مسافر يطا.. استيطان إسرائيلي مدعوم وصمود فلسطيني مخذول

منذ السابع من أكتوبر عام 2023 تتعرّض منطقة مسافر يطا الواقعة جنوب شرق محافظة الخليل، إلى محاولات تهجير إسرائيلية مكثّفة، تمثلت في إنشاء بؤر استيطانية جديدة، وربطها بالمستوطنات الكبرى المقامة في المنطقة. كما تصاعد عنف المستوطنين تجاه سكان المسافر الفلسطينيين البالغ عددهم قرابة أربعة آلاف فلسطيني، ووصل الأمر حد إطلاق النار بشكل مباشر على المواطنين، كما حدث في جريمة إطلاق النار على المواطن عودة الهذالين من قرية أم الخير الذي استشهد برصاص مستوطن إسرائيلي في 29 يوليو/تموز 2025، كما عمدت سلطات الاحتلال إلى تكثيف أوامر الهدم والإخلاء بحق الفلسطينيين المقيمين في المنطقة.
في هذه الورقة نستعرض الأهمية الإستراتيجية لمنطقة مسافر يطا، والأهداف التي تسعى “إسرائيل” لتحقيقها من خلال عنف المستوطنين، وبغطاء الجيش، وعبر تخصيص ميزانيات حكومية ضخمة. في حين يُترك المواطنون الفلسطينيون وحدهم يواجهون ذلك، في ظل خدمات صحية وإغاثية وتعليمية متهالكة.
السياق التاريخي لبدايات الاستيطان في مسافر يطا
ترى “إسرائيل” في مسافر يطا حلقة وصل تاريخية وجغرافية بين التجمعات البدوية في جبل الخليل (أراضي 1967) وصحراء النقب (أراضي 1948)، لذا ترى أنه من الضروري قطع هذه الصلة وإحلال المستوطنين مكانها، وكانت هذه الرؤية ضمن مخططات أرييل شارون، عندما كان وزيرًا للزراعة في حكومة بيغن الأولى، وورد ذلك في اجتماع اللجنة الوزارية لشؤون الاستيطان الذي عُقد في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 1979، حيث قال شارون: “هناك ظاهرة مستمرة منذ عدة سنوات، وهي الارتباط المادي بين السكان العرب في النقب وعرب جبل الخليل. لقد نشأ وضع تتعمق فيه الحدود داخل أراضينا… يجب أن ننشئ بسرعة شريطًا عازلًا للمستوطنات، وهي التي سوف تعمل على فصل وتمييز جبال الخليل عن المستوطنات اليهودية في النقب”.
نتيجة لذلك، صنّف الاحتلال الإسرائيلي منطقة مسافر يطا ضمن المناطق العسكرية الإستراتيجية، وعدّها موقعًا رئيسًا للتوسع الاستيطاني في الضفة الغربية. يأتي ذلك بالتزامن مع المشروع الاستيطاني في مختلف مناطق الضفة الغربية لا سيما المناطق المصنفة “ج” حسب اتفاقية طابا عام 1994 بين السلطة الفلسطينية و”إسرائيل”. ويهدف الاحتلال الإسرائيلي إلى إفراغ من بقي من السكان الفلسطينيين في هذه المناطق، خاصة التجمعات البدوية، التي شكلت طوال عقود العائق الأكبر أمام التوسع الاستيطاني، وذلك على الرغم من عدد سكانها المحدود، وافتقارهم لمعظم مستلزمات الدعم والصمود.
تُواجه مسافر يطا، منذ عقود، محاولات ممنهجة من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنين لاقتلاع سكانها الأصليين تحت ذرائع أمنية أو تصنيفات زائفة للأراضي كـ”مناطق إطلاق نار“ أو “احتياطي أراضي للمستوطنات“. إذ وصل عدد التجمعات الفلسطينية في منطقة مسافر يطا نحو 19 تجمعًا سكانيًا بدويًا وزراعيًا موزعة على تلال وسهول شبه صحراوية في المنطقة، ولقطع صلة مسافر يطا بالفلسطينيين؛ كان الاحتلال الإسرائيلي بحاجة إلى إستراتيجية استيطانية تجعل التهجير القسري سهلاً شيئًا فشيئًا وصولًا إلى هدف إفراغها المنشود، وتظهر ورقة حقائق لمنظمة أوتشا أن سلطات الاحتلال حدّدت معظم أراضي منطقة مسافر يطا، منذ ثمانينيات القرن الماضي، على أنها “منطقة إطلاق نار 918″، ومنذ ذلك الحين، تتعرض هذه المجتمعات الفلسطينية لسلسلة من السياسات والممارسات الإسرائيلية التي قوّضت مقومات حياتهم، شملت تقييد الحركة، ومنع البناء، والهدم المتكرر، إلى جانب اعتداءات المستوطنين المتواصلة.
