معركة جنين الثانية: قراءة في الدلالات “الإسرائيلية” والنتائج الميدانية
أ. كريم قرط[1]
بعد مرور أكثر من 20 عامًا على اجتياح مخيم جنين ضمن عملية “السور الواقي” خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2002، أقدم الاحتلال على شنّ عدوان جديد موسّع على المخيم، استمر على مدار يومي 3 و4 تموز/يوليو الجاري، في خطوة قال الاحتلال أنها تأتي على خلفية التصاعد في حالة المقاومة بالضفة الغربية كمًّا ونوعًا؛ سيما ما مُني به الاحتلال في جنين ومخيمها، الذي تحول لمثابة المعقل الأساس للمقاومين، وبالرغم من أنّ العدوان الحالي على جنين، والذي سمّاه الاحتلال عملية “البيت والحديقة”، يختلف في كل شيء تقريبًا عن عملية السور الواقي، إلّا أنّ هذا الاختلاف لا يستثني ذاكرة ذلك الاجتياح الذي يحفظه المقاومون جيدًا، ويتحسب له الاحتلال أيضا، وهذا ما انعكس في بعض جوانبه على مجريات العدوان وتصدي المقاومة له، التي أظهرت أنّ الواقع الذي كان عام 2002 يصعب على “إسرائيل” إعادة إنتاجه، وأنّ جيش الاحتلال خرج منها منهزما تحت ضربات المقاومة.
يهدف هذا التقرير إلى مناقشة خلفيات العدوان على مخيم جنين، والأهداف “الإسرائيلية” التي تقف وراءه، ونتائجه الآنية وارتداداته المتوقعة.
خلفيات العدوان:
لم يكن الجدل “الإسرائيلي” حول شنّ عملية عسكرية موسعة في الضفة الغربية أو شمالها على الأقل حديثا، إذ أنّه من بداية تصاعد المقاومة في الضفة الغربية، وتحول جنين ونابلس إلى معاقل للمقاومين، كانت هناك دعوات واقتراحات بشن عملية عسكرية بالتركيز على شمال الضفة الغربية، غير أنّ تلك الاقتراحات لم تكن سوى جزء من خيارات يطرحها قادة الاحتلال للتعامل مع ظاهرة المقاومة المتصاعدة في الضفة الغربية، وكان الخيار المعتمد حينها هو الاستمرار بعملية “كاسر الأمواج”.
جعل تصاعد المقاومة في الضفة الغربية، الذي ترافق مع وجود قادة المستوطنين (بن غفير، سموتريتش) في الحكومة “الإسرائيلية”، مطالب شنّ عملية عسكرية واسعة في الضفة الغربية تعود مجددًا إلى الواجهة، إذ اشترط وزير الأمن القومي “إيتمار بن غفير” على رئيس الحكومة “نتانياهو” شنّ علمية عسكرية موسعة في الضفة الغربية في شهر أيار/مايو المنصرم حتى يوقف تعليق مشاركة حزبه في تكتّل الائتلاف، ولكن الاحتلال شنّ عدوانًا على قطاع غزة حينها، ما دفع “بن غفير” للتراجع عن مطالبه في الضفة، غير أنّ التطورات التي حدثت مؤخرًا أعادت مطالب شنّ العملية العسكرية بقوة لدى قادة المستوطنين، سواء في الائتلاف أو خارجه، إذ عاد “بن غفير” الذي كان يروّج سابقا لنيته تنفيذ عملية “سور واقٍ” ثانية، للمطالبة بعملية عسكرية في الضفة الغربية يُغتال ضمنها آلاف المقاومين إذا لزم الأمر.
حدث في الفترة الأخيرة تطوران مهمان على صعيد المقاومة في الضفة الغربية، في جنين تحديدًا، كان أولهما تفجير المقاومة عبوة ناسفة في مركبة “الفهد“، وعدد من المركبات الأخرى، وإطلاق النار على الأباتشي وإصابتها بأضرار خلال اقتحام الاحتلال لجنين في 19 حزيران/يونيو المنصرم، فضلًا عن أنّ هذه التطورات مسّت بـ”برستيج” جيش الاحتلال، فهي تشكّل تطورًا خطيرًا متناميًا سيضع حدودًا على ما يسميه جيش الاحتلال “حرية الحركة والعمل” لقواته في المناطق الفلسطينية.
