مستقبل العلاقات الوطنية الفلسطينية في الظروف الراهنة

أيمن دراغمة

على الرغم من أن المرحلة والظروف المحيطة بالقضية الفلسطينية، تقتضي توحيد الصف ونبذ الخلاف، وإنهاء الانقسام، والوقوف صفا موحدا أمام التحديات المتزايدة التي تحدق بالقضية الفلسطينية، إلا أن المؤشرات تشير إلى عكس ذلك. فقد توقفت اللقاءات والحوارات الوطنية، وارتفعت نبرة الخلافات، وازدادت وتيرة التحريض والاتهامات المتبادلة عبر وسائل الإعلام. وقد بدا ذلك من خلال تصريحات مسؤولين من كلا الجانبين، حيث كان لمطالبة الرئيس محمود عباس لحركة حماس، بالاعتراف بشكل رسمي وصريح بالشرعية الدولية، والقبول بشروط الرباعية كشرط للمشاركة في حكومة وحدة وطنية، تأثير سلبي مضاعف، حيث أغلق أي بارقة أمل، أو فرصة للحوار الوطني، بل كان بمثابة إعلان القطيعة الرسمية من طرف واحد بين الأشقاء المختلفين.

لقد سادت أجواء من التفاؤل الحذر طيلة الفترة التي رافقت لقاءات الحوار الداخلي بين حركتي فتح وحماس، والتي ما لبثت أن توقفت بعد القرار المفاجئ بتأجيل الانتخابات الفلسطينية من قبل الرئيس الفلسطيني، والتي أدت إلى توتر الأجواء، والدخول في موجة اتهامات متبادلة على إثر ذلك، بعد أن كان الحديث يدور حول وجود فرصة للاتفاق، من خلال البرنامج التشاركي والرؤية المشتركة فيما يتعلق بإصلاح الوضع الفلسطيني بشكل شامل، وإعادة بناء النظام السياسي. كذلك شكلت الأجواء التي رافقت معركة سيف القدس، فرصة ذهبية للبناء على الروح الوحدوية، والانتفاضة الشعبية الشاملة والعامة، التي شملت فلسطين التاريخية، وكان يمكن لقيادة فتح والرئيس محمود عباس، أن يغتنم هذه الفرصة التاريخية، ويحولها إلى محطة فارقة، من خلال الإعلان عن موقف وطني يجسد فيه المصالحة، ويعلن إنهاء الانقسام، ويعطي الضوء الأخضر للبدء بوضع أسس ومواقيت تنفيذ خارطة طريق فلسطينية. لكن للأسف، فإن الموقف الخجول للسلطة والرئيس، أثناء الحرب وبعدها، جاء بخلاف التوقعات الوطنية الشعبية والفصائلية، حيث راهن على الوعود الأمريكية، واتسم بمواقف الأنظمة الرسمية العربية، في الوقت الذي كان فيه الشارع الفلسطيني ينتظر موقفا مغايرا.

الأسباب التي ساهمت في حالة التراجع في العلاقات الوطنية

أولا: تراجع الرئيس محمود عباس عن إجراء الانتخابات التشريعية، فقد كان الفلسطينيون يستعدون لانتخاب مجلس تشريعي يملأ الفراغ الذي نجم عن حل المجلس التشريعي الثاني، ويساهم في إصلاح  الوضع الفلسطيني العام، من خلال الصلاحيات التشريعية والرقابية الممنوحة له في القانون الأساسي، بل إن الحوارات الفلسطينية التي تمت، كانت قد أقرت الانتخابات كمحطة لعملية إصلاح شاملة، تتمثل في إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، إضافة إلى مؤسسات السلطة، ضمن رؤية مشتركة تقوم على مبدأ الشراكة الشاملة، والبرنامج الوطني المتفق عليه. ولذا، فإن تأجيل الانتخابات من طرف واحد، كان بمثابة إعلان عدم رغبة الرئيس وحركة فتح، في الاستمرار في مسيرة المصالحة والشراكة وإعادة البناء الوطني، الأمر الذي قابلته الجماهير الفلسطينية والفصائل بردود فعل غاضبة. وقد كان لهذا القرار وانعكاساته، آثار مباشرة على العلاقات الفصائلية من جهة، وعلى ثقة الشارع الفلسطيني بقيادة السلطة من جهة أخرى، بل والأخطر أنها أضعفت ثقة الفلسطينيين بفصائلهم، والتي تم تصويرها في نفس الدرجة من المسؤولية عن فشل الحوارات.