وعلى مدار عقود، أصدرت سلطات الاحتلال قرارات متتالية تُمهّد لسيطرة المستوطنين على أراضي “المسافر”، في الوقت الذي تُضيّق فيه على السكان الفلسطينيين بمنعهم من البناء أو التنقل أو تطوير مصادر رزقهم.
وعلى الرغم من ادّعاء “إسرائيل” أن هذه المناطق مخصصة للتدريب العسكري ولا يُسمح بالسكن المدني فيها، فإنها تتسامح مع وجود المستوطنين الإسرائيليين، مما يفضح ازدواجية المعايير في تطبيق قانونها العسكري، ويكشف استخدام سلطات الاحتلال لحجة “التدريب” العسكري كأداة لتهجير الفلسطينيين. على هذا الأساس، بدأ المستوطنون منذ عام 2001 بإنشاء بؤر استيطانية في منطقة مسافر يطا، كانت أولها بؤرة “أفيغايل” التي شكّلت باكورة التوسع الاستيطاني في المنطقة. وقد أُقيمت البؤرة داخل ما يُعرف بـ “منطقة الرماية العسكرية”، وبُنيَت عشرات الوحدات الاستيطانية فيها رغم صدور ما لا يقل عن 17 أمر هدم بحقها من محاكم إسرائيلية، لم يُنفذ أي منها.
وقد أنشأت سلطات الاحتلال بعد ذلك عددًا من المستوطنات الكبرى على أراضي شرق يطا ومسافرها، شملت: كرمئيل، وماعون، ومتسبي يائير، ومتسادوت يهودا، وسوسيا، وأفيغايل، لتشكّل جميعها طوقًا استيطانيًا يُحاصر التجمعات الفلسطينية، ويزيد من خطر التهجير القسري.
واستمرت وتيرة الاستيطان الإسرائيلي في المنطقة في تصاعد وصولًا إلى عاميّ 2023 و2024 اللذين شهدا قفزة لافتة في وتيرة التوسع الاستيطاني في منطقة مسافر يطا، من خلال إقامة عدد من المستوطنات والبؤر الاستيطانية الجديدة، وتطوير بنية تحتية كبيرة فيها. ففي عام 2023، أُنشئت مستوطنة هار إيلا، حيث تم شق طريق يربطها ببؤرة متسبيه يائير، وتضم المستوطنة عدة مبانٍ وألواح طاقة شمسية. كما أُقيمت مستوطنة دروما، وتم شق طريق يربطها ببؤرة أفيغايل، إضافة إلى ربطها بشبكة مياه مشتركة معها. وفي العام ذاته، أُقيمت مستوطنة توف هآرتس، وتضم عائلة واحدة، إضافة إلى حظيرة للماعز ومبانٍ زراعية. كما أنشئت مستوطنة هار ماعون، وتحتوي على عدة مبانٍ سكنية وزراعية، وألواح شمسية، بالإضافة إلى شُرفات مراقبة أقيمت في محيطها تُستخدم كنقاط رصد وتحكم.
أما في عام 2024، فقد أُنشئت البؤرة الاستيطانية متسبيه يائير شمال، بين منازل سكان قرية سيمري الفلسطينية التي هُجِّر سكانها سابقًا نتيجة اعتداءات وتهديدات المستوطنين. كما أُقيمت بؤرة النوى الاستيطانية، كامتداد لحي تابع لبؤرة أفيغايل، وتضم عدة مبانٍ، وبوابة كهربائية، وألواحًا شمسية.
وبحسب ما أوردته حركة سلام الآن الإسرائيلية، فقد أُنشئت مستوطنة متسبيه مالكيا على موقع نقطة مراقبة عسكرية سابقة، وتم تزويدها بألواح طاقة شمسية وربطها بأنبوب مياه، مما يعكس دعمًا لوجستيًا مباشرًا لتثبيت الوجود الاستيطاني فيها.