انتشر مقطع مصور في 26 من الشهر ذاته، لإطلاق صاروخين من جنين تجاه المستوطنات “الإسرائيلية”، ومع أنّ تجربة الإطلاق لم يكتب لها النجاح، وهي المرة الثانية التي ينتشر فيها مقطع مماثل، إلّا أنّها أثارت الكثير من الجدل في الوسط “الإسرائيلي”، وعززت المطالب بشن عملية عسكرية في الضفة الغربية للقضاء على قدرات المقاومة في مهدها قبل أن تتطور، حتى لا تصبح جنين غزة ثانية في الضفة الغربية، في المقابل كانت هناك أصوات معارضة لشنّ عملية موسعة في الضفة الغربية، إذ نشر مدير معهد دراسات الأمن القومي “الإسرائيلي” “تامير هينمان” مقالًا، عشية عملية “عيلي”، وضّح فيه أنّه كان لعملية السور الواقي عام 2002 هدفان أساسييان، وهما: استعادة حرية العمل لجيش الاحتلال في المنطقة، وتدمير البنى التحتية لفصائل المقاومة، وهذان الهدفان متحققان حتى اللحظة، حسب قوله، كما أنّ عملية “كاسر الأمواج” تُحقق إنجازات مهمة في مواجهة المقاومة.
محددات العملية العسكرية:
مع كل الدعوات والمطالب والضغط الذي كان يوجهه المستوطنون وقادتهم لحكومة الاحتلال لشن العميلة العسكرية، فإن المستوى الأمني والعسكري لدى الاحتلال كان يرى أنّ هناك عدّة محددات أمام شنّ هذه العملية، مع اعتقاده بضرورة تغيير أسلوب عمل “كاسر الأمواج”، الذي لم يؤدِ إلى تراجع المقاومة، بل إنها تصاعدت خلاله.
يوضح المراسل العسكري لصحيفة “يديعوت أحرونوت” “رونن بن يشاي” هذه المحددات بعدد من المخاطر التي يمكن أن تؤدي إليها العملية العسكرية في الضفة الغربية، فهناك خشية من تدخل ساحات أخرى في المواجهة، أو إطلاق صواريخ من قطاع غزة ولبنان وسورية، وتنفيذ عمليات انتقامية في الضفة الغربية والداخل، كما أنّ هناك خشية من حدوث انتفاضة شعبية في الضفة الغربية في حالة حدوث مجزرة وارتقاء عدد كبير من الشهداء خلال العدوان، ما يستتبع ذلك من احتمالية انهيار السلطة الفلسطينية، وهو ما لا يريده الاحتلال في المرحلة الحالية؛ خشية من سيطرة فصائل المقاومة على الضفة الغربية، أو انتشار حالة من الفوضى فيها.
وإلى ذلك، فهناك خشية من تأثير العملية على اتفاقيات التطبيع مع الدول العربية، وابتعاد الدول المرشحة للتطبيع عن “إسرائيل”، والأهم من ذلك، الخشية من ردة فعل دولية تدين “إسرائيل” وتحملها مسؤولية الضحايا، وتضغط عليها لوقف عمليتها، ومن ناحية أخرى، فهناك خشية من تأثير الانقسام الداخلي “الإسرائيلي” حول “التعديلات القضائية” على مجرى العمليات، وعدم حصول العملية على شرعية داخلية كاملة.
من الناحية العسكرية، فهناك خشية من تأثير العملية على جاهزية جيش الاحتلال واستعدادته، لا سيما قواته البرية، واستنفاد قوتها في الضفة الغربية، في الوقت الذي تتحسب فيه “إسرائيل” لاحتمالية اندلاع حرب متعددة الجبهات، يجب أن تكون كل القوات على أتمّ الاستعداد لها، وبالإضافة إلى تلك المحددات، فإنّ الاحتلال يخشى من سقوط عدد كبير من القتلى في صفوف جنوده في حال شنّ عملية عسكرية واسعة، لما لذلك من ارتدادات سياسية، وهذه الخشية مرتبطة بذاكرة الاحتلال خلال اجتياح مخيم جنين عام 2002، الذي سقط خلاله 23 جنديًا من جنود الاحتلال، وجُرح 57 آخرون حسب ما أعلن الاحتلال.
