ماذا يعني إيقاف العمل بالاتفاقيات الفلسطينية الإسرائيلية: الأبعاد والمآلات القانونية والسياسية
لتحميل الملف اضغط هنا
الكاتب: إحسان عادل وبشار سلوت
- مقدمة
في (19مايو/أيّار 2020)، أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أن منظمة التحرير الفلسطينية وفلسطين أصبحتا في حل من جميع الاتفاقات والتفاهمات مع الحكومتين الأميركية والإسرائيلية، ومن جميع الالتزامات المترتبة عليها، بما فيها الأمنية. وقال الرئيس عباس في كلمته خلال اجتماع للقيادة الفلسطينية في مقر الرئاسة بمدينة رام الله إن القيادة اتخذت هذا القرار التزامًا بقرارات المجلسين الوطني والمركزي لمنظمة التحرير، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وحمّل الرئيس سلطة الاحتلال الإسرائيلي جميع المسؤوليات والالتزامات أمام المجتمع الدولي كقوة احتلال في أرض دولة فلسطين المحتلة، وبكل ما يترتب على ذلك من آثار وتبعات وتداعيات، استنادا إلى القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني.[1]
أتى ذلك رداً على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الذي أعلن إن إسرائيل بدأت في رسم خرائط بأراضي الضفة الغربية التي سيجري ضمها وفقا لخطة السلام التي اقترحها الرئيس الأميركي دونالد ترامب (أو ما عُرف بصفقة القرن).
وقد أثار قرار الرئيس الفلسطيني إنهاء العمل بالاتفاقيات عاصفةً من التساؤلات حول مدى إمكانية تحقيقه عمليًا، وحول الأبعاد والمآلات القانونية والسياسية المحتملة للقرار في حال تم تنفيذه فعلًا؟
تحاول هذه الورقة تكوين تصور حول الأبعاد القانونية والسياسية المحتملة على قرار وقف العمل بالاتفاقيات مع إسرائيل، وذلك على المستويين؛ المحلي والدولي، واستجلاء الوضع القانوني للأراضي الفلسطينية ولوضع السلطة الفلسطينية بعد قرار وقف العمل بالاتفاقيات ورسم السيناريوهات المحتملة، كما تعرّج على أثر القرار على ملف فلسطين في المحكمة الجنائية الدولية.
أولاً/ الاتفاقيات الفلسطينية الإسرائيلية
هناك 4 اتفاقيات رسمية تم توقيعها بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل على مدار تاريخ الاحتلال، وهذه الاتفاقيات كالتالي:
– (اتفاقية أوسلو الأولى1993)، وهو أول اتفاق فلسطيني إسرائيلي وقعه الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين في 13 سبتمبر/أيلول 1993 بواشنطن، وعرف الاتفاق بأسماء منها اتفاقية أوسلو، واتفاقية إعلان المبادئ، واعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بموجبه بحق إسرائيل في الوجود، واعترفت إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً للشعب الفلسطيني، وتم الاتفاق على تشكيل السلطة الفلسطينية وإجراء انتخابات فلسطينية، على أن تكون هذه الاتفاقية مؤقتة بحيث أنها تنظم “لفترة انتقالية لا تتجاوز الخمس سنوات وتؤدي إلى تسوية دائمة تقوم على أساس قراري مجلس الامن 242 و 338” بحسب نص الاتفاق.
– (اتفاقية غزة- أريحا 1994) وتعد بمثابة الاتفاق التنفيذي لأوسلو، وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية في (4 مايو/أيار 1994)، وتضمنت الاتفاقية الخطوة الأولى لانسحاب إسرائيل من غزة وأريحا وتشكيل السلطة الفلسطينية وأجهزتها، وأعطت الاتفاقية للسلطة صلاحية إصدار التشريعات والقوانين، ولكن على أن تقدم هذه التشريعات قبل صدورها إلى لجنة فلسطينية إسرائيلية مشتركة، كما نصت على أن تستمر إسرائيل في القيام بمسؤولية الدفاع ضد التهديدات الخارجية، بما في ذلك حماية الحدود المصـرية والخط الأردني، ومسؤولية أمن المستوطنات. وأضيف لهذه الاتفاقية (بروتوكول/اتفاقية باريس الاقتصادية)، التي تنظم العلاقة الاقتصادية بين الجانبين في مجالات العمل، والعلاقات التجارية، والمسائل المالية، والترتيبات النقدية. [2]
– (اتفاقية أوسلو الثانية/طابا 1995) وعرف هذا الاتفاق باتفاق المرحلة الثانية من انسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية. حيث تعهدت إسرائيل بالانسحاب من 6 مدن عربية رئيسية و400 قرية بداية من 1996، وانتخاب 82 عضوا للمجلس التشريعي، والإفراج عن معتقلين في السجون الإسرائيلية. وبموجب الاتفاقية تستمر إسرائيل في القيام بمسؤوليات الأمن الخارجي وأمن الإسرائيليين، وعدم التعرض للفلسطينيين “الذين أقاموا صلات مع السلطات الإسرائيلية”، وعدم قيام السلطة بسن تشريعات تخالف أحكام اتفاقية إعلان المبادئ والاتفاقيات الأخرى.
– (اتفاق واي ريفر الأول 1998، والثاني 1999)، وينص هذان الاتفاقان على أن إسرائيل ستنفذ مرحلة جديدة من إعادة الانتشار في 13% من الضفة الغربية مقابل قيام السلطة الفلسطينية بتكثيف حملتها ضد “العنف”،[3] وينص الاتفاق على أن يكون “هناك تعاون كامل في مجال الأمن بين الطرفين وسيكون متواصلاً ومكثفاً وشاملاً”.
ثانيًا/ الأبعاد القانونية لإيقاف الاتفاقيات في ضوء القانون الدولي
يُقصد بنقض المعاهدات الدولية (أو الانسحاب، التخلي عنها) “قرار أحد أطرافها بوقف العمل بها نهائيًا وكليًا وتحرره من التزاماتها إزاء الطرف أو الأطراف الأخرى، وعادة ما ينصب النقض على المعاهدات الثنائية”[4]. ومن الجدير بالذكر هنا، أن اتفاقيات أوسلو وما تلاها، إنما تم توقيعها بين منظمة التحرير الفلسطينية، بصفتها ممثلا عن الشعب الفلسطيني، وبين إسرائيل، كدولة. وكما نلاحظ من المادة 3 من اتفاقية فينا لقانون المعاهدات، فإن الاتفاقيات “التي تعقد بين الدول والأشخاص الأخرى للقانون الدولي” لا تخضع لاتفاقية فينا لقانون المعاهدات، حيث هي خاصة بتنظيم الاتفاقيات بين الدول. لكن ذلك لا يمنع، وفق الفقرة (ب) من المادة 3 نفسها سريان أية قاعدة واردة في اتفاقية فينا على تلك الاتفاقات إذا كانت تخضع لها بصورة مستقلة عن الاتفاقية.
وقد انضمت فلسطين، بعد أن أصبح لها صفة الدولة في الأمم المتحدة، إلى اتفاقية فينا لقانون المعاهدات في ابريل 2014. وعلى الرغم من أنه، بموجب المادة 16 من اتفاقية فيينا لخلافة الدول في المعاهدات فإن الدولة المستقلة حديثًا ليست ملزمة بالحفاظ على أي معاهدة كانت سارية في الأراضي التي أصبحت تحكمها، إلا أنه يمكن الادعاء بأن فلسطين، كدولة، ملزمة بالاتفاقيات التي كانت وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها الوريث لها، ولأن حكومة دولة فلسطين والرئاسة الفلسطينية أعلنت مرارا التزامها بها، ولأن منظمة التحرير الفلسطينية بقيت، حتى بعد الاعتراف بفلسطين كدولة غير عضو في الأمم المتحدة، الممثل الرسمي للفلسطينيين، سواء ممن هم داخل دولة فلسطين، أو خارجها من اللاجئين في العالم.
