تم تدميرها في غزة، أو اجتياح كبير للقطاع، يواجَه بمقاومة كبيرة وخسائر فادحة، وعدد كبير من الشهداء، وهذا ما سيعرض إسرائيل لتدخلات دولية مختلفة.
حزب الله، وضمن معادلة وحدة الساحات، هو أمام حرج كبير، فهنالك تهديد بتدمير لبنان في حال تدخله، وأمريكا، على الأغلب، سيكون لها دور باتجاه عدم تدخله، وبالتالي سيكون تدخله متأخرًا، وفي مراحل متقدمة.
إسرائيل بعد المعركة ليست كما قبلها، فهي لم تكن قادرة على حماية مواطنيها، والنظرة لها باعتبارها دولة تقدم مساعدات حماية للدول الأخرى، باتت غير مقنعة، وبالتالي فإن استثمار هذه الحرب يعتمد على مخرجاتها، فحماس لها امتدادها في الضفة والعالم العربي، وبالتالي يصعب هزيمتها، وسياسيًا لا يُمكن تجاهلها في أي ترتيب مستقبلي للقضية الفلسطينية، خاصةً وأنها أثبتت أنها قوة منظمة، وباتت تلعب دورًا إقليميًا، وليس فلسطينيًا فقط.
من هنا، نحن بحاجة إلى استثمار حقيقي لما يحدث من قبل القيادة الفلسطينية، وموقف الرئيس الفلسطيني ربما غير كافٍ في هذا الإطار، ونحن بحاجة للخروج من معادلة إيران وحماس مقابل السلطة والمجتمع الدولي.
إعلاميًا، يجب التركيز على المجازر التي تقوم بها إسرائيل، وما حدث هو نتيجة طبيعية لـ 75 عامًا من الاحتلال، فهنالك 2.5 مليون فلسطيني تحت الحصار، مقابل عدم وجود أفق سياسي للقضية الفلسطينية، فإعلاميًا ما زلنا مقصرين، رغم وجود بعض الحالات الفردية الممتازة من السفراء والمثقفين، لكن يجب الاستثمار في المجتمع المدني.
من المهم التأكيد على حقنا كفلسطينيين أن نستهدف جنود الاحتلال، والتأكيد على إدانة استهداف المدنيين والأطفال، والتركيز على عدد الأطفال من الضحايا في غزة، والتركيز على أننا الأكثر حرصًا على احترام القانون الدولي وقواعد الحرب. و قد أصاب صالح العاروري عندما أشار إلى أن ما حصل من اختطاف للمدنيين، ليس ضمن سياسة حماس، وأن الهدف هو جنود الاحتلال.
من تأثيرات هذه الحرب أن التطبيع السعودي الإسرائيلي لم يعد قريبًا، وأن مسببات التطبيع لم تعد قائمة، فإسرائيل الدولة الحامية لم تعد قادرة على حماية نفسها.
ما حدث يثبت أن الوحدة الوطنية مسار إجباري، ولا يمكن الاستثمار فيه دون برنامج وطني موحد، وإصلاح منظمة التحرير بإدخال حماس والجهاد إليها. أتمنى أن يتم الإدراك أن إنهاء الانقسام يجب أن يكون سريعًا، وأننا لسنا بحاجة إلى معركة أخرى حتى نكون موحدين.
محمد دراغمة، مختص بالشأن الإسرائيلي
عندما يتعلق الأمر بالحرب، وفي ظل انعدام الخيار السياسي كحل محتمل للصراع، تبقى الحرب وتوسيع حجم العمليات العسكرية ضد غزة بشكل خاص، والشعب الفلسطيني بشكل عام، هو الخيار الوحيد لدى المكونات السياسية والعسكرية لدولة الاحتلال.
أستبعد أن تفضي هذه الحرب لطروحات سياسية لأسباب أربع، الأول غياب الحل السياسي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي عن الأجندة الإسرائيلية. والثاني حالة الانقسام الداخلي الفلسطيني، التي تجعل من الصعب بلورة موقف سياسي فلسطيني موحد. والثالث صعوبة تعامل المجتمع الدولي مع حركة حماس كطرف سياسي. والرابع غياب موقف عربي موحد تجاه حل سياسي حقيقي للصراع، وتركيز العرب أكثر على التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي.
قد تخلق هذه الحرب وجهات نظر إسرائيلية تطالب بحل سياسي إذا تمكنت المقاومة من الصمود وايلام الاحتلال أكثر، حيث يمكن أن تؤثر هذه الحرب على الرأي العام الجماهيري داخل إسرائيل.
لا خيار أمام المقاومة الفلسطينية غير مزيد من المقاومة، في ظل غياب أي طرح سياسي حقيقي من دولة الاحتلال الإسرائيلي، أو المجتمع الدولي، أو العرب. كل الأطراف لا تتحرك إلا عندما يتألم الاحتلال.
مطلوب من السلطة الفلسطينية أن تعمل على وقف العدوان على غزة، وتوفير احتياجات السكان كونها العنوان الذي يتعامل معه المجتمع الدولي كممثل للشعب الفلسطيني، ولكن المسافة بين المطلوب والواقع بعيدة جدًا.