القانون الاستعماري في خدمة التهجير
على مدار عقود، واجه سكان مسافر يطا سلسلة متواصلة من أوامر الهدم وإنذارات الإخلاء، كان أولها في عام 1999، حين أصدرت سلطات الاحتلال قرارًا بتهجير نحو 700 مواطن فلسطيني بزعم إقامتهم “غير القانونية” في منطقة عسكرية مغلقة مخصصة لإطلاق النار. وقد رافق القرار حينها عمليات هدم لمنازل السكان ومحالهم، ومصادرة لممتلكاتهم الأساسية.
منذ ذلك الحين، تكررت عشرات الأوامر والإخطارات، وقُدّمت التماسات قانونية عديدة، غالبًا من قبل منظمات حقوقية غير حكومية، في محاولة لوقف التهجير القسري. غير أن المعركة القانونية غير المحايدة كانت تميل دومًا لصالح المشروع الاستيطاني.
وفي أيار/مايو 2022، أصدرت محكمة العدل العليا الإسرائيلية حكمًا يُجيز طرد مئات السكان الفلسطينيين من مسافر يطا، تمهيدًا لنقل الأراضي التي يسكنونها إلى استخدامات إسرائيلية حصرية، وهو قرار وُصف بأنه “مصمم تفصيلًا على قياس الاستيطان”.
عقب هذا القرار، مُنح الجيش الإسرائيلي تفويضًا رسميًا للبدء في استخدام المنطقة للتدريب العسكري بالذخيرة الحية. توغلت الدبابات بين القرى، وأُطلقت الذخائر، وفُجّرت العبوات، بينما كانت المروحيات تتدرب على الهبوط والإقلاع في محيط التجمعات السكنية. وزاد من معاناة السكان استخدام الطائرات المسيّرة التي يُشغّلها الجنود الإسرائيليون – وأحيانًا المستوطنون أنفسهم – لمراقبة ما إذا كان السكان يعيدون بناء منازلهم المهدمة.
تسارع الاستيطان وتصاعد العنف
مثلت السنوات القليلة الأخيرة نقطة تحوّل حادّة في وتيرة الاستيطان في منطقة مسافر يطا، اتسمت بما يشبه “طفرة استيطانية” غير مسبوقة من حيث السرعة والحدة، وهو ما تؤكّده شهادات السكان المحليين، فمنذ مطلع عام 2023، شهدت منطقة مسافر يطا تصعيدًا حادًا ومتواصلًا في اعتداءات المستوطنين، ما أسفر عن سقوط ضحايا من السكان الفلسطينيين، وأضرار جسيمة في ممتلكاتهم وموارد رزقهم.
وفي هذا السياق تقول المواطنة شوق العدرة، من قرية الجوايا: “على مدى السنوات العشر الماضية، توسّعت المستوطنات بسرعة. من سطح منزلنا، يمكنني أن أراها تحيط بنا من كل الجهات تقريبًا. ومع تزايد أعداد المستوطنين، تصاعد العنف أيضًا. أصبحنا نتعرض لمضايقات متكررة أثناء رعي الأغنام أو حصاد المحاصيل. باتت أعمال العنف أكثر تكرارًا، وأكثر دموية، بشكل مرعب”.
وتؤكد على ذلك شهادة المواطنة هنادي الهذالين زوجة عودة الهذالين الذي استشهد برصاص مستوطن في المنطقة، وبعد أيام من اعتقال سلطات الاحتلال لهذا المستوطن، أطلقت سراحه، في تأكيد واضح على إفلات المستوطنين المعتدين من العقاب، وهو ما يشجع المستوطنين على مزيد من الاعتداءات التي تصل حد القتل. توثّق هذه الشهادات التحوّل من احتلال صامت إلى واقع استيطاني نشط وعدواني، يترافق مع منظومة عنف ميداني يومي، يكشف حجم التهديد الوجودي الذي يواجه سكان مسافر يطا اليوم.