تعامل الاحتلال مع محددات العملية:
يبدو أنّ الاحتلال عمل على تجاوز هذه المحددات من خلال عدد من الخطوات التي كانت مجدية إلى حد ما، حيث عمل الاحتلال على محاولة تقليل عدد الضحايا الفلسطينيين، وتجنب استهداف المدنيين إلى أقل عدد ممكن، وهذا ما يتّضح من مجريات المعركة التي ارتقى فيها 12 شهيدًا خلال قرابة 40 ساعة من المواجهة المستمرة، وبتباعد زمني بين كل شهيد وآخر، وهذا على خلاف اقتحامات سابقة للمخيم، كان يستشهد خلالها عدد أكبر من الشهداء في ساعات معدودة.
بالرغم من أنّ احتياطات المقاومين ساهمت في تقليل عدد الشهداء، إلّا أنّ الاحتلال كان معنيًا بأن لا تحدث مجزرة في المخيم يكون لها تبعات سلبية على عمليته، إذ إنّ المستوى السياسي لم يصادق على العملية حتى أُعطي تأكيدات من الشاباك وشعبة الاستخبارات العسكرية “أمان” بأن العملية لن تؤدّي إلى مجزرة في صفوف المدنيين في المخيم. وهذا الأمر هو أهم ما حاول الاحتلال تجنبه خلال العملية، حتى لا تؤدي تبعاتها إلى تدخل الجبهات الأخرى، وحدوث هبّة شعبية وعمليات انتقامية.
عمل الاحتلال على تضييق نطاق عدوانه وحصره بشكل أساسي في مخيم جنين، وليس كل بؤر المقاومة في شمال الضفة الغربية أو محافظة جنين على الأقل، كما عمل على أنّ يكون للعدوان نطاق زمني محدود، يترواح بين ساعات إلى أيام معدودة، إذ صرّح المتحدث باسم جيش الاحتلال الجنرال “داينال هغري” بأنّ العملية هي:”اقتحام عملياتي لوائي مركّز، وهو جزء من سلسلة نشاطات ننفذها وسنستمر بتنفيذها”. كما أنّ حكومة الاحتلال أبلغت الولايات المتحدة بأنّ العملية محدودة لمدة 48 ساعة، وبهذا التضييق الجغرافي والزماني للعملية عمل الاحتلال على تقليل إمكانية انخراط جبهات أخرى أو حدوث احتجاجات في الضفة الغربية، وعدم تشتيت قواته وتوسيع رقعة المواجهة.
من ناحية أخرى، عمل الاحتلال على الحفاظ على طبيعة الحياة الاعتيادية خارج جنين، فلم يغلق المعابر، ولم يضع قيودًا وتضييقات جديدة، ولم يفرض الإغلاق على الضفة الغربية، وذلك في محاولة لعدم مضاعفة غضب الشارع الفلسطيني والتحامه مع الأحداث في جنين.
أهداف العدوان على جنين:
يتضح منذ بداية العدوان أنه ليس لدى الاحتلال أهداف وضاحة منه، ولعلّ هذه المسألة كانت أحد أهم عوامل فشله، فعلاوة على أنّ الاحتلال أعلن أنّ عمليته محدودة جغرافيًا وزمنيًا، صدرت تصريحات متعددة من قادة الاحتلال حول أهداف العملية وتبريراتها، فضلًا عن أنً تسمية العملية لم تكن أمرا محسوما من البداية، حتى أن جيش الاحتلال لا يضع اسما للعملية على موقعه، وإنما يكتفي بوصفها بالنشاط، ما يشير إلى عدم الوضوح في الهدف من العدوان.