أثبتت هذه الحرب هشاشة دولة الاحتلال، وفشلها الاستخباري والعملياتي، وتكبدها خسائر كبيرة. ومن الصعب أن تترك الحرب تأثيرات على مستوى الإقليم؛ كونه كله يدور في الفلك الأمريكي ضد المقاومة بشكل عام، ويرفض حماس كطرف سياسي يمكن الحديث معه.
فادي أبو بكر، باحث في الشأن السياسي الفلسطيني
تبدو جميع الخيارات والسيناريوهات مفتوحة في هذه الحرب، خاصة في ظل سطوة اليمين الإسرائيلي المتطرف. ولعلّ التهديدات الإسرائيلية، وإعلان الاستعداد لخوض عملية برية وبحرية واسعة، إلى جانب العدوان الجوي المتواصل ضد القطاع، ينذر بنكبة جديدة، ويعتمد نجاح هذه الخطة على مدى صمود الفلسطيني من جهة، وصمود دول الطوق أمام الضغوط الغربية من جهةٍ أخرى.
يؤكد موقف الإدارة الأمريكية ومعظم الدول الغربية، من دعم الكيان الإسرائيلي، ومدّه بالمساعدات العسكرية، على مخاوفهم من انهيار النظام الدولي أحادي القطبية، وبزوغ نظام دولي جديد. فالحسابات الإقليمية العربية المرتبطة بالأمن القومي للدول العربية، إلى جانب التراجع الأمريكي، ووجود قوى عظمى بديلة يمكن اللجوء إليها اليوم مثل الصين وروسيا، قد تتخطّى الحسابات الأمريكية، وحرب الاحتلال على غزة، لن يُبقي الأمور تحت السيطرة كما يودّ الأمريكي، وهو ما سيعيد حساباتها.
لا شكّ أن المقاومة الآن دخلت في مرحلة صعبة للغاية، بفعل الإمدادات العسكرية التي تصل من أمريكا وبريطانيا والغرب عمومًا، فلا بدّ من تنويع المداخل والجبهات من أجل إرباك الاحتلال. وبالتأكيد فإن الذي خطط لعملية طوفان الأقصى، أخذ بالحسبان ردة الفعل الإرهابية هذه، ولعلّ الأيام القادمة قد تشهد خوضًا في مسارات خارجة عن المألوف، سواء في عمق الكيان الإسرائيلي، أو من الضفة، أو من إحدى الدول الحدودية، لتشكّل عامل ضغط يعيد حسابات العدو الإسرائيلي، ويخفف من الضغط الذي يواجهه قطاع غزة.
لا بد من العمل على تنشيط الدبلوماسية الفلسطينية في الخارج، بما يضمن تكاملها مع جهود المقاومة الفلسطينية على الأرض، وإعادة توجيه الإرادة الدولية نحو محاسبة إسرائيل على جرائمها ضد الشعب الفلسطيني، من خلال بدء التحضير والاستعداد لنقل جرائم الاحتلال الاسرائيلي إلى ساحة القضاء الجنائي الدولي، ممثلًا بالمحكمة الجنائية الدولية.
لا شك أن هذه الحرب غيرت قواعد اللعبة، وأننا كفلسطينيين دخلنا مرحلة جديدة، تتغيّر فيها آليات التعاطي الفلسطيني مع كل ما هو مرتبط بالإسرائيلي. وعملًا بمقولة “العمل العسكري يزرع والعمل السياسي يحصد”، فإن الفلسطينيين عليهم توحيد القناة السياسية من أجل الاستثمار في عملية طوفان الأقصى، خاصة أن المجتمع الدولي لا يعترف إلا بالقوة، والموقف الفلسطيني سيكون أقوى من أي وقت مضى، إذا ما كان هناك وحدة حال على الأرض، وعلى الطاولة الأممية في آنٍ واحد.
بشار رواجبه، محاضر في العلوم السياسية بجامعة القدس المفتوحة، وباحث دكتوراه في العلوم السياسية بجامعة القاهرة
الخيارات الإسرائيلية هي إطالة أمد الحرب بهدف استنزاف المقاومة، والاستمرار بضربات ميدانية جوية وبرية. ستحاول إسرائيل استثمار هذه الحرب كغطاء لتغيير ملامح الشرق الأوسط، والمنطقة العربية تحديدًا، ويمكن أن تؤدي إلى فرض وجودها في المنطقة العربية كحليف استراتيجي ضد الخطر الإيراني.
من هنا لا بد من التركيز على دحض الرواية الإسرائيلية أولًا، وتفنيد مزاعمها، وتوضيح ما يحدث للشعب الفلسطيني من مجازر دون التطرق للجانب العسكري، بمعنى التركيز على الجوانب الإنسانية، وتعزيزها إعلاميًا.
خيارات المقاومة واحدة، وهي الصمود والتمسك بالورقة الرابحة، وهم الأسرى لديها. أما السلطة الفلسطينية، فيجب أن تقوم بدور أكبر تجاه المجتمع الدولي من خلال السفارات، علما أنها تقوم بجهود، ولكن غير كافية، إضافة إلى أنها يمكن أن تستخدم أحد أوراق الضغط، مثلًا تعليق الاعتراف بإسرائيل حتى تتوقف عن إبادة شعبنا.
الحرب أعادت القضية الفلسطينية للواجهة، فالآن مطلوب توحيد الجهود، تحديدًا إنهاء الانقسام، وتوحيد الخطاب، واستغلال هذه الفرصة لتوحيد المقاومة مع الدبلوماسية.