ورغم أن وتيرة العنف ارتفعت بعد السابع من أكتوبر 2023، إلا أن هذا التصعيد لم يكن طارئًا أو معزولًا، بل يمثل امتدادًا لنهج قائم؛ إذ يسعى المستوطنون إلى استغلال كل ظرف أو حدث سياسي لتحقيق مشاريعهم الاستيطانية، مدعومين بإفلات كامل من العقاب.
تكشف مقارنة وقائع اعتداءات المستوطنين في منطقة مسافر يطا في سياقها التاريخي، عن فجوة صادمة وتصاعد وتيرة عنف المستوطنين في المنطقة، فبين عامي 2006 و2020، تم توثيق 18 حادثًا، في مقابل 180 حادثًا سُجّلت بين عامي 2021و2024، ما يعكس تحوّلًا بنيويًا في عنف المستوطنين من ظاهرة متقطعة إلى سياسة ميدانية ممنهجة بحسب تقرير أعدته منظمة أوتشا، ويشير بيان أوتشا إلى ارتفاع ملحوظ في وتيرة هذه الهجمات: فقد ارتفع المعدل الشهري للاعتداءات من 1.5 حادث شهريًا في عامي 2021 و2022، إلى نحو خمسة حوادث شهريًا خلال عامي 2023 و2024. واستمر هذا المنحنى التصاعدي في عام 2025، حيث وثّق مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (OCHA) نحو ستة اعتداءات شهريًا في الربع الأول من العام وحده.
تتنوع أشكال الاعتداءات بين العنف الجسدي المباشر وضرب السكان بالعصي، والرشق بالحجارة، وترويع الماشية عبر استخدام الخيول والمركبات الجبلية لطرد القطعان، وإطلاق الكلاب المدربة لمهاجمة الرعاة وأغنامهم، إضافة إلى إضرام النار في الحقول الزراعية وقطع الأشجار.
وبالتزامن مع هذا العنف وفي إطار تحقيق أهداف الاستيطان والتهجير خاصة بعد الحرب، فقد تصاعدت وتيرة هدم المنشآت المأهولة والزراعية والرعوية وغيرها وفقًا لتقارير هيئة مقاومة الجدار والاستيطان لعامي 2023 و 2024 ، فقد صُنفت الخليل بما فيها مسافر يطا كأكثر منطقة فلسطينية استُهدفت بإخطارات الهدم خلال العامين، تحت ذريعة “مكافحة البناء غير القانوني”، في حين تُترك البؤر الاستيطانية غير القانونية دون مساءلة أو تنفيذ لأوامر الهدم الصادرة بحقها.
استيطان مدعوم يتقدّم… وصمود فلسطيني بلا مقوّمات
في ضوء تصاعد وتيرة العنف والاستيطان وهدم المنشآت والمنازل الفلسطينية تمهيدًا لبدء خطوات فعلية نحو تهجير السكان، تبدو حاجة الفلسطينيين ملحة لإستراتيجية رسمية وشعبية في سبيل التصدي لذلك، لكن يبدو أن الواقع يتناقض مع حجم الخطر المحدق بمسافر يطا وأهلها.
فبينما رفعت حكومة الاحتلال موازنة دعم الاستيطان لعام 2023 بنسبة 320% وقدّمت كل إمكاناتها وتشريعاتها لتحقيق مشروعها الاستعماري؛ تبدو مسافر يطا الفلسطينية وكأنها منطقة خارج الزمن، حيث يمنع الاحتلال أي تطور أو تنمية للمكان.
تفتقر المسافر للحد الأدنى من المقومات الأساسية للحياة، حيث يعيش سكانها في ظروف بدائية قاسية في خيام، أو مساكن من الصفيح، أو كهوف محفورة في الصخور، تفتقر جميعها إلى الكهرباء، وشبكات الصرف الصحي، والاتصالات، والبنية التحتية الضرورية. إنها عزلة قسرية، لا تفرضها الجغرافيا، بل سياسة الاحتلال العنصرية.
فبحسب تقرير “تلال الجنوب“ لبتسيلم فإن غياب كل من خدمات المياه والكهرباء والبنية التحتية والبناء لمنطقة مسافر يطا يأتي بقرارات إسرائيلية ممنهجة، لجعل سبل العيش مستحيلة للسكان على هذه الأرض، من خلال منع إنشاء شبكات كهرباء وتدمير أنظمة الطاقة الشمسية البديلة وهدم آبار جمع مياه الأمطار، ومنع البناء بذريعة غياب الهيكل التنظيمي للمنطقة كل ذلك لجعلها أرضًا غير صالحة لعيش الفلسطينيين.