ثانيا: المواقف المختلفة من معركة سيف القدس، والتي ابتدأتها فصائل المقاومة الفلسطينية ردا على سياسات الاحتلال ضد المسجد الأقصى وأهالي القدس، والتي يُنظر لها من وجهة نظر المقاومة ومحورها الشعبي، أنها كانت سابقة فلسطينية من المقاومة في الرد على جرائم الاحتلال، وأن لها آثارا استراتيجية على طبيعة الرد على سياساته، حيث رسخت معادلة أن الاعتداء على القدس هو اعتداء على غزة، وسيتم الرد عليه مباشرة بالطريقة التي تؤلم الاحتلال. ومع أن فعل المقاومة وأداءها المتميز، قوبل بالتحام شعبي وجماهيري من خلال تصعيد المواجهة في معظم مدن فلسطين التاريخية، إلا أن موقف السلطة المغاير، ألقى بظلال من الغضب ومشاعر التفرقة.

ثالثا: الارتهان لوعود الإدارة الأمريكية من قبل السلطة، والأمل بالعودة لطاولة المفاوضات بعد أن ثبت بالدلائل القطعية فشل هذا المسار، ولكن مع ذلك، فإن موقف الرئيس لم يتغير، خاصة بعد أن قدمت إدارة الرئيس الأمريكي بايدن، وعودا للطرف الفلسطيني، بأن هناك تغييرا في سياساتها تجاه السلطة الفلسطينية، مما أغرى قيادة السلطة والرئيس محمود عباس، بالترحيب بهذه الوعود، أملا في إحداث تغيير جدي بعد السياسة المنحازة والمعادية التي اتبعها الرئيس ترامب. وعلى إثر ذلك، قامت وفود أمريكية رفيعة المستوى بزيارة المنطقة، والتقت مع جميع الأطراف، بما فيها الرئيس الفلسطيني وقيادة السلطة، إلا أنه تم مؤخرا تبليغ الطرف الفلسطيني، بأن الجهود يجب أن تتركز في البداية على لقاءات ثنائية بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، وعلى التزام الطرفين بإجراءات لبناء الثقة، بحجة أن الوقت غير ملائم لإطلاق عملية سلام جادة، أو البدء بمفاوضات حقيقية مباشرة. وكان لهذه الوعود أثر مباشر على سلوك السلطة، التي أعطته الأولوية على حساب العلاقات الوطنية وحوارات المصالحة، خاصة وأن الإدارة الأمريكية أبلغت الرئيس محمود عباس بأن على حماس أن تعترف بشروط الرباعية وبالشرعية الدولية، قبل مشاركتها في أي حكومة فلسطينية، وقبل دخولها للنظام الرسمي.

رابعا: اغتيال الناشط السياسي نزار بنات من قبل أجهزة السلطة، بعد اختطافه من منزله وقتله بطريقة بشعة هزت الشارع الفلسطيني، وعدم قيام السلطة بما يلزم من إجراءات تتناسب وحجم الجريمة التي أشعلت الاحتجاجات في الشارع الفلسطيني فترة طويلة، وألقت بظلال من عدم الثقة بمؤسسات السلطة وقيادتها. لقد كان لهذه الجريمة آثار مباشرة طالت العلاقات البنيوية بين الشعب والسلطة والفصائل، ولا زال ملف هذه الجريمة مفتوحا، وتداعياته وآثاره ماثلة، وتنتظر جوابا عمليا من الرئيس الفلسطيني، الذي لم يبادر بالقيام بالمسؤوليات القانونية والوطنية اللازمة تجاه هذا الحدث، لتطمين الشارع، وبعْث رسائل إيجابية تزيل حالة الخوف والقلق من نفوس الناس.