من بين الأهداف التي أعلن عنها الاحتلال من عدوانه، الحفاظ على حرية الحركة والعمل لجيش الاحتلال في المنطقة، وتفكيك البنية التحتية للمقاومة في مخيم جنين، واستهداف المقاومين، واعتقال المطلوبين، والقضاء على غرف القيادة والعمليات ومعامل تصنيع المتفجرات ومخازن الأسلحة، وهو ما سيكفل إنهاء وضعية مخيم جنين معقلًا وملجأً للمقاومين “عاصمة الإرهاب”، ومنع تحوّل جنين إلى غزة ثانية، أو منع تحولها إلى نموذج حزب الله في جنوب لبنان، كما دار حديث عن أنّ هدف العملية هو استعادة الردع الذي بدا وكأنه تآكل بشدة في ظل التطورات الميدانية، لا سيما بعد عملية “عيلي”، وقد بدأ الاحتلال خلال العدوان بوضع عدد من التبريرات لعدوانه واستهداف مخيم جنين تحديدًا، بأنه يشكّل “مصدرًا للإلهام والمحاكاة” لدى المقاومة، وأنه يشكل مركز تمويل لخلايا المقاومة في كل الضفة الغربية، وأنّ أكثر من 50 عملية إطلاق نار نفذها مقاومون من المخيم منذ بداية العام، و19 مقاومًا التجأوا إلى جنين بعد أن نفذوا عملياتهم.
الملاحظ أنّ هذه الأهداف هي ذاتها التي يعلن الاحتلال عنها في كلّ عدوان له ضد قطاع غزة، وهي أهداف غير متحققة هناك، وتكرار العدوانات على قطاع غزة منذ عام 2008 يثبت هذه النتيجة، ولذلك فإعادة إنتاج هذه الأهداف في واقع مختلف عن قطاع غزة وأعقد منه استراتيجيا يشير إلى أنّ الاحتلال ليس له استراتيجية واضحة فيما يتعلق بتصاعد المقاومة في الضفة الغربية، وأنها تشكل مأزقا له لا يجد حلولًا عملية لها، وهذا ما أشار إليه مدير معهد أبحاث الأمن القومي “الإسرائيلي”، رئيس شعبة الاستخبارت العسكرية سابقا “تامير هينمان” في مقال له خلال العدوان، إذ وضح أنّ العملية في جنين ليست عملية “السور الواقي 2″، ودعا إلى الكف عن استخدام مصطلحات “عملية استعادة الردع”، لأنّ “استعادة الردع” لا يمكن أن تكون هدفا عملياتيًا، وأضاف أنّ جنين ليست عاصمة “الإرهاب” لأنّ “الإرهاب ليست له عاصمة، وإنما يكمن في القلوب والدوافع،. وهو يشير بذلك إلى أنّ المقاومة غير منحصرة في مخيم جنين، وهي ممتدة من جنوب الضفة الغربية إلى شمالها.
بعيدًا عن التطورات والأسباب الأمنية التي تقف خلف شنّ الاحتلال لعدوانه على جنين، فإن هناك أسباب داخلية تتعلق بضغط أعضاء الائتلاف الحكومي، وبالتحديد “سموتريتش” و”بن غفير” وحزبهما، على “نتانياهو” لشنّ ذلك العدوان، كما أنّ هناك اتهامات ل”نتنياهو” من المعارضة بأنه اختار هذا التوقيت بالضبط لشنّ العدوان لإفشال مظاهرة المعارضة ضد خطة التعديلات القضائية، أو لصرف الأنظار عنها، والتي كان مزعمًا إجراؤها في مطار “بن غوريون” بالتزامن مع أول يوم من العدوان.
مجريات العدوان:
حسب ما أدلى به قادة الاحتلال، فإن خطة العدوان على جنين وُضعت قبل أسبوعين من تنفيذها، والتأخر في تنفيذها كان نابعًا من انتظار نضوج الظروف الموائمة لتنفيذها، غير أنّ العدوان لم يكن مفاجئًا ألبتة للمقاومين في جنين، وهذا ما لاحظته الباحثة في معهد أبحاث الأمن القومي “الإسرائيلي” “أوريت بارلوف“، إذ قالت أنّ العدوان لم يكن مفاجئًا للمقاومة نتيجة ثلاثة عوامل، وهي: تحليق طيران الاستطلاع “الإسرئيلي” المكثف في سماء جنين في الأيام الأخيرة، والحديث “الإسرائيلي” حوله، والدعوة “الإسرائيلية” المكثفة لشنّ العدوان عقب انتشار مقطع إطلاق الصواريخ من منطقة جنين، كما أنّها لاحظت أنّ المقاومين والفلسطنيين بشكل عام لم يروا أنّ العدوان جديد، أو أنّه يختلف عن الاقتحامات السابقة في جوهره، على الرغم من استخدام الطيران وزيادة عدد القوات “الإسرائيلية” على الأرض.
بدا أنّ العدوان منذ بدايته يختلف في مداه وطبيعته عن اجتياح المخيم عام 2002، حتى في ظل الإعلان عن أنّ العملية محدودة ومركّزة في مخيم جنين، وهذا بطبيعة الحال يختلف عن عملية “السور الواقي” التي كان مخيم جنين خلاها أحد أهداف العملية، وليس هدفها الوحيد، فمن الناحية العملياتية خلال اجتياح عام 2002 جهّز الاحتلال 5 آلاف جندي لمهاجمة المخيم، مدعومين بالطائرات الحربية والمجنزرات في مقابل قرابة 200 مقاوم، أمّا خلال العدوان الحالي، فإنّ الاحتلال أعلن عن حشد 1000 جندي فقط معززين بالمسيرات والمركبات العسكرية غير المجنزرة، إضافة إلى استخدام بعض الجرافات المجنزة من طراز D9، في مواجهة من 500 إلى 600 مقاوم فلسطيني، كما يدعي الاحتلال، وهذا التباين في الأعداد يُظهر أنه كان لدى الاحتلال إشكالية عملياتية فادحة خلال هذا العدوان، إذ درجت العادة في العلوم العسكرية على اعتبار أنّ قوة الهجوم يجب أن تكون ثلاثة أضعاف الدفاع، بمعنى أن يكون أمام كل مدافع ثلاثة مهاجمين حتى ينجح الهجوم، ويبدو أنّ الاحتلال أخطأ في تقدير قوة المقاومين واستعدادتهم، على الرغم من ادعائه بأنّ عدوانه نُفذ في ضوء معلومات استخباراتية جمعها منذ أكثر من عام، كما أنّ إدخال سلاح الطيران إلى المعركة لم يكن له فاعلية كبيرة في المعركة نتيجة تكتيكات المقاومين وتحصنهم، وعمل سلاح الجو في بيئة معقدة بين المدنيين وخلال وجود قواته البرية على الأرض، وهو عائق أساسي في فاعليته.
في ظل هذه المعطيات، والمقاومة الشرسة التي واجهها الاحتلال في مدينة جنين ومخيمها، التي أوقعت في صفوفه العديد من القتلى والجرحى كما أعلن المقاومون، وتمكنهم من إيقاعه بكمائن محكمة، وإعاقة تقدمه داخل المخيم، وإعدادهم المسبق الجيد للمعركة على صعيد العتاد والبنية التحتية وشبكات الرصد والاستطلاع، إضافة إلى خشية الاحتلال من توسع نطاق العملية، في ظل تهديدات المقاومة في قطاع غزة بالتدخل في المعركة، وحدوث عدد من عمليات إطلاق النار في الضفة الغربية من شمالها إلى جنوبها، وحدوث عملية في “تل أبيب”، وهو ما كان الاحتلال يخشاه، حيث اضطر الاحتلال للانسحاب من جنين بعد قرابة 40 ساعة من المواجهة المستمرة.
نتائج العدوان:
لم يحقق الاحتلال خلال عدوانه على جنين أية نتائج لافتة، ومع أنه أعلن عن استهداف غرفة مراقبة لكتيبة جنين، واستهداف عدد من مخازن الأسلحة ومعامل تصنيع المتفجرات، إلّا أنه لم يتمكن من اعتقال أيّ من المقاومين، ولم يرتقِ خلال العدوان سوى 12 شهيدًا من بين 600 مقاوم، ولكنّ الذي أحدثه الاحتلال هو حجم دمار مهول في مخيم جنين وما حوله، إذ أعلنت بلدية جنين أنّ 80% من منازل المخيم قد دمرت كليًا أو جزئيًا، كما أنّ شبكات المياه والكهرباء والاتصالات والصرف الصحي قد دُمرت كليًا في المخيم، وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ جرافات الاحتلال دمرت العديد من الشوارع والطرقات داخل المخيم وحوله.