من ناحية أخرى، يُترك المواطن في مسافر يطا وحيدًا في مواجهة وحشية المستوطنين، إذ لا توجد مراكز صحية حكومية فلسطينية في تلك المنطقة، وفي ظل الحديث عن منح السكان التأمين الصحي الحكومي، تغيب المراكز الصحية المؤهلة لعلاج المواطنين وإنقاذ حياتهم، ويصعب تنقل المواطنين إلى خارج المنطقة لتلقي العلاج نتيجة القيود المفروضة من الاحتلال. إذ يعيش هؤلاء المواطنون ظروفًا صحية متفاقمة جرّاء اعتداءات الاحتلال ومستوطنيه، وفقًا لما صرّحت به منظمة “أطباء بلا حدود” في تقرير لها.
كما يعاني الأطفال في مسافر يطا من خدمة تعليم متقطعة ومتفاوتة، وأحيانًا منعدمة. فبالرغم من جهود وزارة التربية والتعليم العالي منذ عام 2016 في إنشاء مدارس “الصمود والتحدي” التي بلغ عددها حتى الآن 10 مدارس، إلا أن الاحتلال هدم خلال الأعوام الأخيرة ثلاث مدارس في يطا هي: خلة الضبع، عميرة، وصفي.
ولا تزال المدارس القائمة مهددة بالهدم، فضلًاعن كونها غير مؤهلة بشكل كامل. ويبرز غياب التعليم الإعدادي والثانوي في هذه المناطق، مما يضع الطلاب أمام خيارين، إما التوقف عند المرحلة الابتدائية، أو الاستمرار في رحلة تعليم خارج المنطقة محفوفة بالمخاطر في ظل الاعتداءات المستمرة من المستوطنين.
على سبيل المثال، قرية خربة الضبع التي يبلغ عدد سكانها 74 فلسطينيًا موزعين على 14 عائلة، تفتقر إلى أبسط مرافق الخدمات، فلا مركز صحي، ولا عيادات، حتى أن المدرسة الوحيدة هناك قد هدمها الاحتلال.
وبينما تشهد منطقة مسافر يطا توسعًا ملحوظًا للاستيطان الرعوي منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، حيث ارتفع عدد البؤر الرعوية في المنطقة إلى 20 بؤرة، في حين تجاوز إجمالي البؤر الرعوية في مناطق جبل الخليل 25 بؤرة، ينشط فيها المستوطنون المسلحون بحماية قوات الاحتلال؛ تعرضت بيئة مسافر يطا للتدهور والتصحر نتيجة الرعي الجائر، وتراجع القدرة على حماية الأراضي، بفعل السياسات الإسرائيلية الممنهجة التي تستهدف السكان الفلسطينيين وتضيّق عليهم في سبل عيشهم، خدمةً للتوسع الاستيطاني الذي بدأ منذ ثمانينيات القرن الماضي.
وقد كان لهذا التوسع والاعتداءات المستمرة من المستوطنين، إلى جانب قرارات الهدم والإخلاء، تأثير بالغ على المستوى المعيشي لسكان المنطقة خلال العامين الماضيين. ففي وقت سابق، كان سكان مسافر يطا يملكون نحو 24 ألف رأس من الأغنام والمواشي التي يعتمدون عليها كمصدر رئيس للرزق، إلا أن عدد المواشي لديهم انخفض إلى أقل من 8 آلاف رأس في العام الحالي. ويُعزى هذا الانخفاض الكبير إلى سرقات المستوطنين للمواشي، واستهدافها بالرصاص، أو قتلها عبر التسميم.
في المقابل، يتزايد عدد المستوطنين الذين يمارسون الاستيطان الرعوي في المنطقة، ويملكون قطعانًا من الأغنام والأبقار والجِمال تُقدّر بأكثر من أربعة آلاف رأس، معظمها مسروقة من الفلسطينيين.
وسط هذه الظروف الصعبة التي يعيشها السكان الفلسطينيون في مسافر يطا، يراهن الموقف الرسمي الفلسطيني على صمود المواطنين رغم غياب أبسط المقومات اللازمة. وتحت شعار “دعم صمود المواطنين”، يتغنى كل مسؤول فلسطيني يزور المسافر بهذا “الصمود الأسطوري” للمواطنين.