وهكذا، نرى أنه يمكن الاحتكام لقواعد اتفاقية فينا لقانون المعاهدات، لتحديد ما إذا كانت دولة فلسطين قادرة، بموجب تلك القواعد، على الانسحاب من الاتفاقيات مع الإسرائيليين. كما سنقوم قبل ذلك بالنظر في نصوص تلك الاتفاقيات نفسها لتحديد ما إذا كانت نصوصها تبيح الانسحاب منها.
1- انقضاء الاتفاقية وفق نصوصها: تنتهي الاتفاقية من طبيعة موضوعها أو إذا كانت نصوصها تحدد مدة معينة لها. وهنا نلاحظ أن اتفاقية أوسلو وما تلاها لم تنص على مدة معينة لانقضائها، ولكنها كلها إما نصت على أو جاءت في سياق تنظيم الفترة الانتقالية، والتي لا تتجاوز مدتها خمس سنوات بحسب اتفاقية أوسلو، وبمجرد انتهائها تبدأ مرحلة الحل النهائي “الوضع الدائم”، والتي تكون فيها القضايا الرئيسية قد حسمت من خلال المفاوضات (وهي القدس، اللاجئين، المستوطنات، الترتيبات الأمنية، الحدود، العلاقات والتعاون، ومسائل أخرى ذات اهتمام مشترك). ويفهم من ذلك أن المرحلة الانتقالية التي تنتهي بمرور خمس سنوات قد انتهت بالفعل، وكان من المفترض أن تنتهي معها مفاوضات الوضع الدائم، إلا أن ذلك لم يحدث وحل موعد الوضع الدائم دون وجود اتفاق يوضح معالمه، وبذلك فقد انقضى أجل الاتفاقية دون انجاز أهدافها الأساسية، وعليه فإن لأطرافها التوقف عن الالتزام بها ما لم يعلنوا رغبتهم بعكس ذلك.
- 2. كما أن هناك تصورا يقضي بأن اتفاقات أوسلو وما تلاها يمكن اعتبارها نوعاً خاصاً من مقدمات “السلام”، ويترتب على ذلك أنه إذا فشلت المفاوضات، والتي كانت تهدف للوصول إلى إبرام معاهدة سلام، فإن “اتفاقات أوسلو” باعتبارها من مقدمات “السلام” تعد لاغية، وينبني عليها قطع مفاوضات التسوية المتعثرة “وإيقاف العمل بالاتفاقيات”، وإرجاع القضية الفلسطينية إلى أصلها بين فلسطين كأرض محتلة، وبين قوة احتلال سيطرت على الأرض وهجرت الشعب الفلسطيني.[5]
3- انقضاء الاتفاقية بفسخها للإخلال بها: في ضوء حجم الإخلال الإسرائيلي باتفاقية أوسلو والالتزامات التي رتبتها، فإن ذلك يعد سببا كافيا لانقضاء المعاهدة بفسخها، فقد تم خرق اتفاق أوسلو بشكل فاضح وانتهاكه بصورة جوهرية من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي في العام 2002م، عندما تم اجتياح أراضي الضفة الغربية فيما عرف حينها باسم “عملية السور الواقي”.[6] كما يشكل قرار إسرائيل الأخير بشأن ضم المستوطنات في الضفة الغربية للسيادة الإسرائيلية خرقا كذلك لاتفاق أوسلو وما تلاها، ومن المعروف حسب المادة 60 من اتفاقية فينا لقانون المعاهدات أن “الإخلال الجوهري بالمعاهدة الثنائية من قبل أحد أطرافها يخول الطرف الآخر الاحتجاج به كسبب لانقضائها أو لإيقاف العمل بها”. كما أن هذه الخطوات تخالف مبدأ حسن النية في العلاقات الدولية والذي تم النص عليه في المادة (26) من اتفاقية فينا لقانون المعاهدات، ومبدأ واجب “وفاء الملتزم بتعهداته”، والذي يقتضي امتناع أطراف المعاهدة عن القيام بأي عمل أو تصرف يفرغها من موضوعها أو يبعدها عن أهدافها.[7] وفضلا عن ذلك، تمثل الأفعال الإسرائيلية إخلالا جوهريا لقواعد القانون الدولي، حيث أن مرجعية الاتفاقات الفلسطينية الإسرائيلية كانت قرارات الشرعية الدولية، التي تعتبر جميع الأراضي المحتلة عام (1967) اراضٍ محتلة، وتحظر بناء المستوطنات في الأراضي المحتلة.[8] كما يشكل ذلك جريمة حرب بموجب ميثاق روما الناظم للمحكمة الجنائية الدولية،[9] ويلاحظ هنا أن المحكمة باشرت فعليا بدراسة جريمة الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة.[10]
4- انقضاء الاتفاقية لتغير الظروف التي عقدت فيها: حيث اعتبرت المادة (62) من اتفاقية فينا 1969، أن التغير الجوهري للظروف يسمح بانقضاء المعاهدة، طالما مثلت تلك الظروف سبباً رئيسياً لرضا الأطراف الالتزام بالمعاهدة. ونلاحظ هنا أن اتفاقية أوسلو وما تلاها إنما جاءت على أساس نبذ القوة ووقف العمليات المسلحة والتمهيد لإقامة الدولة الفلسطينية على أساس قرارات مجلس الأمن ذات الصلة. إلا أن ما حصل ويحصل هو وقوع عشرات الانتهاكات والاعتداءات المسلحة، التي نجم عنها مقتل عشرات الآلاف منذ اتفاقية أوسلو وإلى اليوم، ومارست إسرائيل سياسة العقاب الجماعي وتدمير منازل الفلسطينيين على نطاق واسع، فضلا عن حصار قطاع غزة وشن الحروب والعمليات العسكرية عليه، والتوسع الاستيطاني في الضفة الغربية حتى تقطعت أوصالها، وانتهاءً بالإعلان عن ضم أراض من الضفة الغربية وغور الأردن للسيادة الإسرائيلية، مما يجعل كافة الظروف التي دفعت منظمة التحرير للالتزام باتفاقية أوسلو وما تلاها غير قائمة.
5- مخالفة الاتفاقية القواعد الأمرة في القانون الدولي: حيث يتعارض اتفاق أوسلو وما تلاه مع عدد من القواعد الآمرة في القانون الدولي، ذلك أنه يتنازل في الأساس عن عدد من الحقوق الممنوحة للشعب الفلسطيني بموجب القوانين الدولية واتفاقيات جنيف لعام 1949. في ظل أن المادة 8 من اتفاقية جنيف الرابعة تقول “أنه لا يجوز التنازل في أي حال من الأحوال جزئياً أو كلياً عن أي من الحقوق الممنوحة بمقتضى الاتفاقية”، والمادة 53 من اتفاقية فينا لقانون المعاهدات تقول بأن المعاهدة إذا كانت وقت عقدها تتعارض مع قاعدة آمرة من القواعد العامة للقانون الدولي، فإنها تكون باطلة. وكما نلاحظ، على سبيل المثال، قبل اتفاق أوسلو وما تلاه بتأجيل التفاوض على قضية المستوطنات، وهي من القضايا التي لا يجوز التفاوض عليها لأنها تمثل مخالفة للقانون الدولي الإنساني، بل وجريمة حرب، كما سبق بيانه. كما أنه حدَّ من سيادة السلطة في مسائل جوهرية كالعلاقات الخارجية وحتى تشريع القوانين الداخلية،[11] وهذه كلها تمثل مخالفة لقواعد القانون الدولي.