لا يتعبر هذا الدمار الذي ألحقه الاحتلال بمخيم جنين مجرد حدث اعتباطي، وإنما هو سياسة مقصودة ينتهجها الاحتلال في كل حروبه واعتداءاته، وهو ما يعبّر عنه بـ”عقيدة الضاحية” التي تقوم على الاستهداف المكثف للبنية التحتية المدنية والمدنيين حتى يخلق حالة من الردع والخوف من نتائج المعركة لدى المقاومين، وهذا ما عبّر عنه بصراحة أحد قادة جيش الاحتلال المشاركين في العدوان، إذ قال: “بعد أن يرى المقاومون ما فعلنا بمخيم جنين فإنهم سيفكرون مرتين قبل تنفيذ عملياتهم”. وهو يشير بذلك إلى حجم الدمار الذي خلفه الاحتلال، فاستهداف البنية التحتية المدنية يهدف إلى رفع كلفة المقاومة وإحداث شرخ بين المقاومين وحاضنتهم الشعبية، ويلجأ الاحتلال إلى هذا الأسلوب لعجزه عن التعامل مع هذا النوع من التحديات الأمنية التي يواجه خلالها مقاومين ينتهجون حرب العصابات، ويتحصنون في الجبال أو تحت الأرض أو في الأزقة، جيشًا نظاميًا يعمل بأسلوب مختلف تماما، وقد أظهر العدوان على جنين أنّ القوات البرية “الإسرائيلية” غير قادرة على التعامل مع المقاومة الفلسطينية وقواعد ارتكازها في مناطق الضفة المختلفة، وهذا الأمر سيكون له انعكاسات مهمة في أيّ معارك قادمة.
الخاتمة:
لم يستطع الاحتلال الخروج من جنين إلّا تحت ضربات المقاومة التي جاء إلى جنين بهدف القضاء عليها، وهو ما حرمه من صورة نصر يخرج بها من عدوانه، وفي المقابل خرجت المقاومة في جنين بصورة نصر لا جدال فيه، وبدل أن يساهم العدوان في القضاء على مخيم جنين كـ”عاصمة المقاومة” تعززت هذه الصورة، وحظيت المقاومة بتأييد كبير في الشارع الفلسطيني، ما يشير إلى احتمالية تمدد المقاومة وتعززها في مختلف مناطق الضفة الغربية.
بالرغم من أنّ تفاعل الشارع الفلسطيني مع العدوان على جنين كان دون المستوى المطلوب، وأنّ المقاومة في غزة لم تتدخل خلال العدوان، إلّا أنّ الاحتلال استشعر تصاعد المقاومة في الضفة الغربية نصرة لجنين، وأنها يمكن أن تتصاعد أكثر إذا استمر العدوان، وفور انسحاب قوات الاحتلال من جنين أطلقت المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة عددًا من الصواريخ تجاه المستوطنات المحاذية للقطاع، ويبدو أنّ توقيت هذه الصواريخ يحمل رسائل مهمة للاحتلال، ومن أهمهما أنّ عدم تدخل المقاومة في غزة خلال المعركة لم يكن نتيجة أنّ المقاومة مردوعة وأنها تخشى من تبعات تدخلها، وإنما كان ذلك نابعا من تقديراتها للموقف، وأنها لن تتوانى عن التدخل في حال إقدام الاحتلال على عدوان جديد إذ استدعت الضرورة تدخلها، ومن ناحية أخرى، يُلاحظ أنّ المقاومة في قطاع غزة كانت تحرص أن تكون لها الضربة الأخيرة في نهاية كل عدوان، وإطلاق الصواريخ مع انسحاب الاحتلال من مخيم جنين له دلالة رمزية بأن المعركة واحدة والضربة النهائية فيها للمقاومة، بغض النظر عن استهداف الاحتلال لمواقع تدريب فارغة في غزة ردًا على إطلاق الصواريخ.
في المحصلة، يرى “تامير هاينمان” أنّ العدوان “الإسرائيلي” على جنين لن تكون له نتائج إيجابية على الوضع الأمني “الإسرائيلي” إلا مؤقتا، وعلى المستوى التكتيكي، ولكن على المدى الطويل والمستوى الاستراتيجي لن يكون له أي تأثير طالما لا يوجد مسار سياسي مبني على استراتيجية واضحة مرافق للعملية العسكرية، وهذا ما يشير إلى المأزق الحقيقي الذي يواجهه الاحتلال أمام حالة المقاومة المتصاعدة والقتل “الإسرائيلي” لأي عملية سياسية ممكنة.
[1] – باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، رام الله