فعلى صعيد الانتهاكات المتعلقة بالتعليم، لم تقدم المؤسسة الرسمية الفلسطينية غير تصريحات متكررة تناشد المجتمع الدولي والدبلوماسي لتحمل مسؤولياتهم تجاه الأطفال في مسافر يطا، الذين باتوا بلا تعليم، في ظل اقتراب مرحلة التهجير الفعلي للسكان، حيث لم تعد الاستنكارات تُجدي نفعًا لطالب لم يجد طريقًا يسلكها لمدرسة مهدومة أو مهددة بالهدم.
وبينما اقتصرت خطوات دعم “الصمود الأسطوري” على توفير بعض الخيم والجرارات الزراعية، وبعض المساعدات المالية والغذائية، وأظهرت هذه المساعدات على أهميتها أن التخطيط الرسمي الفلسطيني لا يعدو عن توفير مقومات حياة للفلسطينيين في مسافر يطا ليبقوا كما لو كانوا لاجئين في هذه الأرض، وليسوا المواطنين الأصليين لهذه المنطقة.
وبطبيعة الحال، فإن زيارات المسؤولين لهذه المنطقة تقتصر على المناسبات والمواسم فقط، وعلى الرغم من تصاعد الهجمات بعد أكتوبر 2023، إلا أن ذلك لم ينعكس على تطوير أدوات المؤسسة الفلسطينية الرسمية في التعامل مع هذه الأزمة الكارثية التي يعيشها السكان في مسافر يطا.
وخلافًا لما تم الإعلان عنه حول رزمة التدخلات التي أعلنتها حكومة محمد اشتيه في عام 2022 في مؤتمر “الصمود والتحدي” إلا أنّ جزءًا كبيرًا من هذه التدخلات لم يتم تنفيذه، فلا يزال عدد كبير من السكان في منطقة مسافر يطا عاطلين عن العمل، ولا تزال سبل العيش من سيء إلى أسوأ، وهو ما تحدث به رئيس مجلس قروي مسافر يطا نضال يونس في مقابلة صحفية .
وفي الوقت ذاته، تكتفي المؤسسة الرسمية الفلسطينية بدعوات تبرقها للمجتمع الدولي والاتحاد الأوروبي للتدخل لمنع تهجير الفلسطينيين، في حين لم تتجاوز هذه الجهود كونها تصريحات إدانة ومطالبات شكلية. ولم يتم تقديم أي دعوى فعالة أو حتى شكوى ضد قرار المحكمة العليا الإسرائيلية، سوى هذا الشكل من التصريحات والإدانات.
خاتمة
يمرّ المواطنون في مسافر يطا بأصعب مراحل حياتهم، والقادم عليهم يبدو أعظم وأكثر تحديًا. ولم تعد تنفعهم شعارات التغني بصمودهم، ولا الوعود الحكومية الشكلية، أو زيارات المسؤولين التي لا تثمر. وحتى على الصعيد الشعبي، يغيب التضامن الداخلي الفلسطيني وتنعدم التحركات الفصائلية.
هذا في الوقت الذي تخصص فيه “إسرائيل” ميزانيات ضخمة لدعم الاستيطان والمستوطنين، وتحرم سكان المسافر الفلسطينيين من أبسط حقوقهم المعيشية، ليظلوا يعانون وحيدين في مواجهة تهجير قسري بات قاب قوسين أو أدنى.
وفي نهاية المقال من المهم أن نلخص كل ما يحدث باقتباس الصحفي والمحرر في صحيفة(The Palestine Chronicl) رمزي بارود من مقال أنّ “ما يحدث في مسافر يطا ليس فقط أكبر مخطط للتطهير العرقي تنفذه إسرائيل منذ عام 1967، بل يجب اعتبار هذه الخطوة خطوة أولى في مخطط أكبر بكثير للاستيلاء غير الشرعي على الأراضي، والتطهير العرقي، والضم الرسمي الجماعي. يجب ألا تنجح إسرائيل في مسافر يطا، لأنه إذا نجحت، فإن مخططها الأصلي للضم الجماعي سيصبح حقيقة واقعة في وقت قريب جدًا.”