وفي ضوء ذلك، تملك دولة فلسطين، الانسحاب من الاتفاقيات الموقعة مع إسرائيل، أو إيقاف العمل بها، دون أن يمثل ذلك انتهاكا لتلك الاتفاقيات أو لقواعد القانون الدولي المعروفة في هذا المجال، وتستطيع السلطة الفلسطينية أن تتقدم بإشعار لدى الحكومة الاسرائيلية تؤكد فيه أنه حدث خلل جوهري، وإذا قامت إسرائيل بتعديل هذا الخلل الجوهري، تعود الامور الى نصابها، وإذا لم تقم بذلك فهنا تعتبر السلطة في حل وتستطيع أن توقف وتعلق أو تلغي العمل بالاتفاقيات، وهذا ما يبدو أنه هو موقف السلطة الحالي بحسب ما ذكرته وزارة العدل الفلسطينية على لسان وزيرها محمد الشلالدة.
- ثالثا/ الوضع القانوني للأراضي الفلسطينية بعد قرار وقف العمل بالاتفاقيات: لمن السيادة؟
إن خطوة وقف العمل بالاتفاقيات، أول ما يترتب عليها هو “حل السلطة الفلسطينية” التي أنشئت بموجب اتفاق أوسلو، وهذا ما سينتج عنه مجموعة من التبعات نتيجة الواقع الجديد، والتي ستطال كافة شرائح المجتمع الفلسطيني، وقطاعاته المختلفة، وخاصة المستفيدين من السلطة كقطاع الموظفين، والمستفيدين من المساعدات الاجتماعية التي تقدمها السلطة. غير أن كيانية فلسطين كدولة، والذي تم تأكيده من خلال ترقية وضعها في الأمم المتحدة إلى دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة عام 2012، هي ثابتة، ولا تستمد من اتفاق أوسلو أو غيره من الاتفاقيات، وإنما يستمد من توفر عناصر الدولة في فلسطين (شعب، إقليم، حكومة لها علاقات خارجية واعتراف دولي واسع بها)، وهكذا، نلاحظ أن فلسطين، بصفتها دولة، وليس السلطة الفلسطينية، قد قامت منذ 2012 وحتى منتصف 2018 بالانضمام إلى (87) اتفاقية دولية[12]، و(21) منظمة دولية[13].
وعليه، إن حل السلطة لا يعني “انتهاء الدولة”. ويمكن للرئيس عباس، بصفته رئيس دولة فلسطين ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية، وللمجلس الوطني الفلسطيني باعتباره الهيئة التشريعية لمنظمة التحرير، ممارسة دور السلطة ومن ثم الدعوة لانتخابات تشريعية ورئاسية ليس على أساس أوسلو والاتفاقيات، بل على أساس ممارسة “الدولة” لسيادتها. ويجدر التنويه إلى أن حل السلطة لا يزيل الصفة الممنوحة لمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وهذا ما نص عليه القرار الأممي رقم (69/19) بشأن ترقية عضويتها[14]. ويبقى الوضع الدولي الجديد قائمًا، وتبقى استحقاقات والتزامات دولة فلسطين المحتلة في إطارها الدولي قائمة على هذا الأساس ولا يمكن تغييرها بعد قرار إيقاف العمل بالاتفاقيات مع الجانب الإسرائيلي.
ويجدر التنويه إلى مسألة هنا ثار بعض الجدل حولها، وهي افتراض أن فلسطين ومن خلال صيرورتها دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة، ثم التحلل من الاتفاقيات، إنما تحيل النزاع إلى قضية جوار وتنازع بين الدول، وهذا غير سليم، فكما أوضحنا، إن كيانية فلسطين كدولة لا يلغي أنها دولة تحت الاحتلال، وإن اتفاقيات جنيف التي تنظم في جزء مهم منها حالة الاحتلال هي اتفاقية بين الدول، وسيبقى الاحتلال الإسرائيلي يمثل احتلالا عسكريا يجب إنهاؤه، وفي هذا الإطار تنص المادة (42) من لائحة لاهاي لعام 1907 على أن “تعتبر أرض الدولة محتلة حين تكون تحت السلطة الفعلية لجيش العدو”، وتنص المادة 2 المشتركة في اتفاقيات جنيف الأربع للعام 1949 على أن هذه الاتفاقيات تسري على أي أرض تقع تحت الاحتلال. وقد استندت محكمة العدل الدولية في فتواها بخصوص الجدار العازل عام 2004 إلى هذه المادة لتأكيد واجب إسرائيل بالالتزام باتفاقية جنيف الرابعة، باعتبار الأراضي الفلسطينية واقعة تحت الاحتلال. كما تنص المادة (47) من اتفاقية جنيف الرابعة على أنه: “لا يحرم الأشخاص المحميون الذين يوجدون في أي إقليم محتل بأي حال ولا بأية كيفية من الانتفاع بهذه الاتفاقية، سواء بسبب أي تغيير يطرأ نتيجة لاحتلال الأراضي على مؤسسات الإقليم المذكور أو حكومته، أو بسبب أي اتفاق يعقد بين سلطات الإقليم المحتل ودولة الاحتلال، أو كذلك بسبب قيام هذه الدولة بضم كل أو جزء من الأراضي المحتلة”.
وكانت دولة “غينيا بيساو” سبقت تجربة فلسطين في هذا المجال، حيث أعلنت استقلالها وكانت لا تزال خاضعة للاستعمار البرتغالي آنذاك، وهو ما أدى إلى تعاطف دولي واسع مع الدولة الوليدة، ولم يقل أحد إن النزاع تحول إلى نزاع حدودي بين دولتين، بل استمرت الأمم المتحدة بالدعوة إلى إنهاء الاستعمار، وهو الأمر الذي أحسنت غينيا بيساو استثماره على الأرض، حيث لوحظ استمرار القتال بعد إعلان استقلالها ذاك، والذي تحت ضغطه اضطرت البرتغال لسحب جميع قواتها والاعتراف رسمياً من قبلها بجمهورية غينيا بيساو.[15]
يظهر مما سبق، أن الاتفاقيات الفلسطينية الإسرائيلية ” أوسلو وما بعدها”، سواء قبل الانسحاب منها أو بعده، لا تؤثر على الالتزام القانوني المفروض على إسرائيل بتطبيق اتفاقية جنيف الرابعة على الأراضي الفلسطينية بوصفها أراض محتلة، وبوصف إسرائيل بأنها سلطة الاحتلال، خصوصا بعد أن أعادت إسرائيل احتلال كامل الضفة الغربية عام 2002، واستمرار سيطرتها وحصارها على قطاع غزة وكافة موارده وسمائه وبحره. ولعل مما يجدر التنويه إليه هنا، أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي قامت فور احتلالها للأراضي الفلسطينية عام 1967 بإصدار البلاغات العسكرية الثلاثة الأولى، والتي تشير نصوصها إلى التزام إسرائيل بتطبيق أحكام معاهدات جنيف، وهذا قبل إنشاء السلطة الفلسطينية بسنين طويلة، ولكن بعد فترة قصيرة لجأت إسرائيل إلى نفي صفة الاحتلال عن هذه الأراضي، وأنها بالتالي غير ملزمة بتطبيق الاتفاقية الرابعة، وهو ما استنكرته اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ورفضه المجتمع الدولي كله، وأمام حالة استنكار هذه، زعمت إسرائيل أنها تلزم نفسها بتطبيق الأحكام الإنسانية من الاتفاقية[16] وحاولت اسرائيل مراراً اختلاق حجج قانونية من العدم للادعاء بعدم انطباق اتفاقيات جنيف، وقام المحامون الإسرائيليون باختلاق مصطلح “نزاع مسلح دون الحرب” armed conflict short of war لوصف ما يجري في الاراضي الفلسطينية، رغم كونه مصطلحاً عسكرياً غير متواجد في ادبيات القانون الدولي الانساني، لكن ذلك كله لم يؤثر في الموقف الثابت للمجتمع الدولي، والذي تم تأكيده في عشرات المواقف لمجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة[17] والمجتمع الدولي ككل،[18] وأخيرا محكمة الجنايات الدولية، والذي يقضي بأن الأراضي الفلسطينية هي أراض محتلة، وعليه، فإنه لا تأثير للأمر الواقع الذي تفرضه سلطات الاحتلال الاسرائيلية على إعطائها الشرعية على الأراضي المحتلة إلا بوصفها السلطة القائمة بالاحتلال.
رابعا: إنهاء الاتفاقيات والأبعاد المترتبة على قضية فلسطين لدى المحكمة الجنائية الدولية
تقدمت فلسطين رسميا بطلب انضمام لميثاق روما الناظم للمحكمة الجنائية الدولية في العام 2014، و في 22 مايو 2018، وعملاً بالمادتين 13 (أ) و 14 من نظام روما الأساسي، أحالت فلسطين إلى المدعي العام الحالة في فلسطين،[19] وذلك لمطالبتها بالتحقيق في فلسطين، وهو الأمر الذي وصفه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو باليوم الأسود على إسرائيل.[20] وقد باشرت المدعية العامة للجنائية الدولية إثر ذلك التحقيق في الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية، وتوصلت إلى قرار بفتح تحقيق رسمي في الجرائم، على أن يتم تحديد نطاق ما يمكن أن يمثل “الأراضي الفلسطينية المحتلة”.[21]
ولكن وعلى إثر تصريحات الرئيس عباس الأخيرة حول الانسحاب من الاتفاقيات مع إسرائيل، طالبت المحكمة فلسطين بتقديم إيضاحات ومعلومات إضافية حول مكانة الاتفاقيات الفلسطينية الإسرائيلية (وتحديدا أوسلو) بين الجانبيين، ويأتي هذا في ضوء الادعاءات الإسرائيلية بأن اتفاقيات أوسلو تثبت أن السلطة الفلسطينية لا تمثل “دولة”، ولهذا فلا يمكنها ان تكون عضوا في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية “نظام روما”، وهو ما يبطل كافة الإجراءات التي تقوم بها المحكمة.
وفي حقيقة الأمر، يلقى هذا الطلب صدى واسعا بين العديد من الباحثين والسياسيين لما قد يكون له من أبعاد وتداعيات تترتب على نتائجه، وهو ما يتطلب بحثاً مستقلا خارج نطاق هذه الورقة، لكننا سنكتفي هنا بتقديم عرض قصير لأهم الآراء التي وردت حول إنهاء الاتفاقيات والأبعاد المترتبة على قضية فلسطين لدى المحكمة الجنائية الدولية، مع تقديم رأينا بشكل مختصر.
فلسطينيًا، نظر البعض لخطوة استفسار المحكمة عن معنى الانسحاب على أنه مسار لتسييس الدراسة التمهيدية التي تباشرها المحكمة بشأن الجرائم الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية؛ بفعل الضغوطات الإسرائيلية والأمريكية على المحكمة لوقفها. بينما رآه البعض بحاجة للفحص الدقيق لأن لمثل هذا الطلب دلالات كثيرة، أهمها أن المحكمة تولي موضوع اتفاقيات أوسلو أهمية عند النظر في موضوع الاختصاص، وإذا ما تم الإعلان عن أن فلسطين في حل من الاتفاقية منذ إعلان الرئيس عن ذلك في 19 مايو، فهنا يمكن للمحكمة أن تعتبر أن الاتفاقية -بمفهوم المخالفة- ملزمة لفلسطين قبل ذلك التاريخ، وهو ما ينسحب على موضوع اختصاص فلسطين بخصوص ملاحقة الإسرائيليين، والذين تم استثناؤهم من الاختصاص الفلسطيني بناء على اتفاقية أوسلو وما تلاها. وبناء عليه يمكن إذن للمحكمة أن ترفض النظر في ملاحقة الإسرائيليين، إذ كيف لفاقد الشيء أن يعطيه؟ كيف لفلسطين أن تمنح اختصاصا للمحكمة الجنائية لملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين في حال أنها وافقت بموجب اتفاقيات أوسلو على عدم وجود مثل هذا الاختصاص لها؟[22]
وفي هذا الإطار، يوصي خبراء حقوقيون، ومنهم عاصم خليل أستاذ القانون في جامعة بيرزيت[23]، وسامر موسى أستاذ القانون الدولي في جامعة فلسطين[24]، في تعليقهم على طلب الجنائية الدولية الأخير، بضرورة مراعاة ما يلي عند الرد على الطلب:
الأخذ بعين الاعتبار الآثار المترتبة على أي جواب تقدمه دولة فلسطين بحيث يتم التمييز بين سريان الاتفاقية من جهة وإعلان فلسطين انسحابها من الالتزامات المترتبة على تلك الاتفاقيات في ظل عدم قيام اسرائيل باحترامها لالتزاماتها الواردة فيها.
يجب في كل الأحوال الإشارة بما لا يقبل الشك على أن سريان اتفاقية أوسلو إنما كان بما لا يتعارض مع القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، والقواعد الآمرة في القانون الدولي ومنها الحق في تقرير المصير.
يجب أن يشار إلى أن فلسطين تفهم التزاماتها على ضوء التطورات التي حصلت بعد نهاية السنوات الخمس للمرحلة الانتقالية دون التوصل لاتفاق حول قضايا الحل الدائم وبالتالي تأخذ بعين الاعتبار على سبيل المثال لا الحصر ما ترتب على اعتبار فلسطين دولة غير عضو من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2012 من جهة وعلى انضمام فلسطين لنظام روما وقبولها لاختصاص المحكمة الجنائية الدولية.
الرد الفلسطيني ينبغي أن ينطلق من بيان الهواجس والتخوفات تجاه سؤال الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية، بوصفه قد يكون حلقة جديدة من حلقات تسييس قضايا الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وفي ذات الوقت عدم إغفال أن السؤال قد يكون بريئا وهو مجرد سؤال إجرائي يدور في فلك سعي المحكمة لتحديد مدى صلاحية المحكمة واختصاصها على أرض الواقع بموجب المادة 12 (2) (أ) من نظام روما في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
إسرائيليًا، تترقب إسرائيل الرد الفلسطيني حول إذا ما كانت الاتفاقيات مع إسرائيل قد تم بالفعل التحلل منها وإيقاف العمل بها، لأن ذلك سيترك آثاره على عدة مجالات أمنية ومدنية، علاوة على مسار المحكمة، إذ أن الادعاء الإسرائيلي بأن فلسطين ليست دولة وبالتالي لا يمكنها ان تكون عضوا في المحكمة الجنائية الدولية قد يتعرض لانتكاسة في غياب الاتفاقيات مع الفلسطينيين، خصوصا فيما يتعلق بالجرائم المستقبلية والمستمرة، كالاستيطان، حيث كانت إسرائيل في خطاب لها أرسل الى الجنائية الدولية في لاهاي في نهاية عام 2019 قالت بأن “الاتفاقيات القائمة بين الإسرائيليين والفلسطينيين توضح الشأن القضائي والفعلي، الفلسطينيون غير مخولين بالقضاء الجنائي في المنطقة (C) الخاضعة أمنيا واداريا لإسرائيل وكذلك الأمر بخصوص القدس، وحيال المواطنين الإسرائيليين. من هنا فلا يحق للفلسطينيين اعتماد صلاحية قضائية كهذه”.[25]
وفي تقديرنا، أن الانسحاب من اتفاقية أوسلو وما تلاها يؤكد اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، ولا يعيقه أو يلغيه، وذلك للأسباب التالية:
- إن فلسطين دولة، وإن انضمامها لميثاق روما وصيرورتها عضوا في المحكمة الجنائية الدولية إنما تم بناء على الاعتراف لها بصفة الدولة داخل الأمم المتحدة، ولم يكن بالاستناد إلى اتفاقية أوسلو وما تلاها بأية صورة من الصورة.
- لقد قيدت اتفاقية أوسلو من اختصاص السلطة الفلسطينية في محاكمة الإسرائيليين، بما في ذلك سكان المستوطنات، وقد كانت هذه النقطة إحدى النقاط التي تمت إثارتها أمام المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية لثنيها عن ممارسة الاختصاص، وبالتالي، وبانسحاب فلسطين من الاتفاقيات، يعود لها الحق الطبيعي المتمثل بمقاضاة أية جرائم تقع على أراضيها، باعتباره أحد مستحقات سيادة الدولة. وحتى ضمن حقيقة أن هذه السيادة منتقصة بسبب الاحتلال، فإن اتفاقية جنيف الرابعة اعتبرت أن الصلاحية القضائية الأصيلة في المناطق المحتلة هي لسكان تلك المناطق (أي الفلسطينيين)، ولا يمكن لإسرائيل ممارسة اختصاص قضائي فيها إلا استثناء وبصفتها قوة احتلال. (المواد 54 و 64-66 من اتفاقية جنيف الرابعة).
- وبالنسبة للسنوات الماضية، أي ما قبل الانسحاب من الاتفاقيات، فإننا نلاحظ أن العديد من الجرائم التي اقترفتها إسرائيل هي من نوع الجرائم المستمرة، كالاستيطان مثلا، بما يعني أنها يمكن أن تخضع لولاية المحكمة على أساس أنها ما زالت جريمة قائمة بعد تحلل فلسطين من الاتفاقيات.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، كان موقف المدعية العامة للمحكمة بالمضي في فتح تحقيق، وذلك على الرغم من أنها حين أخذت هذا القرار كانت تقر بوجود اتفاقيات أوسلو وباستمرار سريانها. لكنها رأت -ضمن عدة نقاط- ما يلي:
- بمجرد أن تصبح الدولة طرفاً في النظام الأساسي، يحق للمحكمة تلقائيًا ممارسة الولاية القضائية على الجرائم التي تقع في أراضيها، دون أي مزيد من التقييم.
- لا يوجد شيء في اتفاقات أوسلو يمنع فلسطين من قبول اختصاص المحكمة، أو ممارسة هذه الولاية من قبل المحكمة. لقد سعت “اتفاقات أوسلو” إلى تفعيل حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وتوفير الحكم الذاتي للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة خلال فترة انتقالية لا تتجاوز خمس سنوات على أساس قراري مجلس الأمن 242 (1967) و 338 (1973). وكان من المقرر بدء مفاوضات الوضع النهائي، ولكن ذلك لم يتم.
- نظر الجانبان، الفلسطيني والإسرائيلي، إلى الضفة الغربية وقطاع غزة كوحدة إقليمية واحدة، سيتم الحفاظ على سلامتها خلال الفترة الانتقالية، وشارك فلسطينيون من الضفة الغربية (بما في ذلك القدس) وقطاع غزة في انتخابات السلطة الفلسطينية. وهكذا، وبالنظر إلى حقيقة أن الأرض الفلسطينية المحتلة يجب أن يكون لها سيادة، وهذه السيادة هي للشعب الفلسطيني الخاضع للاحتلال، حيث لا يمكن لإسرائيل ادعاء السيادة عليها، كسلطة احتلال.
- من الأفضل النظر إلى اتفاقات أوسلو على أنها تضمنت تفويضا للولاية القضائية، وليس تنازلا عنها، وهذا يتماشى مع “قانون الاحتلال”. ففي حين كانت اتفاقيات أوسلو معنية بالنقل المتدرج للسلطة من إسرائيل إلى السلطة الفلسطينية، كان ذلك مقيدًا بمبدأ أن إسرائيل لا يمكنها إلا نقل تلك السلطات المستمدة من وضعها كسلطة احتلال. وهكذا، فإن إسرائيل -كسلطة احتلال- لا تتمتع بالولاية القضائية الإلزامية في فلسطين حتى تتمكن من نقلها إلى السلطة الفلسطينية، بل إن الذي يملك تلك الولاية بشكل أصيل هو فلسطين. وإن نقل أو تفويض تلك الولاية لا يحل محل الاختصاص الأصيل لفلسطين، ولا يمنع من ممارسة اختصاص المحكمة، وهو موقف كانت أكدته الدائرة التمهيدية للمحكمة في سياقات مختلفة، وذلك بقولها إن الاتفاقات التي تحد من ممارسة الاختصاص القضائي على دول معينة “ليست مسألة يجب النظر فيها فيما يتعلق بالإذن بإجراء تحقيق”.
- لقد نصت المادة 12 (2) (أ) من ميثاق روما بأن المحكمة تمارس ولايتها القضائية على أراضي “الدولة التي وقع في إقليمها السلوك”، وليس على “الأراضي التي تمارس عليها محاكم الدولة الولاية القضائية”.[26]
وهكذا، نجد أن الانسحاب من الاتفاقيات سيقوي موقف المحكمة في فرض ولايتها القضائية على الأراضي الفلسطينية، بدلا من أن يضعفها، بموجب ما ورد في اتفاقية أوسلو والاتفاقيات التي تلتها من تقييد لصلاحية فلسطين في الاختصاص القضائي على الإسرائيليين.
خامساً/ مواقف دولية ومحلية من إنهاء الاتفاقيات
آثار الإعلان الإسرائيلي بالتوجه نحو الضم ثم إعلان الرئيس عباس إيقاف العمل بالاتفاقيات الفلسطينية الإسرائيلية مجموعة من المواقف وردود الفعل الدولية، والعربية، والفلسطينية، كما أنه أثار حفيظة العديد من المختصين والمتابعين للشأن الفلسطيني محليًا ودوليًا. نعرض لها كما يلي:
ردود الفعل الدولية
تلقى الرئيس عباس، اتصالا هاتفيا من الامين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش. حيث جدد غوتيريش، التأكيد على الموقف الثابت للأمم المتحدة من القضية الفلسطينية المستند للقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية. وأشار إلى أنه دعا لاجتماع للرباعية الدولية على مستوى المندوبين لمناقشة سبل عقد اجتماع وزاري ناجح لها لبحث القضية الفلسطينية.
وفي نفس السياق، دعا نيكولاي ملادينوف، مبعوث الأمم المتحدة للشرق الأوسط، إسرائيل إلى التخلي عن تهديدها بضم أجزاء من الضفة الغربية المحتلة واصفاً هذه الخطة بأنها “انتهاك خطير للقانون الدولي”. وقال ملادينوف خلال جلسة افتراضية لمجلس الأمن حول الوضع في الشرق الأوسط “إن هذه الخطوة توجه ضربة مدمرة لحل الدولتين، وتغلق الباب أمام تجديد المفاوضات، وتهدد الجهود المبذولة لدفع السلام الإقليمي قدما وجهود الحفاظ على السلام والأمن الدوليين”، وأكد على أن الأمم المتحدة ستعمل مع الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي ومع الشركاء الإقليميين والدوليين لخلق الظروف المواتية للعودة إلى مفاوضات ذات معنى.
وفي سياق منفصل، حث أعضاء الاتحاد الأوروبي في مجلس الأمن الدولي إسرائيل بشدة على الامتناع عن أي قرار أحادي يتعارض مع القانون الدولي من شأنه أن يؤدي إلى ضم أي أراض فلسطينية محتلة. وقالوا إنهم لن يعترفوا بأي تغييرات على حدود 1967 ما لم يتفق الإسرائيليون والفلسطينيون على ذلك، وأعربوا عن قلقهم العميق إزاء البند الذي سيقدم للموافقة عليه من قبل مجلس الوزراء الإسرائيلي بشأن ضم أجزاء من الأراضي المحتلة.
المواقف العربية:
أعلنت المجموعة العربية في الأمم المتحدة بأن لا شرعية للسياسة الإسرائيلية لضم مناطق من الضفة الغربـية، واعتبر الوفد العربي بأن سياسة إسرائيل بخصوص الضم لا شرعية لها، وكذلك المستوطنات، وأنها تمثل انتهاكا للقانون الدولي ولقرارات الأمم المتحدة وميثاقها الذي يحظر الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة.
وفي هذا السياق، تم التوافق بين الوفد العربي والوفد الروسي ووفد الاتحاد الأوروبي والأمين العام للأمم المتحدة على العمل سويا؛ أملا في وقف الضم واستئناف المفاوضات بين الجانبين ضمن إطار اللجنة الرباعية الدولية وعلى أساس الشرعية الدولية.
وعبر الأمين العام لجامعة الدولة العربية أحمد أبو الغيظ على مساندته للرئيس عباس في التصدي لمخطط الضم الإسرائيلي، وأكد أبو الغيظ على مساندته الكاملة لما طرحه الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الكلمة، التي ألقاها مساء الثلاثاء 19 مايو، من خطوات ينوي اتخاذها للتصدي للمخطط الإسرائيلي بضم أجزاء من الضفة الغربية المحتلة، بما في ذلك التحلل من الاتفاقيات الموقعة مع إسرائيل في السابق.
وتجدر الإشارة، إلى أن الموقف الأقوى على صعيد المواقف العربية هو موقف المملكة الأردنية الهاشمية، حيث قال الملك عبد الله الثاني إن الضم سيؤدي إلى صدام كبير مع بلاده ، مشددًا على أن الأردن يدرس جميع الخيارات إذا جرت عملية الضم. على الرغم من ان المواقف العربية داعمة للقضية الفلسطينية، إلا أن مضامين خطاب ملك الأردن تحمل أبعادًا مغايرة. وفي هذا الإطار، أكد رئيس الوزراء الأردني عمر الرزاز على أن الأردن يدرس إمكانية إعادة النظر في اتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية.
ردود الفعل الفلسطينية:
وجهت السلطة/منظمة التحرير الفلسطينية، دعوة حضور لجميع الأحزاب السياسية وفصائل العمل الوطني لبحث سبل الرد على قرار الضم، وذلك في مقر المقاطعة برام الله، والذي حمل اسم “اجتماع القيادة” قبل الإعلان عن قرار وقف العمل بالاتفاقيات مع إسرائيل، حيث شارك بعضها وقاطعه البعض الآخر، كالتالي:
أعلنت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) موقفها ببيان صحفي تعقيبًا على قرار الرئيس عباس بوقف جميع الاتفاقيات الموقعة مع اسرائيل، وترى الحركة أن في تجديد إعلان التحلّل من اتفاقية أوسلو، وما يترتب عليها من اتفاقيات أمنية وسياسية، وعلى رأسها التنسيق الأمني مع الاحتلال توجّها يحتاج إلى ترجمة حقيقية على الأرض عبر خطوات واضحة ومحددة. ودعت الحركة الرئيس وقيادة حركة فتح إلى المسارعة في تنفيذ هذا التوجّه في مساحاته الميدانية والقانونية والسياسية والنضالية، وإلى عقد اجتماع الإطار القيادي المقرّر الذي تم الاتفاق عليه سابقا، أو أي اجتماع آخر يضمّ الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية، بعيدا عن ضغط وسيطرة الاحتلال، للتباحث والاتفاق على استراتيجية وطنية شاملة لمواجهة التحديات الخطيرة المحدقة بالقضية الفلسطينية.
فيما أعلنت حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين أنها لن تحضر الاجتماع المزمع انعقاده برام الله يوم 16/ مايو، وتأمل لهذا الاجتماع والمشاركين فيه الخروج بقرارات جدية تسهم في استعادة الوحدة والتصدي لقرارات الضم والاستيطان بالضفة والأغوار وكافة المناطق المحتلة. وأكدت الحركة على دعمها لكل جهد بناء ومخلص لاستعادة الوحدة لمجابهة الاحتلال في كل مكان، ورأت أن المدخل لذلك هو عقد اجتماع الإطار القيادي للمنظمة بحضور كل من الرئيس عباس والأمناء العامين للفصائل لبحث المخاطر المحدقة بالقضية الوطنية والتصدي لصفقة ترمب والبدء بإعادة بناء “م. ت. ف” على أسس جديدة تحقق الشراكة وتنهي الانقسام.
وأكَّدت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أن مسؤوليتها الوطنية والتاريخية هي التي دعتها للمشاركة في الاجتماع المتعارف على تسميته باجتماع القيادة الفلسطينية الذي انعقد في رام الله، وأعلن خلاله قرار وقف العمل بالاتفاقيات مع الجانب الإسرائيلي وهو الذي دعاها أيضًا لدعوة جميع القوى للمشاركة فيه، إدراكًا منها لأهمية توحيد المواقف والجهود الفلسطينية في مواجهة خطة ترامب التصفوية، وما يترتب على تشكيل حكومة الضم الإسرائيلية، وبهدف اتخاذ القرارات العملية والآليات المطلوبة لتجسيد قرارات المجلسين الوطني والمركزي بشأن تحديد العلاقة مع “إسرائيل” من خلال إلغاء اتفاق أوسلو وما ترتب عليه من التزامات، وسحب الاعتراف بإسرائيل، وغيرها من القرارات التي يتطلبها القطع مع نهج ومسار المفاوضات. واعتبرت الجبهة، أن ما صدر عن هذا الاجتماع لم يرتقِ إلى ما كان مأمولاً، حيث استمرت ذات السياسة في اعتماد الصياغات التي لا تحسم أو تقطع مع اتفاق أوسلو وما ترتب عليه، وتفتح على استمرار الرهان على المفاوضات ومرجعية الرباعية لها، وعلى “السلام” و”حل الدولتين” كمحدد لتحرك القيادة الرسمية.
فيما حضرت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، الاجتماع القيادي الذي عقد في رام الله مساء يوم الثلاثاء(16/مايو/2020)، وقدمت ورقة عمل، وقالت إن اجتماع القيادة الفلسطينية ينبغي أن ينطلق من اعتبار المرحلة الانتقالية قد انتهت، وإنهاء العمل بالاتفاقيات والتفاهمات التي تنكرت لها كل من إسرائيل، السلطة القائمة بالاحتلال وإدارة الرئيس ترامب، وذلك عملاً بقرارات المجلسين الوطني والمركزي، بما في ذلك التنسيق الأمني.
سادسا/ ماذا بعد؟ مآلات الخطوة على شرعية وجود السلطة الفلسطينية والقانون الأساسي
تستمد السلطة الفلسطينية شرعيتها القانونية من ثلاثة عناصر أساسية هي (منظمة التحرير، اتفاق أوسلو، الانتخابات). وبعد الإعلان عن التحلل من اتفاق أوسلو بقرارات صادرة عن المجلسين الوطني والمركزي لمنظمة التحرير، سوف يترتب عليه تغير في الوضع القانوني للسلطة الفلسطينية، حيث تنتهي بهذا السلطات والهيئات التابعة لها، والقوانين المتعلقة بتنظيم عملها، كما يتطلب تعديل القانون الأساسي الفلسطيني (الدستور) ليتوافق مع الوضع الجديد، أو إنشاء دستور جديد، حيث نصت المادة (115) من القانون الأساسي الفلسطيني على أنه “يُعمل بأحكام هذا القانون الأساسي مدة المرحلة الانتقالية ويمكن تمديد العمل به إلى حين دخول الدستور الجديد للدولة الفلسطينية حيز التنفيذ”، وأيضًا، ورد في ديباجته إنه وضع “في إطار المرحلة الانتقالية التي نجمت عن اتفاق إعلان المبادئ”، وبهذا “فهو يشكل بالبداهة خطوة أساسية على طريق .. إقامة الدولة الفلسطينية بعاصمتها القدس الشريف”.
وهكذا، نجد أن “المرحلة الانتقالية” التي نص عليها القانون الأساسي كانت مرتبطة بمرحلة ما قبل قيام الدولة، وانقضاء الاتفاقيات الانتقالية، الذي كان يفترض أن ينتهي خلال خمس سنوات من وقت عقد اتفاق أوسلو، وبعد قرار وقف العمل بالاتفاقيات مع إسرائيل، تكون المرحلة الانتقالية قد انتهت.
لكن ما يجدر التنويه إليه هنا، هو أن انتهاء السلطة، كجسم تنفيذي، بوقف العمل بالاتفاقيات أو الانسحاب منها، ليس حتميا، فيمكن أن تبقى باعتبارها أداة أو جهة تنفيذية بيد المجلس الوطني، حيث ورد في النظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية[27] بشأن المجلس الوطني في المادة (7) من الباب الثاني “المجلس الوطني هو السلطة العليا لمنظمة التحرير، وهو الذي يضع سياسة المنظمة ومخططاتها وبرامجها” (فهو يشكل الجهاز التشريعي للمنظمة)، فيما تعبر اللجنة التنفيذية عن السلطة التنفيذية للمنظمة، أما المجلس المركزي للمنظمة فهو الذي أصدر قرار إنشاء السلطة[28] -مجلس السلطة الوطنية الفلسطينية- الذي ترأسه الرئيس الراحل ياسر عرفات.
وفي ضوء ذلك، يمكن لنا أن نتصور أحد السيناريوهات التالية ل “ما بعد إعلان الرئيس عباس عن وقف العمل بالاتفاقيات”:
- السيناريو الأول: ويقترح هذا السيناريو أن هذا الإعلان لن يأخذ شكل الخطوات الفعلية، وإنما هو نوع من رسائل الضغط على إسرائيل وعلى خارجية الاتحاد الأوروبي ودول أمريكا اللاتينية، حتى تأخذ موقفا متقدما بما يجبر الاحتلال على التراجع عن مخططات الضم، ومحاولة “تحريك المياه الراكدة” عن طريق استقطاب المجتمع الدولي، لبلورة مسار تفاوضيّ جديد يقوم على عقد مؤتمر دولي للسلام.
ويستند هذا السيناريو إلى المرات العديدة التي أًعلن فيها في السابق عن توجه القيادة الفلسطينية إلى إلغاء الاتفاقيات الموقعة مع إسرائيل، وإلى الوقائع الفعلية على الأرض، حيث أن الإعلان عن وقف العمل بالاتفاقيات مع إسرائيل لم يذكر أو يشير إلى إجراءات عملية حتى الآن، وإن تم التأكيد على وقف التنسيق الأمني، لكن لم يتم ذكر أية إجراءات عملية أو استراتيجية وطنية يفهم في ضوئها التوقف الحقيقي عن العمل بالاتفاقيات، بما يعني، بحسب مراقبين، عدم مغادرة مربع الانتظار والمراوحة في نفس المكان.
يضاف إلى ذلك واقع السلطة الفلسطينية، التي يمسك الاحتلال بالكثير من المفاصل الرئيسية التي تخصها، كحركة المعابر الداخلية والخارجية سواء من حيث حركة الأشخاص أو البضائع، وميزانية السلطة التي يأتي 65% منها من إسرائيل عبر المقاصّة،[29] كما يمسك الاحتلال بالموارد الطبيعية الرئيسية في فلسطين. بما يعني أن وقف العمل بالاتفاقيات سيؤدي إلى تسلم الاحتلال لهذه المسؤوليات كاملة، من ناحية، والمواجهة المباشرة والشاملة بينه وبين الفلسطينيين، بما في ذلك قيادة السلطة، الأمر الذي يحتاج إلى رسم مسار نضالي جديد، يقوم على إعادة الوحدة الفلسطينية، وبلورة استراتيجيات نضالية جامعة للفلسطينيين. فهل هناك استعداد لدفع تكلفة هذا الخيار؟ إذا كان الجواب نعم، فهل السلطة بنيوياً، بما في ذلك الأجهزة الأمنية، مهيئة لذلك؟ وما هي أدوات هذا التوجه؟ وبلغة طارق باقوني، المحلل في مجموعة الأزمات الدولية، “لا يمكن تفكيك التنسيق الأمني بين عشية وضحاها”، حيث أن تأثير هذا “لا يقتصر على حرية الحركة بل يشمل كل شيء، حتى مصدر المواد الغذائية”.
- السيناريو الثاني: المضي قدما في القرار، وإعلان التحلل الرسمي من الاتفاقيات، وهذا قد يأخذ أحد شكلين:
- إعلان حل السلطة مع بقاء جسمها كحكومة لدولة فلسطين: ونعني بهذا حل السلطة التي تمثل فرعا عن الأصل “أوسلو” وأحد إفرازاتها، وفك ارتباطها بالالتزامات المفروضة (السياسية، والقانونية، والأمنية، والاقتصادية) بموجب الاتفاقيات “أوسلو وما بعدها”، وإبقائها كجسم رسمي فلسطيني يتبع “للدولة”، أي تغير شكل السلطة ووظائفها إلى حكومة منبثقة عن “منظمة التحرير” وليس كأحد “إفرازات أوسلو”، من خلال تطبيقها لرؤية وطنية شاملة، بما يجعلها أداة لتنفيذ البرنامج الوطني القائم على حالة من التوافق الوطني لإنهاء الاحتلال، وتحميل المسؤولية لإسرائيل عن جميع المسؤوليات والالتزامات المترتبة عليها كقوة احتلال،[30] حيث كانت السلطة تقوم، بموجب الاتفاقيات، بالعديد من المسؤوليات التي هي في الأصل من مسؤولية الاحتلال، كتوفير التعليم والصحة والأمن للسكان تحت الاحتلال، ويمكن لفلسطين المحتلة الآن، بعد التحلل من الاتفاقيات، مطالبة إسرائيل بتحمل مسؤوليتها إزاء الفلسطينيين الذين يقعون تحت احتلالها.
وفي هذا الإطار هناك مقترحات ورؤى يمكن تطبيقها في هذه الحالة، ومنها على سبيل المثال “وثيقة الوفاق الوطني” التي تم التوافق عليها بين الفصائل عام 2011، أو “وثيقة الوحدة الوطنية”[31] التي طرحها المركز الفلسطيني لابحاث السياسات والدراسات الإستراتيجية-مسارات- وتضمنت رؤية لإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني.
- حل السلطة بشكل كامل: ونعني به حل السلطة بشكل كامل مع كافة الهيئات التابعة لها، بمعنى عودة المشهد إلى ما قبل اتفاق أوسلو عام 1993، وهو ما سيؤدي غالبا إلى اندلاع حالة من الفوضى والفلتان الأمني، ومن ثم فرض إسرائيل سيطرتها على الضفة الغربية وعودة نظام الخدمة المدنية، وهو النظام الذي مهدت له إسرائيل على مدار المدة الماضية عبر إنشاء آليات للتواصل المباشر بين الفلسطينيين ومسؤولي الإدارة المدنية الإسرائيلية (كصفحة وتطبيق المنسق)، وعلى قاعدة تصغير المساحة المحكومة فلسطينيا إلى قطاع غزة فقط، كنقطة انطلاق “لإقامة الإمارات الفلسطينية السبعة” كما يقول المحلل السياسي الإسرائيلي “مردخاي كيدار” أستاذ العلوم السياسية بجامعة يارا إيلان.[32]
وفي ظل التعقيدات السياسية في فلسطين، وأن القيادة الفلسطينية تتمسك بمؤسسات السلطة، كتحول من مرحلة السلطة إلى مرحلة الدولة،[33] فإننا نعتقد -إذا صحت نية السلطة بالتحلل من الاتفاقيات- أن الواقع الحالي هو الذي سوف يستمر، بمعنى أن تبقى السلطة قائمة، ولكن وبشكل مؤقت تحث مظلة دستورها الأم المتمثل في النظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية (السيناريو الثاني). وبالطبع، يستدعي ذلك حتما الإسراع بإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية للدولة الفلسطينية، حتى تكتسي هيئاتها المختلفة بالشرعية الانتخابية (التمثيلية) للفلسطينيين، ومن ثم إنشاء الدستور الجديد لفلسطين الدولة.
خاتمة
ختامًا، ما زال من المبكر القول بجدية وآثار إيقاف العمل بالاتفاقيات لأن القرار الصادر عن الرئيس الفلسطيني، بوقفها – كما أسلفنا- لم يحدد أيّ إجراءات واضحة على الأرض تدعمه. ومما لا شك فيه، أن هذه الخطوة قدت باتت مطلبا شعبيا يلقى صدى واسعا، وذلك من أجل تحميل إسرائيل المسؤولية الكاملة بوصفها السلطة القائمة بالاحتلال وبكل ما يترتب على ذلك من آثار وتبعات وتداعيات، غير أن ذلك ينطوي على حالة من التعقيد، قانونيًا وسياسيًا، وميدانيا، وهو ما يتطلب دراسة جادة ونقاشا مستفيضا يجمع فئات الشعب الفلسطيني المختلفة، في الداخل والخارج، سواء من الجهات الرسمية أو الفصائل أو الجهات الأكاديمية ومنظمات المجتمع المدني والعموم. وقد حاولنا في هذه الورقة طرح بعض الأسئلة والإجابة عليها باستفاضة ووضوح قدر الإمكان. لكن المؤكد، أن خطوة كهذه ينبغي لها أن تدفع للتساؤل عن غياب المشروع الوطني الواحد والرؤية الوطنية في إطار المرجعية الواحدة، التي تكون جامعة للكل الوطني الفلسطيني؛ وهو بلا شك واجب الوقت الحالي، وإن الفرصة اليوم ما زالت قائمة -بل وحتمية- لبلورة ذلك.
[1] الرئيس: نحن الآن في حل من جميع الاتفاقات والتفاهمات مع الحكومتين الاميركية والإسرائيلية بما فيها الأمنية، وكالة الانباء والمعلومات الفلسطينية “وفا”، 19/5/ 2020. http://www.wafa.ps/ar_page.aspx?id=GddR9Sa876480758736aGddR9S
[2] بروتوكول باريس الاقتصادي إلى الواجهة، وكالة معا الاخبارية، 3/1/2019، https://www.maannews.net/articles/972090.html
[3] الاتفاقيات الفلسطينية الإسرائيلية منذ أوسلو 1993، الجزيرة، 30/8/2007، https://cutt.us/XA2gd
[4] الأغا “أحمد سعيد”، القانون الدولي العام، مطبعة القدس، الطبعة الثانية، غزة _ فلسطين ،2016، ص53.
[5] أسئلة قانونية عن إعلان التحلل من كل الاتفاقيات بين منظمة التحرير الفلسطينية وسلطات الاحتلال الإسرائيلي، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 23/5/2020، https://cutt.us/A4LDb
[6] إحسان عادل، فلسطين دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة الأبعاد القانونية والسياسية. (2014) 31.
[7] الأغا “أحمد سعيد”، القانون الدولي العام، الطبعة الثانية، (2016) 53.
[8] انظر المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة للعام 1949. والتي نصت على “يحظر النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضي المحتلة. لا يجوز للدولة الاحتلال أن ترحل أو تنقل جزء من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها”.
[9] انظر (المادة8/فقرة ب/8) من ميثاق الناظم للمحكمة الجنائية الدولية.
[10] https://www.icc-cpi.int/palestine crimes committed in the occupied Palestinian territory, including East Jerusalem, since 13 June 2014
[11] إجسان عادل، مرجع سابق. 24-27
[12] الاتفاقيات الدولية التي انضمت إليها دولة فلسطين، وزارة الخارجية الفلسطينية، حزيران 2019، https://cutt.us/rPfd1
[13] عضوية دولة فلسطين في المنظمات الدولية، وزارة الخارجية الفلسطينية، حزيران 2019، https://cutt.us/e2RyW
[14] قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة. رقم (67/19)، الدورة (67)، سبق ذكره.
[15] إحسان عادل، مرجع سابق. 154 – 155.
[16] غزلان فليج، موسى سامر، محاضرات في القانون الدولي الإنساني وآليات تنفيذه الوطنية والدولية. (2018). 268.
[17] انظر على سبيل المثال القرارات التالية للجمعية العامة للأمم المتحدة
55/131 of 28 February 2001, 56/56 of 14 February 2002, 57/121 of 24 February 2003.
[18] انظر على سبيل المثال تقرير الأمين العام المقدم بناء على قرارات الجمعية العامة
10/2, UN Doc. A/ES-10/6, S/1997/494, 26 June 1997, at §21, p. 7.
[19] Referral by the State of Palestine Pursuant to Articles l3 (a) and 14 of the Rome Statute, ICC. 15/May2018.
https://www.icc-cpi.int/palestine
[20] أول تعليق من نتنياهو على قرار “الجنائية الدولية”، سما الإخبارية، 20/12/2019. https://cutt.us/978wf
[21] https://www.icc-cpi.int/palestine crimes committed in the occupied Palestinian territory, including East Jerusalem, since 13 June 2014
[22] PTC order to Palestine: Damned if you do, Damned if you don’t, ASEM KHALIL,27/5/2020 https://cutt.us/NsRDI ,
[23] المرجع السابق.
[24] سؤال الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية عن مكانة الاتفاقيات الثنائية الفلسطينية-الإسرائيلية (سؤال غير بريء)، HU Media،29/5/2020 . https://cutt.us/qGwmH
[25] المحكمة الجنائية الدولية تستوضح من السلطة الفلسطينية هل ألغت اتفاقياتها مع إسرائيل، i24 نيوز،27/5/2020. https://cutt.us/V9z3X
[26] انظر: “رد الادعاء على ملاحظات أصدقاء المحكمة، الممثلين القانونيين للضحايا والدول”. ICC-01/18 بتاريخ 30 ابريل 2020. ص 40 – 47
https://www.icc-cpi.int/CourtRecords/CR2020_01746.PDF
[27] النظام الأساسي لمنظمة التحرير، المجلس الوطني الفلسطيني،https://cutt.us/tlsQY
[28] قرار إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية، صادر عن المجلس المركزي الفلسطيني، في دورته المنعقدة من 10-12/10/1993 في تونس.
[29] معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطينية (ماس)، أداء الموازنة العامة 2018 بالمقارنة مع 2017 وأزمة ايرادات المقاصة 2019. ص 2.
[30] أربعة أعوام على حصول فلسطين على دولة “مراقب” في الأمم المتحدة، المركز الفلسطيني لابحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية ” مسارات”، 27/ /2016، https://cutt.us/bTiQq
[31] وثيقة الوحدة الوطنية، وقائع مؤتمر “نحو رؤية شاملة لإعادة بناء الوحدة الوطنية”، المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الإستراتيجية (مسارات)، الطبعة الأولى، دون دار نشر، 2016.
[32] مقابلة خاصة لموقع اسرائيل في العربية مع الباحث والأكاديمي الإسرائيلي، موقع إسرائيل بالعربية، 4/11/2011. https://cutt.us/QlImD
[33] المجلس الوطني الفلسطيني قرار التحلل من اتفاقيات أوسلو يؤسس لمرحلة جديدة من المواجهة مع الاحتلال، منظمة التحرير الفلسطينية “الموقع الرسمي”، 20/5/2020، http://www.plo.ps/article/52795/