خامسا: تداعيات وآثار العدوان على غزة. فبعد الحرب الأخيرة وما خلفته من دمار وتشريد، توقع أهل غزة خاصة، والفلسطينيون عامة، أن يبادر الرئيس إلى رفع العقوبات عن قطاع غزة المحاصر. وعلى الرغم من القرارات الدولية والإقليمية لإعادة بناء ما دمرته الحرب، إلا أنه وكما يبدو، فإن هناك سياسة متفق عليها بين دولة الاحتلال والولايات المتحدة وحلفائهم، تهدف إلى حرمان المقاومة في غزة من قطف ثمار معركة سيف القدس، من خلال عدم المبادرة السريعة والمباشِرة للبدء بعمليات الإعمار، وترْك آثار الدمار ماثلة أمام أعين الغزيين، ومحاولة وضع شروط على المقاومة وابتزازها مقابل ذلك. وكما هو واضح، فإن موقف السلطة السلبي، ترك آثارا سلبية على العلاقات الوطنية.

خاتمة

يبدو أن مستقبل العلاقات الوطنية يمر بأزمة مركبة. فإضافة إلى التأثيرات الخارجية، الدولية والإقليمية، هناك معيقات ذاتية تتعلق بقيادة النظام السياسي والتمثيل، ويبدو أنها إحدى أهم المعيقات، فحركة فتح ومحورها من الفصائل الموالية، والتي قادت النظام الرسمي الفلسطيني طيلة الفترة الممتدة من عام 1965 وحتى اليوم تخشى أن تضع أي عملية إصلاح ديمقراطي نهاية لهذا الاحتكار. في المقابل، فإن حركة حماس ومعها فصائل أخرى وقوى شعبية، تريد من خلال أي عملية إصلاح ديمقراطي، إنهاء سياسة الاحتكار، وإعادة بناء المؤسسات على أسس ديمقراطية تشاركية، أي إنهاء احتكار فتح للمؤسسات والتمثيل والقيادة. ولهذا لا يُتوقع أن نشهد تغيرا في المواقف، ولا في شكل العلاقات الوطنية في المنظور القريب. ولخفض فاتورة الخسائر الوطنية والفصائلية، الناجمة عن هذه الحالة، ربما يكون من المناسب البحث عن أسهل السيناريوهات التي تقرب المسافات، ولو في الحدود الدنيا، وتخفض من مستوى توتر العلاقات، مثل سيناريو (ما لا يُدرك كله لا يُترك جله)، وذلك من خلال الرؤية المرحلية التالية:

  • التوافق على تبني الكل الفلسطيني خطابا سياسيا يحافظ على القواسم المشتركة في حدودها الدنيا، وينسجم مع وثيقة الوفاق الوطني (وثيقة الأسرى).
  • موافقة الجميع على وقف الاتهامات والتحريض الإعلامي المتبادل، والالتزام بخطاب إعلامي موضوعي.
  • التزام الجميع بالقوانين الفلسطينية التي أقرها المجلس التشريعي الفلسطيني الأول فيما يتعلق بحقوق الإنسان، ووقف جميع الانتهاكات.
  • الالتزام بحفظ حقوق الإنسان والمواطن الفلسطيني، ووقف جميع الانتهاكات ضده.
  • التزام الطرفين الحاكمين في غزة والضفة بوقف سياسة العمل ضد الآخر.
  • رفع العقوبات عن غزة من طرف السلطة، والالتزام بدفع مستحقات الوزارات والمؤسسات والموظفين جميعا وفقا للقانون.

تعتبر هذه المبادرة بمثابة هدنة داخلية لتهيئة الأجواء المناسبة للوصول للمصالحة وإنهاء الانقسام، من خلال خارطة طريق فلسطينية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى